فتأمل مقدار الخير الذي يستطيع ذلك الدير صنعه في تلك الجهات إذا جعل نفسه عبارة عن شركة عظيمة يجتمع حولها أهل القرى ليتلقوا منها طريقة زراعة الأرض ويتعلموا صناعات جديدة، ويعتمدوا عليها في جميع شؤونهم العملية اعتمادا متبادل النفع بين الفريقين؛ فإن الدير يصير في هذه الحالة عبارة عن مركز أعمال القرويين ومستشارهم في جميع أشغالهم. وكيف لا يحلو للمتأمل أن ينظر ذلك الراهب الذي كان يصلي إلى الله منذ مدة يأخذ معوله وفأسه ويقصد إلى حقول القرية؛ حيث يقابله أهلها كرسول العلم والثروة والمدنية بينهم، ويسترشدون بإرشاداته التي اكتسبها بالدرس والاختبار، والتي لا تصل إلى هؤلاء القرويين بدونه؟!
لا ريب أن هذا الأمر يساوي عندي - على الأقل - خروجه من الدير وبيده الإنجيل لعيادة مريض في القرية أو تسلية حزين، ولست أعرف شيئا في هذا العالم يعادل نفعه نفع هذه الديور في التمدين والتعمير إذا سلكت بإخلاص ونزاهة في هذا السبيل.
هذا فيما يختص بالاشتراك الخارجي بين أهل الدير وأهل القرى في تعمير الأراضي ونشر الخير والثروة حولهم، بقي هناك اشتراك آخر داخلي؛ وهو تعاون الأفراد المجتمعين في ذلك الدير على جعل معيشتهم فيه عبارة عن مثال لأرقى حكومة في الأرض، فإن أهل الدير قد ارتفع عنهم عند دخولهم إليه هم تحصيل الرزق، والطمع والجهاد في سبيله، وذلك مما يسكن النفس وينقي قواها.
ثم أضف إلى ذلك الانفراد عن معارك الحياة، تجد أن النفس تصفو في ذلك الانفراد عن كدوراتها اليومية، وتتملص من كل أهوائها الفاسدة التي كانت تضغط عليها وتعذبها في حالة الاجتماع، وهكذا يصبح أهل الدير عبارة عن بشر فوق البشر؛ لأنهم خرجوا من دائرة البشر، ويصير البشر في الاجتماع ينظرون إليهم نظرهم إلى معلمين مرشدين موضوعين فوقهم، فكأن الإنسانية في هؤلاء المنفردين قد تكررت وصفت وصارت إنسانية جديدة لا هم لها في الأرض غير فعل الخير ومساعدة الضعفاء.
وهذه الحالة تسوقهم بالطبع إلى الاشتغال بالعلم والأدب، وهنا مسألة المسائل الجديرة بكل اهتمام، هنا مفتاح ترقية العلوم والفنون والصناعات المختلفة؛ إذ ماذا يصنع الرهبان في كل أوقاتهم الطويلة؟ وبأي شيء يقطعونها؟ هل من شيء يقطع به الوقت (ما عدا فعل الخير) أنفس من الاشتغال بالعلم والأدب؟! وبذلك يكمل الرهبان المنفردون في أديرتهم الجميلة نقصا ظاهرا اليوم في هيئتنا الاجتماعية.
انظر إلى الحركة العلمية والأدبية عندنا، تجد أنها مطلوبة للمال لا لذاتها، وبما أن طالبي العلم والأدب يهتمون بالمال أكثر من اهتمامهم بالعلم؛ فالعلم يبقى بيننا قاصرا؛ ذلك لأن العلم لا يتقدم ولا يترقى إلا إذا أمكن للمشتغلين به الانقطاع إليه انقطاعا لا دخل لشهوة المال فيه. وهذا أمر بعيد الحصول عندنا ما دام أصحاب الثروة لا يشتغلون بالعلم.
فالرهبان إذن عليهم سد هذا الفراغ؛ لأنهم قادرون على الانقطاع إليه أتم الانقطاع؛ إذ كل حاجاتهم مضمونة عندهم، وفي وسع كل واحد منهم أن ينقطع إلى علم أو فن عشرين سنة أو أربعين، فيرقيه أتم ترقية عندنا دون أن يحتاج شيئا، وحينئذ تصبح الديور مصدرا لنهضة علمية جليلة، ويصير كل واحد منهم عبارة عن أكاديمية كبيرة كل عضو من أعضائها عالم في فن وفي علم.
ومجموع الأعضاء يتألف من مجموع المعارف البشرية، والاختراعات والاكتشافات تتتابع من هذه الأكاديميات الجديدة لنشر الخيرات في الأمة وتحسين شؤونها. فتكون هذه الديور مثالا (للعلم) كما كانت مثالا (للصلاح) في ما تقدم. وهي ما عدا ذلك تكون أيضا مثالا (للنظام) المطلق؛ فإن معيشتها اشتراكية محضة، الكل إخوة متساوون قولا وفعلا، وليس أحد فيهم يقول: هذا لي؛ لأن كل شيء يكون بينهم مشتركا، ولكنهم مع تساويهم هذا خاضعون لسلطة عليا خضوعا تاما بلا مراجعة ولا تردد؛ لعلمهم أنها لا تأمرهم إلا بالخير وما فيه خير؛ ولذلك ترى أكبرهم وأصغرهم يعفران رأسيهما بابتهاج وسرور تحت قدمي هذا النظام الذي أنقذهما وأعطاهما هذا الوسط الهادئ النقي، وهكذا، بينما تكون الدنيا قائمة قاعدة بالاضطرابات والفتن والثورات بين كل الطبقات، بينما ترى روح الاستفراد العصري الذي ضربه رنان بسوطه ضربات شديدة
2
يبذر بذور الشقاق في العالم حتى بين الأب وابنه والمرأة وزوجها لرغبة كل إنسان في أن يعيش حرا على هواه، ترى الهدوء والنظام والخير عامة شاملة في الدير وما حوله من القرى، كأنه صار قطعة من الجنان.
Bilinmeyen sayfa