ثم رد رجاء نفسه عن الكلام ونهض الباب وفتحه ونادى المفتش قائلا: قل للسائق أن يسير بالقطار حالا رأسا إلى أنقرة.
فأجاب المفتش: بعد نصف ساعة نصل إلى أنقرة يا مولاي.
فقالت نميقة: ويلاه! أخاف أن يكون الوقت قد فات. ما هو الكلام الذي كلفك المشير فوزي باشا أن تقوله لي؟ - كلفني أن أقول لك أن تطاوعيني وأن تذهبي معي حيث أشاء. - لا لا. بل أريد أن أذهب إليه أولا لئلا يفوت الوقت وتضيع الفرصة ويقرر المجلس قراره الفظيع الهائل ضد الخلافة والخليفة والأمراء. - لا تخافي. إن المجلس أجل الجلسة إلى اليوم لكي يسمع المعلومات التي ينتظرها المشير فوزي باشا من الآستانة. هل أنت قادمة من الآستانة؟ - من ضواحيها. - ماذا يقول الأمراء؟ - وهل تظنني كنت بين الأمراء؟ لقد مت وفنيت من ذلك الجو. أنا الآن امرأة عامية عاملة واسمي تريزا برسكا الروسية. فحاذر أن تذكر اسم نميقة أو أميرة.
فضحك رجاء وقال: وما هي حرفتك؟
فأجابت: أكون كاتبة إذا وجدت سيدة تستخدمني كاتبة سر لها. - إذن كيف عرفت بالحالة السياسية الحاضرة؟ - عرفتها من الجرائد ومن لغط العامة بها. - أما سمعت شيئا عن الأمراء؟ - سمعت أنهم واقعون في حيص بيص لا يدرون ماذا يفعلون. إن مصطفى كمال باشا لهو رسول إبليس الرجيم. من كان يعرف أن هذا الشرير وأعوانه يجسرون أن يفعلوا ما يفعلونه الآن. يالله! خلع الخليفة وإلغاء الخلافة وطرد الأسرة كلها. ياللفظاعة! - وما هي معلوماتك لفوزي باشا؟ - إن معلوماتي أوراق سأبسطها له حين أقابله وستكون أنت حاضرا. ألا تكون؟
وكان رجاء يجاوبها وفكره يشتغل بأمور أخرى، فقال: بلا شك. وهل أنت أرسلت هذا التلغراف؟ - نعم، أرسلته بهذه الصيغة للتمويه خوفا من أن يقع في يد سواه: فوددت أن يفهم أن ناقل المعلومات له رجل لا مرأة.
فقال رجاء باسما: حسنا فعلت. وهل تعرفين المشير فوزي باشا شخصيا؟ - لا. - كيف خطر لك أن تقدمي هذه المعلومات له؟ - لأني اطلعت في الجرائد أن المشير فوزي باشا يدافع عن الخليفة والأمراء. وعلمت من الجرائد أن أعداء الأمراء يتهمونهم بالخيانة وأن عندهم وثائق ضدهم. ولما كنت أعلم طبيعة هذه الوثائق وأصلها وتزويرها وعندي وثائق ضدها كتبت لفوزي باشا تفصيلا بذلك. فكتب لي أن أرسل له الوثائق حالا مع شخص مأمون. - لله درك! وكيف حصلت على هذه الوثائق الهائلة؟ - ستعلم ذلك في حينه. أرجو أن تأخذني توا إلى المشير فوزي باشا. حاذر أن تدعه يفهم أني أميرة أو بنت أمير. لأن صديقتك الجديدة الآن تدعى تريزا برسكا الروسية.
فقال رجاء: أجل الروسية والبلشفية أيضا. ألست بلشفية؟ - معاذ الله! إن هؤلاء البلاشفة سبب مصيبتنا. وهل كنت كل هذا الحين في أنقرة؟ - كنت حيث تدعوني الظروف، تارة في أنقرة وأخرى في أزمير. - ماذا كنت تفعل في أزمير؟ - كنت سجينا مع صديقك الذي رمى القنبلة على مصطفى باشا. - ولماذا سجنك ذلك اللعين مصطفى؟ - لأني كنت حاضرا ساعة رمي القنبلة هناك. وركضت فظنوني شريكا للجاني فقبضوا علي وزجوني في السجن. - لله من شرهم! بالطبع برهنت على براءتك واقتنعوا أنك بريء. - أي نعم. وأما الرجل رامي القنبلة فلم يزل في السجن. وقد روى لي حكاية طويلة غريبة من غير أن يسمي أشخاصا، فهمت منها أنك رميت نفسك في البحر وهو انتشلك. وحاولت كثيرا أن أفهم منه عن مقرك فلم أستطع لأنه كان شديد التكتم. وما زلت الآن مستغربا إقدام ذلك الأهوج على قتل مصطفى باشا. هل ذلك الأحمق كان عضوا في جمعية فوضوية؟
فابتسمت نميقة أو تريزا وقالت: كلا، وإنما فعل ذلك بناء على إيعازي له. - ويحك! لماذا؟ - لأن الخبيث مصطفى باشا اعتقلك. ألا تذكر أن ذلك كان بعد يومين لالتقائنا في قصرك وأنت باسم رجاء باشا؟ - نعم. - لما علمت أنه اعتقلك أكدت أنه سيقضي عليك بلا محالة. فلما قطعت الأمل من اللقاء بك ثانية، وصار أبواي يحرجانني للزواج بالأمير عثمان، لم أعد أجد فرجا لي إلا في الانتحار. فرميت نفسي في البحر. واتفق أن ذاك المسكين كان يريد أن ينتحر أيضا، فعثر علي وأنقذني وهو يظن أنه يفعل خيرا. فنقمت عليه وغضبت. ولكن ما الفائدة! وما لبث أن أقنعني بأن أغير شخصيتي وأبقى حية. فاقتنعت برأيه وسميت نفسي تريزا برسكا الروسية. وكان ذلك المسكين يتضرع إلي ملتمسا رضاي وأنا أتمنع. وأخيرا مللت توسله وتضرعه، فاقترحت عليه أن يسعى لاغتيال مصطفى باشا كمال. فإن اغتاله وسلم من العقاب أتزوجه، وإلا كان بخته سيئا. وما ظننت أنه يقبل هذا الشرط. فما تردد في أن برح إلى أزمير وشرع بالاغتيال ولكنه ما نجح.
فقال رجاء متوردا: وهل كنتت تفين بالوعد لو نجح؟ - بالطبع، ولو بالرغم مني، لأن وعد الحر دين، ولا سيما لأني يئست من اللقاء بك بعد أن علمت أنك وقعت في قبضة مصطفى كمال كمتهم بجريمة الجناية العظمى التي لا أمل ببراءتك منها. وكان جل ما أفعله أني أنتقم لك. وخير وسيلة للانتقام أن أحرض الرجل على فعلها. وقد أقدم ولكنه فشل. فهذا بخته وبختي أيضا إذ تخلصت من مضايقته لي. هل هذا يسوءك يا أمل أو يا رجاء؟ - كلا يا نميقة. لقد وفيت حق الحب. - بربك لا تقل: نميقة بعد الآن. قل لي: كيف نجوت من نقمة مصطفى كمال؟ - ستعلمين ذلك في حينه.
Bilinmeyen sayfa