ولعل أعلى قمة ارتفع إليها حديثنا كانت حين انتقلنا إلى الأدب الأمريكي، وهل له مميزات خاصة به؛ وقد سألني هذا السؤال السيد «ه. ه» بمناسبة قولي لهم إن الفن الأمريكي لا يتميز عن الفن الأوروبي، فهو امتداد لمدارسه واتجاهاته؛ فقلت: إني في الحقيقة لم أقرأ من الأدب الأمريكي إلا مجموعة من قصص قصار، بالإضافة إلى التعليقات النقدية التي تنشر عن الكتب الجديدة، وأستطيع أن أقول في حدود هذا العلم الضئيل إن الأدب الأمريكي له مميزاته، التي من أهمها أن يدور التحليل حول أشخاص عاديين في ظروف عادية من الحياة، وسرعان ما انتقل الحديث إلى المسرحية؛ لأنني ذكرت شيئا مما قرأته عن مسرحيات يوجين أونيل، وهنا دارت المناقشة الجيدة بين السيد «ش» في ناحية، وبيني أنا والسيد «ه. ه» وزوجته «ب» في ناحية أخرى؛ فنحن نقول إن المأساة قد أصبح لها معنى جديد يختلف عن معناها على يدي شيكسبير، وهو أن يكون البطل رجلا عاديا أو امرأة عادية، ولم تعد هناك ضرورة إلى أن يكون البطل ذا مكانة عالية في المجتمع؛ نتيجة للديمقراطية السائدة التي سوت بين الأشخاص في القيم إلى حد كبير، حتى إن اختلفوا في المناصب والثروة ... لكن السيد «ش» أجاد الدفاع عن وجهة نظره إجادة منقطعة النظير قائلا: إننا لم نعد نكتب المأساة على نحو ما كتبها شيكسبير عجزا منا لا بسبب تغير الظروف الاجتماعية؛ إنه يستحيل على المأساة أن يتم معناها الأدبي إلا إذا كان البطل «نبيلا» ثم هوى: فليست المسألة مسألة اختلاف في معنى الكلمة بحيث نقول إن كلمة «مأساة» كان معناها كذا أيام شيكسبير، وأصبح معناها كذا في أيامنا؛ بل لب المسألة هو أن في الفطرة الإنسانية نزوعا غريزيا نحو «النبل» تعجب به ثم تأسى له حين يهوي؛ إنني إذا قرأت مأساة عن رجل مثلي فكل ما يحدث هو أن أعطف عليه وأشاركه الشعور بالحزن، لكن الوجدان الأساسي في المأساة هو سقطة الرفيع - وليس ذلك مجرد عطف على ما أصابه ومشاركته في حزنه - بل هو ميل في الطبيعة الإنسانية نحو أن ترتفع وأن تأسى إذا هوت ... إننا نحن المسيحيين قدسنا المسيح؛ لأنه أشبع بقصته ميلا فطريا فينا، وهو رغبة التكفير عن الخطيئة، وكذلك بطل المأساة يشبع فينا ميلا فطريا على هذه الصورة عينها ... لقد أجاد شيكسبير تصوير فولستاف - مثلا - كما أجاد تصوير هنري الرابع في مسرحية واحدة، فلماذا لم يجعل فولستاف بطل الرواية؟ كان هذا مستحيلا عليه؛ لأنه ينقض فكرة المأساة في صميمها؛ فمصير فولستاف مهما ساء لا يشبع فينا ما يشبعه مصير هنري الرابع، كأنما المتفرج على الرواية يقول لنفسه: أنا مثل فولستاف؛ فليس مصيره بما يهمني، لكن أين أنا من هنري الرابع؟ فلأتعقبه بنظري إلى حيث هو في ارتفاعه، حتى إذا ما هوى كان لهويه حسرة تختلف في طبيعتها عن مشاركة فولستاف في أساه إذا تأسى لسوء أصابه.
فقال السيد «ه. ه»: خذ مثلا رواية «من هنا إلى الأبد»، فالبطل في هذه الرواية جندي بسيط، وأصابه ما أصابه من عنت، فترى المتفرج يحزن لمصابه أشد الحزن؛ لأن ذلك الجندي رياضي ونحن شعب يمجد الرياضة؛ وإذا فمعنى العظمة قد تغير في أنظارنا، نتألم للرياضي يصيبه السوء أكثر مما نتألم لملك يهوي عن عرشه ... فوافقته أنا بقوة؛ لأنني شاهدت الرواية وأدركت فيها هذا المعنى؛ أما السيد «ش» فقال إنه لم يشهدها؛ ولذلك يحسن بنا أن نبحث عن مثل آخر.
ثم أضفت أنا نقطة نظرية إلى الموضوع، فقلت: إن التحليل النفسي منذ فرويد قد ساعدنا على كشف الخبيء من النفس البشرية، فكنا بمثابة من هتك الستر عمن كانوا موضع رفعة، وبهذا يسقط جانب هام من مقومات المأساة عند شيكسبير، حين عرفنا أن الرفيع في ظاهره قد يكون مدفوعا في حياته بأحط الدوافع ... لكن أحدا لم يعلق على هذا الرأي، وانتقلنا بالحديث إلى مصر في ثورتها الحاضرة.
الأحد 21 فبراير
أزحت الستار عن النافذة فرأيت سحابا من فوقه سحاب، وفوق السحاب سحاب ... ظللت في غرفتي حتى جاءني الدكتور «ه. و» ظهرا ليستصحبني إلى داره في سيارته حيث دعاني إلى الغداء مع أسرته، وقد كانت جاءتني الدعوة عن طريق زوجته التي تحضر لي محاضراتي في الفلسفة الإسلامية.
وجاء مع الدكتور «ه. و» ابنه الصغير، في نحو التاسعة من عمره، أعجبني طلاقته في الحديث وجرأته؛ قال لي حين ركبت معهما السيارة إن مدرستي بالقرب من منزلك، وأنا أقطع الطريق بين منزلنا والمدرسة مشيا؛ فسألته وكم من الزمن يستغرق منك هذا الطريق؟ فقال: خمس عشرة دقيقة لو كنت ماشيا، وخمس دقائق لو كنت جاريا، وأكثر من خمس عشرة لو قابلني في الطريق أحد أصدقائي واستوقفني ليتحدث إلي في شيء! ... فلم يسعني إلا أن أضحك لهذه الإجابة العجيبة يجيب بها هذا الطفل الصغير.
قال لي الدكتور «ه. و» - مشيرا إلى ولده هذا - عندما وصلنا إلى داره واستقبلتنا زوجته: عندنا ثلاثة أطفال، هذا أوسطهم؛ وأصغرهم مريض في الفراش؛ وأما أكبرهم فمشغول الآن في بيع الجرائد، وعشمي أن يوفق إلى الحضور في موعد يتيح له أن يراك ... هذا الولد الأكبر الذي يبيع الجرائد عمره اثنا عشر عاما، هو تلميذ في مدرسة ابتدائية، لكنه يستغل فراغه في توزيع الجرائد، فإذا لاحظنا أنه ابن أستاذ - بل رئيس لقسم بأسره من أكبر أقسام الجامعة - لمسنا فارقا من أهم الفوارق وأعمقها بين هذا الشعب العامل النشيط وبين أي شعب آخر.
كان مدعوا معي مدرس في الجامعة شاب وزوجته، وكان أهم ما تحدثنا فيه بعد الغداء الروح الفنية بين الأمريكيين بالقياس إلى شعوب أخرى كأهل الصين واليابان، وقد كان الدكتور «ه. و» يدرس في الصين لبضع سنوات ومعرفته بالشرق الأقصى واسعة عميقة دقيقة.
فذكرت لهم فيما ذكرت من ملاحظاتي أن الأمريكيين لم ينشئوا فنا خاصا بهم، وأنهم تابعون للاتجاهات الفنية الأوروبية، بل اجترأت - بعد طلب المعذرة من السامعين - أن أكون صريحا، فقلت إن الفن لا يتغلغل عميقا في حياة الأمريكي؛ فالأمريكيون - بصفة عامة - يضيفون الفن إلى حياتهم إضافة من خارج دون أن تمس منهم القلب والصميم، فترى الرجل منهم وقد أثرى وجمع الملايين، دون أن يعيش حياة فيها التفات جاد إلى الفن، تراه يشتري بكذا مليونا من الدولارات صورا أو تماثيل يهديها إلى هذا المتحف أو ذاك، كأنما يكفر بهذا عن خطيئة إهماله الطويل للفن في حياته العادية اليومية، وضربت مثلا آخر يوضح هذا الاتجاه، وهو إقامة «المناسك» في شمال مانهاتن في نيويورك؛ إذ جاءوا بجدرانها وسقوفها وسائر أجزائها من مواضع مختلفة بأوروبا وأقاموها على أرضهم ليكون لهم كما للبلاد القديمة أثر قديم! وكذلك ذكرت نبأ الدير القديم الذي اشتراه ثري أمريكي من إسبانيا ونقله حديثا جدا إلى فلوريدا بعد أن فكت أجزاؤه حجرا حجرا ونقلت وأعيد بناؤها، ثم جعلت متحفا يدخل إليه الزائرون بأجر معلوم ليستعيد الثري ماله وزيادة ... وسألت الحاضرين قائلا: هل وجود هذين البناءين على أرض أمريكية يدل على روح فني في أمريكا؟! إنهما أضيفا إليها من الخارج، ولم تنبع من نفوسهم الداخلية تعبيرا عن خوالجهم ومشاعرهم، وهكذا الفن في أمريكا يشترى أكثر مما يكون جزءا من الحياة؛ إنه لا يستساغ شفطة شفطة مع أيام الحياة وساعاتها، بل يجتلب اجتلابا بالجملة كأنه سلعة من السلع التي تباع في أسواق الجملة.
ذكرت في هذه المناسبة مقالا قرأته عنوانه «أمريكا والفن» لكاتب أمريكي ناقد اسمه «لويس كروننبرجر» يقول فيه إن الأمريكيين ليسوا شعبا فنيا كأهل الصين واليابان وفرنسا؛ وذلك لأن الأمريكي منبسط وليس هو بالمنطوي على نفسه؛ فانبساطه النفسي يخرجه من حدود نفسه، ومن ثم يكون رجل أعمال ولا يكون فنانا، يكون مخترعا للآلات لكنه لا يكون راسما للصور ولا ناحتا للتماثيل، فذلك أمر طبيعي ما دام الأمريكي يرى أمامه قارة واسعة تنتظر من يكشف كنوزها ويستغل مكنونها، وإذا فهو مشغول بالمغامرة والكشف في خارج نفسه، وليس هناك ما يدعوه إلى الانطواء على دخيلة نفسه ... إن الفن لا يوجد إلا حيث تقل الموارد الطبيعية، فعندئذ «يتفنن» الإنسان في القليل الذي عنده؛ خذ مثلا المرأة الفرنسية، فهي أقدر نساء الدنيا اختيارا للزينة والثياب؛ وذلك لأن الطبيعة قد سلبتها جمال الفتيات الطبيعي الذي تراه مثلا عند الإنجليزيات والأمريكيات، فراحت «تتفنن» في القليل الذي عندها ... عند الأمريكيين وفرة طبيعية، فليسوا هم بحاجة إلى أن يستعيضوا عن الطبيعة فنا، وعن المادة الحقيقية صورة، وعن الموضوع الحي خيالا ووهما.
نامعلوم صفحہ