وهنا سكت سليم وأخذ يمسح العرق عن جبينه؛ لأنه قد تحمس في أثناء وصفه؛ فصاح جرجس مسرورا: عافاك، عافاك يا معلمي، هكذا يجب الكلام عن آبائنا الرهبان. أما كليم فإنه قهقه شديدا وقال لرفيقه: كفى تحلم، كفى تحلم؛ فهم في واد وأنت في واد، ومن كلامك يظهر أنك لا تعرف ما هو الغرض من الدير، فمسكين أنت أيها الجاهل! معنى الدير عندهم اليوم أن يقيم فيه الرهبان يكررون صلوات مألوفة، ويجمعون من الناس بحجة هذه الصلوات ما أمكنهم جمعه من المال، سواء كان نقودا أو أوقافا ذات دخل عظيم، والسذج يبذلون بسخاء في هذا السبيل ابتغاء للثواب على ما يقولون. وهكذا بدل أن تكون هذه الديور ناشرة للثروة والخير في ما حولها من القرى صارت ممصا للثروة نفسها، وقد قلت إن أهل العلم عندنا مضطرون إلى التفكير بالمال قبل العلم وإلا تعذر عليهم الاشتغال به، فأنا أخبرك أن أهل الدين - الذين وظيفتهم نذر الفقر كما ذكرت - صاروا أيضا يفكرون بالمال قبل الدير.
قال سليم : لا لست أحلم، بل أنا أنظر إلى الدير كما يجب أن يكون، وأنت تنظر إليه كما جعلوه اليوم، وهذا أوضح دليل على أن كل شيء إنما يصلح ويفسد تبعا للطرق التي يستعمل بها والأشخاص الذين يتولون استعمالها. وهذه مسألة المسائل في كل الشؤون حتى سياسة الأمم، ولست أظنك تزعم أن الديور كانت في القديم (وأعني القرون الأولى لا القرون المتوسطة) على حالتها الحاضرة اليوم؛ فإنها لو كانت كذلك لما قام لديانتها قائمة، وإنما كانت الديور يومئذ عبارة عن انقطاع حقيقي إلى الله للخلاص من حياة الاجتماع التي تجر الإنسان أحيانا إلى ما لا يهواه.
ولا عتب في ذلك على أولئك المتقدمين؛ لأنهم كانوا يومئذ في الطور الذي يسمى «طور الإيمان الحار»؛ ولذلك يجب أن لا نلومهم لانقطاعهم عن الناس بقولنا إنهم فعلوا ذلك مدفوعين بعامل الأثرة وحب الذات؛ فإن الرغبة في معيشة الانفراد الاشتراكية كائنة في طبيعة البشر؛ خصوصا الضعفاء منهم، ولكننا إذا كنا لا نلومهم اليوم؛ فإننا لا نحث الديور في هذا الزمن على أن تنسج على منوالهم، بل نطلب إدخال تغيير على حالة الأديرة طبقا للوصف الذي ذكرته آنفا؛ فإن الهيئة الاجتماعية قد تغيرت، والنفوس الدينية صارت كما يظهر من قولك لا تكتفي (بالإيمان الحار)، فبناء عليه بطلت وظيفة الدير الأولى التي هي البعد عن البشر والانقطاع إلى الله انقطاعا حقيقيا، وصار من الواجب أن يحل محل هذه الوظيفة وظيفة مساعدة الناس ماديا وأدبيا كما وصفت ذلك آنفا، وإلا فلا معنى لوجود الدير في هذا العصر، وأنا على يقين أن هذا التغيير أمر سهل، وكثيرون من رجال الدين يرضون به؛ لأنه يحيي البلاد والعباد بثروات الأديرة والأوقاف الدينية. إنما يشترط فيه وجود رؤساء كرام يفهمونه وينبذون الأطماع جانبا.
فلماذا لا يقوم أكابر الطوائف وأفاضلها لمراقبة أوقاف الأديرة والأملاك الدينية مراقبة شديدة بواسطة مجالس دائمة خصوصية تنشأ لهذا الغرض لإنفاق دخلها الطائل في وجوه نافعة لمجموع الأمة؟
هوامش
الفصل الثالث
عين السنديانة
مجنون ليلى
وبقي سليم وكليم يتحادثان في هذا الموضوع، حتى وصلا إلى عين السنديانة، وهي محطة يستريح فيها المسافرون في طريقهم إلى أعالي الجبل.
والمكان مؤلف من منزل اتخذه مستأجره حانوتا يبيع فيه مواد الغذاء للمسافرين، وأمامه دكة عالية قليلا، يجلس المسافرون عليها، وبجانبها عين ينبع منها ماء بارد يشربه المسافرون بظمأ ولذة بعد تعب الطريق وحرها.
Bilinmeyen sayfa