والحادثة الثانية وقعت بالأمس، كلنا لا بد قد قرأ عن مرض فاخر الأخير وإرساله للعلاج في لندن على نفقة الدولة، أنا الآخر قرأت عن هذا ولكني بيني وبين نفسي لم أكن أعتقد أبدا، أن حالته تستدعي إرساله للندن للعلاج أو عمل عمليات جراحية، فالذبحة الصدرية معروفة، يمرض بها الآلاف في بلادنا، ويعالجهم أطباؤنا ببراعة لا تقل بأي حال عن براعة الأطباء في الخارج، والعلاج معروف حتى لغير الأطباء، بضعة أدوية توسع الشرايين والراحة التامة.
بنفس هذه الروح قابلت فاخرا بالأمس بعد عودته، وكان اللقاء حافلا خاصة حين طلبت منه أن يشرح لي بالدقة والتفصيل كل ما حدث من لحظة أن غادر أرض الوطن، وبطريقته الخاصة في الحديث مضى يذكر لي كل كبيرة وصغيرة، حتى مباني مستشفى «هامر سميث» وصفها، وجودوين عالم الأمراض الباطنية، وكليفلاند الجراح، وحتى التمرينات الرياضية التي أجريت له عقب العملية، لم يفته منها شيء، والحقيقة أن ما رواه لي أزعجني، وحين اطلعت على التقرير الطبي عن حالته انزعجت أكثر، فالعملية التي أجريت له «استئصال العصب السمبتاوي من الجهتين»، عملية خطيرة جدا، خاصة إذا استؤصل العصب من ناحيتي الصدر مرة واحدة بحيث لا ينجو منها إلا اثنان مثلا أو ثلاثة من خمسة، ولم يكن هذا بالضبط هو سبب انزعاجي، السبب أن التقرير ذكر أن العلاج بالأدوية والعقاقير كان يكفي وحده لشفاء المرض، ولكن العملية أجريت تحت إلحاح المريض وإصراره، وبعد أخذ إقرار عليه بأن المستشفى غير مسئولة عن النتيجة.
وقلت لفاخر منفعلا: لماذا لم تكتف بالأدوية والراحة، وعرضت نفسك لهذه العملية الوعرة؟
فقال: أمال أنا كنت مسافر ليه؟ ما هنا الدكاترة قالوا لازم أستريح، وما قدرتش.
كنت أرقد أسبوع ولا أسبوعين وبعدين أرجع أمثل تاني فأصاب بنكسة. أنا كنت عايز علاج باتر بحيث يشيل حكاية الراحة دي، ويسمح لي بالتمثيل على المسرح.
قلت مذهولا: يعني أصريت على إجراء العملية الخطيرة دي بس علشان يسمح لك بعدها إنك تمثل؟
قال ببساطة، وكأنه لا يدرك خطورة ما يقول: أيوة!
قلت باستنكار: اسمح لي ده جنون، كان ممكن تموت ببساطة. - اسمع، الأعمار بيد الله. وتفتكر إيه فايدة إني أعيش من غير ما أقدر أقف على خشبة المسرح؟ دانا حتى جيت بسرعة علشان أدخل المسابقة.
ألم أقل لكم إن الفن هو قمة الإخلاص؟ أتعرفون قمة أخرى للإخلاص لأي عمل، قمة أخرى غير تعريض النفس للموت المعقم. الموت الذي لا يزال هناك جرحان طويلان رهيبان يمتدان بطول ظهره وكأنهما آثار أظافره البشعة، تعرض لهما فقط لكي يصبح باستطاعته أن يمثل؟ أهناك قمة أخرى؟! (19) «الراهب» والمسيح المصري
والأجراس لا تزال تدق احتفالا بأعياد الميلاد، والأماني تداعب الصدور ونحن على أبواب عام جديد، يخرج علينا الدكتور لويس عوض بمسرحيته الأولى «الراهب» فينقلنا بأستاذيته وبراعته إلى عالم غريب جديد تماما؛ لأنه قديم تماما قدما كاملا من اللحظات الأولى التي بدأت أقرأ فيها المسرحية وجدت شعورا فياضا يجتاحني، نفس الشعور الذي راودني حين زرت مقابر الفراعنة في الضفة الغربية للأقصر، ووجدتني بعد بضعة أمتار قطعتها في الدهاليز الرهيبة التي نحتها أجدادنا بعناد وإصرار منقطعي النظير في باطن الجبل وقلب الصخر، وأقاموا داخلها عالما كاملا على أمل أن يصحو الميت ليحيا فيه، بنفس الرهبة والاندهاش والتوجس مضيت أقرأ مسرحية أستاذنا الدكتور لويس، وشيئا فشيئا أحس أني أغوص في بطن التاريخ وأمتزج امتزاجا وجدانيا كاملا مع مصر القديمة التي تحاول أن تجد ذاتها بين مصر الرومانية ومصر المسيحية ومصر الوثنية، تحاول أن تجد مصر المصرية، ست ساعات قضيتها أقرأ مأخوذا «بالجو» أكاد لا أرى من خلاله شيئا، ثم بعد أن بدأت أتبين وأخرج من دوامة الغرق في عشرات الأسماء والمواقع والمواقف والتفصيلات، إلى الدرجة التي لا أستطيع فيها التمييز بين أبو نوفر الراهب البطل ولوشيوس دوميتيوس دوماتيانوس الشهير بآخيل، وروستيكان وأفريكان وديوجين، إلى أن انتهيت وأسدلت آخر ستار، وبعدها وقعت في الحيرة العظمى.
نامعلوم صفحہ