وأخذ الأطفال بعد ذلك يمطرونني بأسئلة عن مصر: عن الهرم وأبي الهول والجمال والصحراء والجيزة، وأرواق البردي ومقابر القدماء ... إلخ.
ثم جاءني مدرس يلح علي في أن أصعد معه إلى الطابق الأعلى لأتحدث إلى تلاميذه، وهم أعمار تتراوح بين الثالثة عشرة والخامسة عشرة، وقد علمت أن هؤلاء الأيفاع يعدون لمهمة التبشير ... لفت نظري في هذا المدرس أنه رث الثياب إلى درجة لم أرها على أمريكي آخر، فحذاؤه ممزق فعلا، وبدلته بالية، ووجهه يدل على إهمال وفقر، ولغة كلامه لا تدل على أن صاحبها قد ظفر بشيء من التثقيف.
صعدت إلى فرقته وقوامها ستة أولاد وأربع بنات؛ أما البنات فقد جلسن هادئات في ركن من الغرفة، وأما الأولاد فعجب من العجب هم شرذمة من المجرمين! كل واحد منهم بغير استثناء جلس جلسة فيها كثير جدا من الشذوذ والتحدي، فوقفت أمامهم أبتسم، فأي نبات يا ترى سيخرج من هذه البذور؟ أهو النبات الصالح الذي يعدونه للتبشير بالمسيحية بما فيها من سماحة وحب؟ إنهم فريق من الأطفال المشردين الذين بدءوا حياتهم بالجريمة، وإن كانت خبرتي الطويلة بالتلاميذ قد علمتني شيئا، فلا شك عندي في أن هؤلاء الأولاد الستة جميعا ستنتهي حياتهم بالجريمة كما بدأت ... ومع ذلك فشتان بين أسئلتهم التافهة وأسئلة الأطفال الصغار في الطابق الأسفل.
ولما فرغت من هؤلاء وأردت الخروج جاءتني فتاتان من الفتيات الأربع اللائي كن في هذه الفرقة وسألنني سؤالا عجيبا - وكان مدرسهن واقفا معي - وهو: إذا كان آدم وحواء قد أنسلا ولدين هما قابيل وهابيل، ثم قتل قابيل هابيل، فمن أين أتى قابيل بزوجة يتزوجها ليستمر النسل ويتكاثر البشر؟ ... فضحكت وقلت لهم: إني لست حجة ولا شبه حجة فيما ورد في الإنجيل من قصص، فربما يكون هذا الذي أشرتما إليه نقصا في تكوين القصة، ولكني أرجح أن هذه الأسماء: «قابيل» و«هابيل» ... رموز لقبائل بأسرها لا أسماء لأفراد، وقتل قابيل لهابيل معناه فتك قبيلة بقبيلة، وإذا فبقاء قابيل هو بقاء قبيلة بأسرها فيها الرجال والنساء يتزاوجون ويتناسلون ... فبهذا التفسير ننقذ القصة التي وردت في كتابكم وكتابنا.
الثلاثاء 16 فبراير
دعاني السيد «ه. ه» وزوجته أن أقضي معهما المساء، فذهبت إليهما في صحبة السيد «ش»؛ فتحت السيدة «ب. ه» الباب ورحبت، وكان زوجها واقفا على مقربة منها مرحبا، كلاهما في سن الخامسة والثلاثين أو ما يقرب منها؛ أما السيدة «ب» فمن أجمل وأروع نساء الدنيا أجمعين، هي أميل إلى الطول، مليئة الجسم إلى حد الكمال، لها بشرة شفافة رائقة، ووجه باش سمح، ثم هي كثيرة الضحك في خفة دم ونشوة روح.
جلسنا نتحدث، وما هي إلا أن قدمت لنا «ب» ما صنعته من قهوة وشاي وكعك ... بدأ حديثنا بالهنود الأصليين وما بقي منهم في المحابس التي تحصرهم هنا وهناك، وذلك بمناسبة ذكرنا لبعض البلاد التي تحمل أسماء هندية؛ فالكثرة العظمى من البلدان والأنهار والجبال لا تزال تحمل الأسماء الهندية القديمة؛ فسألتهم: أين آثار هؤلاء الهنود الأصليين؟ فكان السؤال غريبا عليهم، وقالت السيدة «ب» إنه من العجب أن هذا السؤال لم يطرأ لها من قبل، وأجمعوا على أنه ليس للهنود الأصليين من أثر؛ فسألت قائلا: وكيف يمكن عقلا أن يترك نظراؤهم في المكسيك آثار مدنية لا بأس بها، والهنود في هذه البلاد لا يتركون شيئا؟ فعللت السيدة «ب» هذه الظاهرة بكثرة الخيرات في أرض الولايات المتحدة، مما صرف سكان البلاد الأصليين عن كل أوجه النشاط، كما هي الحال - مثلا - في القبائل البدائية في أفريقيا الوسطى.
وانتقل الحديث إلى المقارنة بين الاستعمار الفرنسي والاستعمار الإنجليزي بمناسبة ما قلته لهم مما كنت أقرؤه لتوي قبيل زيارتهم من أن الفرنسيين الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة خالطوا الهنود الحمر وتزوجوا منهم في أول الأمر، ثم وقفت هذه الحركة حين تمت السيادة للإنجليز ... وجعلت أحدثهم في استفاضة عن الاستعمار الإنجليزي وكيف أنه أنكب ما نكب به تاريخ البشر، فوجدتهم متشككين في صواب هذا الحكم، وكان الحديث عندئذ بيني وبين السيدة «ب»، فقلت لها: خذي أي قبيلة بدائية مما خضع للإنجليز مائة عام أو مائتين، ثم اختاري أي مقياس للتقدم تشائين، اختاري المستوى الاقتصادي أو الثقافي أو ما يحلو لك أن تختاري، وطبقي مقياسك هذا على هؤلاء الناس؛ لتعلمي أنهم اليوم كما كانوا عند أول استيلاء الإنجليز عليهم عريا وجهلا وفقرا وهمجية، فماذا صنع لهم الإنجليز إذا؟ ... ولم أدع الفرصة تمضي حتى شرحت لهم كذلك فظائع الفرنسيين في بلاد المغرب؛ ليعلموا كيف يمنع حماة الحرية الإنسانية دخول الصحف العربية والكتب في بلاد المغرب، بل كيف منعت فرنسا إعانة القمح التي أرسلتها مصر إلى مراكش منذ بضع سنين حين اجتاحتها مجاعة؛ لأن الفرنسيين يفضلون أن يموت المراكشيون جهلا وجوعا على أن يشعروا بأواصر القربى بينهم وبين سائر البلاد العربية.
وانتقل الحديث بعد ذلك إلى نقد التربية والتعليم في أمريكا، وكان السيد «ش» من أقسى الناقدين، زاعما أن المستوى الجامعي في أمريكا أدنى منه بكثير في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، وهي بلاد عاش فيها سنوات طويلة جدا من عمره ... وقد ذكروا جميعا أن حكومة الولايات المتحدة قلقة من الضعف العلمي بين الطلاب؛ فهنالك سطحية علمية بين المتعلمين لا شك فيها ... ثم عاد السيد «ش» إلى الحديث، وقارن الأمريكيين بالألمان وعمقهم في البحث قائلا: إن الألمان لا يزالون يحافظون على النظرية التي سادت العصور الوسطى - وهي النظرية الصحيحة في رأيه - من أن واجب رجال العلم أن يبحثوا للعلم في ذاته، بغض النظر عن جانبه التطبيقي، أما هنا في أمريكا فقد ألهاهم التطبيق وسرعته عن التعمق في البحث النظري لذاته.
فاعترضته قائلا: وكيف يمكن التطبيق بغير سابق علم نظري؟ لكننا لم نوف هذا الاعتراض حقه من الحديث؛ ثم سألت قائلا: بماذا نعلل نزوع الألمان إلى التعمق العلمي؟ فأجابني السيد «ش» بقوله: إنها في الحقيقة نزعة إلى التصوف؛ فلماذا يزهد الحكيم الهندي عندكم (السيد «ش» يعلم جيدا أني مصري ولست بهندي، لكن الشرق كله كثيرا ما يختلط في الأذهان بعضه مع بعض) فينصرف عن شواغل الدنيا إلى جمع الحكمة لذاتها؟
نامعلوم صفحہ