فوافق الحاضرون على ضحولة الحياة الفنية في أمريكا، وأخذ الأستاذ الداعي وزوجته يشرحان لنا كيف يكون الفن جزءا من حياة الصيني أو الياباني، ومما يدل على هذا الاندماج التام بين الحياة والفن أنهم يكتبون كتاباتهم العادية بفرجون الفنان، فإذا اشتريت من الدكان شيئا، وكتب لك البائع «فاتورة» بما اشتريت، كتبها بفرجون وبنوع من المداد يستحيل إزالته وتكاد تكون القاعدة أن يخط الكاتب خطوطه بالفرجون دون أن يخطئ في خط واحد ... إن الصيني إذا رسم فلا يأخذ ألوانه وعدته ليجلس بها أمام ما يريد تصويره، بل تراه يجلس وحده في المنظر الذي يريد تصويره، يجلس هناك ناظرا متأملا أياما بل أسابيع، حتى إذا امتلأ بموضوعه، رسم الصورة في بضع دقائق، فتراه يجلس على الأرض في غرفته، ويخطط بالفرجون، فإذا الصورة هناك ، صورة الطبيعة التي شربها شربا، لا كما هي في الواقع المحس، بل كما امتزجت في نفسه.
وجاء ذكر الفن العربي، فقال لي الشاب مدرس التاريخ: إنني زرت إسبانيا ولفت نظري في الآثار الفنية العربية هناك أن ليس بينها رسوم تصور الحياة؛ أعني أنني لم أر على الجدران أو السقوف رسما لطائر أو حيوان، وكل ما رأيته هناك من الطبيعة المرسومة النجوم وما إليها، فبماذا تعلل ذلك؟ فقلت: أولا كان الدين يحرم إخراج الأحياء في نحت أو تصوير، وثانيا - وهو الأهم - لم يكن العرب بأصحاب ذوق فني إلا في شعرهم، كانوا صناعا ولم يكونوا بفنانين، يستخدمهم السلطان أو الغني ليبنوا له المسجد أو المنزل ويزخرفوه له، فلم يكن عند الفنان شيء خاص يضطرب في نفسه ويريد التعبير عنه، كان الفنان «يصنع» كأي صائغ أو نجار ... نعم، كانت صناعته على درجة كبيرة جدا من المهارة، لكنها صناعة على كل حال، تتم في الخارج ولا ترن بأصداء النفس الداخلية.
الجمعة 26 فبراير
قرأت في مجلة «أتلانتك» لشهر مارس مقالا جيدا جدا في موضوعه، كتبه «هارولد ستوك» الذي كان مديرا لجامعتي نيو هامبشير ولويزيانا، وهو الآن عميد لكلية الخريجين في جامعة واشنطن بمدينة سياتل؛ والموضوع هو موقف الجامعات إزاء الطلبة الذين يشتركون في الألعاب الرياضية اشتراكا يصرفهم عن المحاضرات العلمية.
وقبل أن ألخص هذا المقال الممتاز من حيث طرافة الفكرة لا بد أن أذكر ما يستحيل أن يعرفه من لم يأت إلى هذه البلاد، وهو مدى اهتمام الناس بالمباريات الرياضية؛ سيقول القائل: لكن أليست هذه هي الحال في إنجلترا مثلا؟ فأجيب قائلا: لا وألف مرة لا؛ فقد كتبت في يومية سابقة، يوم أن قامت مباريات الكرة بين جامعة كارولاينا الجنوبية في كولمبيا وبين كلية كلمسن في نفس الولاية، كيف وجدت الناس يومئذ في المطاعم والدكاكين والشوارع يتحدثون عن المباراة ونتيجتها كأنهم يتحدثون عن أخبار حرب قائمة، أو كما يتحدث المصريون في القرى عن أسعار القطن وقت حصاد القطن ...
ففي هذه البلاد ملاعب عامة يجتمع فيها المتبارون من الجامعات، وأهم هذه الملاعب يقع في ولايات الجنوب؛ وذلك لدفئها في الشتاء، فبذلك تجتذب ألوان الناس من أنحاء أمريكا كلها ليقضوا عطلة فيها متعة الجو الدافئ ومتعة التفرج على المباريات؛ ومن أهم هذه الملاعب أربعة: وعاء الورد، ووعاء السكر، ووعاء القطن، ووعاء البرتقال. وإنما يطلقون على الملعب «وعاء»؛ لأنه يشبه الوعاء في تكوينه؛ فله قاع هو أرض اللعب، وجدران منحدرة حول القاع هي التي ترص على جنباتها صفوف المقاعد؛ ثم يصفون «الوعاء» بأهم محصول في منطقته، ومن ثم يصفون الملاعب بقولهم «وعاء القطن» و«وعاء البرتقال» ... إلخ. ومما يعين على تقدير أهمية المباريات الرياضية بين الجامعات أن مدرب الفرقة يتقاضى عادة أكبر راتب في الجامعة كلها، قد يساوي في راتبه مدير الجامعة وقد يفوقه أحيانا؛ ذلك لأن الجامعة تعلق أهمية كبرى على كسبها للمباريات؛ لما فيها من كسب مالي وذيوع للشهرة؛ ولذلك ترى الجامعات تتنافس منافسة حامية على اجتذاب الرياضيين المعروفين إليها حتى لقد يصل الأمر إلى رشوة هؤلاء اللاعبين بالمال.
كتب هذا الكاتب مقالته الجريئة في تفكيرها؛ ليرد بها على ألسنة النقد التي لا تفتر في كل جامعة بين الأساتذة والطلاب جميعا، معبرة عن القلق الشديد الذي يساورهم: لماذا يعامل اللاعبون في الجامعة معاملة فيها محاباة؟ لماذا تتساهل الجامعة معهم عند تقدير مستوياتهم العلمية؟ وهكذا ... فقال هذا الكاتب ما خلاصته: إننا يجب أولا أن نضع أمامنا مقدمة أولية نبني عليها تفكيرنا، وهذه المقدمة هي أن اللاعبين الرياضيين في الجامعة قد تغير وضعهم عن ذي قبل، فبدل أن كانت المباريات المدرسية مقصودا بها تربية الطلاب ورفاهيتهم، أصبحت اليوم وسيلة لتسلية الجمهور، كأي فرقة مسرحية ... الجمهور الأمريكي الآن يدفع ملايين الدولارات ليتفرج على المباريات بين الجامعات، وأصبحت هذه الملايين جزءا رئيسيا في الإنفاق على التعليم، ثم أصبح من واجبات الجامعة الاجتماعية أن تقدم للجمهور هذه التسلية، وإذا فالنتيجة هي أن نفرق في أذهاننا تفرقة تامة بين اللاعبين الرياضيين في الجامعة وبين سائر الطلبة؛ أعني أن اللاعبين الرياضيين لا يعدون طلابا وإن كانوا يعدون من أبناء الجامعة التي ينتسبون إليها؛ فليس كل من ينتمي إلى الجامعة طالبا، فهناك الأستاذ وهناك الإداري وهناك من يقوم بأبحاث علمية دون أن يكون في هيئة التدريس ولا في جماعة الطلبة، وهنالك الرياضي الذي يلعب باسم الجامعة ليشهد الجمهور اللعب فتكسب الجامعة مالا من جهة، وتهيئ للجمهور تسلية يحبها من جهة أخرى.
إن موقف الجامعة من الرياضيين يختلف فعلا عن موقفها من الطلبة الآخرين، فلماذا نحاول جعل الفريقين نوعا واحدا؟ تقبل الجامعة الطالب العادي لتعلمه ما لم يكن يعلم، لكنها تقبل الرياضي لأنه بالفعل يعلم ما يعلمه من مهارة في اللعب؛ الطالب العادي يتعلم في الجامعة شيئا سيفيده ويفيد المجتمع بعد تخرجه لا أثناء وجوده طالبا في الجامعة، أما الرياضي فيمارس شيئا ينفع المجتمع أثناء وجوده في الجامعة لا بعد تخرجه، بل قد يبطل النفع بعد التخرج؛ وظيفة الجامعة هي أن تخدم الطلبة العاديين، أما الرياضيون فهم الذين يخدمون الجامعة التي ينتسبون إليها، فنتيجة هذه الفوارق كلها هي أن الطلبة العاديين نوع، والرياضيين نوع آخر، تراعي في النوع الأول مبادئ التربية، وتراعي في النوع الثاني مبادئ الأعمال في سوق التجارة؛ إن الألعاب الرياضية مورد كسب كبير لمعاهد التعليم، فقد كسبت معاهد التعليم هذا العام (1953-1954م) من المباريات مائة مليون من الدولارات؛ إن الجمهور لا يعلم، وربما هو لا يريد أن يعلم من الذي عين مديرا للجامعة في بلده، لكنه يهتم كل اهتمام لمن يعين مدربا للفرقة الرياضية؛ الفرقة الرياضية في الجامعة كأي فرقة مسرحية مثلا، تلعب للناس فتكسب الشركة التي تلعب الفرقة باسمها، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فلماذا تعقد الجامعات الأمريكية أكبر مبارياتها في ملاعب الجنوب في فصل الشتاء؟ أليس معنى ذلك أنها تضع عينها على المشاتي التي يقصدها الناس فتلعب لهم هناك في مشاتيهم لتستدر منهم مالا؟ إذا فهي تنظر إلى الأمر نظرة مدير الملهى حين يتعقب المتفرجين في مصايفهم أو مشاتيهم؛ فخطأ كبير أن نطالب القائمين بهذه «الملاهي» الرياضية باسم الجامعة بتحقيق شروط هي نفسها الشروط التي نطالب بها الطلبة العاديين.
فإذا كان رجال التربية قد حيرهم التوفيق بين مقتضيات التربية وبين حياة الرياضيين من طلاب الجامعات؛ فذلك لاضطرابهم في التفكير وغموضهم في تحديد الأغراض، أما إذا وضحوا الأمر لأنفسهم على هذا الوجه زال الإشكال؛ فالتربية ومبادئها للطلبة العاديين، والمطلوب مبادئ أخرى لنوع آخر من الناس هم اللاعبون الرياضيون؛ إنهم يظنون أنه ما دام اللاعبون قد أتوا مع سائر الطلاب من المدارس الثانوية، ودخلوا معهم جامعة واحدة، وهم يتساوون مع هؤلاء في السن، فلا بد إذا أن يكون الجميع صنفا واحدا خاضعا لشروط بعينها؛ لكن لا، فبين النوعين فرق في العمل الذي يؤدى وفي الغاية المقصودة، إن كان المطلوب من الطلبة العاديين أداء امتحانات والحصول على درجات ... إلخ؛ فالرياضيون لم يأتوا إلى الجامعة طلبا للعلم كسواهم، إنهم ليسوا بحاجة إلى علم بل إلى تدريب ... لماذا يقلقنا المستقبل العلمي لشاب دخل الجامعة ليلعب الكرة؟ قبلته الجامعة على هذا الأسس، وهو التحق بالجامعة على هذا الأساس، فالجامعة والطالب متفقان معا على الهدف، فما مبرر القلق على تحصيله العلمي؟ فلنتذرع بالشجاعة في تفكيرنا، ونعترف بأن الجامعة قد قبلت اللاعب الجيد لأنه لاعب جيد لا لأنه طالب جيد، وعلى هذا الأساس ينبغي أن تكون معاملته بغير قلق أو تردد.
ولو أراد لاعب رياضي أن يكون طالبا علميا إلى جانب ذلك فلا مانع طبعا، لكننا عندئذ نحمله تبعة ذلك، سنطلب منه ما نطلبه من اللاعبين، فإذا وجد أن التدريب المطلوب يستحيل أن يساير المحاضرة والمذاكرة، فعليه أن يختار: إما لاعب أو طالب، وقد يقول قائل: ماذا تريد؟ أتريد أن نقبل هؤلاء اللاعبين بغير شرط؟ والجواب هو: الشروط لقبولهم يضعها مدربو الألعاب ومنظمو المباريات، ولا شأن لهيئة التدريس بها.
نامعلوم صفحہ