فكان يتقصى أخبار الولاة ويسأل الرعية: هل من أحد يتشكى ظلامة؟ فإن وجد ظلامة أنصف المظلوم على سنته التي استنها، وهي أن الكبير صغير حتى يأخذ الحق منه.
وكان يوصي قائده: «ألا تغفل عن أهل عسكرك فتفسده، ولا تتجسس عليهم فتفضحهم، ولا تكشف الناس عن أسرارهم واكتف بعلانيتهم.»
أو يقول: اقبل علانيتهم وكلهم إلى سرائرهم، ويأمره مع ذلك ألا يغفل عن استطلاع أمرهم لإصلاح ما فسد منه.
وإلى كياسته يرجع الفضل في تغليب مبدأ من أسلم مبادئ القضاء قديمها وحديثها، أخذ به رجال المسلمين في قضائهم واتبعته الحكومات العصرية جميعا في قضائها، ونعني به المبدأ الذي يحرم على القاضي أن يحكم بعلمه في إقامة الحدود، وقد آثره الصديق رضي الله عنه فقال: «لو رأيت رجلا على حد من حدود الله لم آخذه حتى يكون معي شاهد غيري». •••
وما حفظت له وصية قط إلا ظهر فيها خلقاه الغالبان: الكياسة والصدق، فإذا حذر الولاة أن يكشفوا عن أسرار الناس لم ينس قط تحذيرهم من إخلاف الوعد والوعيد، وجماع ذلك قوله لعكرمة: «مهما قلت إني فاعل فافعله، ولا تجعل قولك لغوا في عقوبة ولا عفو، ولا ترج إذا أمنت ولا تخافن إذا خوفت، ولكن انظر ماذا تقول وما تقول، ولا تعدن معصية بأكثر من عقوبتها، فإن فعلت أثمت وإن تركت كذبت.»
وجرى حكمه كله على هذه السنة من الرفق والصدق ومن اليقظة والحزم، ومن الكيس والفطنة، لم تؤخذ عليه إلا بادرة واحدة هي إحراقه الفجاءة في ساعة من ساعات الحدة التي كان يغالبها جهده، حتى غلبته مرة في عقاب هذا اللص الخاتل السفاح.
وكان الفجاءة هذا - أو إياس بن عبد ياليل - قد جاء الصديق فاستعانه بالسلاح لقتال المرتدين، فلما أعطاه السلاح أخذه ليقطع الطريق ويعيث في الأرض ويثخن فيمن صادفه قتلا ونهبا من المسلمين كان أو المرتدين، وتفاقم شره وعظم بغيه حتى وقع في الأسر وجيء به إلى الخليفة وهو يرى أنه قد استحق جزاء أكبر من جزاء القتل؛ لأن جرمه أكبر من جرم قاتل. وقد استثاره هذا الرجل بكل ما يثيره ويذهب بحلمه ورفقه: استثاره بكذبه عليه وهو يمقت الكذب، واستثاره بخداعه إياه وهو يكره أن يعبث به أحد، واستثاره بتسخيره في قتل المسلمين بما أعطاه من سلاح وعدة، فأكبر جرمه بمقدار ما يكبر عنده الصدق والكرامة والغيرة على دماء المسلمين، وأمر به أن يلقى في نار توقد له في مصلى البقيع.
خطأ ولا ريب ...
ولكنه خطأ له عذره، وخطأ في رأي أبي بكر نفسه قد ندم عليه بعد فورة الغضب التي ذهبت بحلمه ورفقه، وقد ظل يذكر هذا الخطأ ويأسف له إلى أن قال وهو يجود بنفسه: «وددت أني لم أكن حرقت الفجاءة السلمى وأني كنت قتلته سريحا أو خليته نجيحا ...»
ومهما يكن من رأي الأقدمين أو المحدثين في هذا الحادث فالخطأ الذي لا جدال فيه أن ندين به الإسلام كله أو ندين به أبا بكر كله في جميع حالاته. ففي كل عصر تقع الحوادث من أشباه هذا الحادث المفرد، ولا تحسب على دين أو دولة سواء في العصر القديم أو العصر الحديث ...
نامعلوم صفحہ