إذا أردتم أن تصبحوا عالميين فتعلموا كيف تصبحون عربا، ازدادوا محلية وقومية تزدادوا عالمية، كفوا عن الجري وراء الشكل الأوروبي السطحي وغوصوا في أعماقنا نحن أكثر؛ لتعبروا عنا أكثر، لتغنوا آمالنا وأحزاننا وحبنا بعمق أكثر، وبأشكال من صميم كياننا. افعلوا هذا نتول نحن رفعكم أكثر وأكثر حتى يراكم العالم كله. (18) هل الفن حرفة الشواذ؟
بعض الناس يأخذون الفن بسهولة ويعتبرونه حرفة أخرى مثلا أو نوعا راقيا من التخريف والتهريج، كل ما في الأمر أننا نطلق عليه أسماء براقة مثل الخلق والإبداع، ونحيط الفنان بهالة تعطيه مظهر العلماء والمفكرين، وأنا نفسي يراودني هذا الاعتقاد أحيانا، ولكن بين كل حين وحين يصادفني حادث أو أقابل إنسانا، وإذا بي أرتد بسرعة وأدرك مذهولا أن الفنان حقيقة إنسان خارق للعادة، وأن الفن حقيقة إبداع عمالقة وخالقين.
من هذا النوع حادثان هامان وقعا لي وبالصدفة كان بطلهما شخصا واحدا، ولحسن الحظ أنه معروف مشهور، الحادث الأول وقع من ثلاث سنوات حين قررت فرقة المسرح القومي أن تمثل لي روايتي «ملك القطن وجمهورية فرحات»، وكان الأستاذ فتوح نشاطي المخرج قد أسند دور فرحات للممثل فاخر فاخر، وكانت أول تجربة لي في المسرح وكنت غير مهتم بها اهتماما جديا أول الأمر، ولكن بمضي الأيام والبروفات بدأت أحيا التجربة بكل كياني، وبدأت أعصابي تدق في انتظار الافتتاح، وتصوروا مبلغ الصدمة التي تصيبني حين أذهب إلى المسرح قبل عرض الرواية بيوم واحد فأعلم أن والد فاخر فاخر قد توفي، والد البطل الذي يحمل الرواية كلها فوق كتفيه، والدور كوميدي وحفظه واستيعابه مسألة لا يمكن أن تستغرق أقل من أسبوعين.
كانت معرفتي بفاخر لا تتعدى حدود علاقة مؤلف الرواية بممثلها، ولكني كنت قد فقدت أبي أنا الآخر من شهور قليلة ولا أزال أحيا بآلام فقده، ولم أبحث عنه لأعزيه، فقد كنت على يقين أنه سافر إلى البلدة ليحضر المأتم ويتلقى العزاء. كل ما فعلته أني ذهبت إلى الأستاذ أحمد حمروش مدير الفرقة وطلبت منه تأجيل عرض الرواية إلى أن تندمل جروح فاخر البطل، ولكني فوجئت به يؤكد لي أن فاخر لم يسافر، وأنه هو شخصيا وزملاءه ألحوا عليه أن يذهب، ولكنه رفض رفضا باتا وأصر على أن يبقى حتى يتم عرض الرواية في موعدها. ولم أصدق حتى وأنا أحادثه بالتليفون، وقلت له لعله لم يحزن لفقد أبيه مثل حزني لفقد أبي، ولكني وراء الكواليس ليلة الافتتاح قابلته، كان صوته مبحوحا وكانت عيناه محتقنتين والسواد يغمره، وعرفت أننا كلنا أمام فقد الآباء والأمهات سواء حتى لو بلغنا السبعين، نحن نحزن عليهم بأمر مما يحزن به الصغار.
وعصف بي الضيق لمحنة الرجل من ناحية، ولمحنتي الخاصة من ناحية أخرى، محنتي التي سأواجهها حالا حين يرتفع الستار الذي يفصلني عن جمهور مترقب متحفز؛ إذ كانت الليلة التي يدعى إليها النقاد. صحيح طالما قرأت في المجلات أن بعض ممثلينا اجتازوا محنا كهذه وهم على خشبة المسرح، وأضحك بعضهم الجمهور بينما كان يعاني من فقد ابن أو أب، لكني كنت أعتقد أن أشياء كهذه كلام مسل لا يصلح إلا للقراءة في المجلات، فدور فرحات دور صعب، والسيطرة عليه عمل شاق لا يمكن أن يقوم به الممثل إلا وهو بكامل قواه وموهبته ومزاجه.
المفاجأة
اعتقدت أن الرواية «طارت» تماما ولم أعد آبه لأي شيء، فقد فتح الستار وبدأ فاخر يتكلم، وخرج صوته ضعيفا مشحونا بالتأثر والألم، وانهرت على قطعة أكسسوار وأنا ألعن الليلة والمسرح والأنانية التي تدفعني لأن أطلب من إنسان فقد أباه بالأمس أن يضحك لي بروايتي جمهورا خالي الهم والبال، ولكني ما زلت للآن لا أعرف ما حدث بالضبط ولا كيف حدث، فلقد أفقت فوجدت المسرح يضج بالضحك، وما كاد هذا يحدث حتى وجدت فاخرا لم يعد فاخرا الذي كنت أعزيه من هنيهة، كان قد أصبح فاخرا آخر. فرحات الحقيقي كما تخيلته، بل شيئا أكبر من فرحات، في الواقع كان قد أصبح كل شيء في المسرح وفي الصالة ووراء الكواليس وحتى داخل نفسي، لو طاوعت انفعالي ساعتها لبكيت كالأطفال، ولكني تحاملت ومضيت أتفرج وقد نسيت الرواية والموقف، ولم يعد أمامي إلا هذه المعجزة التي حدثت وخلقت من الكائن الحزين هذا الفرحات الذي يعيشني ويبهرني.
أية قوة جبارة استطاع بها فاخر أن يتحول هذا التحول، وينتقل بها من إنسان لإنسان! تساؤل ظل أياما كثيرة يحيرني.
أخيرا قلت لنفسي: لماذا لا يكون السبب هو الفن؟ لماذا لا تكون المعجزة هي في قدرة الفنان الخارقة على الإخلاص لعمله؟ لماذا لا يكون «الفن» هو «قمة الإخلاص» لأي عمل، مهما كان نوع العمل؟
لا يصدقه العقل
نامعلوم صفحہ