مقدمة
بصراحة غير مطلقة
مقدمة
بصراحة غير مطلقة
بصراحة غير مطلقة
بصراحة غير مطلقة
تأليف
يوسف إدريس
مقدمة
مشكلة هذا الكتاب في رأيي أن موضوعاته فيها رأي، وموضوعات كهذه يضعها النقاد دائما وضع مواطن الدرجة الثانية في دولة الأدب والفن، باعتبار أن هناك استحالة في وجود الرأي المباشر مع الفن. لا بد - في رأيهم - لكي يكون الرأي فنيا، أن يستحي ويتخفى تماما، ولا بد أن يظهر في العمل بطريقة غير مباشرة.
نامعلوم صفحہ
والحقيقة أني في بحر عشر سنوات طويلة، وأنا أكتب مادة هذا الكتاب، لم أكن ألقي إلى هذه المشكلة بالا، باعتبار أني أنا الآخر موقن أني أكتب للصحافة، وهي جواز مرور أمثل لأي نوع من أنواع الكتابة، وبالذات النوع القليل الفن. ولكني وأنا أراجع ال (تقريبا 600) انطباع ولمسة ورأي لأختار منها المادة التي تليق بالقدس المسمى بالكتاب، وجدت أن المسألة في حاجة إلى تفكير من جديد. وللوهلة الأولى أحسست أننا نبخس «الرأي» وأهميته بظلم واضح، وبدون تعريفات وتفاصحات كثيرة، فإن أدق مقياس للعمل الفني أو الأدبي هو أثره في «المستقبل»؛ أي القارئ أو القراء. إذا كان العمل يبعث لدى القارئ أو المتفرج إحساسا بالتفاؤل فهو عمل متفائل، رغم كل ما قد يقال عن نهاياته التعسة أو المتشائمة، والعكس صحيح تماما. أما إذا لم يتأثر القارئ بالعمل إطلاقا، فهو قطعا لا يمت إلى الفن بصلة مهما وجد فيه النقاد من رموز وتجريدات.
من هنا نستطيع القول بأن الفن ليس هو الأشكال الفنية المتعارف عليها فقط، وإنما هو كل ما يجعل «المستقبل» ينفعل انفعالا يشبه انفعاله بأي عمل فني؛ آيات الطبيعة، جلسة صادقة صريحة مع أصدقاء، «عمل» قام به أحدهم.
وهذا هو المهم، رأي لا تتحرك له عقولنا فقط، وإنما «ننفعل» له بعواطفنا ووجداننا أيضا. المشكلة إذن ليست مشكلة وجود الرأي في العمل أو عدم وجوده، المشكلة هي في الرأي نفسه، في طريقة تقديمه بحيث يصل إلى طبقات أعمق، ويحرك الوجدان. وبالمناسبة، فإني لا أطيق الحديث عن «العقل» و«العواطف» كشيئين مختلفين ؛ إن أمخاخنا لا تعمل هكذا أبدا، لا تفصل. إنها كل متكامل، كل ما في الأمر أن العقل يحدد خط وكيفية السير، والعواطف تحدد الاتجاه، بالضبط كالتكتيك والاستراتيجية. ولا يمكن أن يتحرك العقل إلا بدافع من عاطفة ما، ولا يمكن أن ينفعل الشخص بعاطفة إلا والعقل مشترك بكل قواه في الانفعال.
ونعود للرأي. حقيقة هناك آراء تساق بطريقة ميكانيكية كمسائل الحساب والجبر، ولكن بالتأكيد هناك آراء تبلغ من تحريكها لأعماق الإنسان وعواطفه مبلغا ربما يعجز العمل الفني عن الوصول إليه.
لقد وجدت أني - في خضم العمل اليومي أو الأسبوعي في الصحافة - قد وصلت إلى أشياء لا يمكن أن ينتهي الإنسان منها بمجرد انتهائه من قراءة الجريدة، أشياء تكون في مجموعها أحاسيس وأحلام وعثرات وقفزات شاب مغامر، خلال أخصب عشر سنوات من عمر الشباب، من الثلاثين إلى الأربعين.
أشياء أرجو ألا يبدو من الطريقة التي أتحدث بها عنها أني أعتز بها لأنها عملي أنا.
الحقيقة أن هدفي الوحيد من هذا الكتاب هو أن أضع أمام القراء - سواء من جيلنا كانوا أم من أجيال لاحقة أو سابقة - صورة حية لتفاعل إنسان مثلي مع أحداث حياتنا العاصفة في الفترة ما بين 1958، 1968.
وكان من المستحيل أن تتجسد صورة كهذه إلا من خلال أعمال فيها رأي؛ رأيي، الذي قد يكون خاصا، ولكني لا أملك سواه، فالرأي الصادق ليس تفكيرة أو تفنينة تستطيع أن تلفقها من وحي الساعة، رأيك الحقيقي شيء آخر. إن الضمير الذي نجله ونقدسه رأي، ضميرك هو رأيك، أو على وجه الدقة، على أساس آرائك يتحدث ضميرك، أدق أجهزة العدالة في نفسك.
لو كنت أعرف أن مهمة اختيار عدد محدود من اليوميات والانطباعات والحكايات، من بين 600 عمل، ستستغرق كل هذا الوقت والجهد والعذاب، لفضلت ألف مرة أن أكتب كتابا جديدا. فالجهد الأكبر استغرقته دقة الاختيار؛ إذ على أساسه سيتحدد صدق الصورة النهائية من زيفها.
وبرهبة أتمنى أن يجد القراء ما يعوض صبرهم، ليس حتى على الكتاب كله، وإنما أولا على قراءة هذه المقدمة.
نامعلوم صفحہ
القاهرة ، أغسطس سنة 1968 «ي. إ»
بصراحة غير مطلقة
(1) صباح الخير
حقيقة بسيطة ولكنها غريبة جدا في الوقت نفسه، قد لا تخطر لك أبدا وأنت تبتسم لمن حولك حين تصحو من النوم، وتقول: صباح الخير!
هذه التحية كانت مشكلتي طوال جزء كبير من الليلة الماضية. أول ما استرعى انتباهي أن تحية الإنجليز لبعضهم البعض في الصباح هي: جود مورننج، ومعناها صباح طيب أو صباح خير. قلت لنفسي: كيف تشابهت تحية الصباح عند الإنجليز في أقصى الشمال وعند العرب؟ نفس الكلمات بنفس المعاني: الصباح والخير. كيف حدث هذا؟ ومن منهم أخذ عن الآخر؟
غير أن تلك الأسئلة أسلمتني إلى مشكلة أخرى؛ إذ باستعراض تحية الصباح في كل اللغات التي أعرفها وجدتها متشابهة تشابها مذهلا محيرا، فهي بالفرنسية بونجور، وبالإيطالية بونجورنو، وبالألمانية جوتن مورجن، وهكذا ... وكلها معناها أيضا مثلما في العربية: صباح الخير. أليست مشكلة تدعو للحيرة والتأمل؟
الجنس البشري موزع على رقعة الكرة الأرضية كلها، تفصله عن بعضه البعض محيطات وأنهار وسلاسل جبال ومسافات مترية وزمنية شاسعة. وبسبب هذا الانفصال والتمزق نشأت عدة مجتمعات متفرقة ذات ألوان مختلفة متباينة، وتركيبات نفسية وخلقية مغايرة. لكل مجتمع منها لغته الخاصة وتقاليده وعاداته وحضارته. كيف حدث إذن أن تلك المجتمعات المختلفة حين أرادت أن تبتكر طريقة لتحية بعضها البعض في الصباح والمساء، اختارت نفس الكلمات ونفس المعاني؟
هل حدث هذا بالصدفة المحضة؟
مستحيل! فلو كان الأمر بالصدفة، لوجد هذا التشابه بين مجتمعين أو ثلاثة. ولكن التشابه في تحية الصباح موجود لدى كل المجتمعات، المتقدم منها والمتأخر، الأسود منها والأبيض والأحمر.
هل يكون التشابه قد حدث نتيجة للنقل أو التشرب. وتكون التحية مثلا قد تسربت من مصر القديمة إلى اليونان إلى أوربا، ومن بلاد العرب إلى بلاد الفرس؟
نامعلوم صفحہ
مستحيل أيضا! فالتحية عند الفراعنة كانت صباح الخير أيضا باللغة الفرعونية، وكذلك كانت عند قبائل الهنود الحمر في أمريكا، وبينهما مسافات بحرية ومائية لا يمكن اختراقها في ذلك الوقت، وكل مجتمع منهما قد نشأ مستقلا عن الآخر، لا يعي حتى بوجود أي مجتمع على الكرة الأرضية سواه.
لماذا إذن لم يحدث اختلاف فينشأ الفراعنة يحيون بعضهم البعض بصباح الخير، وينشأ الهنود الحمر يحيون بعضهم البعض بقولهم: حماك الله مثلا، أو سمعا وطاعة، أو أي شيء آخر غير تلك الكلمات نفسها؟
الواقع أني لم أفكر في الموضوع طويلا لاهتمامي بجغرافية الجنس البشري أو بدراسة تاريخه، ولكن الذي استرعى انتباهي حقيقة هو أن معنى تشابه التحية عند كل الشعوب والمجتمعات، أن طريقة انفعال الإنسان أو الجنس البشري واحدة، مهما اختلفت الظروف والأحوال. فالشمس حين تطلع على كل هذه المجتمعات المتفرقة المتباينة، المتأخرة والمتقدمة، تولد فيهم جميعا نفس الشعور، وتدفع كلا منهم أن يلتفت للآخر، ويقول: صباح الخير! يقولها بالعربية والإنجليزية والسنسكريتية واللهجات المحلية في أيسلندا وأفريقيا وأستراليا، ولكنه يترجم بها إحساسا واحدا شعر به، إحساسه باليوم الجديد.
وقد يقول قائل: وماذا في ذلك؟ أليس الجنس البشري متشابها في ملامحه، فلكل إنسان أنف وفم وعينان؟ وهذا صحيح. ولكن التشابه هنا ليس تشابها في الملامح الخارجية، ولكنه تشابه في الملامح الداخلية؛ تشابه في التصرف، والتصرف عملية تفكيرية يخيل لكل منا أنها تختلف من شخص إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر. وقد يكون هناك اختلاف، ولكن التشابه الذي أعنيه هو تشابه ما وراء هذه المظاهر الخارجية المختلفة، تشابه الأعماق تشابها أرسخ أقداما من كل هذه الاختلافات القشرية في اللون واللغة والمأكل والملبس؛ تشابها عميقا قد يبدو أحيانا في شكل تصرفات بسيطة جدا تمر أمام أعيننا دون أن نلحظها، مثل تلك التحية التي تواضعت المجتمعات البشرية على استعمالها من تلقاء نفسها، وبوحي من فطرتها الإنسانية فقط؛ تحية الصباح، تلك التي نتمنى فيها لبعضنا البعض - من بلاد الإسكيمو في الشمال إلى جوهانسبرج في الجنوب - صباحا طيبا خيرا نبدأ به يومنا الجديد.
تأملوا معي تلك الحقيقة، فربما أدى بنا التأمل إلى كشف حقائق أخرى لم ندرسها في الكتب عن الإنسان؛ ذلك المجهول. (2) الشيء الآخر
تعودت أن أذهب إلى عملي كل يوم عن طريق شارع قصر العيني وأعود من نفس الطريق؛ إذ هو أقصر الطرق التي تصل بين بيتي ومكان عملي. وأول الأمر كان المشي في شارع قصر العيني يبهجني؛ إذ كل ما كنت أراه فيه كان جديدا علي، ولكن طول المدة وكثرة التعود أفقداني لذة الإحساس بالشارع ومن فيه، حتى أصبحت أقطعه بلا وعي وبدون أن أفكر إلى أين أو كيف أسير، يكفي أن أضع نفسي في أول الشارع لأجدني أوتوماتيكيا قد وصلت إلى بيتي بطريقة تلقائية لا دخل للإرادة فيها، وكنت أستسهل تلك الطريقة اللاإرادية، ولا أفكر أبدا في تغييرها، وحياتي حين توظفت كان لها أول الأمر طعم جديد. كان المكتب الذي أجلس عليه أحس أنه حقيقة مكتب لامع وأنيق، وأحس حين أعمل عليه أنني حقيقة أعمل وأنتج، ولكن الأيام ... إن العادة لم تلبث أن أفقدتني الإحساس بالمكتب ودقات المنبه التي توقظني، ونظرة زوجتي حين أعود وحين أغيب، والطريقة التي أصفف بها شعري، وفنجان الشاي الذي أشربه في الفراش بعد غفوة الظهر. هذه كلها كان لها مثلما كان لشارع قصر العيني طعم وجدة، غير أنني فقدت الإحساس بطعمها وبجدتها، وأخيرا بها نفسها، وأصبحت لا أزاول حياتي بقدر ما أتحرك أوتوماتيكيا داخلها، وكأنها دائرة من أسمنت وأبواب وأقارب ومكاتب والتزامات أدور فيها مرة كل أربع وعشرين ساعة، أدور كالسجين المحبوس، بل حتى إحساسي بأني مسجون - الإحساس الذي كان يولد في نوعا من الثورة والتمرد والرغبة في التغيير - حتى هذا الإحساس فقدته ولم أعد أثور.
وأمس، فعلت شيئا تافها جدا لم أكن أتصور أن يكون له ذلك الأثر، وأنا خارج من العمل خطر لي خاطر، واحد من تلك الخواطر التي تخطر لنا ونلقيها من وراء ظهورنا ولا نحفل بها، الفرق أني تحمست للخاطر ونفذته، كان لدي وقت فقلت لماذا لا أغير شارع قصر العيني وأحاول أن أعود إلى البيت مرة عن طريق شارع آخر؟ وأخذت شارع الفلكي، ومن أول لحظة وضعت قدمي فيه بدأت حواسي تنتبه، وبدأت آخذ بالي من الشارع، أمشي حقيقة ولا أتوقف، ولكني لا أترك شيئا يمر من أمامي أو أمر من أمامه دون أن أراه أو ألحظه وأفكر فيه.
ويا للعجب مما رأيت! أشياء جديدة تماما على عيني، الشارع مختلف عن شارع قصر العيني، والبيوت مختلفة، بناؤها مختلف وروحها مختلفة، وكأنما لكل شارع طعم خاص وروح خاصة، والبلكونات حديدها مختلف، وحتى الملابس المنشورة على حبال الغسيل ألوانها بدت جديدة لعيني، وكذلك طريقة نشرها وتفصيلها. وكل شيء كنت أحس به؛ الأصوات، طريقة نداء الباعة، أشكال وأعمار وما يرتديه صبيان الدكاكين، وشلل الطلبة التي تحتل النواصي، واللافتات وطريقة كتابتها وما عليها من أسماء أطباء ومحاسبين وشركات. أسماء مختلفة جديدة لها وقع غريب على العين وطعم جديد على الذهن، وكل اسم جديد، ودكان جديد، وشخص جديد، يثير في نفسي عشرات الخواطر الجديدة، حتى عساكر المرور الذين من كثرة ما اعتدتهم في شارع قصر العيني، كانوا قد أصبحوا لدي مجرد إشارات آدمية بيضاء وسوداء تنظم حركة السيارات، وجدتهم في شارع الفلكي رجالا حقيقيين لهم شوارب ووجوه، ولكل منهم شخصية خاصة مستقلة، وطريقة خاصة في إعطاء الإشارات.
مشيت في شارع الفلكي ... وصحيح أني تعبت قليلا؛ لأن المسافة أطول، ولكني عشت بكياني كله في تلك الدقائق التي قطعته فيها، وكأني طفل يتفرج على دنيا جديدة لم تخطر له على بال.
وحين عدت إلى البيت بدأت أفكر فيه - البيت - وفي مشاكله بطريقة جديدة، وبروح جديدة، وبدأت أحس أني كائن آخر غير الذي غادره في الصباح.
نامعلوم صفحہ
وكم من المشاريع نبتت في رأسي! وكم من الأحلام التي كان يخيل إلي أنها ماتت في نفسي وجدتها تنتفض وتملأ علي خيالي، وأحس أنها قريبة مني لا تكاد تحتمل إلا أن أمد يدي لأقطفها! عاودني الأمل. أحسست وكأني كنت فعلا ميتا وعدت إلى الحياة بطريقة ما، وكأن الموت هو أن نسجن أنفسنا داخل حياة متشابهة واحدة، وكأننا نموت حين نكف عن إدخال الجديد في حياتنا، الموت هو أن ندور في دائرة واحدة مهما كانت تلك الدائرة، حقيقة أحسست وكأني تناولت لتوي جرعة حياة ضخمة، أصبحت بعدها أكثر قوة وأكثر حرية وتفاؤلا وإنسانية وأقوى إرادة. وكل هذا لأني فقط عدت ذات مرة إلى بيتي من شارع آخر غير الذي تعودته!
ترى ماذا يحدث لو عدت كل يوم إلى بيتي من شارع جديد؟ ولو قرأت كل يوم كتابا جديدا؟ وتعرفت إلى شخص جديد؟ وابتكرت طعاما جديدا؟ ومارست تجربة لم أمارسها أبدا؟ (3) لماذا رغم قسوتها نحب الحياة؟
لماذا نستيقظ من النوم ملهوفين ونجري على العمل، من العمل نجري إلى البيت، ونتحمل الرؤساء، والخضوع للمطالب والروتين؟
لماذا نتعب أنفسنا ونعيش، ونتمسك بحياتنا إلى آخر رمق، رغم كل ما قد يكون فيها من ظلم وألم؟
بالاختصار، لماذا الحياة أصلا؟ لماذا يكلف الشجر نفسه عناء النمو وتكوين الثمار؟ لماذا تدافع أحط الكائنات عن بقائها بكل شراهة وشراسة؟ لماذا يتعب الطير نفسه في وضع البيض ورعاية الأجنة وملء السماء أسرابا وأفرادا؟
هذه الأسئلة خطرت لي في أثناء كتابة موقف من مواقف قصة أخيرة، وردت فيه على لسان البطل، ولكني لم ألبث أن وجدت نفسي أولى من البطل بمناقشتها، وجدتني أخرج من القصة وينتقل التساؤل إلى لساني أنا، حقيقة ما دامت الحياة آخرتها الموت، ما دام لها نهاية محتمة، فلماذا البداية أصلا؟ وما معنى البداية والحياة والنهاية؟ لا أعتقد أني، أو بطل القصة، وحدنا في ذلك التساؤل، يخيل لي أن كلا منا لا بد أن جاء عليه وقت، أو سيجيء عليه وقت، يجد فيه أسئلة كهذه تملك عليه عقله وتفكيره، ويجد نفسه في النهاية يتساءل مثلنا: لماذا أحيا؟
الفلاسفة من قديم الزمان طرحوا السؤال وحاولوا الإجابة عليه، بعضهم قال: إن دافعنا الأول للحياة هو التكاثر والتناسل، وبعضهم قال: بل هي غريزة حب البقاء الكامنة في كل كائن حي، وأكثر من إجابة تطوع بها أكثر من فيلسوف، ولا يزال السؤال بغير جواب شاف. وجدت أني أنا الآخر مطالب بالبحث عن جواب، فبرغم كل ما تقرؤه لأرسطو وأفلاطون وكانت وبرجسون ودوهرنج وراسل وإنجلز، لا بد أن تجد نفسك في أحيان مطالبا - لكي تؤمن - أن تبحث أنت عن الحقيقة.
ولقد حاولت أن أبدأ من البداية، فأقول لنفسي: إن الحياة - ومنها الحياة الإنسانية - نوع من الحركة، وقوانين الحركة تنص على أن من خواص المادة أن تحافظ على حالتها الكائنة عليها، فإذا كانت تتحرك فمن خواصها أن تظل محافظة على حركتها تلك، وإذا كانت ساكنة فمن خواصها أن تظل محافظة على هذا السكون، إلى أن تتدخل قوة خارجة عنها تغير من حريتها أو سكونها.
ممكن أن ننقل الفرض خطوة أخرى، ونقول: إذا كان هذا هو القانون فلا بد أن كل مادة حية من خواصها أن تظل تحتفظ بحالتها الحيوية، حتى تتدخل قوة ترغمها على التخلي عن حالتها تلك، وتدخلها في حالة أخرى، بمعنى أدق، نحن لسنا أحياء لأننا نحب البقاء، العكس هو الصحيح، نحن نحب البقاء لأننا أحياء، ولا يمكن أن نجد كائنا حيا أو مادة حية لا تحب البقاء حية، فهي رغما عنها - بحكم خاصيتها - لا بد أن تكون كذلك، وأيضا لن تجد مادة غير حية إلا وهي في حالة تمسك واحتفاظ بانعدام حياتها، تقاوم أن تدب إليها الحياة مثلما تقاوم الحياة أن يدب السكون إليها. كل شيء في هذا الكون يعمل على أن يظل على حالته، فإذا تغير فلا بد أن يكون التغير رغما عنه لا بإرادته.
الحقيقة الثانية
نامعلوم صفحہ
المادة في كوننا تأخذ حركتها أشكالا عدة، ملايين عديدة من الأشكال، كل شكل منها يختلف عن الآخر، فالعلم قد أثبت أن لا شيء في الكون في حالة سكون تام، ذرات قطعة الرصاص في حركة دائمة مثلها مثل ذرات خلايا الإنسان، كل ما في الأمر أن ذرات الرصاص تتحرك بطريقة أبسط وأبطأ، بينما ذرات الخلايا تتحرك أسرع، وفي مدارات أكثر تعقيدا.
والخلاف بين الرصاص والبخار والعقل هو فقط خلاف في السرعة ودرجة التعقيد، ولأن المادة في حركتها يمكن أن تأخذ عددا لا نهاية له من السرعات ودرجات التعقيد؛ أي بتعبير آخر يمكن أن تأخذ عددا لا نهاية له من أشكال الحركة، لهذا نجد أن كوننا يحفل بعدد لا نهاية له من أشكال المادة، وجود كل شكل منها على حدة هو في اختلافه عن الأشكال الأخرى، الاختلاف في الشكل يحتم اختلافا في المضمون أيضا، فحركة ذرات الرصاص باختلافها عن حركة ذرات الخلية الحية، تجعل من الرصاص رصاصا ومن الخلية كتلة حية، الاختلاف في الحركة هنا شكل ومضمون في الوقت نفسه، واسم وصفة. الرصاص رصاص؛ لأنه يختلف عن الحديد والإنسان، فإذا فقد اختلافه عن الحديد والإنسان فقد رصاصيته، والخلية حية؛ لأنها تختلف عن الرصاص والحديد، بل حتى عن مكونات نفس الخلية إذا ماتت، فإذا فقدت الخلية اختلافها فقدت حياتها.
الحقيقة الثانية إذن، حسب قوانين الحركة، أن كل شكل من أشكال الوجود يحاول المحافظة على الحالة التي هو عليها بطريقة سلبية، بمجرد البقاء في شكله المختلف فقط، ولكنه يحافظ على اختلافه بطريقة إيجابية، بمحاولة فرض شكل حركته الخاص على أشكال الحركة الأخرى، النار مثلا تحاول أن تحيل كل شيء إلى نار، والثلج يبرد ما حوله، والحيوانات تأكل النباتات لتحولها إلى نسيج حيواني ... وهكذا.
باستطاعتنا إذن أن نتصور الوجود على أنه مادة دائبة الحركة، تأخذ من حركتها أشكالا لا حصر لها، أشكالا متدرجة في درجة سرعتها ودرجة تعقيدها، كل شكل منها يحاول ابتلاع الأشكال الأخرى، وفرض نوع سرعته ودرجة تعقيده عليها.
الحقيقة الثالثة
بدراسة تاريخ حركة المادة نجد أن الحركة في الكون تجنح أكثر وأكثر إلى أن تتعقد، والدليل على هذا أن كتلة الشمس مكونة من جزيئات وذرات، وحتى من إلكترونات طليقة، بينما في الكرة الأرضية تجد هذه الأشكال قد تداخلت وارتبطت وتعقدت أكثر وأكثر، ونتج عنها الماء والتراب والنبات والحيوان والإنسان.
في عملية الصراع من أجل بقاء كل شكل من أشكال الحركة على حاله، لمن النصر؟ المشاهد أن أشكال الحركة المعقدة هي التي تبتلع الأشكال السفلى الأبسط وترفعها إلى درجتها من التعقيد. ولقد ظلت أشكال الحركة المعقدة تزداد تعقيدا حتى وجدت الحياة، وظلت أشكال الحركة الحية الدنيا تتعقد حتى وصلت إلى مراحل النبات الكامل والحيوان والإنسان، والعقل، العقل هنا هو أرقى أشكال الحياة وأكثرها تعقيدا، ليس هذا فقط، بل إنه شكل الحركة الذي يستطيع - دونا عن بقية أشكالها الأخرى - أن يتحرك حركة من تلقاء نفسه لا تخضع لقوانين الحركة.
وبمعنى آخر، مادة الكون ظلت في حالة حركة تلقائية وصراع بين أشكالها، حتى ظهر العقل الذي بدأ يتحرك ويتصرف في مادة الكون وأشكالها تبعا لإرادته الخاصة وقانونه الخاص، ولكنها إرادة محدودة أيضا، وخاضعة لقوانين الحركة العامة السالفة، فالإنسان يستخدم عقله لابتلاع كافة أشكال الوجود الأخرى، ولإحالتها إلى إنسان، أو تأنيسها على الأقل، هو لا يمكن أن يوقف قوانين حركة المادة أو يلغيها؛ لأنه هو نفسه مجرد شكل راق من أشكال حركة المادة، كل ما في الأمر أنه مرحلة نتجت عن تعقيد حركة المادة، وبحكم خاصيتها تجنح إلى تعقيد حركة المادة أكثر وأكثر.
ولهذا، فكما كان الجليد في العصور الغابرة يحاول أن يثلج الأرض وما عليها، فكذلك الإنسان، ذلك الذي كان في مبدأ أمره مجرد أفراد متناثرين على سطح الأرض يحيون في كهوف، ها هو الآن يملأ وجه الأرض، تكاثر جنسه حتى أصبح ثلاثة آلاف مليون، ومن الأحجار صنع بيوتا، ومن الحديد صنع آلات تتحرك، استأنس الحيوانات واستغل النبات، واستأنس كل ما على ظهر الأرض من مواد وطاقات ليحيلها إلى إنسان، أو أقرب ما يكون إلى إنسان.
والنتيجة؟
نامعلوم صفحہ
إننا لا نحيا إذن استجابة لنداء حب الحياة، ولكننا نحيل برغمنا، بحكم قانون شكلنا الحي وحركتنا، بحكم أننا مختلفون عن بقية أشكال الوجود اختلافا لا نملك معه إلا أن نستمر نختلف وندافع عن اختلافنا، ليس فقط بمجرد تمسكنا السلبي ببقائنا أحياء، ولكن بالتمسك الإيجابي، بالدخول في صراع مستمر مع غيرنا من أشكال الحياة واللاحياة، والانتصار عليها ورفعها إلى مستوى حركتنا الإنسانية، ولأن قانون الوجود الأساسي أن الشيء الذي لا يغير لا يتغير، وأننا ما لم نغير نحن من أشكالها ونستأنسها، فأشكال الوجود الأخرى حتما سوف تغيرنا وتخضعنا لقانون حركتها. تلغي وجودنا المختلف ... تقتلنا.
لهذا، فمجرد أن نبقى أحياء هو في حد ذاته موت؛ لأنه إلغاء لخاصيتنا كأحياء؛ إذ خاصية الحي أن يغير كل ما هو غير حي إلى حي، وإلا حوله غير الحي إلى جماد مثله، ونحن نفعل هذا برغمنا وبإرادتنا.
دافعنا للحياة إذن ليس هو الخوف من الموت، أو الرغبة في التناسل، أو المحافظة على النوع، دافعنا أننا فعلا أحياء بغير إرادتنا، حياة من تلقاء نفسها دفعتنا لأن تنشأ لنا إرادة، نستخدمها لكي نتحرك حركة الإنسان الراقية المعقدة، وأن نجعل غيرنا من الكائنات والمركبات - وحتى الأكوان - يتحرك مثلها.
وصحيح أن معظم الناس لا يحيون هكذا، بعضهم يستخدم هذه الإرادة التي تفرد بها في خدمة نفسه فقط، وإحاطتها بما يؤمن وجودها على سطح الأرض، ومع أن في هذا أيضا تحقيقا لبعض إرادة الحياة الكبرى، إلا أنه تحقيق لها على أضيق وأحط نطاق، أما حركة الجنس البشري ككل، فهي تمضي تنتصر وتكسب وتنجح، لا في إحالة كل ما هو حي إلى حي، ولكن أيضا في إحالة أشكال الحياة الإنسانية اسما إلى إنسانية حقيقية، والصراع بين ما هو خير في الإنسان وما هو شر، صراع ليس أبديا كما يعتقد البعض، إنه مرحلة من مراحل تأنيس الحركة الإنسانية داخل المجتمع الإنساني، تمهيدا للتفرغ كلية لتأنيس كل ما ليس إنسانا.
الإجابة عن السؤال: لماذا نحب الحياة رغم قسوتها، ونحتمل شظفها؟ الإجابة أننا نفعل هذا لأن الحياة لا تكون إلا بالانتصار على قسوتها. وتحمل صعاب الحياة ليس ضريبة مفروضة على الإنسان، ولكن صعاب الحياة هي الحياة، وأن نحيا معناه القدرة على التغلب عليها، فالحياة ليست نزهة أو وليمة. إنها معركة، من لا يحاربها ميت، وإن ظلت تحمله الأقدام! (4) الإنسان الآخر الذي يسكنني
أمضيت اليوم بطوله في البيت أحيا كالناس الطيبين الصالحين. وفي المساء ذهبت مع زوجتي في زيارة، وتعشينا في البلد، وحضرنا حفلة، ثم عدنا في منتصف الليل، زوجتي سعيدة تتساءل عن اليهودي الذي لا بد قد مات وجعلني أقضي يوما كاملا معها، وابننا سعيد وإن كان يعبر عن سعادته بطريقته الخاصة، بالصراخ ورفضه خدعة البزازة، وكل شيء في البيت هادئ وسعيد ومرتب! والقاهرة، والليل، والأنوار، وكل ما في الكون يئوب مسترخيا راضيا إلى السكون الذي طال انتظاره. أما أنا فقد كنت أكاد أنفجر - لا من الغيظ - ولكن من هاتين العينين الدخيلتين اللتين ظلتا تراقباني في سخرية وأنا أقوم بدوري طيلة اليوم، بطريقة جعلتني أخجل من نفسي ولا أستطيع أن أذوق طعما لكل ما رأيت وفعلت، عينان لا أعرف أين أذهب منهما، ومنه، من هذا الإنسان الآخر المخيف الذي يحيا داخلي ويحيل صدري إلى نار دائما موقدة لا تهدأ ولا تخمد، الإنسان الجاد الذي لا يبتسم ولا يعجبه العجب، والذي يرتدي على الدوام ملابس الميدان ولا يستريح أبدا، وليس في حربه المتصلة هدنة، الإنسان الدائم القلق، الدائم التفكير، الخطير المشروعات، الباتر الإرادة، العنيد الذي يضعني كل لحظة أمام أوامر لا قبل لي بها: اذهب حالا وتطوع في جيش التحرير الجزائري، اكتب قصة عن السجن، امتنع عن هذه النظرات الحنونة الخاصة التي تسترقها لابنك، اعتبره مجرد واحد من مئات الملايين من أطفال العالم أنت أبوهم جميعا، اقطع كل صلاتك الخاصة بالحياة، لا تستمتع بهذا الطعام فغيرك جائع، أنت مسئول عن الجوعى في العالم، أنت مسئول عن منكوبي أغادير، مسئول عن الحرية في بلدك وعنها في العالم، أنت لم تخلق لنفسك فلا ترح نفسك، أنت خلقت لغيرك فافن في غيرك وعش كيفما اتفق، فالمهم أن تعمل أعمالا تجلب السعادة لكل الناس، وتبدأ من الآن. قم وانهض!
إنسان يسكنني ويجعلني أنام وأنا واقف، وأفكر وأنا واقف، وإذا وقفت أريد أن أطير، إنسان ألهث ولا أعجبه، وأكتب ولا أعجبه، وأجد نفسي مضغوطا بشدة بينه وبين المجتمع الصغير الذي أحيا فيه، بل أجده يدفعني جانبا أحيانا ويتصرف هو فلا يحفل بإحساس صديق، أو قد يسيء إلى عزيز، وأبادر لأصلح وأتعذب لفشلي في الإصلاح، وأتمزق لإحساسي أني لا أستطيع أن أكون عاديا كما يريدني الناس، وغير عادي كما يريدني هو.
طوال اليوم الذي أمضيته «سعيدا» كالأزواج الصالحين، أمضيه وأنا أكتم قطع الفحم المتقدة في صدري، قضيته وأنا «أتحمل» السعادة، وأدفع ثمنها الفادح، هذا الإحساس الممض القاتل، الإحساس أني أتواكل عن مهمة عظمى، أني أهملت، أني مقصر، إحساس التلميذ الذي «يزوغ» عن المذاكرة أيام الامتحان، ولكن التلامذة يعرفون امتحانهم ويؤدونه، أما أنا فلا أعرف امتحاني ولا مهمتي.
ومصيبتي أني لست ضيقا بهذا الإنسان، وكل مرادي أن أرضيه. وهو جبار لا يرضى أبدا ولا يهدأ، كالنار التي أقدم لها نفسي لأرضيها فتزداد ضراما واشتعالا، وربما لن ترضى وتخمد النار إلا بانتهائي وموتي.
أتريدون أن تعرفوا رأي هذا الإنسان الأخير فيما أكتبه الآن، إنه يتهمني بالسخافة والأنانية، وبتهمة أكبر: أني أشرك قراء لديهم مشاكلهم الكثيرة في مشكلة تخصني أنا وحدي.
نامعلوم صفحہ
أتريدون أن تعرفوا رأيي؟ إنه نفس رأيه، فاغفروا لي ما كتبته، إني متأكد أنكم ستفعلون، ولكن الكارثة الكبرى أنه هو لن يصفح أو يغفر أو ينسى، سيظل يؤرقني بتأنيبه أياما، وربما سنين، إنه لا يزال إلى الآن يؤنبني على أخطاء ارتكبتها وأنا طفل! (5) وزن الحرية
لم أكن أعرف أن للحرية وزنا، ليس وزنا معنويا، ولكنه وزن مادي ممكن قياسه وحسابه، كنت أقرأ في كتاب ضخم للعالم الروسي الشهير بافلوف، وإذا بي أجد هذه الفقرة الصغيرة البالغة الأهمية، أنقلها هنا كما قرأتها: «مرة خلال سلسلة التجارب التي كنت أقوم بها على فسيولوجية الجهاز الهضمي، حيرني سلوك الكلب الذي كنت أقوم بإجراء التجارب عليه، كنت أنا ومساعدي قد وضعناه في جهاز الإطعام، وربطنا أطرافه الأربعة بطريقة تحد من حركته فقط ولكنها لا تقيده، ولم يقاوم الكلب ونحن نربطه ولا أظهر أي علامة من علامات الضيق بالوضع، ولم نفعل شيئا آخر أكثر من تقديم وجبات الطعام له مرة كل بضع دقائق، وفي مبدأ الأمر ظل الكلب هادئا يأكل برغبة، وإفرازاته طبيعية، ولكنه بمضي الوقت بدأت سلسلة غريبة من الأعراض تظهر عليه، فبدأ ينبح وينفعل لأقل شيء، ويثور ويخربش قاعدة الحامل وبعض قوائمه، وصحب هذا المجهود العضلي المستمر ضيق في التنفس، وخفقان في القلب، وإفراز غزير من الغدد اللعابية، واستمر هذا أسابيع كثيرة حتى أصيب الكلب بالسقم، وأصبح غير صالح لإجراء تجاربنا عليه، ومع أننا كنا نعتقد أننا على معرفة وثيقة بطبائع الكلاب من كثرة ما أجرينا عليها من تجارب، إلا أن سلوك هذا الحيوان بتلك الطريقة حيرنا تماما ولم نجد له تفسيرا، فلم يكن هناك أي سبب يفسر تصرف الحيوان بتلك الطريقة الشاذة.
وأخيرا خطر لنا أن السبب قد يكون هو السبب البسيط الذي كان من الممكن ألا نفطن إليه لفرط بساطته؛ أي يكون السبب هو الأربطة التي تحد من حركة الحيوان، وبالتالي من حريته، وسمينا هذه الظاهرة انعكاس الحرية (Freedom Reflex) ، التي تدل على وجود غريزة الحرية (Freedom Instinct) . ومن الغريب أننا وجدنا كبار العلماء الذين كتبوا عن الغرائز لم يشيروا إلى غريزة الحرية هذه من قريب أو بعيد، فالعلامة «جيمس» مثلا لا يشير إليها ضمن الانعكاسات الخاصة للإنسان «أي ضمن غرائزه».
وبموالاة الدراسة في هذا الاتجاه أمكننا أن ندرس بعض آثار غريزة الحرية هذه، ونعرف أنها من الدقة بحيث إذا وضعنا أي شيء ولو كان بالغ التفاهة في طريق الحيوان - حتى ولو لم تقيد أطرافه - لانعكس هذا على حياة الحيوان نفسه، ولأثر بشكل خطير على وظائفه الحيوية وبقية غرائزه، وأعتقد أننا كلنا نعلم أن هذا الانعكاس الخاص - أو تلك الغريزة - تبلغ عند بعض الحيوانات حد أنه لو قيدت حرية الحيوان بأي طريقة فإنه يمتنع فورا عن الطعام، ولا يلبث أن يذوي ويموت.
الحرية إذن ليست مجرد شعار أو اعتقاد، إنها حقيقة علمية، غريزة مثل التزاوج والبقاء. الكائن الحي حي؛ لأنه يملك حرية حركته، وأي قيد على حريته أو حركته سوف يناضل ضده ويكافح ويضرب بالرصاص حتى يزول أو يهلك دونه، حقيقة علمية ما أجدر أن يتأملها أعداء الحرية وأعداء حركة الشعوب! وما أجدرنا أن نتأملها نحن أيضا، نحن الذين ننادي بالحرية ونؤمن بها!» (6) الحياة
أول أمس
لعلكم قرأتم خبر الحادث الذي وقع على الطريق الزراعي بين القاهرة والإسكندرية، والذي مات فيه أربعة وجرح أربعة عشر. قدر لي أن أرى الحادث رأي العين، بالصدفة كنا قادمين بالعربة على نفس الطريق، وفي منتصف المسافة بين طنطا وكفر الدوار وجدنا جمعا هائلا من الفلاحين يحيط بعربتين مدشدشتين مقلوبتين، وما كدنا نتوقف لنرى ما هنالك حتى تطوع فلاح شاب من تلقاء نفسه، وقال: أربعة ماتوا والباقيين اتعوروا.
وهبطت تدفعني الرغبة والرهبة والفاجعة وحب الاستطلاع، عربة مقلوبة مكسورة، وعربة مقلوبة مفعوصة، والزجاج مبدور يملأ الطرقات كحبات الأرز الأبيض المبعثرة، وجثث، أربع جثث مغطاة بقش الأرز يبصرك بها الناس الطيبون الواقفون مخافة أن تخطئ وتدهسها، وضابط النقطة يتم محضرا لا أدري لماذا ولا متى بدأه؟ وبرنيطة طفل صغير راقدة على التراب البعيد لا يجرؤ أحد على أخذها أو لمسها، وعربة إسعاف، وسواري، وعربات كثيرة واقفة هبط سائقوها يتأملون المشهد واجمين وكأنهم يتأملون المصير، وتحت الأرجل والعربات دم، دم كثير غزير داكن لونه يأخذ لون أسفلت الطريق، والواقفون جميعا يهمسون لبعضهم البعض، وكأن شيئا كبيرا هائلا لا يزال محلقا في الجو له مخالب وعلى استعداد للانقضاض.
قال أحد الواقفين: سائق هذه العربة مات، وسائق هذه في حالة خطرة، والجرحى نقلوا إلى المستشفى، والقتلى ستحملهم عربة الإسعاف.
جرحى وقتلى ودم وارتباطات وصدقات ومئات الأقارب والعائلات والعمات والخالات، تضيع كلها في ثانية، زمان كان الفارق بين الحياة والموت فارقا شاسعا وكبيرا: مرض مزمن يعجز الأطباء عن علاجه، نزال يستمر أياما طويلة وليالي، أما اليوم فالفارق بين أن تحيا وأن تموت بسيط جدا، مجرد سهو يحدث، طوبة في الطريق، أن يأخذ السائق باله أو لا يأخذه، أن يضغط على البنزين بخفة أو بثقل، ولست أبالغ، فالحادث الذي رأيته - بضحاياه وقتلاه وجرحاه وخسائره - سببه أن كلا السائقين لم ير أحدهما الآخر لثانية واحدة! ولو كان أحدهما قد فعل لما وقع الحادث. التفاتة، سرحة صغيرة ممكن أن تكون قد استغرقت لمحة خاطفة من الوقت، نقلت أربعة - وممكن أن تنقل أكثر - من عالم حي هم فيه أحياء لهم ما لكل الأحياء من قوة وحيوية وآمال وأولاد ومشاريع، إلى جثث تحتها التراب وفوقها قش الأرز.
نامعلوم صفحہ
عدت إلى مواصلة السفر وفي قلبي انقباض بغيض وتأملات. بالآلة والبنزين والكهرباء والسكك العريضة والذرة دخلنا في عصر السرعة، والفارق بين عصرنا هذا وعصر الدواب أن مسئولية الناس في ذلك العصر كانت مسئولية جزئية، فهم لم يكونوا يستطيعون التحكم تحكما كاملا في دوابهم أو حظهم وظروفهم، إلى درجة أنهم كانوا يريحون أنفسهم ويقولون: خليها على الله. أما في عصرنا هذا فنحن نتحكم تحكما كاملا في كل شيء، ولهذا فمسئوليتنا كاملة عن كل شيء، ولهذا فهي مسئولية كبيرة، وكلما كبرت المسئولية عظم أتفه خطأ ينشأ عنها وأصبح جريمة، جريمة قد تودي بحياة بضعة أشخاص في عربة، وقد تودي بحياة بضعة ملايين في دولة.
وطوال الطريق لم أستطع أبدا أن أنسى أن الفاجعة التي رأيتها كان سببها هفوة ارتكبها إنسان.
وطول الطريق وأنا لا أستطيع أبدا أن أزيح من خاطري الدم الغامق المتجمد، والزجاج المبدور، والجثث المغطاة بقش الأرز.
أمس ...
وفي الساعة الثالثة صباحا كنت في مطار القاهرة، والليل قد رطبت الثالثة حدته وخففت ظلامه، والمطار راقد في قلب الصحراء كالنجفة الكبيرة الموقدة ذات المصابيح المتعددة الألوان، والطائرات جاثمة على أرضه والركاب يصعدون ويهبطون، وبين كل حين وحين يرتفع صوت الميكروفون، يقول: يسر شركة كذا أن تعلن عن رحيل طائرتها إلى بومباي وإلى فيينا وإلى براغ ونيويورك، وأنا أودع صديقا.
وفجأة أحسست برجفة صغيرة تهزني، وبكلمة تحتل ذاكرتي كلها وتبهرها: السفر.
كم من مرة تمنيت فيها أن أمضي عمري مسافرا متنقلا من بلد إلى بلد. ونحن أطفال صغار، أتذكرون؟ حين كنا نفرح بالسفر ونظل طول الليل لا ننام مخافة أن يساهينا الآباء ويسافرون، أتذكرون اليقظة المبكرة والفرحة، والمحطة، والذهول الغريب المستولي على الناس: ذهول السفر؟ وانتظار القطار القادم من مكان بعيد مجهول، ورائحة خشبه وعرباته وهي تختلط برائحة دخانه ورائحة الصباح المبكر مكونة رائحة السفر، نستنشقها بشغف ونهم والقطار يمضي بنا سريعا ينقب الزمن والأفق، ويذهب بنا بعيدا في أغوار العالم الفسيح المجهول.
وآلاف الأشياء تغير طعمها في أفواهنا لما كبرنا، والسفر وحده لم يتغير طعمه ، ولا تغيرت أبدا تلك الرغبة الملحة في التنقل، الرغبة التي تمنيت معها وأنا واقف يحجزني حديد السور لو يصبح في استطاعة الإنسان أن يسافر متى أراد وكلما أراد، لو اختفت فجأة تلك الحواجز السخيفة بين الدول، اختفت الجوازات والتأشيرات والجمارك والحدود، حدود الدول وحدود الشعوب والأفراد والطبقات، وأصبح العالم كله وطن أي إنسان لمجرد كونه إنسانا، وأصبح الناس في كل مكان أناسه، وأي بلد يحل فيها بلده، وأي لغة لغته، وأي عملة عملته، وأي جار أخاه.
الطائرات كثيرة ومحومة، وقادمة من بلاد بعيدة وذاهبة إلى بلاد بعيدة، والذهول الحبيب يسيطر على القادمين والذاهبين، ونفسي أحس بها تتفتح، وأحاول أن أعثر فيها على أثر لحادثة الطريق الزراعي والخوف من عصر الطائرات والعربات فلا أجد. أجدها قد أصبحت نقطة، قطرة مريرة ذابت تماما في حلاوة تلك الكلمة ذات الرنين الحلو: السفر. (7) العودة ومشاكل العودة
كل عودة إلى مصر لها دائما سحرها الخاص! ما من مرة كانت العودة مماثلة. الطائرة النفاثة تحلق، والمضيفة في الميكروفون الأخنف تقول: بعد دقائق تصل إلى القاهرة، وتنظر من النافذة أسفلك فتجد أنوارا، وتحاول التخمين، هذه طنطا، هذه بنها، القادمة هي القاهرة لا بد، ولكن القادمة لا تكون القاهرة، إن استعجالك للحظة الوصول يكاد يسقطك في طوخ أو في قليوب، ولكنها القاهرة هذه المرة، هذه الساحة الواسعة المضاءة لا تكون - في مصر كلها - إلا القاهرة، ما أحلاك يا قاهرة! ما أجملك من الجو فقط! إنا عائدون مرة أخرى لك، للحمى الغريبة المزمنة، للمعارك المعهودة، للوجوه العجوزة التي كادت لطول بقائها تكتم الأنفاس. إننا عائدون يا قاهرة، فيك كل ما يغري بالبعاد، ولكن فيك ما هو أروع من القرب والبعد والمتعة والسعادة، فيك الحياة.
نامعلوم صفحہ
إنني لا أعرف ماذا فينا نحن المصريين يجذبنا - كاليويو - بشدة وبقوة وباستماتة إلى هذه البقعة من سطح الكرة الأرضية؟ وكأنما قد دفن لنا «عمل» أو شددنا إليها بتعويذة، في قلب لندن في ميدان ريجنت أو بيكاديللي، الأنوار والفتارين والحركة الهائلة المائجة والمتعة على قفا من يشيل وسحر الحضارة الأوربية الخارق، ولكنك في لحظة تذكرها تومض قاهرتك في مخيلتك فكأنما يومض الحق، كأنما تومض الأحلام الجميلة فيذوب شارع ريجنت وميدانه، تذوب حضارة أوربا، وتتجرد وتقف وكأنك في الصحراء الكبرى، أو في قلب المحيط الأطلنطي قد انتقلت بكل ذرة حياة فيك إلى مصر، ترويها بالدمع إن استطعت.
إنها عزيزة علينا وغالية، وكلما قابلت أجنبيا زار مصر ووقع في حبها أكاد أغار عليها من حبه، إنها تعز على المرء حتى وهو في قلبها هنا، أكاد كل صباح أصحو من النوم لأقبلها، وأقول لها: كيف حالك اليوم يا مصر؟ كيف أصبحت؟ كيف داويت الجرح الذي خلفه التروللي باص؟ وأنت يا نيلنا ماذا دهاك حتى تبتلع أبناءنا بالجملة وكأنك أصبت في عقلك بلوثة نهم وجشع؟ أم تراك في حنين - وقد أقمنا السد ومنعنا فيضانك - إلى عروس النيل نفتدي بها شرك؟ ألا ما كان أحكم أجدادنا حين كانوا يفتدون مئات الأرواح بروح واحدة، وما أسخف مهندسينا وأخصائيينا اليوم حين يقررون أن حوادثك ليست سوى قضاء وقدر، لا علاقة لها بإهمال أو بعطب أو بشيء يدل على تقصير.
المهم، تلوح القاهرة دائما ويتجدد الشجن، ولكن السعادة تتدفق بأعظم وأروع تدفق، والقلب كالموشك على لقاء الحبيبة ينبض، وأقسم أن النبض يسرع، وألهث، بعد ثوان سيلامس العجل أرضك، وحتى لو انفجر العجل ومتنا فسنموت هنا ولن نتمزق على أرض غريبة، ولن نتجمد على الثلج، على الأقل سيتاح لنا بجزء من اللحظة أن نستنشق قبضة هواء اختلطت بترابك ولامسته، جزء حمل معه لا بد أريج أذرتنا، وضربات فئوس عمالنا، ورذاذ سبابنا.
ولكنا دائما وأبدا، وإلى أن يقدر الله، نهبط في سلام، وللفرحة القصوى أحياء، أجزاء عائدة إلى الكل الكبير، أخيرا بعد البرد والمطر والعواصف والثلج والترمومترات القابع زئبقها متجمدا في القاع، تلفح وجوهنا نسمة الحب الدافئ؛ أقصد الهواء، هواءك يا أرضنا، أرض كل هؤلاء الناس العرايا والمثقفين، حتى أرض لصوصك وخفرائك ولومانجيتك، أرضنا كلنا بلا تمييز ولا تحيز ولا استئثار. أتفهمين؟
وصحيح أن الإجراءات التي تتخذ فيما بين الطائرة وباب الخروج من المطار إجراءات تكاد تجعل الإنسان يفكر في العودة من حيث أتى، إلا أن الإنسان يحتملها والسلام، خاصة هذه المرة، فلقد صدمت حقيقة بمشهد حوالي عشرين ضابطا وصف ضابط يقفون عند الجوازات، ولقد مررت ورأيت بلادا كثيرة شيوعية ورأسمالية وبين بين، ولم أر في مطار من مطاراتها هذا العدد المرعب من ضباط الشرطة بالملابس الرسمية، بل إن ضباط الجوازات في معظم بلاد العالم يرتدون الملابس المدنية حتى لا يفزعوا - ولا مؤاخذة - القادمين! وإني لأتساءل عن السبب في هذا العدد الكبير وعن تواجدهم هكذا بطريقة تجعل الإنسان يعتقد كأن شيئا، لا سمح الله، قد حدث أو يوشك أن يحدث.
في الليلة الرابعة عشرة ...
في الليلة الرابعة عشرة في بولندا أحسست بالحنين إلى مصر وإلى اللغة العربية، وتجربة غريبة أن توجد في وسط شعب يتحدث لغة لا تفقه فيها حرفا واحدا - واللغة البولندية من أصل سلافي، واللغات السلافية كانت بعيدة عنا تماما، وأعتقد أنها لا تزال - وأن ترى الحياة كاملة تدور حولك وتسير بكلمات ومصطلحات أنت تجهلها تماما. تستمع وتحاول أن تخمن، وتخطئ أخطاء بشعة في التخمين، والحياة سادرة سائرة، أنت وحدك الذي لا تعرفها، تجربة تدفع لتأمل كثير، ولكنها تدفعك أكثر إلى الحنين إلى لغتك وموسيقاك وتكوينك النفسي، وهكذا صممت أن أجد القاهرة، في غرفة الفندق لحسن الحظ هناك جهاز راديو ضخم، وبنظرة إلى حجمه قررت إما أن يستحضر لي الجهاز القاهرة، وإما على الله العوض في الصناعة البولندية، والمشكلة كانت أن أعثر على الصوت العربي العزيز بين أربع موجات قصيرة واثنتين متوسطتين وواحدة طويلة، أعددت نفسي لعملية بحث، كان غير مهم عندي لو استغرقت الليلة بأكملها، ولكم أن تتصوروا مبلغ ذهولي حينما أدرت المفتاح قليلا على أول موجة قصيرة صادفتني، وإذا بي أذنا لأذن هكذا مع صوت من؟ مع أم كلثوم، مع اللغة العربية والقاهرة وموسيقانا وتكويننا النفسي مرة واحدة مفاجئة، ولا غلوشة ولا مطبات صوتية، بل إرسال ثابت وكأني أسمعها من المنصورة وليس من وارسو، وفي لحظة انقلبت وارسو إلى المنصورة، وشعور الغربة إلى ونس عارم محيط، حتى مستمعي السيدة أم كلثوم الذي يضايقني ترديدهم المتصل للآهات تلو الآهات، وكأنهم كورس إغريقي مفروض، كنت أستعذب منهم الأصوات وأحس كأني بينهم، وأم كلثوم ما أروع «سخوت» و«بلغت بالجود» و«الاشتراكيون أنت إمامهم»، وهي تأتيني من على بعد أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر، فيها سيال عاطفي يوشك الوصول إلى القمر، وفي حلاوة من حلاوة عسل نحلنا، وشربة «القلة» من مائنا تمخر في عباب نفوسنا، تحمل رائحة «تقليتنا» وأشجاننا وخرافاتنا وحلقات ذكرنا، شكرا لهؤلاء المجهولين الذين أقاموا هذا الإرسال القوي لإذاعتنا، شكرا للمذيع حين قال في النهاية وقد حسبتها باريس أو طنجة، هنا القاهرة. (8) الحر
انفتح أكثر من مليون حنفية، وتدفق الماء يغسل مليون رأس ووجه وقفا، وبدأ أهل القرية يومهم مبلمين متضايقين، بوز كل منهم شبرين، وعلى استعداد تام لخلق مشاجرة حامية إذا وجد الشاي ناقصا سكرا، أو إذا طالبه ابنه بالمصروف، أو إذا لم يجد الهباب الشبشب «اللي قلت مليون مرة لازم يفضل متنيل هنا تحت السرير».
وما كادت آلاف الأبواب تفتح، وتفرغ آلاف البيوت محتوياتها من الأفندية والعمال والطلبة، حتى بدأ الناس يدركون سبب الضيق الذي صاحب يقظتهم؛ إذ كان الصباح أحر صباح عرفوه في حياتهم، صباح بدأت حرارته تصل إلى التاسعة والثلاثين في غمضة عين، صباح لم يستمر أكثر من ربع ساعة، قضاها الموظفون يحتسون القهوة ويرسلون آلاف السعاة إلى آلاف محلات الفول والطعمية والبسكوت استعدادا لبدء العمل، ولكن العمل لم يبدأ ... بدأ الحر. «دي ما حصلتش» قالها مليون جار لجاره وزميل لزميله ومليون أم محمد لأم فيفي، وأعقبتها أو سبقتها مليون لعنة أصابت بئونة، وذلك المنخفض السخيف الذي حدث في الصحراء وكان السبب في تلك الموجة المفاجئة من الحر.
وأصبحت الحرارة 40°، وبدأت الحمى تجتاح القاهرة. عشرة آلاف كف على الأقل ارتفعت وهوت على عشرة آلاف صدغ من أقلام ساخنة جدا، لم ترفع لردها أكثر من خمسة آلاف كف ربما لنقص في الشجاعة، وربما للحكمة القائلة «بات مضروب ولا تبات ضارب»، وبدأت الأعصاب تلتهب وتتحول إلى أسلاك نحاسية ساخنة، وبدأت آلاف العربات تتأرجح. الدركسيون ملتهب، والبنزين ملتهب، والأسطى محمود محموم، واوعى يابن ال... وطاخ! حادثة، وصفارة، ألف صفارة، وأربعة آلاف جنحة، ومليون خناقة، وأكثر من أربعة ملايين يمين باطلة أقسمها سكان القاهرة، ومليار مرة تقلقلت عظام الآباء والأجداد لتحتمي من اللعنات والدعاوي التي تتساقط عليها بالأكوام.
نامعلوم صفحہ
ووصلت الحرارة 41°، وبدأت النار، الشوارع نار، والبيوت نار، والظل نار، والشمس نار، والأكل نار، والنوم نار، وثمن الثلج نار، والراديو نار، عبد الحليم حافظ يجأر بأعلى صوته: نار يا حبيبي نار، وأجراس تتن تتن حريقة. فين؟ وإذا بالحريق مليون حريقة، وكل حريقة في حاجة لإطفاء. السماء في حاجة لإطفاء، والأرض في حاجة لإطفاء.
والناس والعقول وحتى الماء في حاجة لإطفاء، وتتن تتن ... المطافي تحاول بلا فائدة إطفاء الحرائق، والتنظيم يحاول إطفاء الأرض، والكازوزة ... مليون زجاجة كازوزة تحاول إطفاء الأجواف، والمحاولات كلها تزيد النار اشتعالا، والملجأ الأخير الثلج، التهمته النار وتحول إلى دخان وحشيش، يباع سرقة، ويشترى سرقة، ويتعاطى خلسة.
وبلغت الحرارة 42°، الموت. كل شيء وكائن بدأت تموت أجزاء فيه، الرغبات تموت، والسيدة محشورة بين الرجال في الأوتوبيس كالطعام البايت لا يلتفت إليه أحد، وخناقة تنشب بين بائعي العرقسوس ولكنها لا تصل أبدا إلى حد التماسك، ولسة ح اتخانق يا عم؟ الدنيا حر موت، والخدامة تتأخر وتفتح الست فمها كالعادة لتنصب منه الشتائم، فتفتحه فلا يخرج منه شيء، لسانها يقف كالعصا الجامدة في حلقها ويأبى التحرك.
الحرارة 43، 44، 45°، موت وهلوسة واستسلام كامل للحر. الحديث يتناقص إلى كلمات، ثم إلى أنصاف كلمات، كالأغاني الأخيرة لصباح ونجاح سلام: آه ... أيي... ياه، الملابس تخلع وتلقى قطعة وراء قطعة. المدير العام يلهث محشورا في البانيو، ووكيل الوزارة يهوي على زوجته المسورقة، وامرأة المعلم برعي تقول له: أيوه روح اتهوى عني يا شيخ، ويصبح الناس عرايا تماما في منازلهم، ويظن كل منهم أنه هو الوحيد العاري، ولو قدر للحيطان أن تختفي لمات الناس من الضحك على بعضهم حين يرون أنفسهم ملايين العرايا في مختلف الأوضاع: الراقد على البلاط، والرافع ساقيه، والممدد على بطنه، وأشكالا لا أول لها ولا آخر من الأجساد، أجساد أحيانا أنصافها العليا لرجال وسيدات، والسفلي أحيانا لأفيال. أجساد دائخة تنتظر غروب الشمس وكأنها تنتظر موعد الإفطار في رمضان، رءوس مدلاة مصدعة وكأنها منفوخة بدخان الأعصاب التي احترقت.
وتغرب الشمس، ومع هذا تزداد الأرض التهابا، وتتفتح ملايين الأبواب وتخرج ملايين الناس هالعة كالدجاج الذي طال حبسه، زاحفة إلى النيل، مستعرضة فيه، طالبة حمايته.
ومع بدء الظلام الحقيقي تبدأ الحرارة تتقهقر رغما عنها كالجيش العنيد، وتبدأ الألسنة تتحرك وتقول: موت، ثم نار، ثم الدنيا لسه حر، ومن جديد تبدأ الخناقات، ثم تنخفض الحرارة درجة فتصبح أحاديث.
وهناك بعد منتصف الليل بكثير، تهب نسمة واحدة فقط، يستقبلها سهران مثلي فيتثاءب مغتبطا وكأنه نجا من موت محقق، ويقول: ياه أما كان يوم! (9) الإنسان حيوان مائي
كيف يحدث هذا؟
لست أدري كيف يحدث هذا؟ من أسابيع قليلة كانت عملية غسيل الوجه أو الاستحمام بالنسبة إلي عملية تعذيب، كنت أقف أمام الدش وأتردد آلاف المرات وأنا أنظر إلى نقاط المياه الصغيرة التي تتساقط منه، وأحس الخوف منها وكأنها قطرات من ماء النار، وبعد أن أستجمع أطراف شجاعتي وأفتح الحنفية، ينساب الماء في أزيز مخيف، ويتصاعد لانسيابه بخار بارد مثلج، وكأن الماء لا يتبخر ولكنه يتجمد بخارا، وأغمض عيني في النهاية وأنا أسلم نفسي لحزمة الإبر المتدفقة من الدش، كل ثقب فيه تخرج منه إبرة مائية طويلة طولها أمتار. حزمة من الإبر الطويلة تتساقط فوق جسدي في شراهة ووحشية، وتكاد تنغرز فيه وتصل إلى النخاع.
وأي ماء كنت أراه أحس لتوي بالقشعريرة منه وكأني أخافه وأخاف لمسه، حتى النيل كنت إذا رأيت مياهه أحس برهبة طاغية. كتل ضخمة هائلة من الماء الداكن المتكاثف وكأنها غابات وأحراش مائية نامية، تنتظر أن يخطئ إنسان ويمد فيها قدمه أو يده، فتشده وتبتلعه ولا تتركه إلا مخنوقا.
نامعلوم صفحہ
ومن أيام قليلة حدث شيء عجيب! فتحت الحنفية لأغسل يدي، ودون أن أدري أو أتردد وجدت نفسي أغسل يدي فعلا، ووجدتني لا أختصر الغسيل، أطيل فيه وأترك الماء ينساب على ساعدي حتى يبلغ الكوع. والماء لا يخرج منه بخار يغشو له الجو ولكنه يلمع كسبائك الفضة المجدولة.
وكنت أريد فقط أن أغسل يدي فإذا بي أغسل وجهي ورأسي، وأجعل الماء ينساب في صدري فأستعذب لمسه وكأنه خد الجميل، وأجعله ينساب في فمي وأتذوقه وأجد طعمه حلوا وكأن ثمة سكرا طبيعيا قد أضيف إليه.
والنيل اختفت أحراشه، واختفت كتل مياهه الضخمة الهائلة، وبدت وكأنها قد شفت وخفت حتى تلاشت. ولم يعد في النيل سوى ملايين الأطفال العرايا الحديثي الولادة يلعبون ويداعبون بعضهم البعض، ويتقافزون ويتراقصون، ويكونون دوائر وقوافل وتشكيلات، لا يكاد الإنسان يراها حتى يحس في الحال برغبة لا يستطيع مقاومتها في أن يخلع ملابسه ويقذف بنفسه بين ملايين الموجات الطفلة، يلاعبها ويدعها تلاعبه.
وطوال يومي أي ماء رأيته خارجا من عربة رش، أو لامعا في زجاجة كازوزة، أو حتى مصبوبا من كوز، أي ماء رأيته كنت أحس برغبتي في صبه على نفسي أو شربه أو حتى مجرد تذوقه. وأي ماء رأيته ولمسته كنت أحس بلمسه حبيبا غير غريب، ولكأنه سلام صديق مألوف، صديق طفولة، ربما كأني ألامس نفسي، كأني أصبحت ماء مثل الماء، أو أصبح الماء إنسانا.
إنه الصيف. (10) المفترى عليهم
في صفحة كاملة قرأت لمحمد عودة مقالا عن «تبعات الاشتراكية». وعودة أحد الكتاب القلائل الذين تفرض كتاباتهم على القارئ احتراما خاصا وتقديرا، فمع التحليل البارع تجد الخلق، ومع الموضوعية تجد الحماس، ومع الثقافة تجد التجربة والواقع، ولكن الذي أحزنني ويحزنني دائما هو هذا الهجوم الذي يلقاه المثقفون هذه الأيام، لكأن الثقافة أصبحت تهمة وعلامة من علامات الإخلال بالشرف. والعجيب أن الهجوم يصدر عن مثقفين، لولا الثقافة ما كتبوا وما استطاعوا القراءة والاطلاع على التراث الأجنبي، وأخيرا لولاها ما استطاعوا أن يعرفوا قيمة القلم أو يتخذوه أداة للكتابة، والهجوم ينصب دائما - ولا أعرف لم - على مثقفي هذا الجيل؛ إذ نفس هؤلاء الذين يهاجمون مثقفي هذه الأيام نجدهم هم المنادين بتكريم الجبرتي وابن سينا وعمر مكرم وعلي يوسف وعبد الله النديم ومختار ولطفي السيد. أما حين يصل الأمر إلى هذا الجيل فإن حالة اشمئزاز مفاجئة تجتاحهم، وتدفع واحدا أحترمه مثل عودة لأن يقول: إن الحل الحقيقي لأزمة المثقفين هو إنتاج مثقفين جدد، مثقفين من قلب الشعب، من أبناء العمال والفلاحين، صادقين مع أنفسهم، صادقين مع مجتمعهم، لم يعانوا تشويه وتضليل الثقافة الاستعمارية وقيم المجتمع الاستعماري.
لماذا أحكام الإعدام؟
حقيقة أن عودة قبل هذه الفقرة يدعو الثورة لأن تصفح عن مثقفي اليمين واليسار، وتمنحهم فرصة أخرى ليراجعوا أنفسهم ولينضموا إلى القافلة، ولكن المثير هو حكم الإعدام الأخير الذي أصدره عودة على مثقفي هذا الجيل عامة، حتى أصبح الحل الحقيقي استحضار أو استنبات مثقفين جدد، وكلام كهذا ليس ظلما فقط، ولكني لا أستطيع أن أسميه إلا بأنه نوع من الاندفاع المخرف المتحمس، إذ هكذا طبع بعض الناس. في ساعات النكوص عملهم الوحيد أن يلوموا الآخرين ويسقطوا عليهم خوفهم، وساعات الانتصار - مثل ساعتنا تلك - التي قام فيها قائد الثورة بعمل بطولي تاريخي عميق المدى والأثر، يدفعهم الانبهار بالعمل إلى نسيان أشياء كثيرة أو تناسيها، وعلى الأقل إلى نسيان أنفسهم والأرض التي يقفون عليها، ويسارعون بإلقاء كل أوراق الماضي على الآخرين وتحميلهم مسئولية كل فشل سابق، ثم أخيرا يعمدون إلى إلغائهم كلية كما يطالب الزميل.
بيت الداء
والمثقفون هم أسهل الأهداف، هم الحائط الواطي الذي يسارع كل صنديد بالقفز عليه، إن ما قرأته عن المثقفين في بلدي جعلني أحس وكأنهم مصابون بنوع من الطاعون، بعضهم خونة وبعضهم سفلة وبعضهم انتهازيون، وأقل صفة لبعضهم السلبية والعقم، إنني لا أعرف بلدا من بلاد العالم ثار فيه بعضهم على خلاصة خلاصته، على هؤلاء الذين أنفق البلد على إنتاجهم المال والجهد والسنين بمثل ما حدث لدينا، وبالذات هذا الجيل من المثقفين. ولو كانت الثورة قد استجابت لكل ما كتب وقيل لكان من واجبها أن تقوم في الحال بمذبحة قلعة أخرى ضد المثقفين، وتركهم مشنوقين على عواميد النور في شارع الكورنيش، ولكن الثورة لم تفعل هذا. لقد وقف قائدها جمال عبد الناصر في جامعة الإسكندرية يحاضر أساتذتها ويضع يده كالطبيب الماهر على بيت الداء، ويقول: إن المشكلة لم تكن مشكلة المثقفين، ولكنها مشكلة الطبقات؛ إذ المشكلة هكذا فعلا، فأعداء شعبنا لم يكونوا هم المثقفين، أعداؤه كانوا الاستعمار والرجعية، الاستعمار بظلاله ومفهوماته وعقلياته، والرجعية بكل صورها، ولهذا حاربنا الاستعمار والرجعية، وحين أصبحت الرأسمالية عدوا حاربناها، أما المثقفون، وبالذات مثقفو هذا الجيل، فهم، لكي يستريح عودة، أسلم معه جدلا إنهم حافلون بالعيوب والمتناقضات، ومع هذا فهم الجيل الذي صنع الثورة - هذه الثورة - بكتاباتهم، بخطبهم، بمواقفهم، بالنار المقدسة التي أوقدوها، بمطالباتهم بالجلاء، بتضحياتهم، بالسجون التي دخلوها، بالشهداء الذين سقطوا، بتجاربهم المرة العنيفة مع صدقي والنقراشي وإبراهيم عبد الهادي وفيتز باتريك واللورد كليرن والملك، هم الذين هيئوا الشعب للثورة، وحين جاءت الثورة عكس كل ما قيل التفوا حولها، وكيف بمن مهد للثورة لا يلتف حولها حين تجيء؟ وما حدث بين الثورة وبين قطاعات من المثقفين لم يكن نتيجة لعداء؛ إذ لم تقم الثورة لتحطم المثقفين المخلصين، لقد قامت لتحطم الاستعمار والإقطاع والرجعية، إن ما حدث كان فقط نتيجة لاختلاف في الرأي، اختلاف كان لا بد أن يحدث، فهو التفاعل الحيوي الخلاق الذي استفادت منه الثورة بقدر ما استفاد منه المثقفون، والثورة يكون نجاحها أحيانا ليس فقط بمقدار ما تحققه من مكاسب وما تحرزه من انتصارات، ولكن أيضا بمقدار ما تحدثه في المجتمع من رجة فكرية وجذب وشد واختلاف واتفاق.
نامعلوم صفحہ
ما معنى الثورة البيضاء؟
وأحد مفاخرنا أن ثورتنا كانت ولا تزال بيضاء، وهي ليست مفخرة فقط، ولكنها في رأيي إحدى دعائم الثورة وركائزها، فثورتنا بيضاء؛ لأنها أبقت على هذا التفاعل الحيوي في حدوده المعقولة، والثورات الأخرى الدموية لجأت إلى الدم لضعفها؛ لأنها قامت تريد أن تفرض الثورة فرضا على شعبها، وليس أن تخلق من مواطنيها شعبا ثائرا، ولهذا فجريان الدماء على الأرض عقم هذه الأرض وأخمد نهائيا هذا التفاعل الخلاق بين مركز الثورة ومحيطها، وبين القادة والشعب، وبين القادة أنفسهم والشعب نفسه، وقد فعلت ثورتنا هذا، وقويت بهذا الفعل؛ لأنها لم تيأس من طبقات بأكملها كما يدعونا بعضهم إلى اليأس، ولا نفضت يدها من فئات بحالها. إن جمال عبد الناصر قد وضع بخطبته الأخيرة دستورا ثوريا جديدا حين تحدث عن فساد «البعض» ويأسه من «البعض»، ولم يحكم أبدا على طبقة أو فئة ككل، وحمدا لله أن الذين يكتبون عندنا ليسوا هم الذين يحكمون، إذ من يدري إذا؟ ربما كانت الدماء قد سالت أنهارا وبلا سبب، إن أخذ بعضهم الأمور مأخذا «فنيا» «جماليا» بحتا.
ما هي الجريمة؟
حسنا أيها السادة الذين تحدثتم كثيرا وطويلا عن المثقفين حتى كادت الثقافة تصبح تهمة، وبالذات تهمة هذا الجيل، ما هي الجريمة التي ارتكبها المثقفون؟ أجريمتهم أنهم ثاروا على الاستعمار أيام كان عندنا استعمار؟ أجريمتهم أنهم أصدروا مجلات وصحفا شتمت الملك وهو ملك، وعادت الإنجليز أيام أن كان الإنجليز هم الإنجليز؟ ووقفت بقوة وثبات وإخلاص ضد جميع المحاولات التي بذلت لجر البلاد إلى مناطق النفوذ والأحلاف؟ أجريمتهم أنهم جميعا 99
منهم أيدوا الثورة قلبا وقالبا، ووضعوا أنفسهم في خدمتها في تكويننا كشعب وكأفراد، إلى الحد الذي نبدأ نحس معه أن لنا تاريخا لم تكتبه أجيالنا السابقة فقط، ولكن كتبناه نحن أيضا، ارتكبوها كفئة بأكملها ليدعو الأستاذ محمد عودة الثورة أن تنتظر إلى أن يخرج جيل جديد من المثقفين أبناء الشعب؟ وهؤلاء المثقفون معظمهم من أين جاءوا؟
إنهم جميعا يكادون يكونون قد جاءوا - ليس فقط من صلب الشعب - ولكن كثيرين منهم جاءوا من أفقر طبقات الشعب، ولا يزالون إلى اليوم مخلصين لمساقط رءوسهم، وتجاربهم وثقافتهم «الاستعمارية» لم تلوثهم كما يدعي عودة، بالعكس، لولا هذا التراث من التجارب، لولا كفاحهم الرهيب من أجل أن يضعوا أنفسهم وثقافتهم في ظل أوضاع معادية خطيرة، لولا صلابة العود التي اكتسبوها، لولا كل هذه العوامل التي لم «تلوثهم» كما يقول عودة ولكنها «صقلتهم» و«سقتهم» وجعلتهم أبناء مخلصين لهذا الشعب، يعملون من أجله قبل الثورة وبعدها، لولا هذا ما كانوا قد استطاعوا القيام بكل ما قاموا به، إن العمل العظيم لا يلغي أي جهد آخر مهما صغر، ولقد كانت الثورة معجزتنا الكبرى وليلة قدرنا وعملنا الأعظم، ولقد كان جمال عبد الناصر بطل شعبنا الذي ظل يبحث عنه وينتظره أحقابا وأحقابا، ولكن هذا البطل نفسه هو الذي يتولى بنفسه إنصاف هذه الأعمال التي تضاءل بجوار ما فعله، هو الذي وقف في ميدان عابدين يوم 23 يوليو الماضي، يقول: إن نجاح الثورة كان سببه الحاسم التفاف الشعب حولها منذ أول لحظة، والمثقفون كانوا ضمن الشعب الذي التف حولها، وهو نفسه الذي حدد المشكلة في جامعة الإسكندرية، بقوله: إننا نعادي الأوضاع الظالمة والعلاقات الاجتماعية التي تستنزف دماء الشعب وجهوده، ولا نعادي أفرادا وطوائف، جمال عبد الناصر هنا يتكلم بضمير المثقف المخلص الشريف، ويرد عل كل الطعنات التي وجهت إلى المثقفين، ويخاطب بالذات هذا الجيل منهم، الجيل الذي مهد للثورة واحتضنها، ولا يزال مستعدا للتضحية بالأرواح في سبيلها.
الشعارات الرنانة
أما أن يطالب الأستاذ عودة إزاحة هؤلاء جانبا واللجوء إلى جماهير الشعب مباشرة، أو انتظار جيل جديد ينشأ من المثقفين، فهو كلام إنشائي لا معنى له، فالمسألة ليست إطلاق شعارات رنانة! إن القضية أخطر من هذا بكثير، إن إزاحة تراثنا الثقافي الممثل في هذا الجيل، إزاحة خبرتنا المبلورة فيه، صرف النظر عن ثمرات أنفق شعبنا الكثير ليترجمها بدعوى أن اللجوء إلى الأصل معناه الوحيد إضعاف ثورتنا، معناه حرمانها من جنودها وأركان حربها وخبرائها، إننا نقيم المشروعات والمصانع ليعمل الناس ويتثقفوا، فنحن بلد فقير الموارد لا يزال المثقف فيه ثروة لا بد من استغلالها، وليس هذا فقط بل إني لأطالب أن تفتح ثورتنا أذرعها لمثقفينا وأن تثق فيهم وأن تحملهم المسئولية، فإذا كانت هي القلب فهم الشرايين، وإذا كانت هي العقل فهم الأعصاب، والجفوة بينهما لا محل لها ولا معنى، بالعكس، أي خطوة لن يستفيد منها إلا أعداء الثورة؛ أعداء المثقفين، وبالذات مثقفي هذا الجيل المفترى عليهم. إني لعلى ثقة من أن بعض عيوب التطبيق عندنا مرجعها إلى نبذ المثقفين والنظر إليهم بعين الشك، وكيف يحدث هذا والثورة عندهم كالقلب غالية لا يتوقف لها نبض؟ كيف يحدث هذا وهم الذين دعوا لها وبشروا بها وكانت أقصى آمالهم أن تنجح وتمضي وتستمر؟ بل حتى في خلاف بعضهم معها كان السبب شدة الحرص على نجاحها وانطلاقها، إني لا أستطيع أن أتصور ثورة تحارب الاستعمار العالمي، والاحتكارات والإقطاع في الداخل، ورأس المال المستغل، بلا جيش من المثقفين، بلا خبرة المثقفين، بلا إخلاص المثقفين ومثاليتهم، حتى بلا أخطاء المثقفين، فأوهن الأخطاء دائما هي أخطاء المثقفين، إلا ذلك الخطأ الذي يتردى فيه بعضهم أحيانا ويطالب بإبادة المثقفين وكأنهم جراد أو ناموس أو ذباب ذو طنين، والمصيبة أن هذا يحدث دائما من أحد المثقفين، واللهم احم كل المثقفين من بعض المثقفين. (11) انهزم العدوان وانتصر الروتين
لي مع العدوان الثلاثي الغاشم قصة خاصة، كلما هل علينا نوفمبر من كل عام أتذكرها، ورغم أن معارك الشعب تتخذ ذكراها باستمرار طعما خاصا كلما تقادم بها العهد؛ إذ هي لا تفقد أبدا محتواها العاطفي، كلما استعدناها استعدنا معها أحاسيسنا العارمة بأول شعور بالغزو الأجنبي أحسه جيلنا، فالغزو كنا نقرأ عنه في كتاب التاريخ ونحاول تخيل موقف شعبنا في الإسكندرية وكل مكان، وهو يواجه الأسطول البريطاني ويلتف حول عرابي ليلقي بالغزاة في البحر، أما في عام 1956 فقد وقفنا مع شعور الغضب الخلاق المجيد وجها لوجه، وأحسسنا لأول مرة في حياتنا بمعاني كلمات كنا نرددها ترديدا نظريا أجوف مثل: الغزو المسلح، والاستعمار العسكري، والغدر الاستعماري، ومؤامرات الدول الكبرى وخستها، كل هذا عشناه وشعرنا به وخضناه كتجربة موت وحياة، تجربة تعاظم فيها إحساسنا بالخطر، وتعاظم أكثر شعورنا بالرغبة المستميتة للوقوف في وجه هذا الخطر وسحقه، إن كلمات جمال عبد الناصر: سنقاتل ... سنقاتل ... سنقاتل ... ولقد كتب علينا القتال كما كتب علينا الاستشهاد، كلمات مثل تلك لا يمكن إدراك معناها الحقيقي والشحنة العاطفية التي تصاحبها إلا لمن يقدر له أن يحيا تجربة الغزو التآمري كاملة، تجربة كلما مر عليها الزمن ازدادت أصالة وضربت بجذورها إلى أعماق بعيدة، هنا في داخلنا نحمل جمرة مقدسة من تاريخ هذا الشعب، كلما تعاقبت عليها السنون ازدادت توهجا وقدسية وأصبح لها في أذهاننا مذاق معتق خاص، مذاق الحرية مختلطة بالدم، مذاق الاستقلال مختلطا بمسئولية الحفاظ عليه، مذاق الثورة مختلطة بروحها الدافعة الخلاقة المتوثبة.
ورغم هذه الأحاسيس البالغة القداسة، تبقى لي مع ذكريات المعركة قصة لا أظن إلا أنها - كإحدى نكاتنا الشعبية المشهورة - ضاحكة، فبعد أكثر من عام مر على العدوان، وكنت أثناءه مفتش صحة للحي العريق الدرب الأحمر، فوجئت بالنيابة الإدارية لوزارة الشئون البلدية والقروية - التي كانت تتبعها الصحة - تستدعيني للتحقيق. وذهبت إلى مقر النيابة وأنا أتساءل عن ماهية الجريمة المجهولة التي تستدعي هذا التحقيق، ولم يطل بي التساؤل، فقد واجهني وكيل النيابة بالتهمة، وسألني: لماذا لم أذهب إلى عملي يوم 5 نوفمبر سنة 1956؟ وكانت شهور كثيرة قد مضت وكنت قد نسيت، فسألته بدوري: كيف عرف أني لم أذهب إلى مكتب الصحة يوم 5 نوفمبر المذكور؟ فقال لي: إن أمامه تقريرا من المفتش الفني للإدارة الصحية يفيد بأنه ذهب إلى مكتب الصحة في اليوم المذكور وانتظر من الساعة الثامنة إلى العاشرة صباحا، دون أن أحضر، وأنه مر على المكتب بعد ظهر نفس اليوم فوجد أني لم أذهب إلى هناك، وأنه راجع الدفاتر فوجد أني لم أكن قد طلبت إجازة أو أبلغت بمرضي، فكيف أتغيب يوم 5 نوفمبر بطوله دون إذن؟
وجعلتني الأسئلة الكثيرة أتذكر، فيوم 5 نوفمبر كان سادس أيام العدوان الثلاثي، وكنت فعلا قد تركت القاهرة بكل ما فيها من عمل ومسئوليات، وذهبت مع الأصدقاء أحمد عباس صالح وكامل زهيري وأحمد مجاهد وسعد زغلول وعادل أمين إلى المطرية، في طريقنا إلى بورسعيد، حيث وجدنا الصديق الفنان حسن فؤاد ينتظر هو الآخر أن يهرب إلى بورسعيد، وكان المسئول عن العملية كلها وعن جبهة المطرية الضابط «م، أ»، وهو أحد أبطال جيشنا الأحرار، وقصة سفرنا إلى المطرية ومحاولات تهريبنا إلى بورسعيد في حد ذاتها صفحة من صفحات كتاب العدوان ليس هذا مكانها، ولكن المهم أنها حدثت يوم 5 نوفمبر، اليوم الذي استدعتني النيابة الإدارية لتحقق معي سبب تغيبي فيه، والحقيقة أن السؤال روعني، فالبلاد كلها تواجه خطرا داهما، وكانت هناك غارات مستمرة على القاهرة، والمواصلات متوقفة، والكهرباء تسحب في أثناء الغارات، والشعب كله بفلاحيه وموظفيه وعماله قد ترك كل شيء ليتفرغ تماما لمواجهة العدوان ورد الطغاة، كله إلا المفتش «الفني» الذي استيقظ مبكرا جدا واخترق القاهرة المشتعلة والجماهير المحترقة بالحماس والغضب، ولم يأبه لهذا كله وإنما مضى بنشاط غريب إلى مكتب صحة الدرب الأحمر ليجلس هناك من الساعة الثامنة صباحا ليعرف إن كان طبيب المكتب سيحضر في ميعاده، أم سيتأخر ساعة ليتسنى له أن يضع تقريرا عن هذا التأخير؟ بأية عقلية فعل هذا كله؟ وبأي مقدرة خارقة استطاع أن ينفصل نفسيا عن شعبنا كله ليتركه يواجه المعركة ويتفرغ هو لضبط موظف في حالة تأخير أو غياب.
نامعلوم صفحہ
ورفض وكيل النيابة أن يكتب ردي أول الأمر، ولكنه رضخ للأمر الواقع وكتبه؛ إذ قد طالبت في ردي لا بأن يحدث التحقيق معي عن غيابي، ولكن لا بد من التحقيق مع المفتش «الفني» هذا بتهمة أنه كان يؤدي عمله التافه في وقت تتعرض فيه البلاد لأقسى محنة مرت بها. إن أداء العمل الروتيني حينئذ هو الجريمة، وليست الجريمة ترك العمل لإنقاذ الوطن.
ولكن الروتين هو الروتين، والجهاز المنحط هو الجهاز، والروتين مع الإنجليز والاستعمار والعدوان لا يعقل أبدا أن ينقلب ويصبح مع الشعب والوطنية، والشيء الذي يحز في النفس أننا هزمنا العدوان الثلاثي حقيقة وقضينا على الاستعمار، ولكننا لم نستطع أن نقضي على الروتين، ففي قضيتي الخاصة، ورغم الظروف الواضحة، انتصر الروتين، وكانت نتيجة التحقيق بعد انقضاء أكثر من عام على هزيمة العدوان، أن جوزيت بخصم ثلاثة أيام من مرتبي مع الإنذار؛ لأني تغيبت بدون إذن يوم 5 نوفمبر سنة 1956! (12) بصراحة
1
انتهت اللجنة التحضيرية من المناقشات العامة ، وقد سمعت كثيرين يقولون إن النقاش داخل اللجنة التحضيرية قد طال وتشعب، وإننا في ثورة لا تحتمل هذا الأخذ والرد.
والحقيقة أنها وجهة نظر بالغة الأهمية، فبعض الإجراءات الثورية تفسد فاعليتها بمحاولة الإعلان عنها أو طرحها للمناقشة قبل التنفيذ، ولكن هناك وجهة نظر أخرى لا تقل أهمية، لكي ندركها لا بد أن نسأل أنفسنا أولا: هل الثورة هي النجاح في سن وتطبيق الإجراءات الثورية، أم الثورة أساسا وقبل أي شيء آخر هي إيمان الناس بحتمية هذه الإجراءات، وإدراكهم لضرورة القيام بها وتبنيهم لها؟ والناس هنا هم أولا طبقات الشعب وفئاته التي قامت من أجلها الثورة، وتسن من أجل مصالحها هذه القوانين.
ذلك هو السؤال، والإجابة عنه - ونحن في صدد بناء الهيكل التنفيذي والتشريعي للثورة - من الأهمية بمكان، فالإجراءات الثورية ضرورة حتمية من ضرورات أي ثورة، وإيمان الناس بهذه الإجراءات وفهمهم وتبينهم لها ضرورة لا تقل أهمية، فهذا الإيمان هو الحماية الأولى والأخيرة للإجراءات، ومن ثم للثورة نفسها.
المشكلة إذن ليست القيام بالإجراءات الثورية، المشكلة الحقيقية هي في إيمان الناس إيمانا لا يتزعزع بها، فالإيمان هو الثورة؛ إذ حين يدرك الفلاح ويؤمن إيمانا عميقا أن الأرض التي يزرعها هي من حقه، ومن حقه وحده تملكها، ووجود هذا الإيمان في قلب الفلاح حتى ولو لم يكن باستطاعته تملك الأرض، هو الثورة. أما منح الخمسة فدادين لفلاح لا يزال يدرك أن الأرض لمالكها وأنها خير هبط عليه من السماء، أو ورقة يانصيب ربحها، فهو عمل حقيقة قد يرفع من مستوى الفلاح ويجعله مالكا، ولكنه أبدا لا يعد ثورة ولكنه من نتائج الثورة، وهذه الكلمات الضخمة الجوفاء التي نسمعها تقال وتطلب «الرحمة» و«العدل» ومنح «الفرص الأخرى» للإقطاعيين والرأسماليين، وكلمات إذا تعمقنا أصلها وجدنا أن سببها راجع إلى أن قائليها - بعد - لم يؤمنوا بالثورة، ويعتقدون مثلا أنها «مصائب» حلت بالرأسماليين والإقطاعيين، أو إجراءات قامت بها «الحكومة».
فليستمر النقاش
النقاش إذن داخل اللجنة التحضيرية وداخل المؤتمر العام - حتى ولو استمر طويلا - ليس واجبا فقط ولكنه ضرورة حتمية لا بد منها لكي يتبين الناس القوانين الثورية، ولكي تحس جماهير الشعب وتدرك أن التغيير لها ولمصلحتها، وأنه ليس عقابا لأحد على ذنب ارتكبه، ولا محاولة للانتقام من عبود أو فرغلي للوسائل غير القانونية التي لجأ إليها هذا المواطن أو ذاك من «الأغنياء» كي يفروا، ولكنه تغيير اجتماعي جذري في طريقة حياتنا ووسيلة وطرق إنتاجنا، تغيير يمليه العلم والتطور والمصلحة، تغيير ليس هدفه «رفع» مستوى حياة البعض «بمصادرة» أموال البعض الآخر، ولكنه تغيير هدفه أن يكمل تحررنا، وبمثل ما طردنا المستعمر كي نتحرر كشعب، نحطم النظام الاستغلالي الاستعماري كي يتم تحررنا كأفراد.
مثل هذا التغيير قد يتم على الورق بقوانين وإجراءات نصدرها، أما لكي يصبح حقيقة واقعة لها كل قداسة الإيمان فلا بد أن يعقبها تغيير جذري مماثل داخل كل عقل وقلب. لا بد أن يؤمن كل منا إيمانا راسخا به، والإنسان لا يؤمن إلا إذا اقتنع، والاقتناع لا يتأتى إلا بالنقاش، ومن أجل هذا فنحن في حاجة إلى مناقشات كثيرة ومناقشات ... نفس حاجتنا الماسة إلى الإجراءات.
نامعلوم صفحہ
الديمقراطية
وهو موضوع يقودنا في نفس الوقت لمناقشة كلمة كثر استعمالها في الآونة الأخيرة: الديمقراطية. وقف خالد محمد خالد يدافع عن ديمقراطية مثالية، ورد عليه الرئيس بمفهوم علمي للديمقراطية الاشتراكية. والديمقراطية على أي الحالات تعني أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، جاءت الثورات الوطنية لتحقق هذا المبدأ، وحين قامت الثورات الاشتراكية وضعته نصب عينيها؛ اسما في حالات، وحقيقة محدودة في حالات أخرى، وكان لا بد لثورتنا هي الأخرى أن تأخذ موقفا ما من الديمقراطية باعتبار أنها الحرية الكاملة للشعب واللاحرية لأعداء الشعب، والوسائل والأشكال الديمقراطية كثيرة ومختلفة، ولكن هناك ركنا هاما من أركان الديمقراطية لا بد منه لأي حكم شعبي، سواء في ديمقراطية سليمة أو حتى في ظل أوضاع ديمقراطية فاسدة، هذا الركن هو مسئولية الحكومة أمام الشعب. فلنتبع في حكم أنفسنا أي طريق نشاء، ولكن لا بد أن يكون لنا في النهاية وسيلة نستطيع بها أن نحاسب الحكومة، لا بد لنا من جهاز من حقه أن يراقب ويناقش أعمالها ومشاريعها وسياستها وينقذها ويوجهها، لا لمجرد مبدأ المراقبة والمحاسبة والتوجيه، ولكن لكي تتم أساسا عملية الإيمان بكل ما تقوم به الحكومة من إجراءات. فالإيمان كما قلنا لا يتأتى إلا بمناقشة، وإلا بحق في المناقشة وحق في إبداء الرأي.
لقد كشفت مناقشات اللجنة التحضيرية أنه حتى مثقفينا الكبار - بعض أساتذة الجامعات ووكلاء الوزارات مثلا - متخلفون فكريا وثوريا عن قيادتنا ومفهومنا للحكم والثورة، وهو ليس عيبا فاضحا كما يبدو للبعض، إنه في رأيي ظاهرة طبيعية جدا سببها الأول الانفصال الفكري بين القيادة والقاعدة، وحتى إذا نحن ضيعنا وقتا كثيرا مع هؤلاء لنناقشهم ونفهمهم كي يصلوا إلى مستوى القيادة في الإيمان، فهو وقت غير ضائع أبدا، إنه وقت نكسبه ونوفر به أن نبني البناء على غير أساس من التفهم الكامل واليقين، إن الثورة لكي تستمر ماضية ناجحة مكتسحة لا بد أن تمضي بنا كلنا، بفهمنا الكامل لها، باقتناعنا وإيماننا وإرادتنا، فنحن الهدف من قيامها، ونحن أيضا الوسيلة لإقامتها.
فلتوسع القيادة صدرها
إن الخطوات التي حققتها ثورتنا تعثرت ثورات كثيرة وهي تحقق بعضها، ومهمة ثورتنا ليست مهمة تخص الشعب في مصر فقط. إن مصر سواء أرادت أم لم ترد هي حاملة لواء الثورة العربية كلها، وجمال عبد الناصر هو الزعيم الذي أجمعت الشعوب العربية رغم الحديد والنار على مبايعته، إنها تضع فيه كل آمالها، كل مطامحها وأيام مستقبلها، وهي حقيقة لا نقولها خطابة أو إنشاء، إنها واقع ملموس يكفي أن تطوف البلاد العربية لتراه وتحسه وتفخر به، ثورتنا غالية إذن لأنها ثورة العرب، على مصيرها يتوقف مصيرهم، وأعداؤنا يعلمون هذه الحقيقة تمام العلم، ويبنون كل خططهم في المنطقة على أساسها.
ثورتنا هي أعلى حقيقة نمتلكها إذن، وأمضى سلاح عثرنا عليه بعد طول عناء وطول فشل، وجربناه ونجح النجاح الأكيد، من واجبنا إذن أن ندافع عنها إلى آخر رمق ونحفظها، وأولا وقبل كل شيء نهيئ لها أسباب النجاح، من واجب كل منا أن يساهم بقلبه وعقله ولسانه ، أن يحياها ويربط مصيرها بمصيره، ويجب أن تتهيأ قيادة ثورتنا لهذه المشاركة الجماعية الكبرى، وأن توسع صدرها حتى لآراء كهذه يعرضها أصحابها بشكلها الخام الذي واتته به. يجب أن ندرك أننا ما لم نغير جذريا من الطريق الذي كنا سائرين فيه، فمعنى هذا أننا سنعود لارتكاب نفس الأخطاء، ومحال أن نظل نرتكب نفس الأخطاء، فقد ظل شعبنا، وظلت شعوبنا العربية كلها تنتظر يوم الخلاص على أيدي ثورة تنبثق منها وتندفع بها بقوة إلى الأمام، والثورة جاءتنا وعاشت بيننا زمنا، فأي موقف سلبي منها جريمة.
ليقل كل منا ما عنده، ولتسمع القيادة وتع وتنفذ، ولنكن صادقين مع أنفسنا ومع بعضنا البعض، خاصة ونحن نتحدث عن قمة الصدق، ونحن نتحدث عن الثورة. (13) كلمة الثناء قد تقتل أحيانا
قابلت اليوم الرجل الذي كاد يقتلني مرة بسبب كلمة ثناء عابرة قلتها له، وكانت المقابلة مفاجأة لكلينا، فلم أكن أتوقع أن يعمل عم عفيفي سائق تاكسي بعد إحالته إلى المعاش، وهو لم يكن يتوقع أبدا أن يكون زبونه هذه المرة هو نفس الطبيب، رئيسه السابق في الصحة، ولكنها الصدفة المحضة آثرت أن تجمعنا، وهي التي أعادت إلى ذاكرتي أيام الصحة وأوبئتها ومشاويرها، والعربة الفورد المتهالكة التي كثيرا ما خرجت بها مع عم عفيفي في مأموريات رسمية، وكان للعربة أكثر من سائق، وكانوا يتمتعون جميعا بخاصية البطء الشديد والقلب الميت، ما عدا عم عفيفي المتحمس السريع الذي كان رغم هذا، أكبرهم سنا.
وحدث أن بلغ إعجابي به ذات يوم أن قلت له مادحا إنه أسرع سائق في القاهرة، والحقيقة كان قولا أغبر، فما من مرة ركبت فيها العربة معه بعد هذا إلا وأركبها وأركبني ألف عفريت، حتى لقد كنت أقطع الرحلة وأنا نصف واقف، أكاد لولا الحياء أن أقفز من النافذة أو أستغيث بالمارة، وطبعا كنت لا أسكت، طوال الطريق أستحلفه وأرجوه، وأحيانا أستعمل سلطتي وآمره وأنهره، وعبثا ما كنت أحاول، فقد كان يأخذ كلامي على محمل آخر، يعتقد أني أطلب منه أن يبطئ؛ لأني أشك في قدرته على القيادة السريعة، ولهذا يندفع بسرعة أكبر ليثبت لي أنه لا يزال هو الشخص الذي قلت عنه يوما إنه أحسن سائق بالقاهرة، والنتيجة أن حدث لي ما كان لا بد أن يحدث يوما، ووجدت نفسي ذات مشوار ملقى على الأرض أمام وابور زلط تحت رحمة عجلاته التي لا ترحم، فقد اصطدمت الفورد به صدمة بلغ من شدتها أن حطمت المقدمة - مقدمة عربتنا طبعا - وفتحت أبوابها قسرا، وألقتني أنا أمام الوابور، وجعلت عم عفيفي يغطس في الدواسة.
الدرس القاسي
نامعلوم صفحہ
حكاية صغيرة كما رأيتم، ولكنها لقنتني درسا لا أزال أعيه؛ إذ دلتني يومها على خطورة الكلمة، وبالذات كلمة الثناء، كلمة ثناء صغيرة قد تقولها حتى وأنت غير مؤمن بها ممكن أن تكهرب شخصا بريئا، وممكن أن تدفعه للنجاح الهائل أحيانا، وأحيانا للسقوط في الهاوية، أو على الأقل أمام وابور زلط، بل غيرت هذه الحادثة من مفهومي للغرور، فقد كنت أعتقد قبلا أن الغرور شيء ينبع من داخل النفس ويجعل صاحبه يؤمن بأنه يملك قدرات هو في الحقيقة لا يملكها، تأكد لي يومها أن الغرور شيء يفد على الشخص من الخارج، من المحيطين به واللاصقين، وأنه ينتج عن سماعه لكلمات الثناء فقط، فالكائن منا يتحرك إلى الأمام تحت تأثير قوتين متضادتين متناقضتين؛ قوة ثقته بنفسه وقوة عدم ثقته بها، قوة إيمانه بما لديه من ملكات وقوة إحساسه بنقص ما لديه من ملكات، قوة رضائه عن نفسه وقوة سخطه عليها، قوة إحساسه أنه يصيب وقوة إحساسه أنه يخطئ. والثناء فقط، كالدفع من ناحية واحدة فقط، يجعل خط حركة الإنسان ينحرف إلى الناحية المضادة، ثم لا يلبث بمواصلة الثناء أن يزداد انحرافا إلى درجة تميل حركته الأمامية لتصبح قوسا، ثم دائرة، ثم دائرة مفرغة يتحرك فيها حول نفسه، ويكف عن قلقه لبلوغ الأحسن وإكمال النقص. الغرور إذن نهاية وتوقف وشلل يصيب الكائن الإنسان، سببه تلك الجرعات السامة من الثناء التي يسقيها له أناس يهمهم التقرب إليه، جرعات يتناولها الإنسان بلا إحساس بخطورتها في أول الأمر، ولكنها بمضي الوقت تصبح إدمانا، فيسمع المغرور الثناء الواضح الزيف ومع هذا يطلبه، ويفعل المستحيل ليظفر به حتى وهو يراه رياء وتملقا؛ إذ لا يملك إلا أن يتجرعه؛ ربما ليحس أنه يتحرك، ربما ليخدر وعيه عن شعوره الداخلي العميق بأنه واقف في مكانه ومشلول.
لكي يظل الإنسان ماضيا في حركته إلى الأمام لا بد من كلمة أخرى تقال له، كلمة تدفع من الناحية الأخرى، كلمة النقد. فالثناء من ناحية، والنقد من ناحية أخرى هما الطريقة الوحيدة التي لا يعرف البشر سواها للحركة. فالإنسان لا يتحرك وحده، إنه يتحرك في جماعة، وإذا كان دور الفرد بالنسبة للجماعة أمرا معروفا ومشهورا، فدور الجماعة بالنسبة للفرد دور أكثر أهمية؛ فكلماتها وآراؤها وهمساتها وزجرها هي التي تتغذى عليها نفسه، وبالتالي تستمر تحيا وتتفاعل وتتحرك. وأي فرد في أي جماعة إذا وجدت فيه ناحية تستحق الثناء فلا بد ستوجد فيه ناحية تستحق النقد، وإذا وجدت فيه ناحية تستحق النقد فلا بد أن تجد فيه ناحية تستحق الثناء. (14) بصراحة، نحن نستعذب الشكوى
فليتهمني البعض بأني أتجنى وأطلق أحكاما عامة، وآخذ المجموع بذنب أفراد، ولكن الحقيقة أننا شعب كثير الشكوى، بدأت أومن بها وأنا أتصفح اليوم خطابات جاءتني وأنا أجلس مع الزملاء في الجريدة، وأنا أقضي العيد في البلدة، وأنا في الترام والأتوبيس وفي أي مكان. بدأت أومن أننا توصلنا لحل عبقري يعفينا من مسئولية حل مشاكلنا بأنفسنا، هو الشكوى منها والاكتفاء بالشكوى، بل لا مبالغة إذا قلت: إننا أدمناها واستعذبناها وأصبحت متعة أن يئن أحدنا للآخر بأنين أكثر استدرارا للدمع من أنينه.
إني لأتساءل ماذا حدث لنا؟ المفروض أن الشكوى مثلها مثل البكاء علامة عجز كامل، والمفروض أن يحاول كل منا أن يحل المشكلة التي تواجهه بنفسه، فإذا عجز استعان بأقرب الناس إليه، فإذا عجز طلب العون من المعارف والمجتمع، فإذا فشل هذا كله في حل مشكلته كان له أن يشكو من الزمن والحظ ويتألم، ولكننا نبدأ حل أي مشكلة بالعجز عن حلها بالشكوى منها، فإذا فشلت الشكوى في حلها رحنا نفكر في أنسب شخص ممن نعرفهم لنعهد إليه بمهمة حلها، فإذا لم نجد لجأنا - وأمرنا إلى الله - إلى أنفسنا لحلها، ونفعل هذا كله دون خجل أو حياء، وكأنه ليس عيبا أبدا أن نحمل الآخرين آلامنا ومتاعبنا حتى ونحن ندرك أن لديهم هم أيضا آلامهم ومتاعبهم، عملية تنصل مخجلة من المسئولية، عملية لا يقوم بها إلا العبيد حين كانوا يعتبرون أنفسهم غير مسئولين عن أنفسهم، يعتبرون سيدهم في الماضي، والحكومة أو غيرها في الحاضر، هو المسئول عنهم وعن حل مشاكلهم، فإذا لم نحل لهم المشاكل دون أن يحركوا ساكنا بكوا واشتكوا وطالبوا برفع الظلم. ولماذا لا تتولون أنتم بأنفسكم رفع هذا الظلم؟ لماذا تفعلون كالأطفال وتطلبون من غيركم أن يحقق لكم ما تريدون؟ ولماذا لا تحققون أنتم وبسواعدكم ما تريدون؟
يقولون لك: حاولنا وفشلنا، طيب، وما فائدة الشكوى إذن؟ نحن نفضفض بها يا أخي، أتريد أن ننفجر؟ أجل، هذا هو بالضبط المطلوب من أي إنسان مسئول عن نفسه، أن يغتاظ فعلا، لا إلى درجة الانفجار، وإنما فقط إلى درجة أن يعمل، بل حتى إلى درجة الإحساس بأن مشكلته لن تحل إلا إذا حلها هو بنفسه. هذا هو الفارق الدقيق الخطير بين الطفل والرجل، بين الشعب المستعمر الذليل والشعب الحر المستقل. إني لأسأل كل من سبق وبكى واشتكى: ماذا فعلت الشكوى؟ وأسأل كل من لا يزال يشكو: أي كائن وهمي تطلب منه أن ينصفك ما دمت أنت لا تنصف نفسك وتنوح كالعجزة والأرامل على حالك؟ لقد تحولنا إلى معارض متنقلة للأنين والشكوى. كل منا ينفرد بالآخر ليشكو همه، ليشحذ منه بعض الرثاء، كل منا يتشبث بالآخرين ويستصرخهم لحل مشكلته، والآخرون يستصرخوننا لحل مشاكلهم، والنتيجة أن يضمنا جميعا قيد الشكوى الذليل ويبقينا في أماكننا.
نحن لا يمكن أن نقف كشعب ما لم نقف كأفراد، ولن نقف كأفراد ما لم يؤمن كل منا أن باستطاعته أن يقف فعلا، ويمشي، ويخطي العتبة، دون حاجة إلى دادة، ودون حاجة لاستدرار عطف أناس أولى بالعطف. (15) زيارة السيد البدوي
ما كدت أصبح في طنطا حتى فكرت بطريقة غريزية تلقائية في زيارة السيد البدوي، ولم أكن أتوقع أبدا أن أكتشف خلال الزيارة أعجب وأغرب معجزة عرفتها في حياتي، والذي حدث أنني دخلت الضريح وملست على النحاس، وقرأت الفاتحة وأنا أدور حول المقام، تأملت النسوة المتعلقات بحلقات النحاس يستحلفن السيد البدوي في همس مستميت ملح، وطلبة الأزهر والتوجيهية وهم يذاكرون ويصلون صلاة حارة جدا هدفها النجاح لا ريب، وسرحت قليلا مع الضوء الكهربي الأخضر المنبعث من داخل القبة العالية، والسقا الذي يوزع ماء من قربة غريبة الشكل. ولم يستوقف بصري من هذا كله إلا نحاس المقام؛ إذ كان ناعما جدا ومتآكلا بطريقة تدل على أن مئات الملايين من الأيدي لا بد قد ملست عليه وتشنجت ممسكة بحلقاته.
وإلى هنا كدت أغادر المسجد وأنا غير راض تماما عن الصورة التي رأيتها مفضلا ألف مرة أن أحتفظ لنفسي بالصورة التي رسمتها للضريح في خيالي، لولا أني تذكرت أنهم كانوا يقولون لنا، ونحن صغار، أن ضريح السيد البدوي يوجد به حجر مطبوع عليه آثار أقدام النبي عليه السلام، والحقيقة أني كنت - وحتى وأنا صغير - لا آخذ هذا القول مأخذ الجد، وأعتقد أنه مجرد خرافات وتهاويل، ولكني قلت لنفسي أسأل، وسألت وإذا بي أفاجأ مفاجأة كبرى، فقد كان الأمر صحيحا، وفي ركن من الضريح كانت هناك حقيقة كتلة ضخمة من حجر البازلت الأسود حولها حاجز حديدي سميك، ومطبوع عليه آثار قدمين كبيرتين، وقفت مذهولا أرقب الجمع المتكاثر حول الحاجز، جلابيب وبدل وملاءات سود وكل يحاول أن يدخل يده من حديد السور الضيق ويلمس الحجر ويتبرك به، وقفت مذهولا أستعد لأضخم تغيير سيعتري حياتي حين أنبذ كل علم أو منطق وأبدأ أومن بالخوارق والمعجزات، وأي علم ممكن أن يؤمن به وأمام عينيه آثار أقدام مطبوعة في الصخر بقوة مهولة خفية؟ يستطيع أن يمد أصابعه ويلمسها، ويستطيع أن يلتقط لها صورا ويضع إصبعه في عين كل من يحاول أن ينكر أو يكابر؟
ولكن، ربما بركة السيد هي التي دفعتني لكي أزاحم وأقترب جدا من السور والحجر وأفحص آثار القدمين المطبوعتين، ولم يحتج الأمر فحصا أو تدقيقا، فمن النظرة الأولى أدركت ألا معجزة هناك ولا يحزنون، فقد كان واضحا أن أثر القدمين مطبوع بفعل فاعل، وأنه محفور في الصخر بإزميل حفار بدائي، واضح أيضا أنه لا يعرف الكثير عن شكل الأقدام وتشريحها.
واعتراني الغضب، فقد أدركت أن هؤلاء الناس الطيبين المتزاحمين، وكل الملايين التي زارت الضريح قبل هذا والذين سيزورونه هم ضحية خدعة ساذجة لا أعرف من تسبب فيها، ولكني أعلم تماما من يسأل عنها، فإدارة الجامع الأحمدي أعتقد أنها موكولة لوزارة الأوقاف، وأعتقد أيضا أنها المسئولة عن هذه المعجزة الزائفة وعن الترويج لها، وعن إحاطتها بذلك السور الحديدي المتين.
نامعلوم صفحہ
وشيء غريب هذا، وزارة الأوقاف التي تطلق آلاف وعاظها في المساجد والقرى ينهون الناس عن الغيبة والنميمة والرجس الذي هو من عمل الشيطان، تستحل لنفسها أن ترتكب كبرى الكبائر وتبني معجزة زائفة ليست من الإسلام في شيء، وتخدع بها ملايين البسطاء والسذج وتوهمهم أنها آثار أقدام الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وكأنها لا تدعو الناس للإيمان بنبوة محمد
صلى الله عليه وسلم
على أساس أنه صاحب الرسالة المحمدية الخالدة، ولكن لأنه الرجل الذي سار على الحجر فغاص الحجر بأقدامه؟!
وشيء من اثنين: إما أن هذا الحجر معجزة حقيقية، وعلى وزارة الأوقاف حينئذ أن تخرجه، وتجند نفسها لعرض هذه المعجزة على سكان العالم أجمع باعتبار أنها شيء خارق للعادة، ممكن أن تنسخ أي معتقد آخر وتغير تغييرا جذريا في حياتنا وعلومنا ونظرتنا إلى الكون والواقع والمستقبل، وإما أنها معجزة زائفة وفي هذه الحالة فلا بد من محاكمة المسئولين عن هذه الخدعة الكبرى الذين غرروا بملايين القلوب الطيبة، ولا بد من توضيح حقيقة هذه «المعجزة» وإزالة ذلك الحجر من المسجد، ووضعه في متحف الحضارة الإسلامية على اعتبار أنه نموذج بدائي لفن الحفر على الصخر صنعه فنان مجهول في أحد القرون الهجرية.
وقد يحدث هذا وتزيل الوزارة الحجر، ولكني أشك كثيرا في قدرتها على إزالة «المعجزة» من أذهان الناس، فقد غادرت الجامع الأحمدي وصدري يحفل بأحاسيس كثيرة، أهم ما فيها هو تصوري لكم من ملايين الأيدي واللمسات استلزمها الأمر ليتحول السور الحديدي الذي حول قطعة الحجر، ولتتحول قطعة الحجر نفسها إلى حرير ناعم، تصور جعلني أدرك أن المعجزة الحقيقية ليست هي في آثار الأقدام على الصخر، ولكنها في آثار ملايين الأيدي التي انطبعت على النحاس والحديد وبرته ونعمته، المعجزة الكبرى أيضا، ملايين الناس حين تؤمن فتبري بأيديها النحاس، وحين لا تؤمن فلا يفلح في ردها حديد ولا رصاص. (16) خسارة 80 مليون جنيه
بينما القاهرة تشوي سكانها على أحر نار، كنا نحن في بقعة أخرى من أرض مصر، الحرارة فيها لا تفترق كثيرا عن الحرارة في جهنم، ولأول مرة منذ أن وعيت بالعالم أحس به حارا إلى تلك الدرجة، لأول مرة منذ أن عرفت الهواء أشعر به يهب ناريا لافحا لاسعا بمثل ما كنت أشعر به، كنا في المنيا، وهي أول مرة في حياتي أهبط فيها أرض الصعيد، وتشاء الحكمة أن أختار لهذا الهبوط أو الصعود يوما ضرب الرقم القياسي في درجة لهيبه، فكأنما جاء يوما صعيديا هو الآخر، مغرقا في صعيديته.
وكنت دائما أتلهف على رؤية الصعيد، ليس رؤية عابرة من خلال قطار الأقصر وأسوان، وإنما رؤية حضور واندماج وتأمل، وكنا أربعة في الإستيشن واجن: الدكتور النبوي المهندس وزير الصحة، والدكتور رشوان فهمي نقيب الأطباء، والدكتور حليم جريس أستاذ الجراحة بقصر العيني، وكنت أنا معهم.
ومنذ اللحظة التي غادرنا فيها حدود القاهرة وأنا أتطلع بشغف زائد إلى الأرض والناس والمدن الصغيرة، وكأني في طريقي لرؤية بلاد غريبة لم ترها عين قط، نفس شغفي الذي أحسسته حين زرت أوروبا لأول مرة، إن الصعيد له في أذهاننا معان كثيرة، وقد اكتشفت أنه ليس صعيدا واحدا وإنما «أصعدة» كثيرة، الصعيد الجواني والبراني وبحري أسيوط وقبلي أسيوط والوسطاني. وكل منها يعتقد أنه الصعيد الذي لا صعيد غيره، على أية حال، ومهما كان اسم البلاد التي كنا نراها، فقد كانت بلادا مصرية، وكانت جميلة رائعة الجمال.
أما المستشفيات التي بدأنا نزورها فكانت في المنيا، وسواء أكانت مجهزة خصيصى للزيارة أم هو حالها الدائم، فقط كانت، والشهادة لله، أنظف مستشفيات رأيتها في مصر بما فيها مستشفيات القاهرة، وكان فيها - ويا للغرابة! - زهور موضوعة في الممرات! وداخل هذه المستشفيات والوحدات الريفية كنا نجد زملاء وأطباء وممرضات وحكيمات في هذا القيظ الحارق، شاعرين بدورهم، مدركين أنهم يحاربون في خط النار الأول ضد المرض، حتى لو كانت الحرب تدور في وحدات ضاربة في بطن الجبل أو راقدة كالحمامة البيضاء على حافة الصحراء.
نامعلوم صفحہ
والسبب في دقة إدارة هذه المستشفيات والوحدات بسيط جدا، فاللواء عبد الفتاح فؤاد منذ عامين ضرب عرض الحائط بكل القوانين المالية السخيفة، وأعطى المستشفيات والوحدات استقلالا ماليا ذاتيا، وحين سألته عن نتيجة التجربة وعن عدد الاختلاسات أو السرقات التي حدثت بعد إطلاق الحرية في التصرف، قال لي: إنها خدعة، لقد أفقدنا الاستعمار وأفقدتنا العقليات الرجعية الثقة في أنفسنا، حتى ظننا أننا مجموعة من اللصوص، في حين أن العكس هو الصحيح تماما، فنحن مجموعة من المواطنين الشرفاء، وإنساننا لديه كل مؤهلات الثقة، ولم يحدث إطلاقا منذ أن منحت المستشفيات حرية التصرف في ميزانيتها حادثة مخلة واحدة، في حين أن النتيجة كانت أن الروح ردت إلى هذه المؤسسات، فأصبحت بدلا من الخوف تعمل، ومن التهرب من المسئولية تتحمل المسئولية، ومن الشكل المظهري تؤدي للمواطنين خدمة حقيقية، إنه عمل شجاع ذلك الذي قام به عبد الفتاح فؤاد، وهو ليس الوحيد في أكثر الأعمال الشجاعة التي وجدتها هناك، وآخرها ذلك الذي قام به المحافظ لمقاومة البلهارسيا.
حقائق رهيبة
والمواطنون لديهم حساسية من ذكر الأمراض، وخاصة ذلك المرض اللعين البلهارسيا. إن القراء في المدن لا يهمهم ذلك المرض كثيرا؛ إذ ما دام الواحد منهم يعتقد أنه سليم فما معنى أن يقرأ عن مرض لا يهمه أمره؟ ولكن الحقيقة عكس هذا، فالبلهارسيا تهمنا جميعا كمصريين، ويكفي أن نذكر حقيقة بسيطة عنها لكي ندرك أهميتها، فالبلهارسيا مثلا تجعلنا نخسر كل عام ما قيمته ثمانون مليونا من الجنيهات، والمواطنون المصابون بها في ريفنا ينزفون كل عام ما مقداره حوالي اثنين وعشرين مليون لتر من الدم كل عام، وكأنها دماء أربعة ملايين مواطن نفقدهم كل عام، بمعنى آخر، نحن لا يمكن مهما صنعنا وأممنا أن نبني الاشتراكية وأن نضاعف الدخل القومي، ونحن نخسر سنويا 80 مليون جنيه، وشعبنا ينزف اثنين وعشرين مليون لتر من دمائه كل عام. والمشكلة الأكبر أننا بعد تحويل ري الحياض إلى الري الدائم - ذلك الذي سيبدأ منذ هذا العام - ستدخل ديدان البلهارسيا إلى الصعيد الجواني، وسيصاب نتيجة لهذا أقوى عمال لدينا، أولئك الذين بنوا عماراتنا ومدننا، وأولئك الذين يبنون سدنا العالي، ولقد ذكر لي صديق أن السد العالي لو كان يبنى في وجه بحري بعمال من بحري مصابين بالبلهارسيا حتما، لما أمكن بناؤه؛ فالبلهارسيا تفقد الإنسان نصف طاقته وقدرته على الإنتاج، بحيث لا يمكن لعامل حتى لو كان صعيديا من سوهاج أن يحمل نفس القدر من المونة الذي يحمله كل يوم، وأن يصعد به كل تلك السقالات والسلالم.
لهذا فالبلهارسيا ليست مشكلة طبية وليست مشكلة اجتماعية أو إنسانية فقط، ولكنها أساسا مشكلة سياسية اقتصادية من الدرجة الأولى، أهم بكثير في رأيي من المعادلة الصعبة، وأهم من الحديث عن الإسراف، مشكلة وطنية قومية لا بد لها من حل حاسم وجاد وسريع.
ولست أعرف ما السبب، ولكننا تعودنا أن نظل نترك المشاكل تعالج نفسها، لا نحاول أن نبذل لها من تلقاء أنفسنا حلا حتى تلتفت إليها الدولة بكل ثقلها، وصحيح أن الحل النهائي لمشكلة البلهارسيا والأمراض المتوطنة بشكل عام مسألة تحد حضاري وانتقال المجتمع من مرحلة أدنى إلى مرحلة أعلى، ولكن هذا الانتقال نفسه لن يتم إلا بالقضاء الجزئي على عدونا، المرض الأول، البلهارسيا. ولهذا فمن واجبنا كدولة وشعب - وأساسا كما قال مرة الرئيس جمال عبد الناصر كاتحاد اشتراكي - أن نعلن الحرب على البلهارسيا. إن الصين استطاعت بواسطة حزبها أن تقضي ليس على البلهارسيا، وإنما على الذباب تماما، وفي أكبر دولة في آسيا، فمسألة القضاء على الذباب أو محو الأمية ليست عملا إصلاحيا أو اجتماعيا، إنه عمل سياسي وحضاري من الدرجة الأولى، ولهذا فلو حشد الاتحاد الاشتراكي قوى لجانه حول مشكلة متبلورة - كمشكلة البلهارسيا - لأمكن حتى للوحدة «العقائدية» أن تتم، ربما من خلال مزاولة تجربة حشد المواطنين وتوعيتهم لمنعهم من تلويث الترع والمجاري المائية، فالإنسان كما يقول الدكتور أحمد الجارم، سكرتير جمعية مقاومة البلهارسيا، هو الذي يعدي القواقع؛ أي هو الذي يتولى بنفسه عدوى نفسه وإصابتها، والقضاء على البلهارسيا معناه ببساطة أن نمنع إنساننا من القضاء على نفسه وعلى غيره من المواطنين.
أغرب مؤتمر
في الساعة السابعة مساء والجحيم المضيء بالنهار قد تحول إلى جحيم مظلم، أو بسبيله إلى الإظلام، انعقد في قرية بني عبيد - إحدى قرى محافظة المنيا - مؤتمر شعبي بحضور وزير الصحة ومحافظ المنيا ونقيب الأطباء والدكتور أحمد حافظ موسى أستاذ طب الأمراض المتوطنة ووكيل جمعية مكافحة البلهارسيا، لمناقشة أخطر مشروع تبنته المحافظة والمنطقة الطبية لتطبيقه في خمس قرى لاستئصال البلهارسيا منه، صحيح كانت هناك الهتافات التقليدية مثل أي مؤتمر سياسي، ولكني فرحت أن يحتشد لمناقشة البلهارسيا كل هذا العدد من المواطنين الفلاحين أبناء القرية والقرى المجاورة، وليس هذا غريبا، فقد ذكر لي الدكتور إبراهيم يس عوض أن عدد المترددين على وحدات البلاد بلغ 90 في المائة من المواطنين، وهي نسبة عالية جدا لا يمكن أن تخطر على البال، فالتردد على الوحدات أو المستشفيات من تلقاء النفس ودون قسر أو إرغام مسألة ليست سهلة في ريفنا، ولكن الفلاح يدرك بغريزته أن الدم الذي ينزفه كل يوم مسألة خطيرة لا بد من إيقافها، وهو يرحب بكل جهد يبذل في سبيل علاجه والمحافظة على صحته. إن المشروع يتلخص في علاج المرضى ومنع العدوى، وصحيح أن أحد تلك الإجراءات هو إقامة حمامات سباحة ليعوم فيها أطفال القرية، ولكني أرى أن هذا الإجراء مضحك إلى حد ما؛ إذ لم أستطع أن أمنع نفسي من الابتسام وأنا أرى حماما تكلف ألفين من الجنيهات في قرية، ولكنها كما ذكر لي الدكتور أحمد حافظ موسى مجرد تجربة، أعتقد شخصيا أنها لن تنجح؛ فالحمام صغير «10 × 4 أمتار»، والأولاد يفضلون الترعة حيث يمكنهم السباحة دون عائق، ثم إننا لن نستطيع خلال العشر أو العشرين سنة القادمة أن نوفر ألفين من الجنيهات لكل قرية لنقيم فيها حماما للسباحة، وأولى بنا أن ننفق نصف هذا المبلغ أو ربعه على عملية توعية المواطنين أنفسهم وجعلهم يتولون بالوعي حراسة مائهم أن يلوثه طفل أو مريض، ولكنها تجربة أعتقد أنه أولى ألا ننتظر نتائجها، وقد آن الأوان لنلتفت بكليتنا إلى دمائنا التي تنزف، وأكبادنا التي تتلف، وبطون مواطنينا التي تنتفخ وأورام السرطان التي تصيبهم. إنني أضع أمامنا كشعب وكاتحاد اشتراكي هدفا محددا وسريعا، أن نقوم بحملة واسعة النطاق ضد البلهارسيا، وأن نتولى القضاء عليها في عام أو عامين، وقد يبدو هذا إسرافا في الخيال، ولكن الحقيقة المذهلة أن البلهارسيا وغيرها من الأمراض الطفيلية هي الأمراض الوحيدة التي يمكننا القضاء عليها تماما بإرادتنا. فقط بمجرد إرادتنا أن نقضي عليها، فكيف نتردد في هذا؟ كيف تعتبر كارثة القطن التي خسرنا فيه 70 مليونا من الجنيهات كارثة ما زلنا نندبها، في حين أننا نخسر كل عام وبتهاوننا أكثر من ثمانين مليون جنيه؟ كل الفرق أننا لا نشعر بها ولا نحزن من أجلها. (17) تعلموا كيف تصبحون عربا
سمعت وقرأت أن كبار مطربينا وملحنينا بدءوا يفكرون في الخروج من النطاق المحلي الضيق - أي النطاق العربي - إلى النطاق العالمي الواسع، وذلك بترجمة أغانيهم العربية وأدائها بلغات أوروبية.
والغريب أن تصدر فكرة كهذه عن أناس مفروض أنهم أكثرنا معرفة بالغناء والموسيقى؛ إذ فاتهم أن الغناء ليس كالأدب أو الأبحاث العلمية أو الحديث اليومي، معان ممكن ترجمتها إلى لغة أخرى. الغناء لغة في حد ذاته، لغة مثلها مثل اللغة المكتوبة مستمدة من تاريخ كل شعب وملايين العوامل التي أثرت في تكوينه، كل الفرق أن اللغة المكتوبة ترسم على الورق، واللغة المغناة تؤدي بالآلات والحناجر، وكما أن من المستحيل ترجمة حرف الضاد إلى لغة أخرى، فكذلك من المستحيل أن نترجم أي حرف من حروفنا الصوتية إلى أي لغة أخرى، مستحيل كاستحالة ترجمة الجبة والقفطان مثلا إلى ملابس أوروبية، واستحالة أن نترجم اسما ك «بهية» إلى الفرنسية. إذ حتى لو فرضنا جدلا أننا وجدنا الكلمات التي نترجمه بها، فهل الأثر الذي يحدث للفرنسيين لدى سماعه ممكن أن يشبه من قريب أو بعيد الأثر الذي يحدث فينا لدى سماعنا «يا بهية وخبريني ع اللي قتل يس»؟ •••
نحن عرب، والإنجليز إنجليز؛ لأن لنا خصائصنا ولهم خصائصهم، وغناؤنا أحد خصائصنا، ولا يمكن أن نصبح عالميين بترجمة خصائصنا العربية إلى خصائص إنجليزية؛ لأننا بهذه الترجمة نلغي خصائصنا، نلغي كياننا. ولا يمكن أن نصبح عالميين ونحن بلا كيان، تماما كالزنجي الذي يسلخ جلده ويركب لنفسه جلدا أبيض ليصبح عالميا فتكون النتيجة أن يصبح مسلوخا مشوها. الأغنية الهندية لم تصبح عالمية لأنها ترجمت؛ ولكن لأنها ظلت عريقة في هنديتها، والعالم كله يحبها لأنها هندية، ولأنها مؤداة باللغة الأردية، بل الإعجاب يبلغ بها أحيانا حد أن يحفظ الناس كلماتها ويرددوها وهم لا يفهمون معناها.
نامعلوم صفحہ
إذا أردتم أن تصبحوا عالميين فتعلموا كيف تصبحون عربا، ازدادوا محلية وقومية تزدادوا عالمية، كفوا عن الجري وراء الشكل الأوروبي السطحي وغوصوا في أعماقنا نحن أكثر؛ لتعبروا عنا أكثر، لتغنوا آمالنا وأحزاننا وحبنا بعمق أكثر، وبأشكال من صميم كياننا. افعلوا هذا نتول نحن رفعكم أكثر وأكثر حتى يراكم العالم كله. (18) هل الفن حرفة الشواذ؟
بعض الناس يأخذون الفن بسهولة ويعتبرونه حرفة أخرى مثلا أو نوعا راقيا من التخريف والتهريج، كل ما في الأمر أننا نطلق عليه أسماء براقة مثل الخلق والإبداع، ونحيط الفنان بهالة تعطيه مظهر العلماء والمفكرين، وأنا نفسي يراودني هذا الاعتقاد أحيانا، ولكن بين كل حين وحين يصادفني حادث أو أقابل إنسانا، وإذا بي أرتد بسرعة وأدرك مذهولا أن الفنان حقيقة إنسان خارق للعادة، وأن الفن حقيقة إبداع عمالقة وخالقين.
من هذا النوع حادثان هامان وقعا لي وبالصدفة كان بطلهما شخصا واحدا، ولحسن الحظ أنه معروف مشهور، الحادث الأول وقع من ثلاث سنوات حين قررت فرقة المسرح القومي أن تمثل لي روايتي «ملك القطن وجمهورية فرحات»، وكان الأستاذ فتوح نشاطي المخرج قد أسند دور فرحات للممثل فاخر فاخر، وكانت أول تجربة لي في المسرح وكنت غير مهتم بها اهتماما جديا أول الأمر، ولكن بمضي الأيام والبروفات بدأت أحيا التجربة بكل كياني، وبدأت أعصابي تدق في انتظار الافتتاح، وتصوروا مبلغ الصدمة التي تصيبني حين أذهب إلى المسرح قبل عرض الرواية بيوم واحد فأعلم أن والد فاخر فاخر قد توفي، والد البطل الذي يحمل الرواية كلها فوق كتفيه، والدور كوميدي وحفظه واستيعابه مسألة لا يمكن أن تستغرق أقل من أسبوعين.
كانت معرفتي بفاخر لا تتعدى حدود علاقة مؤلف الرواية بممثلها، ولكني كنت قد فقدت أبي أنا الآخر من شهور قليلة ولا أزال أحيا بآلام فقده، ولم أبحث عنه لأعزيه، فقد كنت على يقين أنه سافر إلى البلدة ليحضر المأتم ويتلقى العزاء. كل ما فعلته أني ذهبت إلى الأستاذ أحمد حمروش مدير الفرقة وطلبت منه تأجيل عرض الرواية إلى أن تندمل جروح فاخر البطل، ولكني فوجئت به يؤكد لي أن فاخر لم يسافر، وأنه هو شخصيا وزملاءه ألحوا عليه أن يذهب، ولكنه رفض رفضا باتا وأصر على أن يبقى حتى يتم عرض الرواية في موعدها. ولم أصدق حتى وأنا أحادثه بالتليفون، وقلت له لعله لم يحزن لفقد أبيه مثل حزني لفقد أبي، ولكني وراء الكواليس ليلة الافتتاح قابلته، كان صوته مبحوحا وكانت عيناه محتقنتين والسواد يغمره، وعرفت أننا كلنا أمام فقد الآباء والأمهات سواء حتى لو بلغنا السبعين، نحن نحزن عليهم بأمر مما يحزن به الصغار.
وعصف بي الضيق لمحنة الرجل من ناحية، ولمحنتي الخاصة من ناحية أخرى، محنتي التي سأواجهها حالا حين يرتفع الستار الذي يفصلني عن جمهور مترقب متحفز؛ إذ كانت الليلة التي يدعى إليها النقاد. صحيح طالما قرأت في المجلات أن بعض ممثلينا اجتازوا محنا كهذه وهم على خشبة المسرح، وأضحك بعضهم الجمهور بينما كان يعاني من فقد ابن أو أب، لكني كنت أعتقد أن أشياء كهذه كلام مسل لا يصلح إلا للقراءة في المجلات، فدور فرحات دور صعب، والسيطرة عليه عمل شاق لا يمكن أن يقوم به الممثل إلا وهو بكامل قواه وموهبته ومزاجه.
المفاجأة
اعتقدت أن الرواية «طارت» تماما ولم أعد آبه لأي شيء، فقد فتح الستار وبدأ فاخر يتكلم، وخرج صوته ضعيفا مشحونا بالتأثر والألم، وانهرت على قطعة أكسسوار وأنا ألعن الليلة والمسرح والأنانية التي تدفعني لأن أطلب من إنسان فقد أباه بالأمس أن يضحك لي بروايتي جمهورا خالي الهم والبال، ولكني ما زلت للآن لا أعرف ما حدث بالضبط ولا كيف حدث، فلقد أفقت فوجدت المسرح يضج بالضحك، وما كاد هذا يحدث حتى وجدت فاخرا لم يعد فاخرا الذي كنت أعزيه من هنيهة، كان قد أصبح فاخرا آخر. فرحات الحقيقي كما تخيلته، بل شيئا أكبر من فرحات، في الواقع كان قد أصبح كل شيء في المسرح وفي الصالة ووراء الكواليس وحتى داخل نفسي، لو طاوعت انفعالي ساعتها لبكيت كالأطفال، ولكني تحاملت ومضيت أتفرج وقد نسيت الرواية والموقف، ولم يعد أمامي إلا هذه المعجزة التي حدثت وخلقت من الكائن الحزين هذا الفرحات الذي يعيشني ويبهرني.
أية قوة جبارة استطاع بها فاخر أن يتحول هذا التحول، وينتقل بها من إنسان لإنسان! تساؤل ظل أياما كثيرة يحيرني.
أخيرا قلت لنفسي: لماذا لا يكون السبب هو الفن؟ لماذا لا تكون المعجزة هي في قدرة الفنان الخارقة على الإخلاص لعمله؟ لماذا لا يكون «الفن» هو «قمة الإخلاص» لأي عمل، مهما كان نوع العمل؟
لا يصدقه العقل
نامعلوم صفحہ
والحادثة الثانية وقعت بالأمس، كلنا لا بد قد قرأ عن مرض فاخر الأخير وإرساله للعلاج في لندن على نفقة الدولة، أنا الآخر قرأت عن هذا ولكني بيني وبين نفسي لم أكن أعتقد أبدا، أن حالته تستدعي إرساله للندن للعلاج أو عمل عمليات جراحية، فالذبحة الصدرية معروفة، يمرض بها الآلاف في بلادنا، ويعالجهم أطباؤنا ببراعة لا تقل بأي حال عن براعة الأطباء في الخارج، والعلاج معروف حتى لغير الأطباء، بضعة أدوية توسع الشرايين والراحة التامة.
بنفس هذه الروح قابلت فاخرا بالأمس بعد عودته، وكان اللقاء حافلا خاصة حين طلبت منه أن يشرح لي بالدقة والتفصيل كل ما حدث من لحظة أن غادر أرض الوطن، وبطريقته الخاصة في الحديث مضى يذكر لي كل كبيرة وصغيرة، حتى مباني مستشفى «هامر سميث» وصفها، وجودوين عالم الأمراض الباطنية، وكليفلاند الجراح، وحتى التمرينات الرياضية التي أجريت له عقب العملية، لم يفته منها شيء، والحقيقة أن ما رواه لي أزعجني، وحين اطلعت على التقرير الطبي عن حالته انزعجت أكثر، فالعملية التي أجريت له «استئصال العصب السمبتاوي من الجهتين»، عملية خطيرة جدا، خاصة إذا استؤصل العصب من ناحيتي الصدر مرة واحدة بحيث لا ينجو منها إلا اثنان مثلا أو ثلاثة من خمسة، ولم يكن هذا بالضبط هو سبب انزعاجي، السبب أن التقرير ذكر أن العلاج بالأدوية والعقاقير كان يكفي وحده لشفاء المرض، ولكن العملية أجريت تحت إلحاح المريض وإصراره، وبعد أخذ إقرار عليه بأن المستشفى غير مسئولة عن النتيجة.
وقلت لفاخر منفعلا: لماذا لم تكتف بالأدوية والراحة، وعرضت نفسك لهذه العملية الوعرة؟
فقال: أمال أنا كنت مسافر ليه؟ ما هنا الدكاترة قالوا لازم أستريح، وما قدرتش.
كنت أرقد أسبوع ولا أسبوعين وبعدين أرجع أمثل تاني فأصاب بنكسة. أنا كنت عايز علاج باتر بحيث يشيل حكاية الراحة دي، ويسمح لي بالتمثيل على المسرح.
قلت مذهولا: يعني أصريت على إجراء العملية الخطيرة دي بس علشان يسمح لك بعدها إنك تمثل؟
قال ببساطة، وكأنه لا يدرك خطورة ما يقول: أيوة!
قلت باستنكار: اسمح لي ده جنون، كان ممكن تموت ببساطة. - اسمع، الأعمار بيد الله. وتفتكر إيه فايدة إني أعيش من غير ما أقدر أقف على خشبة المسرح؟ دانا حتى جيت بسرعة علشان أدخل المسابقة.
ألم أقل لكم إن الفن هو قمة الإخلاص؟ أتعرفون قمة أخرى للإخلاص لأي عمل، قمة أخرى غير تعريض النفس للموت المعقم. الموت الذي لا يزال هناك جرحان طويلان رهيبان يمتدان بطول ظهره وكأنهما آثار أظافره البشعة، تعرض لهما فقط لكي يصبح باستطاعته أن يمثل؟ أهناك قمة أخرى؟! (19) «الراهب» والمسيح المصري
والأجراس لا تزال تدق احتفالا بأعياد الميلاد، والأماني تداعب الصدور ونحن على أبواب عام جديد، يخرج علينا الدكتور لويس عوض بمسرحيته الأولى «الراهب» فينقلنا بأستاذيته وبراعته إلى عالم غريب جديد تماما؛ لأنه قديم تماما قدما كاملا من اللحظات الأولى التي بدأت أقرأ فيها المسرحية وجدت شعورا فياضا يجتاحني، نفس الشعور الذي راودني حين زرت مقابر الفراعنة في الضفة الغربية للأقصر، ووجدتني بعد بضعة أمتار قطعتها في الدهاليز الرهيبة التي نحتها أجدادنا بعناد وإصرار منقطعي النظير في باطن الجبل وقلب الصخر، وأقاموا داخلها عالما كاملا على أمل أن يصحو الميت ليحيا فيه، بنفس الرهبة والاندهاش والتوجس مضيت أقرأ مسرحية أستاذنا الدكتور لويس، وشيئا فشيئا أحس أني أغوص في بطن التاريخ وأمتزج امتزاجا وجدانيا كاملا مع مصر القديمة التي تحاول أن تجد ذاتها بين مصر الرومانية ومصر المسيحية ومصر الوثنية، تحاول أن تجد مصر المصرية، ست ساعات قضيتها أقرأ مأخوذا «بالجو» أكاد لا أرى من خلاله شيئا، ثم بعد أن بدأت أتبين وأخرج من دوامة الغرق في عشرات الأسماء والمواقع والمواقف والتفصيلات، إلى الدرجة التي لا أستطيع فيها التمييز بين أبو نوفر الراهب البطل ولوشيوس دوميتيوس دوماتيانوس الشهير بآخيل، وروستيكان وأفريكان وديوجين، إلى أن انتهيت وأسدلت آخر ستار، وبعدها وقعت في الحيرة العظمى.
نامعلوم صفحہ