1 - على طريق الجبل
2 - كلام عن الدير أمام دير
3 - عين السنديانة
4 - الحدث
5 - قصة مجنون ليلى
6 - حديث في حرش صغير
7 - لا تريد المرور على بيروت
8 - الفلسفة والمكاري بطرس
9 - أرز لبنان
10 - ليلة باردة تحت أشجاره «بلا فراش ولا غطاء»
11 - الوحش . الوحش . الوحش
12 - الجميع في الأرز
13 - كيف يكون غضب النساء؟
14 - مجنون ليلى وملك رأس القضيب
15 - ذئب لدى لبوة
16 - صوت الابنة الكريمة
17 - حب المجانين
1 - على طريق الجبل
2 - كلام عن الدير أمام دير
3 - عين السنديانة
4 - الحدث
5 - قصة مجنون ليلى
6 - حديث في حرش صغير
7 - لا تريد المرور على بيروت
8 - الفلسفة والمكاري بطرس
9 - أرز لبنان
10 - ليلة باردة تحت أشجاره «بلا فراش ولا غطاء»
11 - الوحش . الوحش . الوحش
12 - الجميع في الأرز
13 - كيف يكون غضب النساء؟
14 - مجنون ليلى وملك رأس القضيب
15 - ذئب لدى لبوة
16 - صوت الابنة الكريمة
17 - حب المجانين
الوحش . الوحش . الوحش
الوحش . الوحش . الوحش
تأليف
فرح أنطون
الفصل الأول
على طريق الجبل
أشهر الطرق من البحر إلى (أرز لبنان) طريقان: واحدة عن طريق أهدن فبشري، أو الحدث فحصرون فبشري - وهي من أمام الأرز. وواحدة عن طريق بعلبك من وراء الجبال الشامخة المحيطة بهذا الحرش، والطريق الأولى طريق الثغور من طرابلس حتى البترون، والطريق الثانية طريق السياح الذين يصعدون من بيروت إلى بعلبك لمشاهدة آثارها، ثم يعطفون منها إلى الأرز لمشاهدة آثاره الجميلة الطبيعية بعد مشاهدة آثار بعلبك الصناعية.
ففي ليلة 8 أغسطس من السنة التي نكتب تاريخ حوادثها هنا قرع مكار في آخر الليل باب غرفة عالية كائنة في غربي قرية قلحات فوق طرابلس الشام، وهو ينادي: يا خواجه كليم، يا خواجه كليم. فدوى صوته في القرية في صفاء ذلك الليل دويا هرت له الكلاب التي كانت راقدة في الشارع قرب تلك الغرفة، فساعد هريرها على تنبيه النائمين فيها؛ ولذلك لم يلبث أن فتح الباب وأطل منه الخواجه كليم وهو يفرك عينيه ويقول: هل ظهر نجم الصباح يا بطرس؟ فأجابه المكاري: أظنه سيظهر بعد نصف ساعة على الكثير، والأرجح أن الشمس تشرق لنا عند بطرام، فلنعجل إذن؛ فإننا نروم الوصول إلى الجبل قبل اضطرام وطيسها فرارا من الحر.
وحينئذ التفت كليم لينبه رفيقا له كان نائما معه في الغرفة فوجده واقفا وراءه، فقال له: هلم نركب يا سليم؛ فإن مطيتينا حاضرتان، ولنلبس ملابسنا أولا.
وبعد ثلث ساعة كان كليم وسليم على جوادين قويين سائرين في صفاء الليل تحت أشعة النجوم الضئيلة، ولا أنيس لهما غير المكاري يسير وراءهما، وهو تارة يحدو فرسيه بكلام مشجع، وتارة يزجرهما لصدمهما حجرا في طريقهما.
ولم يكن يسمع في ذلك الهدوء، ما عدا وقع حوافر الجوادين وصوت المكاري، سوى أصوات الحشرات الصغيرة التي تنتشر في لبنان على أشجار الزيتون والتوت، وتنشد في الليل والنهار أناشيد متصلة.
ويظهر أن جفون كليم وسليم كانت لا تزال مثقلة بالنعاس؛ لأنهما كانا يتثاءبان من حين إلى حين. فرغبة في طرد النعاس ابتدأ كليم قائلا: اسمع يا صاح أصوات هذه الحشرات الصغيرة التي تهكم عليها لافونتين تهكما شديدا
1
حقا إنه ظلمها بهذا التهكم، ترى ما عساها كانت تجيبه لو درت بتهكمه؟
فتثاءب سليم وقال: لا ريب أنها كانت تجيبه جوابا جميلا، فإنها تقول له: «ليس بالخبز وحده تحيا الكائنات الحية، بل الحياة الحقيقية هي الحياة الروحية.» وحياة الروح عند هذه الحشرات نشيدها المستمر الدال على أنها في حالة الانبساط والراحة، ولو خيرت في أيهما أحب إليها: فقدانها هذه الحياة الروحية التي هي فطرتها وطبيعتها، أم فقدانها الخبز اليومي الذي هو حياتها البدنية؛ فإنها - لا شك - تختار فقدان هذه الحياة على تلك. وما الذنب في ذلك ذنبها؛ لأنها هكذا صنعت وهكذا فطرت. ومع ذلك فإن لافونتين لم يقدر على قهرها بتهكمه في ذلك المثل إلا لأنه قاس معيشتها على معيشة البشر، وبذلك جاءت حجته قوية، ولكنه لو أمعن النظر لرأى أن هذا الحيوان الصغير لا يحتاج إلى القوت بعد مرور أيام الحصاد، حتى في أشد أوقات الشتاء؛ فإن قطرة من قطرات المطر كافية لشربه، وورقة واحدة من أوراق الشجر كافية لإيوائه وتدفئته، وأقل حشرة صغيرة أو دودة حقيرة كافية لتغذيته، ولو عقل هذا الحيوان لأجاب ذلك الشاعر: عندنا في الطبيعة ليس من حيوان ولا نبات يحتاج إلى قوت ويبيت بلا غذاء، فإن فظائع كهذه الفظائع لا تحدث إلا بين البشر في الاجتماع. نعم، نحن نأكل بعضنا بعضا أحيانا، ولكنا نفعل ذلك حين الحاجة فقط قياما بسد عوزنا، أما أنتم فمع كونكم ذوي عقول تعقل ونفوس تدرك، فإنكم تأكلون بعضكم بعضا بحاجة ومن غير حاجة، وكثيرا ما يكون ذلك إرضاء لكبريائكم فقط لا لضرورة؛ ولذلك قال أحد حكمائكم:
2 «يا وحوش البر وأفاعي الغابات، خذيني إليك آكل من طعامك، وأشرب من مائك؛ لأخلص من صحبة الإنسان.»
فقهقه كليم هنا وقال: نعم، هذا خير ما يعتذر به عن طياشة ذلك الطوير المطرب.
وكأن المكاري ضجر من هذه اللغة التي لم يكن يفهم منها شيئا، فتحول ضجره إلى غضب على جواده فصاح به بأعلى صوته: «ديه سوق ...»، وهم بإتمام عبارته، فصاح به كليم: إياك أن تكملها يا جرجس! فقال جرجس: وما هذا يا معلمي؟ فقال كليم: أنت فهمت كلامي بلا تفسير.
فسأل سليم كليم: وما معنى كلامك؟ فأجاب كليم باللغة الإنكليزية: هي نادرة مضحكة تحدث بين بعض هؤلاء المكارين والعائلات المدنية التي تصيف في قراهم؛ فإنهم يسمون هذه العائلات «سوقة»، وحينما يرومون التهكم عليهم في الطريق يقول أحدهم لرفيقه: «سوق يا أخي، سوق يلعن هالسوقة.» يظهر أنه غير راض عن سير الدواب، والحقيقة أن مراده «سب السوقة» في وجوههم دون أن يدروا بذلك.
فضحك سليم وقال: يظهر أن صاحبنا غير راض عنا حتى رام إهانتنا، والذنب في ذلك ذنبنا؛ لأننا لم نهتم بملاطفته لنستميله إلينا، ثم التفت سليم إلى جرجس ليفاتحه بالحديث فقال: لماذا سرت بنا يا جرجس على هذه الطريق من الوادي؟ خذنا من فوق عن طريق «فيع».
فقال جرجس: لا يا معلمي، لا نستطيع الآن المرور عن طريق فيع لحدوث خصام شديد بين قريتنا وأهالي تلك القرية منذ يومين.
فقال سليم: نعم، سمعنا بهذا الخصام، ويقال أن قد جرح رجلان وأسقطت امراة في أثنائه ، فما سببه؟
فقال جرجس: سببه يا معلمي خصام بين أولاد فيع وأولاد قلحات؛ فقد كان خمسة أولاد من أولاد فيع يلعبون بإزاء حقول العنب الكائنة بين القريتين، ويأكلون من العنب بلا حق، فأسرع إليهم ثلاثة من أولادنا لردعهم عن الاعتداء على رزقنا، ففر أولاد فيع ووقفوا بعيدا، فصار أولادنا يتغنون بغناء قديم عندهم وهو:
يا رايح إلى فيع
دبدب لا تضيع
يا بسين قلحات
أحسن من شيخ فيع
وكان بين أولاد فيع ابن شيخ فيع نفسه فاغتاظ لإهانة أبيه، فركض إلى شجرة توت قريبة فتسلقها وقصف منها غصنا ثم اندفع نحو أولادنا، بينما كان رفاقه يتغنون بغنائهم:
يا رايح إلى قلحات
تمتلي منها ...
يا بسين فيع
أحسن من شيخ قلحات
ولما وصل ابن شيخ فيع إلى أولادنا أمسكوه (ونزلوا فيه) ضربا؛ فأسرع رفاقه إلى نجدته فدار الضرب بين الفريقين فجرح منهما بضعة أولاد.
فركض حينئذ أحد أولادنا، ووقف فوق القرية وصاح أن أهل فيع قتلوا أولادنا، فهب كثيرون من الرجال إلى محل الحادثة، وكذلك ركض أحد أولاد فيع وأبلغ أهلها مثل ذلك الخبر، فأسرع بعض رجالها أيضا، ولما التقى الفريقان في محل الحادثة دار الضرب بين الكبار بعد أن كان بين الصغار، ولو لم يحضر «الآغا» مع نفرين لاشتبك القتال بين أهل القريتين جميعا؛ ولذلك لا نقدر أن نمر الآن بجانب فيع لئلا يتحرشوا بنا، كما أنهم هم أيضا لا ينفردون للمرور بجانب قريتنا.
وكان الجوادان قد صعدا في ذلك الحين من وادي قلحات وجانبا قرية فيع، ذلك أن قرية قلحات كائنة على أكمة منخفضة بين واديين من أشجار السنديان: واحد من جهة الشرق، وواحد من جهة الغرب. وهي على مسافة ربع ساعة من دير البلمند المشهور المشرف من جبله العالي على مدينة طرابلس الشام، وهواء هذه القرية جاف نقي؛ لأنها واقعة بين حرشين من السنديان كما تقدم.
وقطع سليم وكليم الطريق حتى فوق فيع دون أن يطلع نجم الصباح الذي وعدا بطلوعه قريبا، فقال كليم لجرجس: لم تطلع نجمة الصبح بعد يا جرجس. فأجاب جرجس: ستطلع قريبا. فضحك كليم وقال لرفيقه: يظهر أن صاحبنا «عملها معنا». فقال سليم: وأي شيء عمل؟ فقال كليم: للمكارين عادة وهي أنك إذا طلبت من أحدهم السفر في الغد قبل طلوع نجم الصبح بنصف ساعة يجيئك قبل طلوعها بساعتين ويقول لك إنها ستطلع بعد ربع ساعة. وهكذا تركب معه في ظلمة الليل وتقطع الطريق كلها، وتصل إلى مكان قصدك قبل أن تطلع نجمة الصبح، وبذلك يكفي نفسه ودابته عذاب الحر في أثناء الطريق؛ فالظاهر أنه صنع معنا ما يصنعه غيره مع غيرنا، وربما وصلنا إلى الجبل قبل أن تطلع الشمس مع أن بيننا وبينه نحو خمس ساعات.
فتثاءب سليم وقال: أف! لأجل هذا أشعر بنعاس شديد، وأكاد أنام على ظهر الجواد.
ولما رأى صاحبنا جرجس أن الحديث لا يطول بينه وبين رفيقه، بل هما يتحادثان معا لوحدهما، رأى أن يسلي نفسه بنفسه، وكان الجو صافيا كأنه مرآة الغريبة، والنجوم تسطع فيه كمصابيح بعيدة معلقة في قبة الفلك، فلا تكاد تنير طريق الجوادين في سيرهما.
ولكن الجوادين كانا قد اعتادا السير في ظلام الليل؛ ولذلك كانا يبصران الطريق المخططة كأنهما في نهار، وهذا ما جعل الفارسين يعجبان له، وكان الهواء يهب في خلال نور النجوم الضئيل باردا ضعيفا، فيشرح الصدر وينعش الفؤاد، وتلك الطبيعة القروية الساذجة كانت ساكنة هادئة كأنها تستريح تحت جنح الليل من عناء النهار. فأثار هذا المنظر الجميل في نفس جرجس عاطفة الجمال الكامنة فيها، فاندفع ينشد الأناشيد التي يعرفها؛ فهل درى حينئذ ذلك القروي الجاهل الساذج أنه بعمله دل على أن نفسه كانت في تلك البرهة أرقى من نفسي رفيقيه الحضريين؟!
إن نفسه لدى مناظر الليل البهية ثارت على غير علم منها، واندفعت تترجم بالغناء والنشيد عما كان يختلج فيها حينئذ من عاطفة الجمال بسبب تلك المناظر، وأما نفسا رفيقيه الحضريين فقد كانتا مشغولتين بالتثاؤب والنعاس عن الجمال الذي كان يحيط بهما، فلا ريب أن ذلك كان من أفضل الأدلة على أن النفس الأولى ربيت في أحضان الطبيعة قليلة الحاجات قوية على كل متاعب الحياة، والنفسان الأخريان ربيتا ضعيفتين بين جدران المدن لا تستطيعان مقاومة سلطان ضعيف كسلطان النعاس الذي هو - لمن نام ساعتين أو ثلاثا - أخف الحاجات الطبيعية.
ولما أخذ جرجس في الإنشاد أصغى إليه كليم وسليم. وقال كليم: اسمع أغاني الجبل. وكان جرجس ينشد:
حنيانا يا حنيانا يا حنيانا
يا قمر سلم على غيابنا
فضحك كليم وقال: من سوء الحظ أن القمر غائب أيضا. فضحك سليم لهذه الحاشية، أما جرجس فإنه كان مستمرا في الإنشاد:
يا ظريف الطول وقف تقولك
رايح عالغربه وبلادك أحسن لك
خايف يا محبوب تروح وتتملك
بتعاشر الغير وتنساني أنا
فهنا التفت سليم إلى جرجس وصاح به: ما هذا! ما هذا الغناء؟ أعده. فأعاده جرجس، فتنهد سليم وقال: لله در قائل هذين البيتين، فكأنه خرق بنظره حجاب الغيب وتنبأ عما يكون من المهاجرة إلى أميركا - (خايف يا محبوب تروح وتتملك) نعم قد راح المحبوبون وتملكوا هناك. (بتعاشر الغير وتنساني أنا) نعم قد عاشروا الأميركيين وامتزجوا بهم، وكثيرون منهم نسوا بلادهم وتجنسوا بغير جنسيتهم، فيا أيها الشاعر العامي الذي كشف له الغطاء عن المستقبل قبل وقوعه، إنك شاعر عظيم، وإن كنت لا تعرف القراءة والكتابة.
وبعد سكوت خمس دقائق التفت كليم إلى سليم وسأله: على أي شيء عزمنا الآن في سفرنا هذا؟ هل نذهب إلى أهدن لمشاهدة أصحابنا فيها أم لا؟ فقال سليم: الأمر إليك. فقال كليم: بما أننا ذاهبون الآن إلى الأرز عن طريق الحدث، وهي الطريق الغربية، فإننا نعود منه عن الطريق الشرقية طريق أهدن. فسأل سليم: إذن لا نعود إلى الحدث بعد مبارحتها؟ فقال كليم: كلا، فإن طريق أهدن مقابلة لطريق الحدث. فقال سليم: إذن يجب أن نقيم عشرة أيام في الحدث بدل الخمسة التي اتفقنا عليها؛ وذلك إكراما لصاحبنا فيها. فقال كليم: سنرى ذلك بعد وصولنا.
وبعد نصف ساعة انقضى في سكوت تام؛ لأن كل واحد من الرفقاء الثلاثة كان يناجي نفسه ، وإذا بجرجس يصيح ملء صوته: الحمد لله! فقال كليم: ماذا؟ فقال جرجس: طلعت النجمة.
فالتفت كليم وسليم إلى جهة الشرق، وكانت أمامهما فأبصرا «الزهرة» في طرف المشرق من وراء الجبال تتهادى بجمالها الفتان ونورها الباهر تتيه به على جميع النجوم الزواهر التي كانت تزين حينئذ قبة الفلك الدائر، فصاح كليم وسليم لدى هذا المنظر الفخيم: تبارك الخالق، تبارك الخالق! أما جرجس فإنه رفع يديه نحو رفيقته في أسفاره وقال: هلك ومستهلك جعلك علينا يوما مباركا. فنسي لفرحه أن هذا الكلام يقال للهلال حين ظهوره في أول الشهر لا لنجم الصباح، ولكن ما الذي يمنع جرجس أن يقول لرفيقته المحبوبة ما يقال للهلال عادة؟ هل هو أفضل منها؟ كلا؛ لأنها تهدي في آخر الليل كما يهدي الهلال في أوله، وإذا كان لأحدهما مزية على الآخر فالمزية (للنجمة) الجميلة؛ ذلك لأن صحبة الهلال تنتهي بالاستياء منه لأفوله، ويبقى المسافر حزينا بعده لما يجده من الوحشة، أما صحبة (الزهرة) فتنتهي بالسرور؛ لأنها رسول الصباح ومقدمة النور، وكل الذين عانوا مشاق السفر في الظلام في ليالي البرد والمطر والريح وأخطار الطريق يعرفون قدر (الزهرة)، متى طلعت تبشر بدنو الشمس التي تنعش وتدفئ والنهار الذي يبعد الأخطار، فهي عندهم رسول الأمل وابتسامة الطمأنينة، وعهد من الخالق على نفسه أن لا يجعل ظلام الليل ظلاما أبديا، فهي إذن عندهم حاجة وضرورة لا مسرة يلهى بها وتفرج النفس بمشاهدتها؛ ولذلك كانت حياتهم ومعيشتهم مرتبطة بحياتها، وهذا هو السبب في أنه بينما كان سليم وكليم يخاطبانها بقولهم: «يا إلاهة الجمال التي عبدها الأقدمون، يا عروس كواكب السماء، يا مضيعة ابن رشد»
3 - كان المكاري جرجس ينظر إلى دليلته السماوية نظر المرؤوس إلى رئيس له تربطه به مصالح ومنافع متبادلة، لا لمجرد الاستحسان فقط.
ولو مثلت الزهرة حينئذ فتاة - كما كان يمثلها المتقدمون - لشوهدت تبتسم للمكاري جرجس، وتهتم به أشد من اهتمامها برفيقيه الحضريين الظريفين.
هوامش
الفصل الثاني
كلام عن الدير أمام دير
وبعد برهة أخذت ذرات الفجر تنتشر في الفضاء، وصارت نجوم السماء تبهت خجلا من سلطانة النهار القادمة على هودجها الناري ببهائها العادي، وقد طلعت الشمس لأصحابنا الثلاثة عند قرية كسبا حين دخولهم بين الجبلين في الطريق المؤدية إلى أعالي لبنان،
1
وإن من لم تطلع عليه الشمس في ذلك المكان بعد السير أربع ساعات في ظلمة الليل لا يدرك اللذة التي شعر بها سليم وكليم حين استقبالهما تلك الطريق الصاعدة؛ فقد كان عن يمينهما جبل عال يمران بجانبه، وعن يسارهما جبل آخر عال بعيد عنهما، وعلى قمة هذا الجبل الشمالي بناء حوله أشجار باسقة، ولكنها تظهر صغيرة لبعد المسافة.
والبناء بينها كأنه عش طائر بني هناك في مأمن من الزوابع والعواصف، وفي الحقيقة إنه كان عشا بني للأمن من العواصف، ولكنه عش إنساني بناه البشر الذين يحبون الانفراد عن معارك الاجتماع وعواطفه، وهو الدير المعروف بدير (حنطورة)، وعلى موازاة الطريق إلى اليسار تحت الدير يسمع الراكب هديرا شديدا ناشئا عن مرور نهر أبي علي في واديه المقدس منحدرا إلى طرابلس.
وكلما صعد الراكب بين ذينك الجبلين على ألحان النهر بين نسمات الصباح التي تداعب وجهه باردة أكثر من هواء السهل، يشعر أن جبل لبنان الحقيقي إنما يبتدئ من ههنا، وحينئذ يخطر في باله أن سكان هذا القسم من الجبل كانوا في كل الأزمنة والعصور قذى في عيون الفاتحين؛ فإن جبالهم كانت تحميهم أكثر من كل الحصون والمدافع؛ ولذلك كانت تلك الأرض عبارة عن حرم الحرية المقدس. نعم إن هذا الحرم قد فتح ولطخ مرارا، ولكن الغلبة كانت دائما للمدافعين عنه؛ ذلك لأن الطبيعة نفسها كانت تحارب معهم بين صفوفهم، ورب مائة رجل من أهله فقط لقوا بين تلك الآكام والوهاد عشرة آلاف جندي بمدافعهم دون أن يتركوا لهم سبيلا إليهم. فثارت عواطف سليم وكليم وتصوراتهما لدى هذه الأفكار وهذه المناظر الجميلة، فأحسا أنهما صاعدان إلى عالم آخر غير هذا العالم، ويظهر أن نفسهما قد خفت حينئذ ونشطت عما كانت فيه أولا، فنزلا عن جواديهما ليتلذذا بالسير على أقدامهما فوق تلك الأرض الجديدة، وكان سرورهما بالمشي في تلك الساعة على تلك الأرض المؤدية إلى الأماكن التي تنطح السحاب ويعممها الضباب دائما - يعادل سرور الأولاد حين انصرافهم من المدرسة إلى نزهة خصوصية.
وبعد ربع ساعة كثرت العقبات في الطريق، فعاد كليم وسليم إلى جواديهما، فنبههما جرجس أن ينحرفا عن ظهر الجواد قليلا إلى أمام في عقبة الصعود، وينحرفا قليلا إلى وراء في عقبة النزول؛ فضحك سليم وقال: هذا درس في «طريقة الركوب في العقبات». ثم أخذ الرفيقان يتحادثان لقطع الوقت بعد أن وجدا في المشي شيئا من الراحة، ولا عجب؛ فكما أن السكوت بعد الحركة فيه راحة، كذلك الحركة بعد السكون.
فقال سليم: ما رأيك أيها الصديق في الإقامة طول العمر في هذا الدير الجميل الذي شاهدناه؟ هل تعرف مكانا أجمل من هذا المكان للراحة والسعادة؟
فقال كليم: سؤالك هذا يذكرني سؤالا آخر، يقول كتاب العرب: إن الحواريين «الرسل» سألوا المسيح: «من أفضل منا؟ إذا شئنا أطعمتنا وسقيتنا.» فأجاب: «أفضل منكم من يأكل من كسب يده.» فالأفضل والأجمل من الإقامة في هذا الدير الدخول في العالم والأكل من كسب اليد؛ لأن خبز الإحسان خبز دنيء كما قال روسو.
فثار هنا جرجس وقال: أرجوك يا معلمي أن لا تجدف على الدير والرهبان؛ فإننا في طريق، وأخاف على أفراسي لا على نفسي، وبالأمس كان جارنا أبو يعقوب سائرا قرب البلمند قادما من المدينة (يعني طرابلس)، وكان الراكب على حمارته واحدا من (السوقة) لا يحب الرهبان، وكان يتهكم عليهم؛ فبركت الحمارة في الأرض قرب الدير، ولم تنهض حتى نذر أبو يعقوب للدير نصف الأجرة التي يأخذها من الراكب.
فصاح كليم بصاحبه: أسمعت قول الرجل؟! هذه هي المبادئ التي يعلمها للشعب الرهبان الذين نسلمهم أرزاقنا وننفق على تسمينهم كالعجول.
فقال سليم: هذه مسألة أخرى غير تلك؛ فإننا لا نبحث الآن في «هل هم قائمون بوظيفتهم التي وجدوا لها»، ولكني أسألك: هل تحب المعيشة في الدير إذا كان الدير قائما بحسب النظام الذي وضع له للغرض الحقيقي الذي يجب أن يوضع له؟ فأجبتني أنك تفضل على هذه المعيشة معيشة الإنسان الذي يأكل من كسب يده.
فقال كليم: نعم هذا هو رأيي؛ لأني أكره الكسل والبطالة، ولا أستطيع أن أتصور أناسا يعلقون على جسم الهيئة الاجتماعية ليمتصوا دماءها وهم قاعدون بلا عمل بحجة أنهم يخلصون أنفسهم ويصلون لغيرهم.
فسكت سليم برهة يفتكر ثم قال: كل من يسمع هذا الكلام يوافقك عليه لأول وهلة، ولكن لدى التأمل يظهر أنك ظلمت المعيشة الديرية بهذا الوصف الذي لا ينطبق عليها إلا إذا كانت بلا عمل أرضي ينفع كما قلت. قلت (أرضي) لأن (السماوي) ليس من بحثنا الآن، وعندي أن معيشة الدير لها صورتان، كل واحدة منها جميلة بحد ذاتها، ويطيب لي الآن في هذه الأرض - أرض الأديرة والرهبان - أن أرسم معك هاتين الصورتين، وإذا كان في الهواء الذي يحيط بنا آذان خفية تسمع ورامت إيقاف صوتنا فنحن باسم إله الحرية الساكن في هذه الجبال نقوى عليها؛ ذلك لأنها لا تستطيع إنكار إله الحرية؛ إذ طالما استنجدت به في هذه الجبال، وبما أن الحرية واحدة لا تتجزأ ولا تنقسم - سواء أكانت في الفعل أو في القول - فمن الحق والعدل أن تخضع لهذا الإله بعد أن أخضعت له غيرها.
فالصورة الأولى للمعيشة الديرية هي ما ذكرت، بشر ضعفاء من طبقات لا تقدر على كسب رزقها ينسد في وجهها باب الرزق في العالم، وترهب معارك الحياة وتنازع البقاء فتطلب مكانا تلتجئ إليه وتعيش فيه بأمان، وهي للحصول على هذه المعيشة تتنازل عن أشرف وأثمن ما لدى الإنسان؛ أريد حريته الشخصية، فتصبح آلة في يد الرئيس لا إرادة لها ولا قوة، ذلك أنها تنذر أول كل شيء الطاعة العمياء، ثم الفقر، ثم ترك الزواج. وبهذه النذور الثلاثة المشهورة تحرم الهيئة الاجتماعية قوات ضرورية.
فبنذر الطاعة تضع ضميرها بين يدي الرئيس، وما أدراك ما هو التنازل عن الضمير! فإن ذلك يفني شخصية الإنسان، ويحقر الإنسانية، ويجعل تحت سلطة ذلك الرئيس جيشا كثيفا مطيعا يؤثر أشد تأثير على الهيئة المدنية لفائدة الهيئة الدينية. وبنذر الفقر يحرم الإنسان نفسه وغيره تعبه من خيرات الأرض التي حلل له التمتع بها؛ فيعيش ذليلا وضعيفا. وبنذر ترك الزواج يجني على أمته؛ لأن الأمة يهمها تكثير النسل، وهي لا تألو جهدا في الحث عليه بالطرق المحللة؛ فالنذور الثلاثة إذن تعارض المدنية الحاضرة وتعاكسها، لا سيما وأن هذه المدنية جلبت معها مبادئ جديدة مناقضة لمبادئ الهيئة الدينية كل المناقضة في كثير من شؤونها الأساسية.
والصورة الثانية للمعيشة الديرية: أن ينقطع بعض البشر عن البشر لنفع روحي ومادي: أما النفع الروحي فلا يدركه حق الإدراك إلا كل من رمته عواصف الدهر بين معارك الحياة اليومية، ورأى ما في هذه المعارك من الهمجية والخشونة والفظاعة، فهناك - وا أسفاه - يكون البشر حيوانات وحشية لا بشرا، هناك الظفر والغلبة لا يكون بالاستقامة والفضل وشرف المبادئ والأخلاق؛ فإن هذه الفضائل التي هي جميلة في المجتمعات الرسمية والنوادي الأدبية تكون سببا لضعف صاحبها في وسط تلك المعارك لا لقوته، وإنما يكون الظفر والغلبة للأكثر وقاحة والأكثر ظلما والأكثر اعتداء والأكثر خداعا؛ ولذلك قال رنان: إن الإنسان لا يكون قويا في الحياة إلا متى كان يظهر دائما أنه كان مغشوشا في ما صنعه من الخطأ، مع أنه كان غاشا.
فماذا تصنع النفوس الحساسة اللطيفة التي جبلها الله لا تحب الغش والظلم والاعتداء حين وجودها في هذا الوسط الهائل؟ هل تسلم سلاحها خافضة جنح الفضيلة أمام وقاحة الرذيلة وتقع في ميدان العراك في جملة الأسرى والقتلى؟ أم تخلع عنها ثوب الفضائل السماوي الذي ألبستها إياه اليد الجميلة الأبدية لترتدي بدله بثوب الظلم والاعتداء والغش والنهب والسلب، وتصنع ما يصنعه غيرها؟ وهل يجوز أن تبخل عليها الأرض والسماء حينئذ بزاوية صغيرة في إحدى زوايا الأرض لتعيش فيها بأمن وسلام دون أن تضطر إلى ذلك الانتحار وهذه الجناية؟!
إن هذه الزاوية هي الدير؛ فالدير وجد لسد فراغ في نفوس فريق في البشر في الأرض، وهو موجود قبل الديانة المسيحية بقرون عديدة ؛ لأن انفراد بوذه وأنصاره في جبال الهند نوع من المعيشة الديرية، وستبقى هذه الحاجة لازمة في الأمم ما دام فيها نفوس تتألم وجهاد في تحصيل الرزق، والطمع يحكي جهاد الفاتحين. وقد احترم صاحب الشريعة الإسلامية هذه الحاجة؛ لأنه أوصى بالصوامع والرهبان خيرا، وكذلك الخلفاء الراشدون. فضلا عن أن التكايا التي أنشئت بعد ذلك في أنحاء العالم الإسلامي إنما هي نوع من المعيشة الديرية أيضا، وهذا يدل على أن هذه المعيشة الاشتراكية للزهد والانقطاع إلى الله كانت حاجة من حاجات النفوس في كل زمان.
أما النفع المادي فهو اعتبار الدير عبارة عن قوة ممدنة تستعمر الجهات التي يكون الدير قائما فيها. والديور إنما تقام عادة في القفار والجبال والقرى البعيدة؛ أي في الأماكن المحتاجة أشد احتياج إلى تعمير وإحياء.
فتأمل مقدار الخير الذي يستطيع ذلك الدير صنعه في تلك الجهات إذا جعل نفسه عبارة عن شركة عظيمة يجتمع حولها أهل القرى ليتلقوا منها طريقة زراعة الأرض ويتعلموا صناعات جديدة، ويعتمدوا عليها في جميع شؤونهم العملية اعتمادا متبادل النفع بين الفريقين؛ فإن الدير يصير في هذه الحالة عبارة عن مركز أعمال القرويين ومستشارهم في جميع أشغالهم. وكيف لا يحلو للمتأمل أن ينظر ذلك الراهب الذي كان يصلي إلى الله منذ مدة يأخذ معوله وفأسه ويقصد إلى حقول القرية؛ حيث يقابله أهلها كرسول العلم والثروة والمدنية بينهم، ويسترشدون بإرشاداته التي اكتسبها بالدرس والاختبار، والتي لا تصل إلى هؤلاء القرويين بدونه؟!
لا ريب أن هذا الأمر يساوي عندي - على الأقل - خروجه من الدير وبيده الإنجيل لعيادة مريض في القرية أو تسلية حزين، ولست أعرف شيئا في هذا العالم يعادل نفعه نفع هذه الديور في التمدين والتعمير إذا سلكت بإخلاص ونزاهة في هذا السبيل.
هذا فيما يختص بالاشتراك الخارجي بين أهل الدير وأهل القرى في تعمير الأراضي ونشر الخير والثروة حولهم، بقي هناك اشتراك آخر داخلي؛ وهو تعاون الأفراد المجتمعين في ذلك الدير على جعل معيشتهم فيه عبارة عن مثال لأرقى حكومة في الأرض، فإن أهل الدير قد ارتفع عنهم عند دخولهم إليه هم تحصيل الرزق، والطمع والجهاد في سبيله، وذلك مما يسكن النفس وينقي قواها.
ثم أضف إلى ذلك الانفراد عن معارك الحياة، تجد أن النفس تصفو في ذلك الانفراد عن كدوراتها اليومية، وتتملص من كل أهوائها الفاسدة التي كانت تضغط عليها وتعذبها في حالة الاجتماع، وهكذا يصبح أهل الدير عبارة عن بشر فوق البشر؛ لأنهم خرجوا من دائرة البشر، ويصير البشر في الاجتماع ينظرون إليهم نظرهم إلى معلمين مرشدين موضوعين فوقهم، فكأن الإنسانية في هؤلاء المنفردين قد تكررت وصفت وصارت إنسانية جديدة لا هم لها في الأرض غير فعل الخير ومساعدة الضعفاء.
وهذه الحالة تسوقهم بالطبع إلى الاشتغال بالعلم والأدب، وهنا مسألة المسائل الجديرة بكل اهتمام، هنا مفتاح ترقية العلوم والفنون والصناعات المختلفة؛ إذ ماذا يصنع الرهبان في كل أوقاتهم الطويلة؟ وبأي شيء يقطعونها؟ هل من شيء يقطع به الوقت (ما عدا فعل الخير) أنفس من الاشتغال بالعلم والأدب؟! وبذلك يكمل الرهبان المنفردون في أديرتهم الجميلة نقصا ظاهرا اليوم في هيئتنا الاجتماعية.
انظر إلى الحركة العلمية والأدبية عندنا، تجد أنها مطلوبة للمال لا لذاتها، وبما أن طالبي العلم والأدب يهتمون بالمال أكثر من اهتمامهم بالعلم؛ فالعلم يبقى بيننا قاصرا؛ ذلك لأن العلم لا يتقدم ولا يترقى إلا إذا أمكن للمشتغلين به الانقطاع إليه انقطاعا لا دخل لشهوة المال فيه. وهذا أمر بعيد الحصول عندنا ما دام أصحاب الثروة لا يشتغلون بالعلم.
فالرهبان إذن عليهم سد هذا الفراغ؛ لأنهم قادرون على الانقطاع إليه أتم الانقطاع؛ إذ كل حاجاتهم مضمونة عندهم، وفي وسع كل واحد منهم أن ينقطع إلى علم أو فن عشرين سنة أو أربعين، فيرقيه أتم ترقية عندنا دون أن يحتاج شيئا، وحينئذ تصبح الديور مصدرا لنهضة علمية جليلة، ويصير كل واحد منهم عبارة عن أكاديمية كبيرة كل عضو من أعضائها عالم في فن وفي علم.
ومجموع الأعضاء يتألف من مجموع المعارف البشرية، والاختراعات والاكتشافات تتتابع من هذه الأكاديميات الجديدة لنشر الخيرات في الأمة وتحسين شؤونها. فتكون هذه الديور مثالا (للعلم) كما كانت مثالا (للصلاح) في ما تقدم. وهي ما عدا ذلك تكون أيضا مثالا (للنظام) المطلق؛ فإن معيشتها اشتراكية محضة، الكل إخوة متساوون قولا وفعلا، وليس أحد فيهم يقول: هذا لي؛ لأن كل شيء يكون بينهم مشتركا، ولكنهم مع تساويهم هذا خاضعون لسلطة عليا خضوعا تاما بلا مراجعة ولا تردد؛ لعلمهم أنها لا تأمرهم إلا بالخير وما فيه خير؛ ولذلك ترى أكبرهم وأصغرهم يعفران رأسيهما بابتهاج وسرور تحت قدمي هذا النظام الذي أنقذهما وأعطاهما هذا الوسط الهادئ النقي، وهكذا، بينما تكون الدنيا قائمة قاعدة بالاضطرابات والفتن والثورات بين كل الطبقات، بينما ترى روح الاستفراد العصري الذي ضربه رنان بسوطه ضربات شديدة
2
يبذر بذور الشقاق في العالم حتى بين الأب وابنه والمرأة وزوجها لرغبة كل إنسان في أن يعيش حرا على هواه، ترى الهدوء والنظام والخير عامة شاملة في الدير وما حوله من القرى، كأنه صار قطعة من الجنان.
وهنا سكت سليم وأخذ يمسح العرق عن جبينه؛ لأنه قد تحمس في أثناء وصفه؛ فصاح جرجس مسرورا: عافاك، عافاك يا معلمي، هكذا يجب الكلام عن آبائنا الرهبان. أما كليم فإنه قهقه شديدا وقال لرفيقه: كفى تحلم، كفى تحلم؛ فهم في واد وأنت في واد، ومن كلامك يظهر أنك لا تعرف ما هو الغرض من الدير، فمسكين أنت أيها الجاهل! معنى الدير عندهم اليوم أن يقيم فيه الرهبان يكررون صلوات مألوفة، ويجمعون من الناس بحجة هذه الصلوات ما أمكنهم جمعه من المال، سواء كان نقودا أو أوقافا ذات دخل عظيم، والسذج يبذلون بسخاء في هذا السبيل ابتغاء للثواب على ما يقولون. وهكذا بدل أن تكون هذه الديور ناشرة للثروة والخير في ما حولها من القرى صارت ممصا للثروة نفسها، وقد قلت إن أهل العلم عندنا مضطرون إلى التفكير بالمال قبل العلم وإلا تعذر عليهم الاشتغال به، فأنا أخبرك أن أهل الدين - الذين وظيفتهم نذر الفقر كما ذكرت - صاروا أيضا يفكرون بالمال قبل الدير.
قال سليم : لا لست أحلم، بل أنا أنظر إلى الدير كما يجب أن يكون، وأنت تنظر إليه كما جعلوه اليوم، وهذا أوضح دليل على أن كل شيء إنما يصلح ويفسد تبعا للطرق التي يستعمل بها والأشخاص الذين يتولون استعمالها. وهذه مسألة المسائل في كل الشؤون حتى سياسة الأمم، ولست أظنك تزعم أن الديور كانت في القديم (وأعني القرون الأولى لا القرون المتوسطة) على حالتها الحاضرة اليوم؛ فإنها لو كانت كذلك لما قام لديانتها قائمة، وإنما كانت الديور يومئذ عبارة عن انقطاع حقيقي إلى الله للخلاص من حياة الاجتماع التي تجر الإنسان أحيانا إلى ما لا يهواه.
ولا عتب في ذلك على أولئك المتقدمين؛ لأنهم كانوا يومئذ في الطور الذي يسمى «طور الإيمان الحار»؛ ولذلك يجب أن لا نلومهم لانقطاعهم عن الناس بقولنا إنهم فعلوا ذلك مدفوعين بعامل الأثرة وحب الذات؛ فإن الرغبة في معيشة الانفراد الاشتراكية كائنة في طبيعة البشر؛ خصوصا الضعفاء منهم، ولكننا إذا كنا لا نلومهم اليوم؛ فإننا لا نحث الديور في هذا الزمن على أن تنسج على منوالهم، بل نطلب إدخال تغيير على حالة الأديرة طبقا للوصف الذي ذكرته آنفا؛ فإن الهيئة الاجتماعية قد تغيرت، والنفوس الدينية صارت كما يظهر من قولك لا تكتفي (بالإيمان الحار)، فبناء عليه بطلت وظيفة الدير الأولى التي هي البعد عن البشر والانقطاع إلى الله انقطاعا حقيقيا، وصار من الواجب أن يحل محل هذه الوظيفة وظيفة مساعدة الناس ماديا وأدبيا كما وصفت ذلك آنفا، وإلا فلا معنى لوجود الدير في هذا العصر، وأنا على يقين أن هذا التغيير أمر سهل، وكثيرون من رجال الدين يرضون به؛ لأنه يحيي البلاد والعباد بثروات الأديرة والأوقاف الدينية. إنما يشترط فيه وجود رؤساء كرام يفهمونه وينبذون الأطماع جانبا.
فلماذا لا يقوم أكابر الطوائف وأفاضلها لمراقبة أوقاف الأديرة والأملاك الدينية مراقبة شديدة بواسطة مجالس دائمة خصوصية تنشأ لهذا الغرض لإنفاق دخلها الطائل في وجوه نافعة لمجموع الأمة؟
هوامش
الفصل الثالث
عين السنديانة
مجنون ليلى
وبقي سليم وكليم يتحادثان في هذا الموضوع، حتى وصلا إلى عين السنديانة، وهي محطة يستريح فيها المسافرون في طريقهم إلى أعالي الجبل.
والمكان مؤلف من منزل اتخذه مستأجره حانوتا يبيع فيه مواد الغذاء للمسافرين، وأمامه دكة عالية قليلا، يجلس المسافرون عليها، وبجانبها عين ينبع منها ماء بارد يشربه المسافرون بظمأ ولذة بعد تعب الطريق وحرها.
فنزل كليم وسليم للراحة وتناول الطعام، وبعد حين طلبا بيضا مقليا وجبنا وعنبا وجلسا يأكلان، وإذا برجل قد دنا من أحد الفرسين، ومد يده إلى الخرج الذي كان عليه، وأخرج منه جريدة إنكليزية، فقال كليم لرفيقه: ما شاء الله! إن صاحبنا يفعل بخرجنا ما يشاء (بدون تكليف). ثم نهض ودنا من الرجل وسأله: ماذا تريد؟ فعبس الرجل وقال: لا أريد شيئا، ولكني أحب أن أقرأ.
ثم إنه أدار ظهره لكليم وجلس على طرف الدكة، ونشر الجريدة الإنكليزية وصار يقرأ فيها.
فاستغرب سليم وكليم أمر هذا الرجل، وكانت هيئته وثيابه مما يزيد الاستغراب؛ فإنه كان في نحو الأربعين من عمره بلحية كثة وخطها الشيب، وشعر وافر في رأسه يتدلى من تحت طربوشه القذر، وكان طويل القامة عريض العضل يلبس ثيابا قديمة قذرة ويمشي بحذاء ممزق، إلا أن سحنته كانت تدل على الهدوء واللطف والسكينة.
وبعد أن قرأ هذا الرجل بضعة أسطر في الجريدة رفع رأسه، وضحك ضحكا شديدا، ثم قال: كلهن سواء، ثم التفت إلى كليم وقال: أليس حقا ما أقول؟ فقال كليم: عن أي شيء تتكلم؟ فضحك الرجل ضحكا أشد من ضحكته الأولى وقال وهو يهز رأسه طربا:
جننا بليلى وهي جنت بغيرنا
وأخرى بنا مجنونة لا نريدها
ثم وقع على الأرض وأغمي عليه.
فذعر حينئذ كليم وسليم، أما صاحب المحل فإنه ركض مسرعا وهو يضحك، فنضح وجه ذلك الرجل المسكين وصدره بالماء، ثم التفت إلى سليم وكليم وقال: لا تخافا؛ فإن هذا الرجل مجنون، بل هو نصف مجنون، وهو يصاب بهذه النوبة مرة كل يوم أو كل يومين. فاشتد حزن كليم وسليم على حالة الرجل حينئذ، وبادرا إليه يسعفانه بالمعالجة، وبينما كانا يفركان يديه بأيديهما سألا صاحب المحل: وما قصته؟ وأين بلاده؟ فإنه غريب عن لبنان على ما يظهر.
فأجاب صاحب المحل: الذي سمعته أنه غريب عن لبنان، ويقال إن سبب جنونه حبه فتاة رام الاقتران بها فرفضت وهجرته، وهو من ذلك الحين يطوف البلاد على قدميه يأكل إذا وجد طعاما ويصوم إذا لم يجد، وأحيانا ينام تحت سقف منزل، وأحيانا تحت قبة السماء، فهو شبيه برجل تائه على وجهه في البلاد، وكل الأهالي يعرفونه.
فلما سمع كليم وسليم هذه القصة تأثرا تأثرا شديدا، ومما زاد تأثرهما امتزاج تعاسة الرجل بشيء غزلي جميل؛ لأنه جن بسبب الحب كما سمعا.
فقال سليم لرفيقه: حقا إنني لما كنت أسمع كلام صاحب المحل خيل لي وأنا أفرك يد هذا المريض أن يدي تمس الآن يد مجنون ليلى أو غيره من عشاق العرب المشهورين، ومن العجب أن يبقى اليوم في الأرض أناس رقاق الشعور شديدو الانجذاب النفسي؛ حتى إنهم يجنون بسبب الحب مع ما هو معروف في هذا العصر من اندفاع تيار الشهوات الحيوانية التي تقتل ذلك الشعور الدقيق.
فسأل كليم صاحب المحل: وما اسم هذا الرجل التعيس؟ فأجاب: إن الناس يسمونه مخلوف.
وفي هذه البرهة اختلج مخلوف اختلاجا شديدا وصار يصرخ صراخا هائلا ويخبط بيديه ورجليه؛ فأمسكه بها الثلاثة الحاضرون لئلا يؤذي نفسه. وكان قد اجتمع عليهم بعض الأولاد وهم يعجبون من دنو سليم وكليم منه؛ لأن أكثر العامة في أقطار الشام يخافون كثيرا ممن يغمى عليه ذلك الإغماء؛ لاعتقادهم أن فيه شيطانا يسبب ذلك الاضطراب، وهم يسمون المغمى عليه «واقع في الساعة».
وبعد حين ارتخت أعضاء مخلوف وتنهد تنهدا عميقا، ثم فتح عينيه وصار يضحك لمن حوله ضحكا لطيفا كضحك الأولاد؛ فقال له كليم: كيف حالك الآن يا مسيو مخلوف؟ فأجاب مخلوف: حالي كما ترى. فقال سليم: هذا أمر بسيط، وكثيرا ما يقع فيه الناس، إما بسبب الحر أو ضيق الصدر أو التعب. فجلس مخلوف حينئذ وقد ظهر الغضب في وجهه وصاح: لم يؤثر في الحر ولا ضيق الصدر ولا التعب، وإنما هذه الجريدة الملعونة، فكيف تجيز لها السماء والأرض أن تتركه وتذهب، هو يحبها كما يحب إلهه، هو يطرح تحت قدميها اسمه وميراثه وشرفه لتتنازل وتأخذها وترضى فقط بالابتسامة له، ومع ذلك فإنها ترد هذه الهبات بقدمها وتفر منه كالبرق وتختفي، فما هو جزاؤها يا ترى؟ أليس القتل، والخنق، والحرق، والشنق، والدوس بالأقدام، والتقطيع قطعة قطعة؟!
وكان مخلوف قد بلغ به الغضب عند هذه الكلمات مبلغا عظيما؛ فجحظت عيناه، وانتفخت أوداجه، وصعد الدم إلى رأسه فكاد يخنقه، وبدا الزبد على فمه كالجمل الهائج، فهال منظره سليم وكليم، وعلما حينئذ أنه قرأ في الجريدة الإنكليزية هذه الحادثة فأذكرته حادثته.
فتلافى سليم الأمر رغبة في تسكينه وتعزيته، وقال: لقد نطقت بالحق؛ فإن تلك الفتاة تستحق أكثر مما ذكرت، ولكن هل قرأت تتمة حادثة مس (لنهيم) التي تشير إليها؟ فأجاب مخلوف وهو يلهث تعبا من أثر الهياج: لا، فماذا جرى لهذه الخبيثة بعد تركها حبيبها؟ فقال سليم: لقد لقيت عقابها. فصاح مخلوف حينئذ وشرر الجنون واليأس تتطاير من عينيه: هل ماتت؟! فارتعدت فرائص سليم وكليم لذلك الصوت الذي حكى صوت وحش جرح برصاصة، وأجاب سليم: كلا كلا؛ فإنه لا يموت أحد الحبيبين إذا افترقا، وخصوصا إذا كان أحدهما مظلوما إلا بعد اجتماعهما.
فبهت مخلوف يتأمل قليلا ثم قال: وكيف ذلك؟ فقال سليم: روى فرفوريوس عن نيقوديموس عن أفلاطون عن أرسطاطاليس أن كل نفس مظلومة لحبها نفسا أخرى - لا تموت إذا ثبتت في حبها، وصدقت قبل أن ترى النفس المحبوبة. ولذلك فكل فتاة تهجر فتى يحبها، ويثبت الفتى على حبه لها تعود إليه ذليلة من تلقاء نفسها بعد ذلك وتستغفره عن ذنبها، وتطلب إليه أن يشاركها في حياتها، وهكذا جرى لمس لنهيم التي قرأت في الجريدة حادثتها، فإنها عادت بعد مدة ذليلة واستصفحت خطيبها.
فهنا استوى مخلوف جاثيا على ركبتيه، وأبرقت عيناه برقا غريبا، وقال: وإذا كان قد انقضى على غيبتها عدة سنوات؟
فأدرك كليم في الحال ما قام في نفس ذلك المجنون التعيس، فهمس في أذن رفيقه: إنك تحاول نفعه بالأمل ولكنك ستضره. فأجاب سليم: وهل بعد الجنون من ضرر؟! فإنني الآن أجرب طريقة لإصلاح شأنه، وتسكين جهازه العصبي إلى حين.
ولما سأله مخلوف السؤال الذي تقدم أجابه سليم بقوله: سواء كان الوقت قصيرا أو طويلا فإنها تعود رغما عن أنفها، ولكني لم أذكر لك الطريقة التي استعاد بها المستر (أرثور) حبيبته المذكورة، فإنه قبل كل شيء ثبت على حبها ثبات الأبطال، فكان لا يذكرها بكلمة سوء ولا يحكي قصتها لأحد، ثم كان يتظاهر باللطف والبشاشة دائما ولا يضر أحدا من الناس، وينفعهم بقدر استطاعته، وكان على الخصوص يعتني بنفسه، فيأكل من الطعام ما يكفيه، ولا يتعب كثيرا بالطواف في البلاد، ويداري صحته ما أمكنه، وبهذه الطرق صار رجلا جميل المنظر لطيفا محبوبا من الناس، فما لبثت حبيبته أن عادت إليه تطلب منه الصفح عن هجرها إياه.
وكان سليم يتكلم ومخلوف يفتكر، وقد أخذ العرق يقطر من جبينه؛ فدل ذلك على أن نفسه كانت حينئذ في صراع شديد مع نفسها، ولما أتى سليم على آخر كلامه انهملت دموع مخلوف على خديه؛ فوضع رأسه بين يديه وصار يبكي بكاء شديدا؛ فاغرورقت حينئذ بالدمع عينا سليم وكليم، وازدادت دهشتهما من أن يوجد اليوم في الأرض إخلاص كإخلاص هذا العاشق المجنون التعيس.
ولما استغرق مخلوف في البكاء رام كليم تسليته من وجه آخر، فقال له: أنت مصيب في بكائك يا مسيو مخلوف، فبارك الله في عواطفك الرقيقة وقلبك الحساس؛ إنك - ولا شك - تبكي على الزوج المسكين الذي يتزوج ويرزق أولادا من زوجته ومع ذلك يرى عين امرأته ناظرة إلى سواه، إلى شاب أغض منه شبابا؛ فتجعل حياته جحيما دائما، إنك تبكي على الزوج الذي يتزوج اليوم ثم تموت زوجته الفتاة الرطبة الجميلة بعد سنتين تاركة على ذراعيه طفلين يصيحان دائما «يا أماه»، بينما قلبه يصيح معهما «يا حبيبتي»، إنك تبكي الزوج الذي يموت بعد زواجه بسنتين تاركا أرملة فتاة وصغيرين لا معين لهما غير الله، إنك تبكي الزوج الذي يرى عائلته تكبر شيئا فشيئا - كل سنة ولد - ويرى باب رزقه ضيقا؛ فهذه الأحوال الاجتماعية جديرة يا مسيو مخلوف بدموعك، وإذا كنت لم تتزوج بعد فاشكر الله لأنك لم تقع في أحدها.
ولكن يظهر أن المسكين مخلوف لم يفهم معنى هذا الكلام، أو كأنه لم يسمعه لاشتغاله عنه بما كان يجول حينئذ في ضميره، فلما سكت كليم تحفز للنهوض، فأمسك به سليم وكليم ليشاركهما في الطعام، فاعتذر ونهض، فحاولا إقناعه بالسفر معهما إلى الحدث ومنها إلى الأرز؛ فلما سمع كلمة الأرز قال لهما بهيئة جدية يضحك منها من يعرف جنونه إنه مسافر بعد مدة للأرز للسياحة هناك، وإنه سيقابلهما فيه. ثم تخلص منهما وودعهما بإحناء رأسه، وسار في سبيله.
كأنما هو في حل ومرتحل
موكل بفضاء الله يذرعه
ولما غاب عن بصرهما في منعطف المكان التفت سليم إلى رفيقه وقال: حقا إن حالته حالة مؤثرة. وبعد أن تناولا الطعام واستراحا قليلا ركبا وسارا في طريقهما مع جرجس، وكان كل واحد منهم يفكر في مخلوف، وبعد برهة دار بينهما الحديث على الطريق؛ لأن الطريق خير محرك للحديث.
فقال سليم: هذه أول مرة أرى فيها محبا جن من حبه؛ فما أحسن هذه الأخلاق الدمثة اللطيفة مع الجنون! فقال كليم: أما أنا فقد شاهدت مجانين عشاقا قبل اليوم، وعندي قصة أشد تأثيرا من قصتنا هذه، فإنني منذ سنتين زرت في طريقي مع بعض الأصحاب دير قزحيا حيث يعزل بعض المجانين؛ فلما أشرفنا على مكانهم وجدنا أحدهم منفردا عن الباقين وهو جالس حزينا ملوي الرأس، فقلنا: (إن كان فهذا. فوقفنا به فسلمنا عليه فرد السلام. فقلنا له: ما تجد؟ فأنشأ يقول:
الله يعلم أنني كمد
لا أستطيع أبث ما أجد
نفسان لي: نفس تضمنها
بلد، وأخرى حازها بلد
وأرى القيامة ليس ينفعها
صبر وليس يفوقها جلد
وأظن غائبتي كشاهدتي
فكأنها تجد الذي أجد
فقلت له: أحسنت والله! فأومأ إلى شيء ليرمينا به وقال: أمثلي يقال له أحسنت؟! فولينا عنه هاربين، فقال: أسألكم بالله أما رجعتم حتى أنشدكم، فإن أحسنت قلتم لي: أحسنت، وإن أسأت قلتم لي: أسأت. فرجعنا وقلنا له: قل. فأنشأ يقول:
لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم
ورحلوها وسارت بالدمى الإبل
وقلبت من خلال السجف ناظرها
ترنو إلي ودمع العين منهمل
وودعت ببنان عقده عنم
ناديت لا حملت رجلاك يا جمل
ويلي من البين ماذا حل بي وبها
من نازل البين حل البين وارتحلوا
يا راحل العيس عرج كي أودعهم
يا راحل العيس في ترحالك الأجل
إني على العهد لم أنقض مودتهم
يا ليت شعري بطول العهد ما فعلوا
فقلت له: ماتوا. فصاح وقال: ماتوا، وأنا والله أموت. ثم تربع وتمدد فمات لساعته، فما برحنا حتى دفناه.)
فقال سليم: يا للعجب! وهل روحه في يده حتى يطلقها حين يريد؟! فقال كليم: هذه قصة محزنة عن المجانين، وقد شهدت أيضا حادثة أخرى ولكنها مضحكة، إلا أنها تدل أيضا على ذكاء هذه الطبقة التي إذا طمس الجنون عقلها فإنه يبقي على نباهتها وحدة ذهنها.
وتفصيل الخبر أنني كنت ذات يوم مارا بقرية القلمون الإسلامية الكائنة على شاطئ البحر تحت دير البلمند وقلحات، فرأيت اجتماعا عظيما خارج القرية فسألت: ما الخبر؟ فعلمت أن هنالك معتوها يضحك الأهالي منه، ويجوزون له ما لا يجوزونه لسواه، وكان هذا المعتوه (يجد ليجد السبيل إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان يركب قصبة في كل جمعة يومي الاثنين والخميس، فإذا ركب في هذين اليومين فليس لمعلم على صبيانه حكم ولا طاعة، فيخرج ويخرج معه الرجال والنساء والصبيان فيصعد تلا وينادي بأعلى صوته: ما فعل النبيون والمرسلون؟ أليسوا في أعلى عليين؟ فيقولون: نعم. قال: هاتوا أبا بكر الصديق. فأخذ غلام فأجلس بين يديه، فيقول: جزاك الله خيرا أبا بكر عن الرعية؛ فقد عدلت وقمت بالقسط وخلفت محمدا - عليه الصلاة والسلام - في حسن الخلافة، ووصلت حبل الدين بعد حل وتنازع، وفرغت منه إلى أوثق عروة وأحسن ثقة. اذهبوا به إلى أعلى عليين. ثم ينادي: هاتوا عمر. فأجلس بين يديه غلام فقال: جزاك الله خيرا أبا حفص عن الإسلام؛ فقد فتحت الفتوح ووسعت الفيء وسلكت سبيل الصالحين وعدلت في الرعية. اذهبوا به إلى أعلى عليين بحذاء أبي بكر. ثم يقول: هاتوا عثمان. فأتي بغلام فأجلس بين يديه فيقول: خلطت في تلك السنين ولكن الله تعالى يقول:
خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ، ثم يقول: اذهبوا به إلى صاحبيه في أعلى عليين.
ثم يقول: هاتوا علي بن أبي طالب. فأجلس غلام بين يديه، فيقول: جزاك الله عن الأمة خيرا أبا الحسن؛ فأنت الوصي وولي النبي، بسطت العدل وزهدت في الدنيا، واعتزلت الفيء فلم تخمش فيه بناب ولا ظفر، وأنت أبو الذرية المباركة وزوج الزكية الطاهرة. اذهبوا به إلى أعلى عليين الفردوس.
ثم يقول: هاتوا معاوية. فأجلس بين يديه صبي، فقال له: أنت قاتل عمار بن ياسر، وخزيمة بن ثابت ذا الشهادتين، وحجر بن الأدبر الكندي الذي أخلقت وجهه العبادة، وأنت الذي جعل الخلافة ملكا واستأثر بالفيء وحكم بالهوى واستبطر بالنعمة، وأنت أول من غير سنة رسول الله ونقض أحكامه وقام بالبغي. اذهبوا به فأوقفوه مع الظلمة.
ثم قال: يزيد. فأجلس بين يديه غلام فقال له: أنت الذي قتلت أهل الحرة، وأبحت المدينة ثلاثة أيام، وانتهكت حرم رسول الله، وآويت الملحدين، وبؤت باللعنة على لسان رسول الله، وتمثلت بشعر الجاهلية.
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
وقتلت حسينا، وحملت بنات رسول الله سبايا على حقائب الإبل. اذهبوا به إلى الدرك الأسفل من النار.
ولا يزال يذكر واليا بعد وال حتى بلغ إلى عمر بن عبد العزيز، فقال: هاتوا عمر. فأتي بغلام فأجلس بين يديه، فقال: جزاك الله خيرا عن الإسلام؛ فقد أحييت العدل بعد موته، وألنت القلوب القاسية، وقام بك عمود الدين على ساق بعد شقاق ونفاق، اذهبوا به فألحقوه بالصديقين.
ثم ذكر من كان بعده من الخلفاء إلى أن بلغ دولة بني العباس فسكت ، فقيل له: هذا أبو العباس أمير المؤمنين. قال: فبلغ أمرنا إلى بني هاشم. ارفعوا حساب هؤلاء جملة واقذفوا بهم في النار جميعا).
فقيل له: وبعد؟ فقال: أين أمويو الأندلس؟ فرفع إليه غلام، فقال له: إيه عبد الرحمن الداخل، ذهبت تخرق خرقا في الإسلام، وتنشئ خلافة جديدة وسلطنة كبيرة لم تحسن أنت وقومك الدفاع عنها. اذهبوا به إلى النار. ثم قال: أين الفاطميون؟ فرفع إليه غلام فقال: لقد ألهتم أمراءكم، وأضعفتم الإسلام بشقه شطرين. خذوهم. فقيل له: وبعد؟ فقال: بعد ماذا؟ فقيل: آل عثمان. فالتفت يمنة ويسرة ومد لسانه وحك رأسه وهم بالكلام، فصاح به صائح: باب السجن مفتوح. فضحك المعتوه وقال: أما بنو عثمان فإننا نؤجل الحكم عليهم. فضحك الجميع وانصرفوا.
فقال سليم: حقا إن هذا الرجل غريب؛ فإنه مع جنونه يصف كل أمير الوصف الذي ينطبق عليه كأنه من أبصر الناس بالتاريخ، أما صاحبنا مخلوف، فإنني أرى من القسوة أن نتركه في هذه الحالة؛ ولذلك عزمت على معالجته لعلي أرد عليه صوابه.
الفصل الرابع
الحدث
أحد أغنياء أميركا العظام فيها
وطوى الفارسان بالحديث المسافة بين عين السنديانة والحدث، ولما وصلا إلى هذه القرية دخلا إليها منقبضي الصدر؛ لأنهما كان يعللان النفس بأن يشاهدا في أعالي الجبل مناظر أبهى وأجمل، وهذا شأن كل من يتصور شيئا جميلا قبل معرفته؛ فإنه قلما تكون صورته الحقيقية مساوية لصورته الخيالية، خصوصا إذا كان المتصور شديد الخيال، وأشد الناس خيالا وأرقاهم تصورا، وأسلمهم ذوقا من لا يرى في صور الموجودات - مهما كانت عظيمة نفيسة - صورة تفوق أو تساوي صورتها التي ارتسمت في خياله قبل أن يراها.
وفي الحقيقة إن جمال الحدث لا يظهر للداخل إليها لأول مرة، بل تجب الإقامة فيها يومين أو ثلاثة لإدراك محاسنها؛ فهي قرية صغيرة قائمة على أكمة في جبة بشري، مطلقة للهواء والنور من جهاتها الأربع؛ فيظهر أن الذين بنوها لم يرهبوا الزوابع والرياح والثلوج في تلك الأعالي؛ ولذلك لم يخفوا قريتهم في ظل أكمة مرتفعة كقرية (قنات) القريبة منها إلى الجنوب الغربي، ولا بنوها في سفح جبل كأهدن التي تقابلها في الشمال، ولا في قلب واد كحصرون في الشرق، بل هم قصدوا بها - على ما يظهر - مصادمة تلك العناصر الطبيعية في تلك الأعالي التي يعممها الثلج، ويغطيها الضباب نصف سنة تقريبا، وهذا ما جعل هواءها أجود الأهوية وأجفها، واجتذب إليها المرضى للاستشفاء فصاروا يفضلونها على سواها.
ولما دخل سليم وكليم إلى القرية كان أهلها في هياج واضطراب، وبعضهم يتراكضون إلى منزل قائم فوق حرش صغير بجانب القرية إلى الجنوب الغربي. فقال كليم: يا جرجس، استخبر لنا الخبر. فسأل جرجس أحد الأهالي، فأخبره أن بعض الأميركان يرومون استئجار بيت في القرية، ولكن في الأهالي فريقا لا يريد تأجيرهم؛ لأنهم بروتستنت يحثون الناس على ترك مذهبهم إلى المذهب البروتستنتي.
فضحك سليم لما علم بسب هذا الاضطراب، وقال لرفيقه: إن هذه الاختلافات في المذاهب والأديان تتبعنا حتى أقاصي البلدان، ثم سأل سليم جرجس: ما رأيك يا جرجس في هذا؟ هل يجوز لهم ذلك أم لا يجوز؟ فأجاب جرجس: الحق أقول لك يا معلمي، إن الأهالي لا يريدون تغيير مذهبهم الذي ربي عليه آباؤهم وأجدادهم، وهم يفدونه بدمائهم، سواء كانوا في الكورة بناحيتنا أو في الجبة بهذه الجهات. فأجاب سليم مازحا: ولكن لماذا لا تصنعون أنتم في نواحي الكورة ما يصنعه أهالي الجبة من طرد الأميركان؟ فإنكم قبلتموهم وقد فتحوا عندكم بضع مدارس. فاحتار جرجس في الجواب، فضحك سليم وكليم؛ لأنهما أدركا معنى سكوت جرجس، وقال: أنا سليم ماروني يا جرجس، وكن على ثقة أنني أكره الإساءة حتى للمجوس، ولكنك قد جهلت السبب الحقيقي، فاعلم أن لذلك أربعة أسباب: الأول: أن أهل الجبة أحرص من أهل الكورة على استقلالهم، وأرسخ منهم قدما في الدفاع عن حريتهم، وما برح أهل الجبال أشد استمساكا بحريتهم المطلقة من أهل السهول، وهم يعتبرون مذهبهم الديني من جملة عواملهم وحاجاتهم الوطنية. والثاني: أن لرجال الدين عليهم سلطة عظمى، خلافا لرجال الدين في الكورة، وذلك لما للهيئة البطريركية الدينية من النفوذ الخصوصي في سياسة الجبل. والثالث: أن فرنسا التي تحمي هذه السلطة الدينية يطيب لها أن تبعد - ما أمكنها - كل أجنبي يروم مخالطة الأهالي واستمالتهم، وعلى الخصوص البعثات الدينية الغير الفرنسوية. والرابع: أن الكورة تابعة لأسقفية طرابلس دينيا، والروم والأميركان في طرابلس على شيء من الاتفاق؛ فكيف يستطيع أهل الكورة أن يعاندوا الأميركان ما دامت هيئتهم الدينية في طرابلس مسالمة لهم؟!
فقال كليم حينئذ - وقد ضجر من هذا الكلام: لله ما أصبرك على البحث في هذه الهنات!
وفي هذا الحين وصل الجوادان إلى المنزل الذي كانا يقصدانه في القرية، وهو أعلى المنازل في الجنوب وآخرها. وكان أهل المنزل في النوافذ ينتظرون الضيفين، ويشاهدون اضطراب الأهالي وصياحهم حول المنزل الذي تقدم ذكره.
وكانت العائلة المصيفة في هذا المنزل عائلة صديق لسليم وكليم يدعى الخواجه أمين، وكان مريضا بعلة الصدر المشهورة التي كثرت في سوريا ولبنان في هذا الزمن، وهو شاب في الخامسة والعشرين من العمر، انقضى عليه ثلاث سنوات بهذه العلة؛ فلم تنجع بها دواء، ولم يبق لها علاج عند الأطباء غير الإقامة في الهواء النقي الجاف في أعالي الجبال، وكان أمين وحيد والديه الشيخين وقبلة آمالهما، ولكن المرض لا يعرف رحمة ولا يرعى حرمة، وكان أبواه في يأس شديد من حالته يبكيان الليل والنهار على وحيدهما الشاب الذاهب عنهما تاركا إياهما في آخر العمر فريدين وحيدين في هذه الحياة.
إلا أنهما مع حزنهما المتصل في السر كانا يظهران أمام المريض كل سرور وبشاشة، وكذلك كان المريض أمامهما، فإنه كان عالما بعلته التي كانت تجره إلى الموت شيئا فشيئا؛ ولكنه كان يحتملها بلا ضجر ولا شكوى؛ لئلا يزيد في عذاب الشيخين اللذين كانا يعتنيان به؛ ولم ير أحد قط صبرا على مرض كصبر هذا المريض الكريم وممرضيه الشيخين.
ولما دخل سليم وكليم عليه كان أمين ممددا في سريره لا يقوى على النهوض، فابتسم لهما مسلما، أما هما فلم يقنعا بهذا الابتسام بل تقدما منه ليصافحاه بهز اليد، فلما رآهما يمدان يديهما نحوه سحب يده وأخفاها تحت اللحاف، وقال لهما بدمع في عينيه: لا تتعباني بالسلام عليكما؛ فإنني في غاية الضعف. فنفرت الدموع حالا إلى عيني سليم وكليم؛ لعلمهما أن ذلك المريض العزيز لم يخف يده إلا فرارا من أن يعديهما من دائه.
فيا أيها المرضى الذين يشكون من فرار الناس منهم خوفا من العدوى، ويا أيها المصابون بأمراض مزمنة يقضون أوقاتهم بالتضجر والتألم والتحسر، تعلموا هذا الشعور اللطيف والصبر الجميل من هذا المريض.
وما جلس سليم وكليم يستريحان بعد تعب الطريق حتى اشتدت الضوضاء في القرية، وعلا الصياح فهرع كلاهما إلى النافذة وأطلا منها، ثم قال كليم لأمين: لم نفهم جيدا سبب هذا الاضطراب. وإذا بصاحب المنزل داخل، فسأله أمين: كيف انتهت المسألة يا أبا مرعب؟ فقال أبو مرعب: حقا إنهم تجاوزوا الحدود، وقد عزمت أن أذهب وأدعو أولئك الضيوف إلى منزلي هذا وأدعهم يقيمون في الجانب الآخر، فما قولكم؟ فقال له أمين: أحسنت يا أبا مرعب، وهكذا فلتكن الشهامة. فقال: ولكنني أريد ترجمانا بيني وبين الخواجات. فهب سليم وكليم وقالا: نحن نرافقك.
وبعد خمس دقائق وصل أبو مرعب مع سليم وكليم إلى المنزل الذي كان النزاع عليه، فوجدوا حوله عشرين رجلا من أهل القرية وبضع نساء وعدة أولاد، وأمام المنزل ثلاثة بغال عليها حوائج السفر وبجانبها ثلاثة من الأميركان وترجمان وخادم.
وكان أبو مرعب في نحو الخمسين من العمر، وهو رجل كبير الجسم، كثير السمن، قوي العزم، لا يهاب الموت إذا تمثل له في شخص إنسان، وكان مشهورا عنه أنه حارب مع يوسف بك كرم، وكان من أشد أعوانه، حتى إن يوسف بك سماه (كرة مدفع) إشارة إلى استدارة جسمه وقوته.
فلما وصل أبو مرعب إلى المتجمهرين دخل بينهم مع رفيقه، واستفهم منهم عن سبب الاضطراب والصياح، فعلم منهم أن ذلك الجمهور كان مقسوما قسمين: ففريق كان يقول: ليس من آداب الضيافة أن نمنع الأجانب من الإقامة في قريتنا، وإلا سبنا الناس حتى أهل القرى المجاورة. وكان في هذا الفريق صاحب المنزل نفسه.
وفريق آخر كان يقول: نحن لا نبعد هؤلاء الضيوف لأنهم بروتستنت فقط، بل لأن فيهم رجلا مسلولا؛ إذ نخاف على قريتنا من العدوى.
فرفع حينئذ أبو مرعب صوته وقال مخاطبا الفريق الذي كان يقاوم: يا شباب، هل هذا المنزل منزلكم؟ فأجابوا: كلا. فقال: وهل لصاحبه الحق في إقفاله أو هدمه أو تلعيب القرود فيه أم لا؟ فأجاب أحدهم وكان أجرأهم: نعم له الحق في ذلك، ولكن ليس له الحق في أن يضع فيه شيئا يضر بأهل القرية كلهم. فقال أبو مرعب وقد بدا الغضب في وجهه: وما هو هذا الشيء يا ابن طنوس؟ فقال: «المرض!»
1
فصاح به الشهم أبو مرعب: هل أنت بدون دين يا ابن طنوس حتى تضطهد وتطرد المرضى والضعفاء الذين أوصت ديانتنا بمساعدتهم وزيارتهم؟ ولماذا لا تطرد القرية أباك لما مات منذ سنتين بعلة الجذام؟!
فسكت ابن طنوس، ولكن شابا بجانبه أجاب: هل الغريب كالقريب يا أبا مرعب؟ فقال أبو مرعب: عافاك الله يا ابن سركيس فإنك نطقت بالحق، فأنتم إذن تريدون اضطهاد هؤلاء الضيوف لأنهم أجانب وبروتستنت لا لحفظ صحة القرية، فأنا أخبركم أنني الآن آخذهم إلى بيتي، وكل من تحدثه نفسه بمنعي فليتبعني.
ثم اندفع أبو مرعب إلى البغال فأخذ بأحدها ومشى في المقدمة يتبعه المسافرون، وبجانبه كليم وسليم يعجبان من كرم أخلاق هذا القروي.
أما المسافرون الأميركان، فإنهم كانوا في أثناء ذلك يضحكون وقد أفهمهم ترجمانهم كل ما جرى، فأجابوا: يس يس؛ أي إنهم رضوا بالإقامة في منزل أبي مرعب، إلا أنهم لم يشكروه على ذلك شكرا خصوصيا.
ولما استقر بهم المقام في بيت أبي مرعب نادى سليم وكليم ترجمانهم، وكان من تراجمة بيروت قدم معهم لهذا الغرض، وبعد أن تعرفوا به سألوه عن رفاقه وقصتهم، فأخبرهم أن هؤلاء الثلاثة الأميركان هم من حواشي أميركي كبير قادم للسياحة في جهات الأرز، فسأله سليم: وما اسمه؟ فأجاب الترجمان: اسمه (مستر كلدن). فصاح سليم: مستر كلدن أحد أغنياء أميركا العظام؟
فقال الترجمان: نعم فإن زوجته مريضة، وقد حضر معها للسياحة في أعالي لبنان، وقد أشار عليهم أطباء بيروت أن يتخذوا الحدث محطة لهم إذا أعجبتهم؛ لأن هواءها أجف الأهوية، ومنها يزورون الأماكن الجميلة التي بجوارها، وهذا ما جعلنا نتقدمهم وننتظرهم.
فقال كليم: إذن لستم مرسلين أميركيين كما ظن أهل القرية. فضحك الترجمان وقال: كلا. فقال كليم: ومن من رفاقك المصاب بداء الصدر؟ فضحك الترجمان أيضا وقال: لا أعرف أحدا مصدورا بينهم، ولكن لون أحدهم ضارب إلى الاصفرار فحسبوه مصابا، أو أنهم ادعوا ذلك تأييدا لحجتهم. فضحك سليم وقال: لا بأس، نحن نحمد هذه الصدفة التي جعلتهم قريبين منا؛ لأننا سنتعرف بالمستر (كلدن) ولا شك. فقال الترجمان: وهل تحبون التعرف برجال بطانته؟ فأجاب سليم: ذلك ما نتمناه.
وفي المساء زار سليم وكليم المسافرين الأميركان فأحسنوا استقبالهم، وقد سروا لمصادفتهم أديبين مطلعين يحادثانهم بلغتهم حديثا مفيدا عن المكان والسكان.
وفي أثناء الحديث سأل سليم أحدهم: بلغنا من الترجمان أن مسز (كلدن) مريضة، وهذا سبب سياحتها مع زوجها المكرم، ولكن ما مرضها؟ فضحك المخاطب وأجاب: «مرض الوطن.» فاستغرب سليم وكليم ذلك، فقال صاحبهما: نعم، أنا أخبركم الآن شيئا جديدا، وهو يسركما ولا شك، فإن مسز كلدن أصلها من بر الشام، ولم تنفك عن الاشتياق إلى وطنها الأول، فجاء بها المستر كلدن في هذا العام لعل صحتها تعود إليها في هذه السياحة التي هي متعبة، وإن كانت جميلة.
هوامش
الفصل الخامس
قصة مجنون ليلى
هل أخطأت حبيبته أم أصابت في سفرها؟
وفي ذلك الليل نام كليم وسليم نوم الهناء بعد تعب السفر، ونهضا في صباح اليوم التالي نشيطين مسرورين، إلا أنهما شعرا قبل شروق الشمس بشيء من البرودة لم يتعوداه في آب لقياسهما الجبل على السهل. لكن ما طلعت الشمس وامتزجت ذرات نورها الحار بذرات الهواء البارد حتى شعرا بارتياح شديد لم يشعرا بمثله في حياتهما كلها، ومنذ هذه الساعة بدأت الحدث تكون جميلة في عيونهما.
ولما تعالت الشمس فوق المشرق، واشتدت حرارتها قليلا، انتبه أمين من النوم، وأوعز إلى أبويه أن يستعدا للذهاب إلى حرش الصنوبر القريب من القرية؛ ليتناولوا طعام الصباح هناك مع ضيفيهما. فبعد نصف ساعة سار سليم وكليم نحو الحرش وركب أمين حمارا؛ لأنه كان عاجزا عن المشي لضعفه، وسار أبواه وراءه، والمسافة بين القرية والحرش نحو 4 أو 5 دقائق، وهذا الحرش قائم بين القرية القديمة وبضعة منازل جديدة بنيت وراءه إلى الجنوب، وهو مغروس فوق أودية مختلفة تنفرج من الحدث إلى السهل، فيرى من ورائه بحر الكورة والبترون وما وراءه من الأفق.
فجلس الرفاق هناك في أجمل مجلس وتناولوا طعام الصباح، وقد جعل أمين مجلسه بعيدا عن مجلس صديقيه وفصل طعامه عن طعامهما، فكان هذا الشعور اللطيف منه يزيد صديقيه رغبة في محو ذلك الأثر من نفسه، ولكن - وا أسفاه - ما الفائدة من محو ذلك الأثر من النفس ما دام باديا في الوجه؟! فإن أمين كان في تلك الجمعية التي كانت تتمتع بالصحة والعافية في ذلك المكان المشرف على مناظر الجبال والمعطر الهواء برائحة الصنوبر الطيبة - عبارة عن شبح وخيال، فإن العلة الهائلة أكلت وشربت لحمه ودمه، والهزال أفنى قواه وأخمد نار عينيه وصبغ وجهه اللطيف بلون الموت، ولم يبق من قوة لتلك الروح الصبورة في ذلك الجسم النحيف الذي صار كأجسام الأولاد سوى قوة الابتسام بشفتيه الرقيقتين تحت شاربيه الأشقرين الدقيقين اللذين صارا لا يظهران كثيرا لامتزاج لونهما بلون الوجه.
فبالابتسام فقط كانت تظهر حياة أمين وعواطفه وإرادته، وكان يجود بالابتسام دائما إظهارا للقوة وإيناسا لجلاسه، فهنا نقول مرة ثانية أيضا: ما رأى الممرضون قط مريضا شجاعا مثل الفتى أمين، والعجب من نفس قوية صبورة كهذه النفس، كيف استطاعت العلة أن تقوى عليها؟!
وكان لا ينغص عيش سليم وكليم شيء في ذلك المكان الجميل سوى هذه الأفكار التي تتردد عليهما، ورغبة في طردها وتسلية المريض دخلا في الحديث معه، فقال كليم: ألا تذهب معنا إلى الأرز أيها الصديق؟ فضحك أمين وقال: أنت ترى أنني لا أقدر على الركوب من القرية إلى هنا. فقال سليم: لا تبالغ، فإنك بخير والحمد لله، وإنك تستطيع الذهاب معنا إلى الأرز إذا أردته، ولك علينا إذا سرت معنا نريك (فرجة) لم ترها في حياتك. فقال أمين: وما هي؟ فقال سليم: نريك مجنون ليلى. فقال أمين: ومن هو مجنون ليلى؟ فقال سليم: هو رجل جن من الحب. فصاح أمين: لعلك تريد بهذا الرجل المسيو مخلوف، فدهش سليم وكليم وقالا: هل تعرفه؟! فقال أمين: هذا أمر بسيط؛ فإن كل الناس هنا يعرفونه ويعرفون قصته. فقال سليم: وهل تعرفها بالتفصيل؟ فقال: نعم، ولكن أين شاهدتموه؟
فقص عليه سليم كيف شاهدا مخلوف في عين السنديانة وما جرى له، وكيف وعدهما بأن يقابلهما في الأرز، فقال أمين: أظن هذا كل ما تعرفانه عنه، أما أنا فإنني أقص عليكما قصته من أولها إلى آخرها كما سمعتها من عارفيه، وإليكما تفصيلها:
إن اسم مخلوف الأصلي (يعقوب درمان)، وهو شاب أديب من بلدة صور، وكان منذ عشر سنوات مكبا على الدرس استعدادا لفن المحاماة؛ فبينما كان ذات يوم يطالع بعض دروسه على شاطئ البحر، وإذا به يسمع صراخا وعويلا، فركض فأبصر خادمة تنادي على سيدة لها بين الأمواج تكاد تغرق، فألقى نفسه حالا بأثوابه في البحر وأنقذ السيدة، وكانت هذه السيدة فتاة في نحو الثامنة عشرة من العمر، وهي كريمة تاجر كبير في صور، وقد رامت الانتحار غرقا لأسباب مجهولة، فلما أنقذها يعقوب أرسلها إلى بيتها وكانت مغشيا عليها، فكاد أبوها يموت من حزنه، ولكن الحياة عادت إليها، ومنذ ذلك اليوم أحبها يعقوب درمان حبا شديدا يقرب من العبادة، ومالت الفتاة إليه؛ لأنه أنقذ حياتها، لكن الأقدار عاكستهما بعد ذلك؛ فإن أباها - على ما يقال - توفي في ذلك العام وقد خسر جميع أمواله، وانحطت كرامته بين قومه بعد أن كان عزيزا بينهم، وبذلك بقيت ابنته وحدها؛ إذ لم يكن في البيت غيرها لوفاة أمها.
وكان يعقوب درمان فقير الحال أيضا؛ فرأت الفتاة أنها إذا اقترنت به ازدادت سوء حال على سوء حال، وكانت عزيزة النفس شديدة الأنفة؛ لأنها نشأت في الترف والغنى والدلال، فكرهت أن تقيم ذليلة فقيرة في بلدة كانت فيها العزيزة المبجلة؛ فغافلت حبيبها يعقوب وفرت مسافرة مع إحدى البواخر التي تمر على صيدا، وتركت له ورقة تقول له فيها: «انسني واسلني بعد الآن.» ويظهر أن دماغ يعقوب ضعيف من فطرته؛ فلم يقو على تحمل هذه الصدمة فجن من يومها.
فقال سليم: ولكن كيف سافرت الفتاة وحدها إلى بلاد لا تعرفها؟ فأجاب أمين: لا تسل عن ذلك؛ فإنها نشأت في مدارس الأميركان، وأنت تعلم أنهم يربون البنات في مدارسهم على الجرأة والإقدام والاستقلال، وهو أمر أحيانا يكون نافعا وأحيانا يكون ضارا.
فضحك كليم وقال: لا ريب أننا إذا رأيناه نحن في هذه الحادثة نافعا؛ فإن الخواجه مخلوف يراه مضرا جدا؛ لأنه فقد به حبيبته وعقله.
فقال كليم: ولكن عندي أن الفتاة لم تخطئ؛ إذ لا أصعب من معيشة الإنسان محتاجا إلى الناس في بلدة كان فيها من قبل غنيا عنهم؛ فإن دناءة الشامتين ولؤم المنتقمين ووقاحة حديثي النعمة الذين يحلون محل ذلك الإنسان بعد سقوطه أمور لا تحتملها النفوس.
فقال أمين بهدوء ورزانة: ما للإنسان وكلام الناس! إنما عليه أن يعيش بهدوء مستورا، وإذا كان في الناس قوم (أردياء) يشمتون وينتقمون، ففيهم قوم (طيبون) يواسون ويعزون، فقد كان على الفتاة أن تبقى ولا تسافر بهذه الصورة الشنيعة.
فقال كليم ضاحكا: لو سمعك مخلوف الآن لأعطاك طربوشه من فرحه.
فقال أمين ضاحكا: وما نفعي منه! فإن طربوشه قذر. فضحك الجميع لهذا الجواب.
الفصل السادس
حديث في حرش صغير
وقد طابت الإقامة لسليم وكليم في هذا الحرش الصغير، فصارا كل يوم يقصدانه مرة أو مرتين للاستظلال به من حر الشمس؛ ولكنهما لم يكونا يجلسان في الظل ربع ساعة حتى يبردا فينهضا إلى الشمس فيسخنا فينهضا إلى الظل، وهكذا على التتابع، وكانا يصرفان الوقت هناك بالحديث ومطالعة أطايب الكتب.
فبعد أن مضى عليهما بضعة أيام في هذه المعيشة نظرا إلى نفسيهما ذات يوم، وهما في ذلك المكان، فإذا بهما قد صار جسمهما ممتلئا قوة وصحة، وتوردت وجناتهما، واكتسبا من هواء الجبال ثوبا زاهيا غطى ثوب الاصفرار والضعف الذي كستهما به المعيشة المدنية، وكانا ينظران إلى نفسيهما في المرآة ولا يصدقان؛ فالتفت سليم إلى كليم وقال: إن الذين يعيشون في السهول والمدن في الشام وغيرها يخطئون أشد خطأ إذا كانوا لا يصعدون مرة في العام إلى جبال كهذه الجبال لتجديد قواهم ودمائهم.
فأجاب كليم: أنا موافق على رأيك بعد ما شاهدته في صحتي من التحسن، تالله إنني أحسب نفسي أنني كنت ميتا وبعثت، فإنني آكل ولا أشبع، وأشرب ولا أروى، وأمشي ولا أتعب، وأحيانا أخشى لنشاطي وخفة جسمي أن أطير في الهواء. فضحك سليم وقال: ما رأيك بأصحابنا في الشام ومصر الذين يقصدون جبال سويسرة وبلاد أوروبا في الصيف، ويتركون هذه الجبال التي فيها المعيشة أرخص ما يكون؟ فقال كليم: من جهل شيئا لا يحفل به، فهم يجهلون فضائل هذه الجبال، هذا عدا عن أن طريقها وعرة.
1
وفي هذا الحين وصل إلى الحرش شابان، فصاح كليم بهما: أهلا بالخواجه فاضل والخواجه حنانيا. ثم جلس الشابان بإزاء رفيقيهما وأخذا في الحديث معهما، وكانا من رفاق كليم وأبناء وطنه، وهما مصيفان في القرية.
وكان حنانيا شابا تدل هيئته على (البساطة) ولكن في الزوايا خبايا، وكان بلحية ضاربة إلى الشقرة، وهو كثير التنحنح كلما فاه بعبارة، وكان رفيقه فاضل يكثر من ممازحته ومداعبته وكذلك كليم، وقد كان حنانيا يسر بهذه المداعبة على ما يظهر؛ لأنه لم يكن يستاء منها ولو جرحته أحيانا، وكثيرون - وفي جملتهم المؤلف - كانوا يعتبرون أن هذا الأمر ناشئ بالأكثر عن (طيبة) قلبه.
أما فاضل فقد كان شابا هادئا يحب الجد كما يحب المزاح، وقد كان في عينيه ما يدل على صفاء قلبه، وفي أساليبه وكلامه وسكوته ما يدل على أنه ربي في عائلة ذات نعمة، وكان من المشهور عنه أنه شديد الإخلاص والرغبة في نفع غيره، فلم يكن أحد يسأله شيئا في طاقته ويقعد عنه.
ولما دار الحديث بين الرفاق الأربعة قال فاضل: إن رفيقنا حنانيا ابتاع اليوم كرما، فقال سليم: وكيف ذلك؟ فقال فاضل: جرت عادته أنه كلما رام أن يأكل عنبا يقصد هذه الكروم الممتدة أمامنا من القرية إلى حرش الأرز الصغير المشرف عليها، وكلما شاهد عنقودا جميلا جلس كالثعلب بجانبه، وتناول منه أنضج حبوبه وأكبرها، ولا يزال يفعل ذلك حتى يشبع، ففي هذا الصباح بينما كان (يفطر) بهذه الطريقة نظره (ناطور) الكرم فصاح به وأسرع إليه، فأجابه صاحبنا بكل (برودة) قلب: ماذا تريد؟ فقال له (الناطور): اخرج من الكرم. فقال له بغضب: ولماذا؟ هل هو كرمك؟ قال: بلا شك. فقال له صاحبنا: أرني (الحجة) التي بيدك لأتحقق ذلك، ولعمري إن هذه خير الطرق للشبع من العنب بدون دفع بارة واحدة.
فقال كليم: إذن لا يظلم أهل القرية كثيرا ضيوفهم بمعاندتهم والرغبة في التخلص منهم إذا كانوا كلهم (على نسق) صاحبنا حنانيا.
فقال حنانيا: أنا لست سلا ولا بروتستنت ليستطيعوا طردي، فإنني قاعد هنا على صدورهم إلى أن يحلو لي السفر، ثم فلنترك الآن المزاح. هل بلغكم عزم أهل القرية على التجمهر لإخراج المرضى من قريتهم؟
فقال سليم: وما قولكم في قصدهم هذا؟ ألا ترون فيه شيئا من الحق؟
فأجاب فاضل بحدة: عفوا عفوا، إن لأهل القرية الحق في إبعاد المرضى عنهم، كما أن للمرضى؛ وخصوصا المصدورين، الحق في اختيار الحدث للإقامة فيها؛ لأن هواءها أجف الأهوية، والأطباء يأمرونهم بأن يسكنوها، ومن الخشونة والهمجية أن يداس حق الضعفاء إرضاء للأقوياء.
فقال سليم: فما الحيلة لإرضاء الفريقين؟ أليس هناك يا ترى طريقة جامعة؟
فقال فاضل: كنت أفكر منذ مدة في هذا الأمر حين سماعي ذلك الخبر، فحللت هذه المشكلة، وذلك أن يبنى فوق القرية تحت الأرزات التي هناك (مستشفى للمرضى) مؤلف من عشرين أو ثلاثين غرفة جامعة لكل الشروط الصحية على نسق المستشفيات الصحية للمسلولين في أوروبا (سانتوريوم)، وحينئذ يجتمع المرضى من تلقاء أنفسهم في هذا المستشفى بدل أن ينتشروا في منازل القرية ، ويخاصموا الأهالي لاستئجارها.
2
فقال كليم: لقد أصبت؛ فإن هذا خير حل، وحينئذ يكون من حق الأهالي إجبار المرضى على الانفراد بذلك المستشفى، وإلا فكل مقاومة منهم تعد خشونة وقسوة؛ إذ الأرض ليست أرضهم ولا الهواء هواءهم، بل هما لله؛ أي إنهما مشتركان بين جميع البشر، وإذا لم يقم أحد لبناء هذا المكان الصحي، فإنني أؤكد أن الحدث لا يقصدها في المستقبل غير المرضي فتخسر خسارة غير قليلة.
فقال سليم: نعم، إن السل آفة هائلة، والناس يرهبونه كما يرهبون نيران جهنم.
فقال حنانيا: ولكن من أين تنشأ هذه الآفة المهلكة التي كثرت في بلادنا؟ ثم أليس من دواء لها؟
فقال سليم: لقد اطلعت منذ أسبوعين على آخر الأبحاث والآراء في هذه الآفة، ومنها يظهر أن السل يصاب به نصف البشر على الأقل، فبعضهم يشفى منه دون أن يدري به
3
وبعضهم يموت؛ ولذلك سموه (داء الإنسانية)، وفي فرنسا وحدها فقط يموت به في كل عام 150 ألف شخص، أما سبب هذه الآفة فهو الإفراط في كل شيء، الإفراط في السكر، الإفراط في الزواج، الإفراط في التعب والهم، الإفراط في السهر، وسوء المعيشة وقلة الغذاء وفساد الهواء ... إلخ. ويقولون إنه ينتقل بالوراثة، وهذا رأي ضعيف، وكأن آفة السل تمثال أسود للشقاء والعذاب منصوب في ساحة تؤدي إليها كل طرق الشقاء والغلو والإفراط والفساد.
أما دواء هذا الداء فبسيط جدا، وأنا أحب أن ينادى على السطوح على مسمع من جميع المرضى المساكين أن داءهم قابل للشفاء خلافا لما بلغهم، بل إن شفاءه أسهل من شفاء الحمى التيفوئيدية والجدري وغيرهما، ولكن على شرط أن يتدارك من أول ظهوره، فقولوا للمرضى به: لا تحزنوا ولا تخافوا، إن داءكم بسيط إذا أحسنتم مداواته، ولكن إذا أهملتموه قضي عليكم لا محالة.
وإن قيل: كيف تحسن مداواته؟ فالجواب: لا دواء له غير شيء واحد، وهو (الهواء النقي والغذاء الكافي)، أما ما يقال عن العلاجات والأدوية فهو كله تدجيل في تدجيل، وكثيرا ما تناول المصدورون أدوية فنفعتهم شهرا أو شهرين ثم انتكسوا بعد ذلك من فعل الأدوية، وانتهى أجلهم.
4
فترك الدواء إذا هو كل الدواء، ومعرفة وقت ابتداء الداء هي السر الوحيد في الشفاء.
ولا ينبغي للمسلول أن ييأس من شفائه أبدا؛ فإن بعض الأطباء داوى بعض المرضى بالسل 20 سنة، وكانوا ينفثون الدم مع البلغم، ومع ذلك رزقوا أولادا وعاشوا عمرا طويلا، ولكن المسلول العازب عليه أن لا يتزوج، وإن تزوج ولم يكن (حكيما) غلبه داؤه.
أما النساء المسلولات فالحبل فقط يضرهن ضررا شديدا ويغلب داءهن عليهن، ومن ذلك كله يظهر أن الاعتدال وحسن المعيشة في الهواء النقي الجاف في الجبال مع قليل من الرياضة الخفيفة هي الدواء الوحيد الشافي من هذا الداء.
وما أتى سليم على هذا الكلام حتى نظر أبو مرعب راكضا نحو الحرش ينهب الأرض نهبا؛ فاشرأبت إليه الأعناق وقال كليم: خير إن شاء الله ما وراء أبي مرعب! ولما وصل أبو مرعب صاح وهو يلهث تعبا: هل بلغكم الخبر؟ فقالوا: ماذا؟ فقال: قد وجدنا كنزا. فقال سليم: وما هذا الكنز؟ فقال أبو مرعب لاهثا: كنز عظيم. فقال كليم: فأخبرنا ما هذا الكنز؟ فجلس أبو مرعب وقص عليهم ما يلي:
كنت الآن هناك مع ترجمان الجماعة، وإذ كنت أسأله عن المستر كدن، نكدن، كيف يلفظ اسمه؟ فأجاب كليم: (كلدن). فقال: تمام (كلدن)، فأجابني الترجمان أنه غني عظيم تقدر ثروته بخمسين مليون ليرة، وإذ كنت أسأله عن أخلاقه وصفاته أخبرني خبرا غريبا، فقال لي: إن هذا الرجل يخرج في السنة مرة من بيته في شيكاغو إلى المدينة وجيوبه ممتلئة بأوراق البنك، ولا يزال يوزع منها على الذين يجدهم في طريقه حتى تنفد، فربما وزع مليون فرنك في ذلك النهار؛ ولذلك يسميه الناس نهار كدن ... نكدن، كيف اسمه؟ فقال سليم ضاحكا: (كلدن). فقال أبو مرعب: نعم نعم (نهار كلدن)، وقد أخبرني الترجمان أن الذي ابتكر هذه الطريقة وحثه عليها شاب مستخدم في محله يدعى (المستر كرنيجي)، وكثيرا ما يرافقه في ذلك النهار، فما قولكم إذا جاء صاحب الملايين غدا وعلم بأنني أنقذت رجال حاشيته، ألا (يفتح يده) ويرينا جوده وكرمه؟
فضحك الحاضرون، وقال سليم: أشير عليك يا عمي أبا مرعب أن تطلب منه أن يصنع (نهار كلدن) مرة في الحدث. فقال أبو مرعب: والله هذا رأي في غاية الصواب، وسنطلب ذلك منه كلنا. ثم نهض أبو مرعب وأسرع ليجتمع ببعض رفاقه من أهل القرية ويتفق معهم على هذا الطلب.
فلما غاب عن أصحابنا التفت كليم إلى حنانيا وقال: ماذا تفعل يا حنانيا إذا صنع المستر كلدن (نهاره) في الحدث؟
فأجاب فاضل عن حنانيا: أعوذ بالله! إن صاحبنا حنانيا يقطع نفسه عشرين قطعة في ذلك اليوم ليصادفه صاحب الملايين عشرين مرة.
وكان حنانيا يضحك في أثناء ذلك وهو ساكت.
ولما عاد الأصحاب الأربعة من الحرش وجدوا خمسين قرويا جالسين حول أبي مرعب تحت بيته وهم يبحثون في طريقة يقنعون بها المستر أن يصنع (نهاره) في الحدث، وقد أخذوا منذ تلك الساعة يلاطفون رجال حاشيته ويكرمونهم أحسن إكرام، وما برحت المصالح تغير قلوب الناس في كل زمان ومكان.
هوامش
الفصل السابع
لا تريد المرور على بيروت
وفي هذه الأثناء كان المستر كلدن وزوجته وابنتان لهما وحاشيتهما الكثيرة صاعدة على الطريق عند دير حنطورة الموصلة إلى عين السنديانة.
وكانت الابنتان في مقدمة الركب وكل واحدة منهما على جواد، ووراءهما أمهما على جواد أيضا، يليها الأب على فرسه وبجانبه وكيل أشغاله، ووراءهم الحاشية والخيام والبغال تحمل الأثقال.
وكان المستر كلدن كهلا في الخمسين من العمر، وهو جميل الوجه، طويل القامة، أحمر اللون، أشقر الشعر، متقد العينين بالذكاء الأميركي المعروف، وفي كل حركة من حركاته وكل كلمة من كلماته شيء يدل على النشاط والحدة.
أما زوجته فقد كانت في نحو الثلاثين من العمر، وكانت بيضاء الوجه كالثلج المعمم قمم لبنان، سوداء الشعر والعينين، رشيقة القوام كغصن البان، خفيفة الحركة فوق جوادها الرشيق كأنها غزال على غزال.
فكان هذا الزوج وزوجته يمثلان ضربي الحسن في العالم: الحسن الأميركي الأشقر والحسن الشرقي الجامع بين اللون الأبيض الناصع واللون الأسود الفاحم.
والغريب أن ابنتيهما جاءتا واحدة على شكل أمها وواحدة على شكل أبيها، وكانت إحداهما في التاسعة من العمر والأخرى في السابعة، وكانتا ثابتتين على ظهر جواديهما ثبات الفوارس، ولا عجب في ذلك؛ لأنهما ربيتا تربية أميركية.
ولما حاذى الركب دير حنطورة كان المستر كلدن في حديث مع امرأته، وقد تنحى عنه وكيل أشغاله، وكان يقول لها: لماذا تكرهين بيروت يا إميليا إلى هذا الحد؟ حقا إنني صرت أخجل من قومي فيها لعدم استقبالنا إياهم. فأجابت زوجته والحزن باد في وجهها: حقا إنني ندمت يا جورج على سياحتنا هذه. فقهقه المستر كلدن وقال: كيف تندمين الآن بعد أن بكيت سنتين على هذه الزيارة، وفي كل يوم كنت تتنهدين وتقولين: هل أرى بلادي مرة قبل أن أموت؟ فقالت إميليا والدموع في عينيها: لا تمزح يا صديقي في مسألة كهذه المسألة؛ فإن قلبي في غاية الألم. نعم كنت أشتاق في بلادنا إلى البلاد التي ربيت فيها، ولكني أول ما وصلت إليها تغير قلبي فعلمت حينئذ أنه قد كتب لي التعاسة على هذه الأرض؛ فإنني إذا أقمت في بلادنا أميركا شعرت أنني غريبة فيها، وإذا جئت بلادي الأصلية شعرت أيضا أنني غريبة، فشأني شأن طائر نسفت الزوابع عشه واستأصلت الشجرة التي كان يأوي إليها، فلم يبق له أمل في الراحة وإن وجد عشا أحسن من عشه الأول، وشجرة أفضل من شجرته الأولى، وليس معنى كلامي هذا أنني غير راضية بحالتي الحاضرة، فإنني من فضلك ونعمتك في ألف فضل وألف نعمة، ولكن ماضي شديد الضغط على نفسي.
وهنا انحدرت الدموع من عيني إميليا، فصاحت بها ابنتها الأولى: عدنا إلى البكاء يا ماما، إذا لم تسكتي فإنني أبكي أيضا. وقال لها زوجها: الحق أقول لك يا عزيزتي، إنني لا أعرف سببا لهذا الحزن واليأس، فإنك تعلمين أننا صنعنا كل ما في إمكاننا فلم نعثر على أثر لأبيك، وقد عرضت عليك ألف مرة أن ننتقم من أعدائه فكان جوابك: ما الفائدة من الانتقام؟
فهنا أغرقت إميليا في البكاء وقالت: نعم، ما الفائدة من الانتقام؟ فإنه لا يرد لي أبي، ولو عثرت على أبي فربما كنت طاوعتك على الانتقام إرضاء له؛ لأنه تعذب كثيرا في أثناء حياته، ومن العدل أن يعذب معذبوه، وإن كنت لا أحب عدلا كهذا العدل، ولكن ماذا كان جواب الباحثين عنه في جبهات البرازيل؟
قال: لم يجدوا له أثرا، وأنت تعلمين أنني نشرت منشورا في جميع أقطار الأرض في الشام ومصر وأوروبا وآسيا وأفريقيا، ووعدت بدفع مائتي ألف ريال جائزة للذي يجد (الخواجه متى حاروم) ويدلنا عليه، وها قد مر على هذا المنشور سنوات، وألوف من الناس يبحثون عبثا؛ طمعا في الجائزة، فاعتقدي يا حبيبتي بعد الآن أن أباك الكريم قد توفي إلى رحمة الله وسبقنا إلى الآخرة؛ لأنه من المحال أن يكون حيا ولا نعثر عليه بعد هذا التفتيش، ولا تنسي أننا كلنا ضيوف في هذه الأرض، وأن وطننا الحقيقي فوق، فتعزي ولا تحزني حزن الذين لا رجاء لهم.
فأطرقت إميليا برهة تبكي بسكوت، ثم قالت: ليس بكائي للموت، بل بكائي للغلطة العظيمة التي ارتكبتها، وهذا ما يعذبني ويضغط على نفسي وضميري؛ فإنني تركت أبي في أشد الأوقات عليه، حين تخلت عنه الأرض والسماء، وابتعد عنه الأقربون والأبعدون، فكنت أقساهم عليه وأجحدهم لجميله؛ لأنني كنت أقربهم إليه، وإنني أخشى أن يكون قد مات في الشيخوخة والضعف والفقر والوحدة وهو يلعنني.
فهنا رام كلدن أن يصرف فكر زوجته عن هذه التذكارات المحزنة، فقال ضاحكا: أما أنا فلا أعتبر سفرك من بلادك إلى أميركا غلطة يا إميليا؛ لأنني لولا هذا السفر لما التقيت بك واقتنصتك، فأنا أشكرك لتلك الحدة التي حملتك على السفر، ولا يزال يحلو لي أن أتذكر معك اليوم الذي لقيتك فيه في واشنطن.
فقالت إميليا مبتسمة: دعنا من هذه الذكرى. فقال: لا، بل دعيني أتكلم بحياتك، فقد خرجت في ذلك اليوم لأعمل (نهار كلدن) ومعي المستر كرنيجي كاتم أسراري، فبعد أن ذهب نصف ما في جيوبي من الأوراق وصلت إلى الساحة القريبة من دار الحكومة، فوجدتك سائرة في طريقك مع إحدى بنات جنسك، فمددت يدي إليك بورقة قيمتها خمسمائة دولار، وقد فعلت في عيناك ما لا يفعله السحر؛ ذلك أنكم أنتم الشرقيين لا تعرفون مبلغ التأثير الذي يؤثره فينا الجمال الشرقي الخاص بكم، فكان جوابك أنك رفعت يدك ولطمتني على وجهي لطمة أرتني (نجوم الظهر) كما يقولون في لغتك؛ لأنك ظننت أنني رجل بذيء يقصد إغواءك بماله؛ فكبر قدرك منذ ذلك الحين في عيني، وأريتني بهذا الفعل جمالك الأدبي بعد أن رأيت في وجهك جمالك الأنثوي، وأنت تعرفين التتمة، فبالله خبريني كيف اجترأت على لطم رجل قوي مثلي قادر على سحقك بقبضة واحدة؟
فقالت إميليا: تعلمت ذلك من معلمتي في المدرسة، فإنها قصت علينا يوما أن أحد الوقحين عرض عليها في سوق نيويورك مالا فجاوبته بلطمة على وجهه ففر كالهر المطرود. فقال كلدن حينئذ رافعا رأسه افتخارا: هل من ينكر بعد هذا فضل مدارسنا في الشرق؟!
وقد سر المستر كلدن من أجوبة زوجته؛ لأنه قدر بذلك على صرف أفكارها عن موضوعها الأول، ولم يعد يسألها لماذا كانت تكره الإقامة في بيروت والسفر إلى صور وصيدا.
الفصل الثامن
الفلسفة والمكاري بطرس
قصة أمين
وبينما كان كلدن وزوجته صاعدين مع حاشيتهما إلى الحدث كان سليم وكليم يتأهبان للسفر منها إلى الأرز؛ لأن أصدقاءهما في أهدن سافروا إلى الأرز وبعثوا يستعجلونهما، فقال لرفيقه: سنتعرف بالمستر كلدن بالأرز، فهلم بنا نسافر؛ لأن الإقامة هناك تحت ظل الأرز العظيم أفضل من الإقامة هنا.
ولما دخل سليم وكليم لتوديع صديقهما أمين ظهر الحزن في وجهه، وكان قد ازداد ضعفا وهزالا، فودعهما وهو يقول: أظن هذا الوداع هو الوداع الأخير. فقال كليم متأثرا: لم نعهد قلبك ضعيفا أيها الصديق، فعلام الخوف وأنت متقدم إلى الصحة إن شاء الله؟! فهز أمين رأسه وقال: هل تظن أنني أخاف الموت؟ كلا، فإن الموت راحة لمن كان مثلي، وإنما أتأسف لأمر واحد. قال ذلك وانحدرت الدموع من عينيه، فترقرق الدمع في عيني سليم وكليم، وقال كليم: ما هو هذا الشيء؟ فقال أمين: هو أن أخرج من هذه الحياة قبل أن أنتقم من الظالمين.
ففهم كليم مراد أمين في الحال وأجابه: كن على ثقة أيها الصديق أنك ستشفى وتنتقم لنفسك، فإن الله أعدل من أن يسحق المظلومين ويرفع الظالمين، وإذا افترضنا المحال وقويت عليك علتك لعدم مداراتك نفسك، فاعلم أن الظالم سيسقط من نفسه؛ لأن كل ما يبنى على الظلم فهو مهدوم، والبغي مصرعه وخيم.
فهز أمين رأسه وقال: وا أسفاه! إنني لا أرى هذا الأمر واضحا كل الوضوح في الحوادث البشرية. ثم انطرح على فراشه يفكر والدموع ملء عينيه، وكان منظره حينئذ كمنظر جندي سقط قتيلا في ساحة العراك في آخر النهار.
أما سليم وكليم فإنهما ركبا بغلين قويين وانحدرا من الحدث قاصدين وادي حصرون، وكانا هذه المرة ساكتين يفكران بكلام الصديق أمين، فسأل سليم رفيقه: هل من مانع يمنعك عن إطلاعي على مراد أمين بكلامه الأخير؟ فقال كليم: كلا، ولكن ليست هذه القصة جديدة في الأرض، فإنها قصة كل المغلوبين والمقهورين والمظلومين فيها، إنها قصة العراك الأبدي الذي بين الناس، وهو ما يسمونه (تنازع البقاء)، فإن أمين كان من موظفي الحكومة، وكان محبوبا مسموع الكلمة لذكائه وعقله، وكان على وشك الاقتران بفتاة يحبها وهي ذات دوطة طائلة، وكان أحد تجاركم في بيروت يطمع في دوطتها، ليصلح بها أحوال محله التجاري المتضعضع، فوشى لدى الحكومة سرا بأن أمين يعاون حزب تركيا الفتاة ويراسله، فعزل وسجن وأهين، ولم يطلق سراحه حتى ظهر مرضه، أما الواشي فلم يتمكن من الاقتران بخطيبته؛ لأنها تركت الاثنين معا.
فقال سليم: ومن هو ذلك الواشي؟ فقال كليم: هو (الخواجه لوقا طمعون). فقال سليم: هذا تاجر أصله من صيدا لا من بيروت، وقد سمعت الناس يذمونه كثيرا لسوء أخلاقه.
وكان مع الرفيقين في هذه المرة مكار من الحدث، وهو شاب قوي البنية ربعة الجسم يدعى (بطرس)، فسأل رفيقه: هل تمرون على الديمان في طريقكم يا خواجات؟ فسأله كليم: هل اليوم غبطة البطريرك في مصيفه هذا؟ فأجاب بطرس: كلا، بل هو غائب. فقال كليم: فلنمض إذن في سبيلنا.
وكانت يومئذ الدار البطريركية في الديمان دارا يدل ظاهرها على البساطة والقدم، أما اليوم فقد أقيم هنالك قصر فخيم على الطراز الحديث للسلطة البطريركية.
وكأن سليم وكليم راما طرد الأفكار السوداء التي كانت تتردد على ذهنيهما من كلام أمين ووداعه، فقال الثاني للأول: لقد سلانا المكاري جرجس قليلا من قلحات إلى الحدث، فبماذا يسلينا بطرس؟ فقال سليم: اسمع. ثم التفت إلى بطرس وقال له: يا بطرس، لماذا تنادينا خواجات؟ فأجاب بطرس بوجل: إذا كنتم بكوات يا معلمي فأرجو السماح. فقال سليم: ولا بكوات، بل نحن بشر مثلك، فإذا كنا خواجات فأنت خواجه أيضا؛ لأن كل البشر إخوان. فتنهد بطرس وقال: هذا في القول يا معلمي فقط، وما أبعد القول من الفعل! ألا ترى أنكم راكبون وأنني ماش؟! وهذا أول فرق بيننا. فضحك سليم وكليم، وقال سليم لرفيقه: حقا إن مكارينا نبيه. ثم التفت إليه وقال: ما عنيت هذا بقولي، وإنما عنيت أننا وإياك متساوون لدى الحكومة ولدى الله، وإن كان البشر يعطون بعضنا امتيازات دون بعض، فأنت لست بمديون لي بشيء سوى ما تقبض أجرته مني، وأنا كذلك، فالآن أنا راكب وأنت ماش باختيارك وطوعك حسب الاتفاق الذي عقدناه على أن أعطيك أجرة تعبك، فلست إذن أمتاز عنك بشيء سوى أنني تعبت وحصلت مالا أقدر به على أن أريح نفسي من المشي، وبئست هذه الراحة؛ لأنني أفضل أن أتعب مثلك وأكون بصحة كصحتك.
وكان سليم يتكلم وبطرس يظهر الدهشة والاستغراب، ثم أجاب: حقا قلت الصواب يا معلمي. فصاح سليم: رجعنا إلى (معلمي)! أما أنا بشر مثلك، بل أنت الآن معلمي؛ لأنك أقوى مني ونفعتني ببغلك أكثر مما نفعتك. فضحك بطرس وقال: حقا قلت الصواب فيما يختص بالأجرة والركوب، ولكن قولك يا معلمي إننا كلنا متساوون لدى الحكومة والله فيه نظر، فإنني أصدق كل شيء إلا هذا، أما المساواة عند الله فلندعها جانبا؛ لأننا متى وصلنا إلى هناك نبقى نتكلم عنها، وأما المساواة لدى الحكومة فأحب أن تدخل على سعادة القائمقام حين يصيف في الحدث
1
وترى الناس كيف يجلسون في حضرته، وبعد ذلك تبقى تتكلم عن المساواة لدى الحكومة.
فقال سليم: هذا ليس ببرهان؛ لأن الناس كثيرا ما يسيئون في تنفيذ الشرائع، فلا تلصق الإساءة بالشرائع نفسها بل بمنفذيها.
فقال كليم لرفيقه: لا بأس بهذا الحديث إذا كان لا يحدث منه ضرر، ولكني كنت أتمنى أن لا تكون هذه التجربة فينا؛ لئلا نكون أول من يجني ثمارها.
ثم استمر الرفاق الثلاثة سائرين، فقطعوا الديمان وهبطوا في وادي حصرون، وكان بطرس في أثناء ذلك يفتكر في كلام سليم وهو يقول في نفسه: حقا ما أجهلنا نحن سكان القرى! صحيح! ما الفرق بيننا وبين الخواجات والبكاوات والحكام؟! نحن نأكل وهم يأكلون، ونشرب كما يشربون، ونمشي كما يمشون، ونفتكر كما يفتكرون، وندفع ما علينا للحكومة كما يدفعون؛ فلماذا يكون كل الإكرام لهم وعلينا الخدمة والطاعة والذل؟! والله لما أعود إلى القرية ويقول لي البك اعمل هذا أو لا تعمل هذا، فكل جوابي يكون أنني أدير له ظهري، وأهز رأسي، وأمشي في سبيلي.
وفي هذا الحين كان الرفاق الثلاثة قد قطعوا حصرون، ووصلوا إلى نبع ماء على الطريق، ماؤه كالفضة الجارية صفاء والثلج الذائب برودة، فصاح سليم: يا بطرس، ناولنا ماء لنشرب. وكان بطرس يفكر كما تقدم في عبارته الأخيرة، فكان جوابه لسليم أن هز رأسه وأدار ظهره وسار في سبيله.
فقهقه كليم حتى كاد يقع عن ظهر البغل، وقال لسليم: تفضل يا صاحبنا وانظر نتيجة مبادئك.
أما سليم، فإنه غضب وصاح ببطرس: قلت لك ناولني ماء لأشرب. فأجاب بطرس: ولماذا لا تشرب أنت؟ فقال: لأن كأس الماء بعيدة ولا أستطيع الدنو من النبع وأنا راكب. فقال بطرس: هذا أمر سهل، فانزل واشرب. فقال سليم: أنا لا أمزح، وأسالك للمرة الأخيرة أتناولني الماء أم لا؟ فقال بطرس: وأنا لا أمزح؛ لأن مناولتك الماء لم تدخل في الاتفاق الذي ذكرته، فإذا شئت الشرب فانزل واشرب.
وكان كليم في أثناء ذلك لا يزال يضحك، فرغبة في إنهاء هذه المسألة قال لبطرس: طيب هذا الأمر لم يدخل في الاتفاق كما ذكرت، فناولنا الماء ونحن في مقابلة ذلك نسقيك (خمسينية) من عرق بشري.
فضحك بطرس حينئذ وقال: الآن تم الاتفاق. ثم دنا وناولهما الماء.
وبعد الشرب قال كليم لرفيقه وهما سائران: أرأيت نتيجة الحرية والاستقلال والمساواة والإخاء إذا بذرت بذورها قبل أوانها بين طبقات لم تستعد لها؟!
فأجاب سليم: ولكن مع غضبي من صنعه أفضل هذه الحرية التي هي في غير محلها على العبودية والذل والموت المعنوي، ولولا أنني كنت شديد الظمأ، وغلبني غضبي لما لمته، بل كنت أقول له: برافو يا خواجه بطرس، فإن أمثولتنا أثمرت فيك في ساعة واحدة.
فقال كليم: ولكن هنا مذهبان: واحد معك وواحد عليك.
فقال سليم: ولكن مذهبي هو المذهب الصحيح الأبدي الذي انتصر مع الثورة الفرنسوية، هو مذهب الحياة والنور والحرية للطبقات الضعيفة التي تئن تحت نير الطبقات القوية.
هوامش
الفصل التاسع
أرز لبنان
ثم جد الرفاق الثلاثة في السير فبلغوا بشري فابتاع منها بطرس (خمسينية عرق) على حساب رفيقه حسب الوعد، ثم تسلقوا منها العقبة المؤدية إلى جبل الأرز العظيم.
ولما قطعوا تلك العقبات الطويلة التي يلي بعضها بعضا، وصعدوا إلى مساواة الحرش، بان لهم الأرز من بعيد، فأشرق وجه سليم وكليم ابتهاجا وسرورا، وصارا ينظران إلى الأرض التي تطؤها حوافر بغليهما نظرهما إلى أشياء مقدسة.
وكان وصول سليم وكليم إلى الأرز عند غروب الشمس، وكانت الطيور تتوافد من جميع الجهات الجرداء إلى أشجار الأرز لتبيت فيها، وكانت الغربان أشدها ظهورا، فكان يسمع صوتها الناعب من حين إلى حين كأنه صوت الزمان ينعي الأجيال والقرون الماضية.
والأرز عبارة عن حرش متسع عظيم قائم على آكام متعددة تحيط به نصف دائرة من الجبال الشامخة، وأشجاره شديدة الاشتباك، حتى إن الشمس تكاد لا تعرف أرضه، وفي هذه الأشجار ما هو صغير وفيها ما هو ضخم كبير سامق إلى السماء، ويكاد عشرة رجال لا يحيطون بجذعه إذا مدوا أذرعهم حوله، وهم يقولون: إن هذه الأشجار الضخمة الهائلة ترتقي إلى زمن الملك سليمان الذي بنى منها هيكله المشهور في أورشليم، وزمن أفسس التي بنيت من خشبها بعض أماكنها اليونانية القديمة. ولكن هذا زعم لا يؤيده دليل، بل إن علم النبات ينقضه، إلا أنه من المحتمل أن أولئك المتقدمين قطعوا أخشابا من هذا الحرش، وقامت الأشجار الحاضرة على آثار الأشجار المقطوعة أو أشجار تلتها.
أما صفة الأرز فهي كما ترى في الرسم، فإنه عبارة عن جذع شامخ يتوارى عنك رأسه في الفضاء لعلوه، ومن هذا الجذع تتفرع أغصان بخط أفقي كما ترى في الرسم، ويبلغ طول هذه الأغصان أحيانا عدة أمتار، وهي تحمل أكوازا خضراء حرشوفية كرؤوس الصنوبر، بعضها ذكور وبعضها إناث، ثم تنقلب عند البلوغ فتصير حمراء، ولها رائحة طيبة ترتاح إليها النفس فتعطر بطيبها ونشرها هواء على الأرز النقي، ويكون في عقبها بذرتان لحفظ نوعها متى بلغت وسقطت الأرض، والأرز عدة فصائل وأنواع، وهو ينمو في جبال سوريا وجبل حملايا في الهند وجبل الأطلس في أفريقيا، وجبل طوروس في آسيا وفي غيرها من الجبال، ولكن أرز لبنان أشهرها كلها.
والمقرر أن القطع في الحرش ممنوع اليوم قطعيا بأمر من حكومة الجبل، حتى إن الزائر لا يستطيع أن يقصف غصنا ليأخذه تذكارا من الأرز إلا في السر أو بمبلغ يدفعه إلى الحارس، ولقد أحسنت الحكومة في هذا المنع حفظا لهذا الأثر الجليل، ومما يذكر لها بالشكر أيضا أنها سورت الحرش كله بسور من الحجارة والطين لمنع الدواب من الدخول إليه، ولكنها مع ذلك تدخله، وهذا السور صار اليوم متهدما، وهو لانخفاضه يتسلقه الولد بسهولة؛ لأنه لا يعلو عن متر واحد.
ومن الأسف أن الحكومة لا تزرع في هذا الحرش الكبير أرزا جديدا ليقوم مقام الأرز القديم متى شاخ وانقرض في القرون القادمة، والأشجار التي تنبت من نفسها في الحرش قليلة جدا، ولكن في جهات أخرى فوق الحدث في واد إلى الجنوب، وفي أماكن أخرى في أعالي لبنان أحراشا واسعة مؤلفة من أرز صغير آخذ في النمو، فلا ريب أنه سيقوم مقام الأرز الكبير في القرون القادمة. وربما وقف سائح بعد 500 أو 800 سنة في الحرش الذي وراء الحدث في الوادي، وصار يتساءل ويستنطق التوراة وكتب التاريخ؛ ليعلم هل قطع سليمان الخشب لهيكله من ذلك الحرش أم من سواه؟
وسواء قطع سليمان الخشب من الحرش الكبير أو من سواه، فإن السياح الإفرنج من أمراء وعظماء وعلماء يتقاطرون على هذا الحرش ويزورونه باحترام عظيم، والغريب أنهم يفدون لهذا الغرض من أقصى الأقطار، مع أن جيران الأرز في الشام ومصر لا يعرفونه. ورجال الدين منهم يصلون هناك بخشوع، ويعتبرون أجر الصلاة فيه مضاعفا، وجميعهم ينقشون أسماءهم أو بعض حروفها على جذوع أشجاره، فغطوا بها كثيرا منها، حتى صدر الأمر بمنع ذلك حفظا للأشجار، والزائر يشاهد إحداها مكشوطة القشرة بفأس أو سكين على قدر شبر أو أكثر وفيها اسم منقوش، فلا نعلم كيف أن ذلك القاسي البارد ناقش هذا الاسم طاوعته يده على طعن تلك الأرزة المقدسة الجميلة هذه الطعنة في صدرها!
الفصل العاشر
ليلة باردة تحت أشجاره «بلا فراش ولا غطاء»
فدخل سليم وكليم إلى دائرة الأرز مشيا على الأقدام، وتبعهما بطرس مع بغليه، فربطهما وراء غرفة صغيرة مبنية على انفراد بإزاء الكنيسة القديمة القائمة في شمالي الأرز.
وقد افتقد سليم وكليم أصحابهما الذين بعثوا في طلبهما فلم يجدا لهم أثرا فاستغربا ذلك، وكان في الغرفة التي أشرنا إليها عائلة مؤلفة من امرأتين وبضعة أولاد، ولم يكن في الأرز غيرهم، فسألاها فأجابتهما أن قوما كانوا نازلين في الأرز قوضوا خيامهم في ذلك الصباح وساروا في جهة الجنوب؛ ليقيموا هناك يوما أو يومين.
فاستاء الرفيقان من ذلك؛ لأنهما لم يجلبا غطاء ولا فراشا، ولكنهما تذكرا الكنيسة؛ لأن المسافرين ينامون فيها، فقيل لهما إن أمين مفاتيحها غائب ولا يعود إلا في اليوم التالي.
وكان قد أمسى المساء وهبط الظلام، وبرد الهواء بردا قارصا، فصار كليم وسليم يضحكان من نفسهما؛ لأنهما سيضطران إلى النوم على أديم الأرض تحت السماء!
1
ولكن جوعهما ذكرهما بالطعام قبل الرقاد، فاختارا أرزة عظيمة قائمة بجانب الغرفة المذكورة إلى الشمال، فبسطا تحت جذعها بساطا كان معهما، وتناولا طعامهما من الخرج وجلسا، فجلس بطرس بجانبهما يأكل معهما، وكانت السيدتان صاحبتي ذوق فأحضرت إحداهما قشا وحطبا، وأشعلته بجانب كليم وسليم لطرد البرد والظلام.
أما بطرس ففي أثناء ذلك كان يقول للسيدتين وفمه ممتلئ بالطعام: عافاكم عافاكم. كأن السيدة صنعت ذلك إكراما له.
ولما حان وقت الرقاد بسط الرفيقان بساطهما بجانب جذع الأرزة؛ ليتقيا به الريح الباردة التي كانت تهب من المشرق واردة من قمم رأس القضيب وفم الميزاب، ووضع كل واحد منهما كيسي الخرج تحت رأسه وتغطيا بغطاء خفيف كان معهما اتفاقا.
ويظهر أن غربان الأرز كانت تنظر إليهما حينئذ من أعلى الأشجار؛ لأن اثنين منهما أخذا ينعقان، فخيل للرفيقين أن صوتهما عبارة عن قهقهة وضحك من نومهما على هذا الفراش.
ولما درت السيدتان أن الرفيقين سينامان تلك (النومة المكربة)، خرجتا إليهما ودعتاهما إلى النوم في الغرفة خوفا عليهما من البرد، فامتنع سليم وكليم عن ذلك تأدبا؛ إذ لم يكن مع السيدتين رجال، ولكن صاحبنا بطرس دب حينئذ في جسمه برد شديد، وصار لا يطيق النوم في الخلاء، فقال: أنا أقبل دعوتكما بشكر. ثم حمل غطاءه واتجه نحو الغرفة، فصاح به سليم وكليم: يا بطرس، كيف تترك بغليك خارجا؟ ألا تخاف عليهما من ذئب أو ضبع؟ فأجاب: لا؛ فإنكما على مقربة منهما ...
فقال سليم حينئذ: كثر الله خيرك. أما كليم فإنه كان يقهقه ويقول لرفيقه: ضبط إذا كنت تقدر على مبادئ الديموقراطية التي تدعو إليها.
وهكذا نام بطرس في الغرفة مع السيدتين وبقي سليم وكليم في البرد والظلام يحرسان نفسيهما والبغلين.
وفي الحقيقة إن الرفيقين لم يناما في تلك الليلة نوما هنيئا، فكانا كالأسد ينامان بعين ويسهران بعين خوفا من الطوارئ، وكان ذلك السكون التام في هدوء الليل وسط جبال شاهقة وأحراش متسعة وجهات مقفرة؛ مما تجعل نفس أقوى الأقوياء في حذر دائم، سواء كان ذلك من اللصوص أو الوحوش.
ويظهر أن خوف سليم وكليم كان في محله، فإنه لم تدخل الساعة الثالثة بعد نصف الليل حتى انتبه سليم على صوت فرقعة، فرفع رأسه قليلا فلم ير شيئا، ولكنه سمع صوتا كصوت كلب يقضم عظما، ثم تلا ذلك صوت البغلين يرفسان ويجفلان، وقد قطعا قيادهما وأخذا يهيمان بين أشجار الأرز، فحينئذ انتبه بطرس وخرج من الغرفة وصاح: ذئب! ذئب! فهب الرفيقان مذعورين؛ إذ لم يكن في يدهما سلاح حتى ولا سكين تجرح، ولكن من حسن الحظ كان لدى السيدتين بندقيتان لرجلهما الذي كان قد سافر إلى بشري في ذلك اليوم، فتسلح سليم وكليم بالبندقيتين، وبذلك عادت إليهما قوة الأبطال.
ولما لم ير للذئب أثر قضى الجماعة بقية الليل في السهر خوفا من غدره، فلم يلبث الصباح أن ذر قرنه وهبت نسماته أبرد من الثلج، وانتبهت الطيور في أعالي الأشجار تستقبل الفجر بأصواتها المختلفة، فقال سليم لرفيقه: لا أعلم كيف تطلع علينا شمس الغد؟ فإننا تعبنا وسهرنا ونمنا في البرد. ولكن لما أصبح الصباح وتعارفت الوجوه هب سليم وكليم يمشيان بقوة ونشاط فوق العادة، فاستغربا ذلك، وعجبا من جودة ذلك الهواء النقي الخارج من يد الله كما صنعه الله، يجدد القوى ويملأ النفس نشاطا وارتياحا.
وبعد أن غسل الرفيقان وجهيهما بماء يستقى من نبع قريب من الأرز قال سليم: إن هذا الذئب قد أخافنا في الليل وأنا من المغرمين بالصيد، فهلم بنا نأخذ البندقيتين وشيئا من الرصاص، ونصعد إلى الجبال التي فوقنا، فإننا نصطاد فيها ونتفرج بمشاهدتها، ونروض أجسامنا باجتيازها، ونتغذى من لبان المواشي التي ترعى بها، وإذا وجدنا الذئب في طريقنا فالويل له.
فطاوعه كليم على ذلك فأخذا البندقيتين وسارا وقد تركا بطرس في الأرز في أحسن رفقة على أن يعودا في المساء، وكان اتجاههما إلى جهة الشرق نحو رأس القضيب وراء الأرز، وهو جبل مشرف عليه، وعلوه نحو 9 آلاف متر عن سطح البحر. وهو مقابل «لفم الميزاب» الذي يعلوه ألف قدم.
هوامش
الفصل الحادي عشر
الوحش . الوحش . الوحش
ملك رأس القضيب وفم الميزاب
وقطع الرفيقان المسافة بين الأرز وسفح الجبل يصطادان ما يجدانه، فأصابا غرابين وثعلبا، وبينما كانا واقفين على أحد الرعاة يحلب لهما لبنا، وإذا بالراعي صفر صفيرا شديدا، فهبت كلابه كالبرق الخاطف، ثم أشار الراعي إلى سفح الجبل، وقال: أنظرتم ذلك الذئب؟
فأبصر الرفيقان حينئذ شبحا بعيدا هيئته كهيئة الكلب يثب من صخرة إلى صخرة في سفح الجبل.
فشرب سليم وكليم لبن الشاة على عجل ثم اتجها نحو الذئب.
وكانت الشمس قد ظهرت حينئذ من وراء الجبال العالية فصار الجبل (يدخن) من تأثير حرارتها، فضحك كليم وقال: اصعد فهذا طور سيناء يعممه الضباب. فقال سليم: لا تشغلنا بالمزاح الآن وإلا فاتنا الذئب. ويظهر أن الذئب قد رآهما؛ لأنه أخذ يعدو عدوا سريعا موغلا في الجبل.
فجد سليم وكليم في طلبه، وهو تارة يظهر وطورا يغيب، واستمر على ذلك نحو نصف ساعة حتى كلت قواهما، وكان الذئب يتلفت ثم يجد في العدو فيخيل لهما حين لفتته أنه يضحك منهما، ويقول لهما: «أراه غباري ثم قال لها الحق.»
ولكن هذا الطراد لم يستمر وقتا طويلا، فإن الضباب كان قد تكاثف على الجبال المجاورة، وصارت الريح تسفيه نحو سليم وكليم، ولم يمض ربع ساعة حتى أقبل عليهما مسرعا، وغطى الجبل وأحاط بهما من كل جانب، فلم يعودا يعرفان الطريق،
1
وكانا قد قطعا ثلثي الجبل والذئب أمامهما، ولا تخلو تلك الأماكن المقفرة من غيره من الوحوش، فصارا يسيران رجوعا على غير هدى راضيين من الغنيمة بالإياب، سالمين من مفاجأة الوحوش والذئاب؛ لأنهما كانا لا ينظران شيئا أبعد من عشرين قدما، فأشبها في هذه الحالة رجلين مكتوفين ملقيين لسباع البر؛ لأن سلاحهما وأيديهما التي كانا يعتمدان عليها لم تعد تجديهما نفعا.
وكانا من حين إلى حين يطلقان بندقيتهما في الفضاء إرهابا وإبعادا للوحوش عنهما.
وبينما هما سائران كعميان يتلمسون الطريق، وقد تكاثف الضباب فيها حتى لم يعد يرى أحدهما موضع قدمه، وإذ هوت أقدامهما في واد صغير فسقطا، وانطلقت البندقيتان في سقوطهما، ولولا رحمة الله لقتلتهما، ولكنهما لم يكادا ينهضان مترضضين حتى سمعا طلقا ناريا قريبا منهما في بطن الوادي وصائح يصيح بصوت أجش: الوحش الوحش الوحش.
فانقطعت حينئذ أنفاسهما وجمدا في مكانهما يتوقعان أمرا جديدا.
فلم يلبث أن لاحت لهما من خلال الضباب المتكاثف على قيد ذراعين منهما صورة هائلة.
فإن وحشا هائل الجثة منتصبا على قدميه مغطى جسمه بالشعر، وله وجه كوجوه البشر حوله شعر كثيف طويل ولحية مخيفة، كان واقفا أمامهما وقفة الأسد ينتظر فريسته.
فكاد دمهما حينئذ يجمد في عروقهما خوفا وجزعا، ومد سليم يده إلى بندقيته، ولكنه تذكر أنها كانت فارغة.
أما ذلك الشخص الهائل، فكأنه فهم فكر سليم، فرفع بندقيته في الفضاء كتهديد وإنذار، وصاح بصوته الأجش: الوحش الوحش الوحش، فعجب حينئذ سليم وكليم من أن ذلك المخلوق الغريب قادر على النطق كالبشر، فرأيا حينئذ وجوب المجاملة، فأخفيا جزعهما وابتسما، وقال كليم: العوافي يا عم.
فأجاب ذلك المخلوق الهائل: الله يعافيك، ماذا تفعلون هنا؟
فثاب الرشد حينئذ إلى سليم وكليم وتحركت نفسهما للدخول في الحديث معه، فأجابا: نحن نتصيد وقد فاجأنا الضباب وأدركنا الجوع، فهل لديك طعام؟
فقال الرجل: عندي طعام، ولكن لماذا دخلتم إلى هنا من غير إذن مني؟
فقال سليم: كنا قادمين لاستئذانك، فالحمد لله أننا لقيناك هنا.
فقال الرجل: فإياكم مرة أخرى أن تدخلوا هذا المكان من غير إذني.
فأجاب سليم وكليم: أمرك يا عم.
وفي هذا الحين هبت ريح شديدة من جهة الشرق، فكنست الضباب عن الجبل ودفعته إلى جهة الأرز، فانجلى المكان للأنظار، فوجد سليم وكليم نفسيهما في واد صغير واسع الأديم، وعليه في جانبه العالي كوخ صغير مستور عن الأنظار لأنه على مساواة الجبل.
فمشى الرجل الهائل نحو الكوخ قائلا: تعالوا لأطعمكم. فخيل لسليم أنه قال: تعالوا لأكلمكم. لأنه خاف عاقبة السير معه إلى حيث يقصد، وذكر في تلك اللحظة حكايات الغول والجن التي سمعها في صغره من العجائز والشيوخ، وكيف أنها تأكل الناس، فقال لرفيقه مازحا في إبان الخطر إظهارا للقوة: ما جئنا نسمن أجسامنا في الأرز لكي نجعلها طعاما لوحش كهذا الوحش.
وكان الرجل الهائل قد بلغ كوخه في طرف الوادي ودخله، ثم خرج ومعه بيضتان وكسرتا خبز، فوضعهما على حجرين بإزاء الكوخ، وأومأ إلى الرفيقين قائلا: تعالوا كلوا.
وكان سليم وكليم لا يزالان جامدين في مكانهما يتشاغلان بإصلاح ملابسهما، فلم يريا مناصا من إجابة الرجل إلى دعوته، فتقدما نحو الحجرين بجانب الكوخ وجلسا، أما الرجل فإنه جلس بإزائهما بعيدا عنهما نحو ثلاثة أمتار.
فحدق به الرفيقان هذه المرة جيدا فذهب عنهما حينئذ شيء من الجزع والخوف، فإن ذلك الرجل كان إنسانا لا يختلف عن باقي البشر، إلا بكونه يلبس رداء مصنوعا من جلود الغنم إلى ركبتيه، وليس على جسمه لباس غيره، وكان وجهه محاطا بشعر كثيف طويل شاب أكثره، ولكن في عينيه وملامحه دلائل الهدوء والتأمل والانكسار. وما هذه بعلامات الوحوش أو قطاع السبيل؛ فسكن حينئذ بال الرفيقين، وقال سليم لكليم: هلم ندخل معه في الحديث، فإنني أرى لهذا الرجل شأنا يذكر.
فالتفت إليه كليم وقال: هل مضى عليك وقت طويل في هذا المكان يا عم؟ وكان الرجل حينئذ مطرقا إلى الأرض يتأمل ويفكر بما قام في نفسه لدى مشاهدته هؤلاء البشر القادمين من المدن، فرفع رأسه لسؤال كليم وأدار فيه عينين متحمستين وأجاب: أقيم هنا من حينما جئت إلى هنا. فقال سليم: ومتى جئت إلى هنا؟ فتنهد الرجل وأجاب: من حين تكوين العالم.
فنظر سليم إلى رفيقه بدهشة، فقال الرجل: ما لك لا تصدقني؟ قلت لك إنني هنا من حين تكوين العالم، فإذا كنت نبيها فافهم، وإلا فاسكت وأرحني.
فقال كليم: عفوا يا عم واسمح لي أن أكلمك بحرية، إننا حين نظرناك أول مرة دهشنا لإقامتك منفردا في هذا المكان، أما الآن فيظهر لنا من كلامك أنك في شأن عظيم، فهل تكرم علينا وتفيدنا شيئا؟
فلما سمع الشيخ هذا الكلام اللين أطرق إلى الأرض بانكسار وصار يفكر، ثم رفع رأسه وقال: إنني مسرور من لطفك ولين كلامك، وهذه أول مرة في حياتي أرى رجلا عاقلا، ولكن اعذرني فإن سري هائل.
فازداد سليم وكليم رغبة في الوقوف على خبر هذا الرجل الغريب، فقال سليم: نحن أولادك يا عم فلا تحذر منا.
فلما سمع الشيخ كلمة (أولادك) أجفل ونهض كأن أفعى لسعته، وبدا الغضب في وجهه فقال: لا لا، ليس لي أولاد ولا أريد أن يكون لي أولاد.
فقال كليم لرفيقه: لقد هدمت ما بنيناه. ثم التفت إلى الشيخ، وقال: الحق أقوله لك يا عم، إنني لا أستطيع كتمان ما في نفسي، فلا تغضب علينا ودعنا نستفيد منك، إنني أرى في أمرك شيئا مدهشا، ويخيل لي أنني أقرأه في عينيك، فأستحلفك باسم الله أن لا تحرمنا من الفائدة.
فلما فاه كليم بكلمة (الله) أحنى الشيخ عنقه، وجثا على الأرض وعفر خده بالتراب وهو مطبق العينين.
فقال كليم لرفيقه همسا: لقد قبضنا على شيء. ثم قال للشيخ: فالله - سبحانه وتعالى - قد هيأ لنا اليوم فرصة لقياك، ولا ريب أن ذلك بتدبير منه وعناية خصوصية، فهل لك أن تطلعنا على سبب إقامتك هنا إنفاذا لإرادة الله؟
فرفع الشيخ رأسه واستوى جالسا، ثم قال: نعم، ربما كان لله إرادة بهذا الأمر، ولا أخفي عنكم أنني في الليالي الأخيرة سمعت مرارا صائحا يصيح: قد انتهى قد انتهى.
أجل يا إخوان، لقد انتهى ملك الشر والظلم والكذب والرياء والاعتداء في العالم الفاسد، إن الفأس قد وضعت على أصل الشجرة، فكل شجرة لا تثمر ثمرا صالحا تقطع وتلقى في النار.
انظروا هذه المملكة الواسعة التي أمامنا، هذه هي العالم الحقيقي؛ ولذلك قلت لكم إنني ههنا منذ تكوين العالم، فأنا الآن هنا أكون العالم الحقيقي الذي يسود فيه الخير والصلاح، وقد مرت علي سنوات عديدة أهذبه وأؤدبه، فتم لي ذلك بمعونة الله تعالى، وإذا فتشتم هذه الأقطار كلها لا تجدون فيها بين سكانها أثرا لفظائع العالم وشروره الهائلة.
فقال سليم همسا: نعم، لا نجد فيه شيئا حتى ولا سكان. فأجاب كليم همسا أيضا: يظهر أن صاحبنا مجنون.
ثم التفت كليم إلى الشيخ وقال: إنني أعجب يا عم كيف استطعت تهذيب هذه المملكة مع أن الملوك عجزوا حتى الآن عن تهذيب ممالكهم؟
فصاح الشيخ حينئذ بغضب: ويل للملوك ولترتجف عروشهم من غضب الله، ولو كان أصغر الملوك يصنع بمملكته ما صنعته بمملكتي لما بقي فيها شر، فإنني سألت نفسي حين تسلمت هذه المملكة: ما هو أصل الشر؟ فرأيت أن (أصله الوحش الذي في الإنسان)، فإنكم تعلمون أن في الإنسان شيئين: الوحش والإنسان، فالوحش يطلب كل شيء لنفسه ولو مات غيره، والإنسان يشفق على نفسه وعلى غيره أيضا؛ فقلت إن رأس واجباتي كملك لهذه الديار قتل الوحوش لاستئصال الشر، فاقتنيت هذه البندقية، وقد اشتريتها بجلود عشرين ذئبا وأسدين وخمسين ثعلبا وعشر ضباع، وكنت أجلس على هذه الرابية، وكلما رأيت أحدا يعتدي على غيره - أي كلما رأيت الوحش يطمع في ما هو لغيره - قتلته برصاصة واحدة، ففي بدء الأمر قتلت مئات ثم عشرات، أما الآن فقد تناقص الشر، وقلما أقتل في الشهر واحدا.
فارتعدت حينئذ فرائص سليم وكليم، وتحققا جنون ذلك الشيخ التعيس، وصار همهما إظهار التقوى والصلاح والقداسة؛ لئلا يلحقهما بمن فتك بهم جنونه من قبل، أما الشيخ فكان في هذا الحين يسرح نظره في مملكته الواسعة، وإذا به قد صرخ بغتة بصوت كصوت الوحش: الوحش الوحش الوحش، وقام يعدو وبندقيته في يده، فالتفت كليم وسليم وهما مدهوشان إلى الجهة التي سار فيها، فنظرا على أكمة قريبة ذئبين يتقاتلان، فلما خرج الشيخ من واديه أطلق على الذئبين طلقين فصرعهما بالحال، ثم أسرع إليهما فأجهز عليهما وجرهما إلى كوخه وطرحهما أمام سليم وكليم وهو يضحك لفوزه ويقول: كلاهما معتد فأرحنا المملكة منهما.
فتنفس حينئذ سليم وكليم الصعداء؛ لأنهما علما أنه إنما كان يقصد بكلامه الحيوانات لا البشر، وقال كليم حينئذ للشيخ الذي كان يحشو بندقيته: لقد أدهشتنا يا عم بقوتك ونشاطك وصلاحك، فلماذا لا تذهب معنا إلى المدن لمحاربة الشر هناك وتكوين العالم الحقيقي فيها؟ إن مدننا الفظيعة القبيحة محتاجة إلى الإصلاح، فلماذا تحرمها من مساعدتك؟
فعبس الشيخ حينئذ وقال وشرر الغضب تتطاير من عينيه: المدن! ويل للمدن! وويل لي إذا دخلت المدن! فإنني لا أقدر على جمع الوحوش التي فيها؛ إذ ليس لي غير يدين، ولا أقدر أن أمسك بهما أكثر من بندقية واحدة، وبندقية واحدة لا تكفي لإخضاع الوحوش الذين فيها، آه من المدن ومن العذاب الذي ذقته في المدن! لا تصدقوا أنني ولدت هنا، بل إنني ولدت في المدن، وعشت في المدن. ولكن الوحوش فيها أكلتني وطحنتني ففررت منها، كلا يا إخوان، إن صحبة الذئاب والضباع والنمورة في البر أفضل من صحبة الإنسان في المدن، ولكن لا بأس ستأتي نوبة المدن، وحينئذ أدخل إليها - بإذن الله - دخول المنتقم لله من وحوشها الضارية.
فقال سليم: ومتى يكون ذلك يا عماه؟ فقال الشيخ: أما سمعت ما قلته من أن الأمر قد انتهى.
فمنذ هذا الحين وقف سليم وكليم على حقيقة ذلك التعيس، فعلما أنه رجل أضاع صوابه لظلم أصابه، فبرح بلدته وأقام في تلك الجهات المقفرة، وهو يعتقد أن الله ولاه عليها لمحق الظلم والشر ثم يملكه المدن لاستئصالهما منها أيضا.
وقد افتقد سليم وكليم كوخه ومعيشته فوجدا أنه يعيش في أشد الحالات، ورب يوم لا يتناول فيه غير كسرة خبز أسود يصنعه من دقيق يعجنه، ويشويه على النار، أو قطعة من لحم الوحوش (المعتدية) التي يصطادها، وكان يمر عليه في زمن الثلج والشتاء عدة أيام مخبوءا في كوخه الحقير لا يخرج منه لتراكم الثلج عليه في ذلك الجبل، وكان قد تعود احتمال البرد كالحيوانات، فإذا ذاب الثلج قليلا زحف من كوخه وخرج على الثلوج يسير عليها زلقا لا مشيا، كأنه سائح فوق ثلوج القطبين.
فأشفق كليم وسليم أشد إشفاق على ذلك الرجل الذي يعيش في شيخوخته هذه المعيشة القاسية، فصارا يفكران في سبيل لنفعه، وقبل توديعه عرضا عليه نقودا وسألاه ماذا يتمنى، فرد النقود بعظمة ضاحكا، وقال: ماذا أفعل هنا بالمال؟! أما حاجتي فهي أن لا تطلقا النار في مملكتي على أحد إلا إذا كان ظالما معتديا، وإلا اضطررت إلى تأديبكما.
فأخبره حينئذ سليم وهو يضحك في نفسه أنهما لم يطاردا الذئب إلا لأنه هجم عليهما تلك الليلة في الأرز. فقال له الشيخ: إنني أعرف هذا الوحش وهو يسمى (أبا اليد الحمراء) فسأؤدبه قريبا.
هوامش
الفصل الثاني عشر
الجميع في الأرز
ونزل سليم وكليم من رأس القضيب بعد أن وعدا ذلك الشيخ التعيس بأن يعودا إليه لزيارته ما داما مقيمين في الأرز.
وفيما هما منحدران أخذا يتحدثان في أمر هذا الرجل، فقال سليم: لم تبق لدينا شبهة في أنه مجنون، ولكن هل رأيت كيف أن جنونه منصرف إلى أهم مسألة؟ فقال: أي مسألة تعني؟ فقال: مسألة رفع الظلم والضغط عن الناس، فهو يسمي (الوحش) كل عاطفة رديئة تحمل الحي على إضرار حي آخر، والاعتداء عليه طمعا في الفائدة لنفسه، فيا للحكمة والفلسفة في أفواه المجانين! وعندي أن هذا الرجل لم يدرك هذه الحقيقة إلا بالاختبار والمصائب، فيظهر أنه كان تعيسا جدا في حياته، في وطنه كما قال، حتى انصرف جنونه إلى هذه الجهة. فقال كليم: سننبش ذلك في زيارتنا الثانية.
وما قرب الرفيقان من حرش الأرز حتى سمعا ضجة شديدة، وأبصرا الناس جماهير جماهير حول الحرش وداخله، وكانوا بين فتيان وفتيات ورجال ونساء، وهم يبلغون نحو ألف شخص.
فعجب الرفيقان من ذلك، ولما وصلا إلى الحرش دخلا بين الناس، واستخبرا الخبر فعلما ما يلي:
لما وصل الخواجه كلدن وزوجته إلى الحدث لم يعجب المكان السيدة إميليا؛ لأنها كانت مضطربة النفس في سياحتها لا يعجبها شيء، فتضجرت وقالت: إن جبال كاليفورنيا أجمل من هذه الجبال. فأمر زوجها رجاله بالمبيت في الحدث تلك الليلة للراحة فقط، وبالسفر إلى الأرز في اليوم التالي؛ لأنه كان على ثقة من رضى إميليا عن الأرز أكثر من الحدث.
وفي المساء بلغ إميليا رغبة بعض الأهالي في أن يصنع زوجها (نهاره) عندهم فضحكت، وأبلغت زوجها هذا الخبر، وكان كلدن يعلم أن ذلك يسر زوجته جدا لميلها بالطبع إلى الشرقيين أبناء وطنها، فأمر وكيله أن يعد له ريالات عثمانية بقيمة ألف جنيه، وقال لأبي مرعب وقومه: «يس يس سنامل يووم كلدن في الهرز.» يعني: سنعمل يوم كلدن في الأرز.
ولم ينتصف الليل حتى صار عدد المتوافدين على الأرز نحو ألفي شخص، فلما رآهم سليم وكليم يتمددون على الأرض للرقاد بدون غطاء ولا فراش قال سليم لكليم: نحن ظننا أننا صنعنا أمس صنع الأبطال بنومنا تحت الأشجار على خرج تحت غطاء خفيف، فانظر إلى أصحابنا القرويين، فإنهم ينامون بلا خرج ولا غطاء كأن الأمر عندهم في غاية البساطة.
فأجاب كليم: هذا مصداق لقول روسو: يجب أن لا يربى الإنسان كشجرة تعيش في هذا الإقليم ولا تعيش في ذاك، بل يجب أن يجعل قادرا على المعيشة في كل الأقاليم، فحيثما ألقيته جاء واقفا على قدميه نشيطا قويا قادرا على احتمال كل تقلبات الحياة.
الفصل الثالث عشر
كيف يكون غضب النساء؟
وفي الصباح انتبه المستر كلدن مع غربان الأرز؛ لأنه - كجميع الرجال النشيطين - اعتاد التبكير، ولما نهض استدعى كاتم أسراره المستر كرنيجي وسأله: هل انتبهت لادي كلدن؟ فأجاب: كلا. فقال كلدن: خذ كرسيا يا مستر كرنيجي واجلس، هل ورد البريد الأخير؟ فأجاب كاتم الأسرار: نعم يا سر، قد أخذناه في الحدث، وهذه بضع رسائل تقتضي الجواب. فتناولها المستر كلدن بنشاط وأجال نظره فيها.
وبعد حين سأله: من هو كاتب هذا الكتاب؟ فأجاب كرنيجي: هو تاجر مشهور في بيروت، وهو يقول في ختامه إنه قادم لمقابلتكم للترحيب بكم والاتفاق معكم على الشروط. فقال كلدن: وما رأيك في طلبه؟ فقال كرنيجي: بما أنكم عزمتم على احتكار الشرانق والحرير في العالم، فمن الصواب أن تجعلوا لكم وكيلا وطنيا في سوريا ولبنان لابتياع الموسم.
فقال كلدن: وهل هذا الرجل مشهود بأمانته واستقامته؟ فضحك كرنيجي وقال: لقد أرسل مع كتابه شهادات من أعظم الرؤساء الدينيين والمدنيين حتى من بعض قناصلنا. وهذه الشهادات.
ثم إن كاتم الأسرار ألقاها على مائدة في وسط الخيمة.
وكانت هذه الخيمة منصوبة بجانب خيمة لادي كلدن وابنتيها، فيظهر أن حديث الرجلين نبه اللادي من نومها. فإنها في ذلك الحين أزاحت باب الخيمة، وظهرت بثوب النوم باسمة مسرورة موردة الخدين، كأنها وردة رطيبة برزت من وراء غصنها، فقام إليها المستر كلدن مسرورا لسرورها، فقبلها قبلة شهية في الصباح وأدخلها خيمته؛ لأن البرد كان قارصا في الخارج، فخرج حينئذ كرنيجي من الخيمة، فسألها كلدن: كيف ترين الأرز؟ فأجابت: هذه أول مرة سررت فيها بسياحتنا، ولولا هذا المكان الجليل الجميل لأسفت على انتقالنا من أميركا. فقال كلدن: الحمد لله، الحمد الله، وهل ذهبت الأفكار السوداء؟ فعبست إميليا وقالت: بحياتك لا تذكرني بها، آه لو تعلم الحلم الجميل الذي رأيته في هذا الليل. فقال: ماذا رأيت؟ فقالت وقد بدت الدموع في عينيها: رأيته في السماء لابسا ملابس الملائكة وهو يبتسم لي ويقول: رضي الله عنك، رضي الله عنك. لا تحزني فإنني استرحت هنا بعد عذابي في الأرض.
وهنا أغرقت إميليا في البكاء، فأكبت على المائدة التي في وسط الخيمة، وصارت تذرف الدموع، فلام المستر كلدن نفسه لأنه فتح هذا الباب، ورغبة في صرفها عنه مال إليها ملاطفا ومتوجعا وهو يقول: بحياة عينيك يا حبيبتي لا تنغصي عيشنا في هذا اليوم الجميل، ولا تهيجي عينيك بالبكاء، فعليك مقابلة الناس. فرفعت رأسها وقالت: أي ناس؟ فقال: إنك ستصنعين يوم (كلدن) بيدك، فتكون الهبة أكثر قيمة وأشد تأثيرا؛ إذ شتان بين يدك البيضاء الجميلة ويدي الخشنة، وفضلا عن ذلك فإن تاجرا مشهورا من أبناء وطنك سيزورنا اليوم. فقالت بدهشة: أي تاجر؟ فقال: هو تاجر من بيروت يطلب أن يكون وكيل أشغالنا التجارية في الشرق كله، وهذا كتابه وشهاداته أمامك على المائدة.
فمدت إميليا يدها إلى الأوراق وأدارتها لترى التوقيع الذي على الكتاب، وحينئذ صاحت صيحة من أعماق قلبها، ووثبت مجفلة كأن حية لسعتها، فأجفل المستر كلدن وعرته دهشة عظيمة فصاح: ما بك؟ ما بك؟
أما إميليا فكانت منتصبة بهياج شديد وراء المائدة ووجهها كوجوه الأموات لاصفراره، فهال منظرها المستر كلدن وحسب أنها جنت، فصاح: بحياتك إميليا قولي ما بك.
فصاحت حينئذ إميليا بصوت كصوت لبوة هوجمت أشبالها: من أوصل هذه الأوراق إلى هنا؟ فقال كلدن: هل تعرفين صاحبها؟ فصاحت إميليا: يسألني هل أعرفه! ومن ذا الذي لا يعرف الذئاب والوحوش الضارية؟! ماذا يريد هذا الرجل منا؟! أما كفاه أنه سمم أول حياتي فجاء الآن يسمم آخرها؟!
ففهم كلدن حينئذ أن في المسألة سرا، فقال لها بلطف: عفوا يا إميليا هدئي بالك واجلسي لنتحادث في هذا الشأن بهدوء، ولا يكون إلا ما تحبين.
فقالت إميليا: لا لا. لا أريد أن أتكلم عن هذا الرجل، ولا أن أسمع اسمه، ولا أن أرى وجهه. حبيبي جورج، اقتلني ولا تجعل له في حياتي ذكرا بعد اليوم؛ لأنه يسمم حياتي، إنني أرى دهشتك الآن وأعلم ماذا تقول في نفسك، إنك تقول: لم أعهد إميليا رديئة القلب إلى هذا الحد، فإنها من الذين يصفحون ويحلمون ويحبون أعداءهم ويباركون مبغضيهم، فما بالها الآن عمدت إلى الرداءة والخبث؟! لا لا يا حبيبي، لست رديئة ولا خبيثة، وإنما أنا فتاة ذاقت من هذا الرجل ما لم تذقه الفرائس من الوحوش، فأنا أغتفر كل الذنوب والآثام، وأصفح عن الإساءات إلا عن إساءة هذا الوحش، وإذا كان الله يكتب علي هذه العاطفة الرديئة، فإنني أفضل دخول جهنم على الصفح عن هذا الرجل.
وكانت إميليا حينئذ في حالة لو رآها رافاييل لعض أصابعه تحسرا على أنه لم يظفر بمثلها في حياته ليصور بتصويرها أجمل سيدة في أجمل غضب. ولو سمعها الناصري لعلم مبلغ ظلامتها من مبلغ تأثرها، وحينئذ يقول لها: أيتها المرأة، مغفورة لك خطيئتك.
أما كلدن فإنه صار يضحك بعد وقوفه على حقيقة المسألة فقال لها: أنا لا أسيء الظن بك؛ لأنني أعرف قلبك. فاجلسي وقصي علي القصة من أولها، ثم إن غضبك في غير محله ؛ فإن الغضب يكون عادة سلاح الضعفاء المغلوبين لا الأقوياء، وهو الآن ضعيف بالنسبة إلينا؛ لأنه جاء يرجو منا لنجعله وكيل أشغالنا. فصاحت إميليا: كما كان وكيل أشغالنا. فقال كلدن: إذن فاضحكي يا عزيزتي ضحك القوي الواثق بقوته وبحقه، المنتصر على خصمه، بدل أن تغضبي غضب الخوف والاهتمام بما لا يستحق الاهتمام.
فسكن حينئذ جأش إميليا شيئا فشيئا، وجلست تقص عليه قصتها، فعلم كلدن أن الخواجه لوقا طمعون هو الرجل الذي كان سبب مصابها ومصاب أهلها؛ فإنه كان أولا من أصدقاء أبيها، وكان يتزلف إليه ويتقرب منه طمعا في الفائدة، وكان يتظاهر بأنه يريد الاقتران بابنته، فاصطفاه أبوها وأطلعه على أشغاله وأسراره، وصار يعول على نصائحه وآرائه، ويمده بمساعدته نفعا له وترويجا لأعماله، فاغتنم لوقا هذه الفرصة وغدر بالرجل ليبني أشغاله على أنقاض أشغاله، ويحل محله في بلده، ويجمع لنفسه رأسمالا من رأسماله؛ فأدت دسائس لوقا لأبيها إلى خسارة أبيها أمواله كلها وخراب محله وسقوط منزلته، فماتت أمها قهرا من هذه الحالة، وهي نفسها عزمت يوما على الانتحار تخلصا من الفقر والضيق والجوع، فألقت نفسها في البحر، ولكنها أخرجت قبل فراق الروح، فعدلت حينئذ عن الانتحار، وعزمت على الفرار من بلدها، ففرت وتركت أباها وحيدا فريدا.
وهذا ما كان يطير صوابها، إلا أنها كانت تؤمل أن أباها يقدر أن يعيش براحة وحده في منزله، فخاب أملها من سوء الحظ ونكد الطالع؛ لأن أصحاب الديون - بتحريض لوقا - استولوا على المنزل وباعوه وطردوا الرجل منه.
وكان قصد لوقا من ذلك محو كل أثر لهذه العائلة وأثرها القديم؛ لأنها تذكره بحالته القديمة، ومنذ هذا الحين لم تعد الفتاة تسمع شيئا عن أبيها، فكيف تستطيع الآن أن ترى وجه ذلك الرجل الذي كان سببا في كل هذه الفظائع والمصائب؟!
ولكن ما أتت إميليا على آخر الكلام حتى علت في الأرز جلبة شديدة، وكثر الصياح والصراخ، فخرج المستر كلدن من خيمته ليعلم السبب، فلقي سكرتيره المستر كرنيجي داخلا فسأله: ما الخبر؟ فأجابه: قوم يتخاصمون ويتضاربون.
الفصل الرابع عشر
مجنون ليلى وملك رأس القضيب
اجتماع جنونهما على واحد
وكان لتلك الجلبة والصياح سبب في غاية الأهمية، وإليك بيانه:
كان الخواجه لوقا طمعون المذكور آنفا تاجرا صغيرا في صيدا يرتزق من معاملة كبار التجار، ولكن لم تمض عليه عدة سنوات حتى انتقل إلى بيروت؛ لأن صيدا ساقية لا تحمل سفينة كبيرة، فوسع أشغاله في بيروت ما شاء التوسيع، ولكن دولاب حظه كان واقفا في تجارته مع ذكائه ومهارته، ولولا اعتماده على أهل له في بيروت لما قامت له قائمة ولا قدر على أن يعمل شيئا، فلما سمع بمجيء المستر كلدن الغني الأميركي المشهور الذي يملك الملايين، وعزمه على إقامة وكيل له في الشرق للاعتماد عليه في تجارته الأميركية صادرا وواردا، علم أنه إذا نال هذه الوكالة كانت له غنيمة عظيمة، فلم يدخر وسعا في ذلك، ولا ترك واسطة إلا استعملها، ولكن لما قدم كلدن إلى بيروت لم يستطع لوقا مقابلته؛ لأن لادي كلدن أبت استقبال أحد في بيروت كما تقدم، وسافرت منها في الحال، فعلم الخواجه لوقا أن صاحبه مسافر إلى الحدث، فركب مركبة من بيروت قاصدا البترون، ومنها امتطى فرسا إلى الحدث، فلما وصل إليها قيل له إن الأميركي سافر إلى الأرز فتبعه على الأثر.
وكان الخواجه لوقا كهلا في نحو الأربعين من العمر، وهو بدن ذو جسم قوي ولسان طلق، وكان جريئا مع الضعفاء، ولكنه ضعيف مع الأقوياء، شأن أهل السياسة والدهاء، إلا أنه مع ضعفه مع الأقوياء كان قادرا على مقابلة رجل كالمستر كلدن واستمالته وإرضائه.
وكان وصوله إلى الأرز قبل بزوغ الشمس، وكان كليم وسليم وأمين جالسين عندئذ على أكمة صغيرة مشرفة على الطريق خارج الأرز.
فلما ظهر الخواجه لوقا في الطريق ارتجف أمين وقال لكليم: لا حول ولا قوة إلا بالله! إن هذا الرجل الذي قطع حبل حياتي يتبعني أينما ذهبت.
وكان مخلوف المجنون قادما من الأرز في هذه الساعة نحو الرفاق الثلاثة، فلما وصل إليهم كان الخواجه لوقا قد صار على مقربة منهم.
فالتفت مخلوف إلى القادم وهو ينشد حسب عادته:
جننا بليلى وهي جنت بغيرنا
وأخرى بنا مجنونة لا نريدها
ولكن ما وقع نظره على القادم حتى جمد في مكانه كأنه صنم أصم، ولولا تقليبه عينيه في الرجل القادم لظن رفاقه أنه فارق الحياة وهو قائم على قدميه.
وبعد هذا الجمود برهة أسرع مخلوف وعينه تستطير شررا، فنزل عن الأكمة ووقف على الطريق، فلما وصل إليه الراكب صاح مخلوف صيحة كعواء الكلاب والذئاب، وقال: هذا هو! ثم أطبق على لوقا، فأخذ به وشده، فألقاه عن جواده على الأرض كالجذع الممدود، وجثم فوقه.
فهجم حينئذ المكاري وسليم وكليم ليرجعوه عنه، فكان مخلوف يصيح كالوحوش والزبد على شدقيه: لا يرجعني عنه أحد غير الله ... قد أهلكني ... قد حرمني حياتي ... لولاه لما فرت حبيبتي ... الانتقام ... الانتقام.
وكان عند كل كلمة من كلامه يضرب لوقا بقبضته ضربا شديدا، وهو كالجمل الهائج، وناهيك بغضب المجانين! فأسرع الناس من جهات الأرز على صوته عشرات عشرات ومئات مئات، فتكاثروا عليه وأنهضوه عن خصمه بعد جهد شديد، فانقلب مخلوف من الغضب على خصمه إلى الغضب على نفسه، وهو في أشد حالات الجنون، فتناول حجرا وصار يضرب به نفسه ويلقي نفسه على الأرض ويقوم وهو يهذي بهذا الكلام: مسكتك يا ظالم ... دعوني معه لأحاسبه ... مضت سنوات وأنا أفتش عليه ... هل يموت حق حبيبتي ... ابعدوا وإلا قتلتكم كلكم ... اليوم يوم الثأر ... يا إلهي أرسل الآن صواعقك إذا كنت عادلا ... صاعقة واحدة فقط ... تقتلني وتقتله.
وكأن الله أجابه إلى طلبه في هذه الساعة؛ فإن الناس الذين كانوا يمنعون عنه فريسته تركوها، وأجفلوا راجعين القهقرى إجفال العصافير حين ظهور الباشق؛ ذلك أنهم شهدوا أمامهم مشهدا مريعا، فإن وحشا بريا هائل المنظر كان قادما نحوهم وفي يده بندقية.
فالتفت سليم وكليم وصاحا: هذا صاحبنا، ما جاء به؟! أما مخلوف فإنه لم يهمه شيء من كل ذلك، بل إنه لما رأى الجموع قد فرت من وجهه، وتركت الخواجه لوقا مشغولا بإصلاح ملابسه، هجم عليه كالذئب وأخد بخناقه.
فحينئذ خرج من فم الوحش البشري القادم وفي يده بندقية - صوت أجش سمعه القارئ قبل الآن في رأس القضيب، وهو صراخه: الوحش الوحش الوحش، ثم سدد بندقيته نحو مخلوف ليطلقها عليه.
فعلم سليم وكليم أن صاحبهما ملك رأس القضيب سيقتل مخلوف ولوقا معا إذا لم يدخلا بينهم لاعتباره أن مخلوف ظالم عاد، كما كان يقتل الحيوانات التي تعتدي على رفاقها، فدخل سليم وكليم حينئذ بين الفريقين، وواريا مخلوف ولوقا وراءهما، وصاح كليم: يا عم! دعه فنحن نؤدبه ونأتيك به.
وكان مخلوف وخصمه يتصارعان حينئذ بقوة هائلة، والناس لا يجترئون على الدنو منهما للدخول بينهما، ولكن حانت من مخلوف التفاتة، فأبصر ذلك الوحش البشري ينظر إليه وبندقيته مسددة نحوه، فانتبهت فيه عاطفة الحرص على البقاء، فترك خصمه وخطا خطوتين نحو الشيخ الهائل غضوبا، فتبعه سليم وكليم لئلا يقتله الشيخ.
ولكن ما تقدم مخلوف بضعة أمتار حتى وقف مدهوشا هذه المرة أيضا، وصرخ صرخة دوت لها الجبال، ثم هجم على الشيخ صائحا: متى حاروم، حنا حاروم ... جئت في وقتك ... وفي يدك بندقيتك ... انظر صاحبك لوقا طمعون ...
فلما سمع الشيخ الهائل اسم (لوقا طمعون) ظهرت الرعدة في جسمه، وجحظت عيناه واصطكت ركبتاه، فهجم كالذئب نحو لوقا، وإذ عرفه زمجر كالأسد صائحا: يا لعيني إميليا ... حقا لقد انتهى. ثم سدد البندقية نحو لوقا وأطلق النار عليه.
وكان أمين في تلك الساعة قريبا من لوقا، فلما أبصر الشيخ يسدد بندقيته إليه ويطلقها عليه صاح من صميم قلبه: آه، لست أرضى عن انتقام كهذا. ثم سقط على الأرض مغمى عليه.
فصاح سليم وكليم وحارا فيما يفعلان، أيسرعان لإغاثة أمين؟ أم لإنقاذ لوقا؟ فانفرد سليم وهرع نحو أمين، وأسرع كليم إلى الشيخ، وكانت البندقية لم تنطلق من حسن الحظ؛ لأن الضباب كان قد رطب بيت البارود.
وكان الشيخ حين رأى أن بندقيته لم تنطلق قد هجم على لوقا طمعون، فتبعه مخلوف هاجما لهجومه.
فكل من رأى ذئابا تهجم وأسودا تثب وضباعا تغضب يمكنه أن يتصور هجوم هذين التعيسين على ذلك التعيس.
فصاح كليم بالجموع التي كانت تنظر إليهم من بعيد: إلينا يا شباب وساعدونا، فهذا وقت المروءة. فهجم الناس لمساعدتهما، ولكنهم لم يستطيعوا الفصل بين المجنونين وفريستهما إلا بجهد شديد، فذهب لوقا طمعون نحو خيام المستر كلدن والدماء تسيل من وجهه، والجماهير تتبعه ليغسل جروحه، أما مخلوف والشيخ فقد أدركتهما نوبة الجنون حنقا لعجزهما عن خنق خصمهما، فسقطا على الأرض مصروعين بلا حراك، فقيدهما كليم لئلا يضرا نفسيهما، ثم نقلهما إلى الغرفة المقابلة للكنيسة، وأقفل الباب.
أما سليم فكان مشغولا في ذلك الحين بمعالجة أمين وتنبيهه من إغمائه، وإذ لم ينتبه نقله سليم والمكاري إلى خيمة كانت لبعض المسافرين هناك، وقد تجمهر عليهم الناس يسألون: ماذا وقع للمريض؟
هذه هي الحادثة التي كانت سببا في الجلبة التي سمعها المستر كلدن، بينما كان يحادث امرأته.
الفصل الخامس عشر
ذئب لدى لبوة
موقف حرج
فهنا - وا أسفاه - لم تبق حاجة إلى شرح الحادثة التي تقدمت؛ لأن القارئ اللبيب فهم كل تفاصيلها وروابطها وأسبابها، وعرف مبلغ تعاسة إميليا.
وما استقر المستر كرنيجي برهة في الخيمة مع المستر كلدن وزوجته حين دخوله عليهما - كما تقدم - حتى دخل الترجمان يقول: إن رجلا يدعى الخواجه لوقا طمعون قد حضر من بيروت للسلام على المستر كلدن. فعاد الاضطراب حينئذ إلى إميليا، ونهضت لتخرج إلى خيمتها، فأومأ إليها المستر كلدن أن تبقى لتلتذ بمشاهدة خصمها، ثم همس بضع كلمات في أذن سكرتيره ليطلعه على طرف من المسألة، وبعد ذلك قال للترجمان: قل للرجل أن يدخل.
فدخل لوقا طمعون باشا ضاحكا كأنه لم يصب بمكروه، فحيا أجمل تحية، فجاوبه المستر كرنيجي، أما المستر كلدن فقد كان يتشاغل بتقليب الأوراق على المائدة، وأما إميليا فقد أدارت ظهرها، وانحرفت نحو الظل وهي ترتجف من الغضب والحقد.
فساء لوقا هذا الاستقبال البارد فجلس منقبضا، وبعد أن دام السكوت دقيقة قال المستر كلدن بنزق، وهو ينظر في الأوراق لا في وجه ضيفه: ماذا تريد حضرتك؟ فأجاب لوقا: لقد كتبت لجناب السر أعرض عليه خدمتي في كل ما يريده في الشرق؛ إذ بلغني أنه يطلب وكيلا. فقال كلدن: وكيف تريد أن أتخذك وكيلا من غير أن أعرف أمانتك واستقامتك؟
فجرح هنا لوقا في صميم شرفه التجاري والأدبي، فصعد الدم إلى رأسه وأجاب: لقد قدمت لحضرتك الشهادات الكافية، وفي جملتها شهادة رئيس ديني كبير.
فقهقه حينئذ كلدن بصوت عال وقال: شهادات؟! هل تريد أن أجعل أحد خدامي يجلب مثل هذه الشهادات بعشرة ريالات فقط؟ ثم التفت إلى إميليا وقال: ما قولك مسز؟ هل تقبل منه هذه الشهادات؟
فلم تجاوب إميليا؛ لأنها كانت غير قادرة على الكلام، أما لوقا فعدل حينئذ عن مطلبه، فقال بشيء من عزة النفس: عفوا يا سر، أنا سألت حضرتك سؤالا فإذا قبلتموه شكرتكم، وإذا رفضتموه عدت من حيث أتيت مسرورا بأني تشرفت بمعرفتكم.
فحينئذ دبت الحماسة في صدر إميليا؛ لأنها شعرت بأن الخصم لا تزال له قوته التي سحقتها في ما مضى، فعزمت على سحق هذه القوة للانتقام منها، فجمعت قواها كلها وقالت: إن طلب المستر كلدن حق؛ إذ بلغته أعمالك في صيدا.
فقال لوقا في نفسه: الآن علمت سر المسألة، فإن أعدائي ومزاحمي سعوا بي لدى هؤلاء الكرام؛ ولذلك أساؤوا استقبالي. ثم أجاب مبغوتا ومظهرا الدهشة: عفوا يا سيدتي الكريمة، أية أعمال تعنين؟ إن جميع أهل صيدا يشهدون لي بحسن السيرة والسريرة والشرف، وإذا تفضلت وأطلعت خادمك الأمين على الأقوال التي بلغتكم من حسادي وأعدائي، فإنني أنقضها كلها قولا قولا.
فأجاب المستر كلدن حينئذ بحدة: أنا لا أحب كثرة الكلام يا مستر لوقا، فإذا شئت أن تكون وكيلا لأشغالنا فجئنا بشهادة شرف واستقامة من الخواجه متى حاروم في صيدا.
فلو أن الصاعقة وقعت تحت قدمي لوقا لما أثرت فيه تأثير هذا الكلام، فنهض بحدة وصاح: لا تصدق يا سيدي، لا تصدق كل ما سمعته، فإن هذا الرجل جاهل سيئ التدبير فخرب نفسه و...
فهنا لم تعد إميليا تستطيع السكوت، فقطعت كلامه وصاحت بحدة رغما عنها : لا تهن الناس يا خواجه، بل أجب. أتأتي بالشهادة المطلوبة أم لا؟
فقال لوقا في نفسه حينئذ: إنني إذا ذكرت لهم أن متى حاروم موجود الآن في الأرز بحالة الجنون والهول، وقد كاد يفتك بي فتلك أقبح شهادة، فإنهم يسألونه ويعلمون منه ما يريدون علمه، فأجاب: إن متى حاروم يا سيدتي لم يوقف له على أثر منذ عشر سنوات.
فقالت إميليا والدموع ملء عينيها: ومنزله؟ فقال: قد بيع. قالت: وأهله؟ قال: كان له زوجة فتوفيت، وابنة طائشة فرت وتركته.
فحينئذ وثبت إميليا كمن لسعته أفعى في صميم قلبه وصاحت بأعلى صوتها: يا ظالم، تخرب بيته وتميت زوجته وتهرب ابنته وتبيع منزله وتمحو أثره، ثم لا تكتفي بكل ذلك بل لا تزال تطارده بحقدك وبغضك فتهينه وتهين ابنته أمامنا الآن!
فغضب لوقا عند هذا الكلام، وقال: الوداع يا سادتي. وهم بالخروج، فوثب إليه كلدن وثبة الأسد، فأخذ بذراعه وقال بحدة: مستر لوقا، قبل أن تخرج من هنا، اجث واطلب الصفح من مسز كلدن ابنة الخواجه متى حاروم.
وإن القلم ليعجز عن وصف ما جرى حينئذ، وكيف استقبل لوقا هذه الصاعقة التي انقضت على رأسه.
ولكن لما انقضت دهشة لوقا وعلم خطارة موقفه وهوله جمع قواه وكبرياءه التي كانت قد فارقته، وبعد السكوت برهة قال: الآن فهمت يا سيدتي سبب ما جرى، فصار يجب علي تبرئة نفسي، لا للحصول على وكالة أشغال، بل حفظا لكرامتي لديك، فكل ما بلغك عني يا سيدتي كان معكوسا أو مبالغا فيه؛ إذ أي عمل عملته في معاملتي أباك ولا يعمله جميع الناس اليوم؟ والمستر كلدن زوجك المحترم لا يستطيع تكذيب كلامي، سليه إذا شئت كيف جمع ثروته الطائلة وملايينه العديدة، أما أفلست بنوك خصومه وقامت بنوكه؟! أما امتصت سككه الحديدية ثروة سكك أعدائه؟! أما خربت في الاحتكارات التي احتكرها ألوف من المحلات وأفلس في مضارباته ألوف من المضاربين؟! فما الحيلة إذا كانت هذه طبيعة التجارة نفسها؟ وكيف نستطيع جمع الثروة لننفع بها الناس إذا كنا نحذر من ضرر هذا ونخاف مزاحمة ذاك؟ فهذه سنة العالم، وقد قال جوت: «إلى الأمام إلى الأمام ولو فوق الجثث.»
فدهش المستر كلدن لثبات جأش الرجل بعد تضعضعه، وللطريقة التي حول بها الموضوع عن محوره، أما إميليا فقد خلعت عن نفسها - لدى هذا الكلام - ثوب الحاضر، وارتدت بثوب الماضي وأجابت بحدة: كل هذا الكلام يا سيدي لا يبرئ السرقة والاحتيال والدسائس والسلب والنهب، تقول: التجارة والأصول التجارية، ولكن أي تاجر شريف يزعم أن إله التجارة يطلب دائما ضحايا بشرية ودماء بشرية؟! أي تاجر خال من عواطف الشرف والإنسانية يرضى بأن يجمع ثروة من طعام الأطفال ودموع البنات وموت الأولاد وخراب البيوت؟! إذا وجد في العالم هذا التاجر فلا أسميه تاجرا، بل لصا وقاطع طريق، بل هو أدنى من اللصوص؛ لأن اللصوص يهاجمون الإنسان من وجهه، أما هو فإنه يغدر به، لأنه يباغته من وراء ويغمد خنجره في ظهره، كلا يا سيدي، ليست التجارة هي التي دفعتك إلى صنع ما صنعت، بل طمعك ورغبتك في الثروة بأية طريق كانت، وأنا الآن لست آسفة على ما ضاع من الأموال والأرزاق؛ لأن الله عوضني خيرا منها، وإنما أسفي على شيء واحد لا يعوض وهو فقد أبي.
وهنا ترقرق الدمع في عيني إميليا، فتأثر لوقا لهذه الدموع وهذا الكلام - وإن كان فيه إهانة له - لأنه رآه ممزوجا بشيء من العقل واللطف، لا سيما وأنه كان ينتظر أشد منه، ففكر قليلا ثم قال باسما: سيدتي، إنني أعرف مكان أبيك، وسأجيئك منه بالشهادة المطلوبة.
فرفعت إميليا حينئذ يديها وعينيها إلى السماء وصاحت بجنون: ماذا تقول؟ فقال الرجل: نعم، إنني أعرف مكان أبيك. فنهض حينئذ المستر كلدن مدهوشا وصاحت إميليا: أين؟ أين؟ فأملأ فاك درا، رده إلي فأنسى كل إساءاتك، وا أبتاه! وا أبتاه! أصحيح ما تقول؟ قل قل، ما لك لا تتكلم؟! متى نظرته؟ فأجاب لوقا: اليوم. فصاحت إميليا: اليوم؟! وأين ذلك؟ أين؟ فقال لوقا: هنا في الأرز.
الفصل السادس عشر
صوت الابنة الكريمة
يحيي العظام الرميمة
فحينئذ ذهلت إميليا عن نفسها وعن زوجها وعن مقامها، ووثبت خارج الخيمة كالبرق الخاطف وهي تصيح: أين؟ أين؟
فتبعها المستر كلدن وسكرتيره ولوقا، وحينئذ عرف المستر كلدن من لوقا تفصيل ما جرى، فرام كلدن تسكين جأش زوجته وإقناعها بالانتظار إلى أن يصلحوا ملابس الشيخ ويحسنوا حالته، وينقلوه من تلك الغرفة، أما إميليا فلم تصغ لأحد، بل مرقت كالسهم قاصدة الغرفة.
فلم يكن لوقا ولا كلدن يعرفان - وا أسفاه - أنه مجنون. •••
فلما وصلت إميليا إلى باب الغرفة دفعته وهي ترتجف، ودخلت فأبصرت على الأرض شخصين مقيدين راقدين، والحقيقة أنهما كانا في نوبة الصرع كما تقدم.
فصرخت إميليا صرخة الجنون واليأس حين وقع نظرها على أبيها بتلك الحالة، ورجعت القهقرى خوفا، ولكنها كالبرق عادت إليه وأكبت عليه.
وكان الناس قد اجتمعوا في الخارج، فنادى كرنيجي اثنين منهم وحملهما مخلوف فنقلاه إلى الكنيسة فبقيت إميليا مع أبيها.
فانحنت الابنة حينئذ تقبل قدميه ويديه. وكانت تبكي وتناديه بصوتها اللطيف: أبتاه، أبتاه، انتبه فقد جاءت إميليا ... أبتاه، افتح عينيك وانظر إلي ... لقد جئتك بحفيدتين معي، قم وانظر إليهما فإنهما تذكرانك إميليا صغيرة ... أبي، هل غضبت علي ولعنتني لما تركتك؟ ... هل خطر في بالك أنني فررت من خدمتك؟ ... قم وأخبرني أنك لم تسئ الظن في ... إن ضربا من الجنون استولى علي ودفعني إلى السفر ... فلعل الله هو الذي أراد ذلك لأعود إليك بالخير والغنيمة والظفر ... أبي، ما لك لا تجيبني؟! ... ما هذا الرباط الذي في يديك ورجليك؟! ... ما هذا الجلد الخشن الذي يستر جسمك مع أنه كان يلبس الملابس الناعمة؟! ...
ما هذا الشعر الهائل الذي يغطي جبينك الذي كان صافيا هادئا؟! وما هذه القوة التي في قدميك؟! ... آه لقد تعذبت في شيخوختك كما تعذبت في صباي، ولكنا استرحنا الآن، فقم وعانقني، أبتاه، أبتاه، ما لك لا تجيب؟!
فيا لتأثير الحنان البنوي! يا لفعل القلب في القلب! يا للعدالة الأبدية التي لا تسمح بموت «الحق» في العالم!
فإن الشيخ الهائل لم يلبث أن تحرك لذلك الصوت الملائكي اللطيف، وانتفض وفتح عينيه، فجمدت إميليا في مكانها جمود الصنم، فأدار الشيخ نظره في المكان متحيرا كأن على عينيه غشاوة، ثم صاح: ماذا تريدون؟ فغصت إميليا بدمعها وأجابت: أبي، هل انتبهت؟ فبهت الشيخ وقال متحيرا: من أنت؟ فقالت: أنا إميليا، أنا إميليا.
فحينئذ جلس الشيخ متثاقلا وصاح غاصا بدموعه: إميليا! متى جئت يا حبيبتي؟ فانطرحت الفتاة بين ذراعيه وصارا يبكيان بكاء اللقاء بعد طول الفراق.
ولم يدون علم الطب قط في تاريخه حادثة شفاء من الجنون كهذه الحادثة الغريبة، وكل من سمع بها رجح أن الشفاء كان من فراغ جنون الشيخ في تهيجه الأخير على لوقا، وإن كان لصوت ابنته دخل في ذلك أيضا.
وإذ سألت إميليا أباها عن حالته وسبب وجوده هناك، ولبسه تلك الملابس، وجدته أشد منها عجبا ودهشة من ذلك؛ لأنه بعد رجوع عقله إليه نسي كل ما كان. •••
وبعد ساعة ونصف حضر «مزين» من بشري، فأصلح شعر الخواجه متى، وألبس ملابس نظيفة، ونقل إلى صدر خيمة إميليا، وكان الناس في الخارج قد ضجروا وهم ينتظرون «يوم كلدن»، فلما بلغ ضجرهم إلى المستر كلدن قال لإميليا باسما: لا أنا ولا أنت، بل إن أباك هو الذي سيعمل يوم كلدن.
فجيء بكيس كبير من ريالات بقيمة ألف جنيه فحمل مفتوحا على بغل، وسار وراءه الخواجه متى بملابسه النظيفة المرتبة وشعره المصقول، وصار يفرق في الجماهير الحاضرة ريالا ريالا لكل واحد من الأولاد وريالين ريالين لغيرهم. وكانت الجماهير تزحمه من كل جانب.
فلما أبصر سليم وكليم صاحبهما «ملك رأس القضيب» بتلك الحالة الجديدة اعتراهما العجب الشديد، فكانا يدنوان منه ويتأملان فيه، أما هو فلم يعرفهما، ولم تفارقهما الدهشة حتى أطلعهما الترجمان على تفصيل الحادثة. •••
وفي المساء عزم كلدن وزوجته على السفر من الأرز للرجوع إلى أميركا بعد وجودهما ضالتهما المنشودة، فقوضا الخيام وعزما على الركوب، وكان لوقا طمعون قد انفرد عنهما بعد الحادثة ولم يلتق بمتى، فقبل السفر قصد إميليا وسألها ضاحكا أتسمح له الآن بوكالة الأشغال التي طلبها ؟ وكان كلدن حاضرا، فأجابه: هذه المسألة صارت متوقفة على رضى الخواجه متى.
وإذ قصت هذه القصة على الخواجه متى وطلب رأيه فيها ضحك أولا، ثم أطرق مفكرا، وبعد ذلك قال: رأيي أن الصفح أولى؛ فإن الوحش الذي في الإنسان لا تذلله المقاومة والعناد، بل الحلم والصفح؛ ولذلك يكون الأقل حيوانية والأكبر عقلا أكثر صفحا وحلما.
فلو سمع سليم وكليم هذا الجواب لقالا: إن فلسفة صاحبنا في «الوحشية» وهو مجنون مخالفة - من حسن الحظ - لفلسفته فيها وهو عاقل. •••
وقبل السفر استدعى كلدن سكرتيره وقال له وهو يطوف معه بين أشجار الأرز: مستر كرنيجي، أما تعلمت شيئا من هذه الحادثة؟ فأجاب كرنيجي: تعلمت وجوب الرحمة للضعفاء الذين يسقطون في جهاد الحياة، وإلا لم يكن هنالك فرق بين البشر وبين الحيوانات. فقال: صدقت يا صديقي؛ إذن خصص في كل عام مليون فرنك لمساعدة العيال التي تسقط، واكتب لمحلنا أن يقرض مليون دولار لمحل خصمنا «أرميس» الذي أفلس من مزاحمتنا، ومليونا آخر لمحل «ودن» الذي خسر ثروته في احتكاراتنا، فإنني بعد الآن صرت أرى أن البشر لا يكونون بشرا إذا كانوا يصرفون كل ما أعطاهم الله من النباهة والعقل والقوة في مجاهدة بعضهم بعضا ليستأثر أقوياؤهم بالمنافع والخيرات دون الضعفاء، ويدوسوهم كما يدوسون الحيوانات الدنيئة.
1
وكان سليم وكليم في أثناء ذلك يعنيان بأمر أمين، وقد فحص حالته طبيب كان بين زائري الأرز، فأخبر أن أجله قريب، وأشار بعودته إلى أهله في الحدث، فصنعوا له محملا وحملوه عليه، وأعادوه إلى أهله في الحدث، وشيعه سليم وكليم بالأسف والحزن الشديد لعدم مقدرتهما على مرافقته لنيتهما العودة إلى أشغالهما في طرابلس، لكنهما استأجرا رجلين لمرافقته مع المكاري.
وقبل سفر أمين التفت فأبصر خصمه لوقا بجانب متى وكلدن، والثلاثة يتحادثون ويضحكون، فبكى وقال: أين العدالة في العالم؟! فإنني أرى الباطل يعلو والحق يعلى عليه. فتنهد سليم وأجابه: العدالة يا صاح موجودة، ولكن المهم الجد والانتظار والثبات، ألم تنظر كيف انتصرت إميليا ولوقا بهذه الصفات؟ فلا تجدف على النواميس الأبدية؛ فإنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وكل ظلامة مهما كانت عظيمة تكشف عن صاحبها إذا تسلح بهذه الفضائل، فإن الله أعدل من أن يخذل الحق، وهو لنصرته لا يطلب من البشر غير الصبر والجد والانتظار.
فقال أمين متأوها: وما الحيلة بمن لا يستطيع الانتظار لأن أيامه معدودة؟ فأجابه سليم: هذا وهم يا صاح، وعلى افتراض صحته، فإن المظلوم يكون أقرب إلى الله في الآخرة مما لو أنصفه الله هنا.
فهز أمين رأسه وقال: كلام حلو للتعزية. كلام حلو للتعزية.
وقد توفي أمين في الحدث بعد انقضاء أسبوع على وصوله إليها.
هوامش
الفصل السابع عشر
حب المجانين
لوقا يأكل الحصرم ومخلوف يضرس
وفي المساء ركب المستر كلدن ورفاقه يقصدون بيروت عن طريق بعلبك، فسار سليم وكليم إلى أكمة على جانب الطريق ليشاهدوهم منها.
وكانت هذه الأكمة قريبة من الكنيسة، فلما صاروا عليها سمعوا صراخا عظيما فيها، ففطنوا حينئذ إلى مخلوف الذي سجن فيها، فنهض سليم ليراه، ولكنه لم يخط خطوتين حتى كان مخلوف قد كسر الباب وخرج منها وعينه تستطير شررا، فلما رأى سليم صاح به: أين متى حاروم، ولوقا طمعون؟ فأجابه سليم: قد رحلا. فوثب حينئذ مخلوف راكضا إلى الطريق ليتبعهما، وإذا به يرى الدواب والأحمال أمامه؛ لأنها لم تكن قد بعدت بعد، فأطلق ساقيه للريح وراءها، فسار سليم وكليم وراءه أيضا، فوصل مخلوف إلى المسافرين وصار يقلب نظره فيهم، فلما وقع نظره على إميليا صاح صيحة دوت لها الجبال، وانطرح على الأرض صارخا: لقد صدق سليم. عادت إميليا.
فضحك كلدن وقال: لم نخلص من الأسرار بعد. فأخبره حينئذ متى أنه شاب مجنون أنقذ في زمانه حياة إميليا، فمد كلدن يده إلى جيبه وأخرج منها ورقة بخمسمائة دولار وأومأ بها إلى مخلوف قائلا: خذ هذا تذكارا من إميليا، فصاح به: ومن أنت؟ فقال كلدن ضاحكا: أنا زوجها.
فيا ليتك يا مستر كلدن لم تلفظ هذه الكلمة، فإن مخلوف ازدوج حينئذ جنونه؛ فصار يضرب الأرض بيديه ورجليه ورأسه ويصيح: زوجها ؟! زوجها؟! وأنا إذن من أنا؟! من أذنك أن تتزوجها؟ كيف تسلبني حقي ومالي؟ ها ها متى حاروم، ما شالله ما شالله، ثياب جديدة وشعر مصقول، وراكب على بغل، قه قه قه، بغل على بغل، لو لم تكن بغلا لما زوجت ابنتك هذا النغل وتركت رجلا مثلي، ولكن أظنكم تضحكون، إميليا إميليا، أنسيت يعقوب؟
فقال كلدن حينئذ لزوجته: مسز، سوقي جوادك إلى الأمام واتركينا. فوثب حينئذ مخلوف وثبة الذئب وصاح: بل أنت تتركها. ثم مد يده إلى جيبه، وأخرج منها سكينا وهجم على كلدن، فلم يكن كلمح البصر حتى أطبق عليه سليم وكليم من وراء وقبضا على يده، فأسرع البغالون وشدوا وثاقه بحبل غليظ، فانكسرت حدة مخلوف حينئذ فصار ينوح ويصيح متذللا باكيا: إميليا إميليا، بحياتك لا تتركيني، ماذا صنعت لك حتى تعذبيني؟ أما أنقذتك من الموت؟ هل أنقذتك لغيري؟ أما أحببتك عشر سنوات دون أن أنساك؟ إميليا إميليا، يقولون إنه زوجك، فلا بأس، هو زوجك فخذيني أنا خادما لك، إنني أتبعك ماشيا لا راكبا، لا أكلمك ولا أدنو منك، وإنما أحرسك وأخدمك وأقبل قدمك، إميليا إميليا، انظري أنا صديقك تعيس الآن ولوقا طمعون عدوك سعيد، يا لنكران الجميل! يا للظلم! هو يركب بجانبك مسرورا وأنا يشدونني بالحبال ويعذبونني! إميليا إميليا، خذيني معك، لا تقتلي نفسا بريئة فإن الله يحاسبك.
فأثرت هذه الكلمات في نفس إميليا حتى ذابت لها شفقة على ذلك التعيس، فخاطبت زوجها مستأذنة في أمر ثم وجهت جوادها نحو مخلوف، فدنت منه وهو مشدود الوثاق، فكأن روحه عادت إليه، فمدت يدها البيضاء اللطيفة ووضعتها على كتفه وقالت له بنغمتها الساحرة: عزيزي مستر يعقوب. فصاح مخلوف: بلا مستر بلا مستر، بحياتك قولي: عزيزي يعقوب كما كنت تقولين. فقالت: عزيزي يعقوب، لا أقدر أن آخذك الآن معي، ولكني أعدك أنني سأطلبك. فصاح مخلوف: متى يكون ذلك؟ فقالت: حين وصولي إلى بلادي. فبكى مخلوف وصاح: بلادك! ولكن بلادك هنا. فقالت: بل بلادي أميركا يا عزيزي مستر يعقوب، فعش هذه المدة مسرورا راضيا بغيابي؛ لأنني سأتذكرك دائما وأرسل إليك كل ما تحب إلى أن يتيسر لي استدعاؤك.
وهكذا هدأ ذلك المجنون العاشق التعيس بشيء من اللطف والوعود، ولكن هدوءه كان وقتيا؛ فإنه ما إن تحرك الركب وسار حتى اشتد به الجنون وشرست أخلاقه، فاضطروا إلى شد وثاقه وأرسلوه إلى دير قزحيا، ولا يزال في الدير إلى اليوم ينشد الأشعار ويترنم بذكر حبيبته إميليا.
فمسكين أنت يا مخلوف، تخاصم البحر والريح فكان الصلح عليك، ولكن أما سمعت ما قال سليم؟! إن العبرة بالانتظار والثبات، وأنت لم تقدر على الانتظار؛ لأن عقلك رحل عند أول صعوبة، على أنك لو انتظرت وكنت الآن عاقلا، فربما كنت نلت الآن أسمى منزلة عند إميليا بعد منزلة زوجها. •••
أما سليم وكليم فقد أقاما في الأرز يوما، ثم تخلصا من مكاريهما بطرس الثقيل وعادا إلى طرابلس، وحين عودتهما من الأرز ممتلئين صحة وقوة كان سليم يقول لكليم كلما مرا بالأديرة: أما اقتنعت الآن بعد ما رأينا من تقلبات حوادث الحياة وقصصها المضحكة المبكية أنه خير للإنسان الذي يريد الراحة أن يعيش منفردا عن العالم في دير أو في نفق؟
فتنهد كليم وقال: ليس الانفراد عن الناس هو الذي يريح الإنسان، فإن مخلوف منفرد الآن عنهم في دير ولكنه تعيس جدا، فراحة الإنسان وسعادته في داخله؛ أي في نفسه، فلا يبحث عنهما خارجا عنها، والنفوس القوية العادلة المستقيمة تقدر أن تكون مستريحة سعيدة حتى في وسط تقلبات الحياة.
Bilinmeyen sayfa