مقدمة لازمة
1 - هزة مقدمة لزلزال
2 - جوزفين مصطفى
3 - شرارة حب تحولت إلى شرارة غضب
4 - التنقيب تحت عرش
5 - ففراق يكون فيه دواء ... أو فراق يكون فيه الداء
6 - عواطف وأفكار في عالم الخفيات والأسرار
7 - ويل أهون من ويلين
8 - رسالة من عالم الأرواح
9 - مؤامرة ضد مؤامرة
Bilinmeyen sayfa
10 - خيالات ذات قيمة
11 - واشرح هواك فكلنا عشاق
12 - جنية البحر
13 - حرب سياسية في المجلس الوطني
14 - المعركة الفاصلة
15 - البعث
16 - سامع شتيمته بأذنه باسم
مقدمة لازمة
1 - هزة مقدمة لزلزال
2 - جوزفين مصطفى
Bilinmeyen sayfa
3 - شرارة حب تحولت إلى شرارة غضب
4 - التنقيب تحت عرش
5 - ففراق يكون فيه دواء ... أو فراق يكون فيه الداء
6 - عواطف وأفكار في عالم الخفيات والأسرار
7 - ويل أهون من ويلين
8 - رسالة من عالم الأرواح
9 - مؤامرة ضد مؤامرة
10 - خيالات ذات قيمة
11 - واشرح هواك فكلنا عشاق
12 - جنية البحر
Bilinmeyen sayfa
13 - حرب سياسية في المجلس الوطني
14 - المعركة الفاصلة
15 - البعث
16 - سامع شتيمته بأذنه باسم
وداعا أيها الشرق
وداعا أيها الشرق
تأليف
نقولا حداد
مقدمة لازمة
هذه الرواية تبسط الحد التاريخي بين عصر العثمانية البائد وعصر الطورانية المستجد: فهي ديباجة الفصل الجديد في حياة الأتراك.
Bilinmeyen sayfa
قضي أن تتحول الدولة العثمانية إلى جمهورية، وأن تصبح الخلافة عند الترك أمرا معنويا مضمونا في الجمهورية - كما قال عصمت باشا. وقدر أن يكون عامل هذا التحول يدا أجنبية: فلا أمراء بني عثمان كانوا مذنبين، ولا الغازي مصطفى باشا كمال وأعوانه كانوا مفتئتين، وإنما شيطان البلشفية كان آلة في يد القضاء.
ففي هذه الرواية ترى الدور الذي لعبه هذا الشيطان أعجب درس في فن الدهاء، وأغرب أمثولة في علم المكر. في هذا الحادث المتفرد في تاريخ الشرق انفصمت آخر عروة من عرى علائق العرب بالترك، وانفصل جنين الوحدة العربية من أمه وبدأ يحبو مستقلا، ولكنه لم يزل طفلا.
ألفت هذه الرواية على إثر إلغاء الأتراك الخلافة؛ لأن الموضوع اقتدح زناد القريحة، فاقتبست شررها على الفور قبل أن ينطفئ. وإنما لم يصبها نصيب النشر عاجلا إذ كان غيرها من روايات المجلة يزاحمها. ولما كثر التحدث بأمر مؤتمر الخلافة، رأيت أن الوقت وقتها فلم أعد أسوف نشرها.
وإذا كان القارئ ممن تتبعوا أنباء تلك الحوادث في حينها، فلا بد أن يرى أن كثيرا من حوادث هذه الرواية وقائع حقيقية.
نقولا الحداد
مصر، شبرا
الفصل الأول
هزة مقدمة لزلزال
كانت الساعة العاشرة والنصف حين سمع دولة الغازي مصطفى باشا كمال دوي رصاصة لدى بوابة صرحه. فاستغرب الأمر جدا؛ لأنه يعهد أنه لا أحد يجسر أن يحرك ساكنا تحت ظل سؤدده. فمن يجسر أن يطلق طلقا ناريا لدى داره. هل من ثائر أو نذير بثورة؟
الرجل العظيم من حسب حساب كل صغيرة. فهب الغازي من مكانه وخرج إلى رحبة الدار يسأل: ما الخبر؟ فقال الخدم: إن الحارس الداخلي يا مولاي خرج يستجلي الخبر.
Bilinmeyen sayfa
وفي لحظة ظهر يقول: مولاي، جاء رجل مجنون يصر على مقابلة دولتكم في هذه الدقيقة، ولما كان ميعاد المقابلات للأشخاص المجهولين قد فات رده الحارس، فأصر، فرده ثانية، وأخيرا رام أن يدخل عنوة وقهرا، فأطلق الحارس مسدسه تهويلا له فولى. - أين هو. ألا يزال هنا؟ - أظنه ما زال واقفا في آخر الشارع. - أما ذكر من هو؟ - قدم بطاقة باسم مجهول. - استدعه حالا وقل له أني أود أن أراه. أسرع!
بعد دقائق عاد الحارس يقود شابا في شرخ الشباب، عالي الجبين وضاح المحيا، حديد الباصرة حداق الحدقة، طويل القامة أنيق الملبس.
ثم أومأ الغازي مصطفى باشا كمال إلى الحارس فخرج، وبقي الشاب وحده لديه. فقال الغازي: ماذا تريد هنا في آخر السهرة؟ - جئت بمهمة إليك. - من أنت أولا وما اسمك؟ - اسمي رجاء الدين أفندي موظف في السفارة الروسية.
فاستغرب الغازي وقال: عجبا! لا أتوقع رسولا من السفارة الروسية في مثل هذه الحال، ولا أعتاد أن يأتي إلي مندوب من السفارة بهذه الكيفية وفي مثل هذا الوقت. فلا ريب أنك ...
فقاطعه رجاء الدين أفندي قائلا: مهلا يا فخامة الغازي، لا أسهل من إثبات شخصيتي. وضرب الشاب يده في جيبه واستخرج بعض أوراق. ومن غير أن يتناولها الغازي قال: ولكن لماذا لم تقل للحارس إنك مندوب من السفارة الروسية؟! قدمت له بطاقة باسم غير معروف عندنا، فهو معذور فيما فعل. - كلا يا صاحب الدولة، إنه غير معذور؛ فقد رجوته أن يقدم بطاقتي للحارس الداخلي فأبى. فرجوته أن يسمح لي بمقابلة الحارس الداخلي كي أتفاهم معه فلم يسمح. فحاولت أن أدخل لمقابلة الحارس الداخلي عنوة فتهددني بإطلاق الرصاص. - ولكن بطاقتك لا تدل على وظيفتك. - ليس هذا شغله. كان عليه أن يقدمها لدولتكم وأنتم تفهمون. - كيف أفهم وأنا لا أعرف هذا الاسم؟ - أما خاطب سعادة السفير حضرتكم بالتلفون منذ برهة؟ - كلا. - عجبا! لقد أخبرني سعادته أنه سيخاطب دولتكم تلفونيا وينبئكم بتشرفي! - لم يفعل. وهبه فعل، فماذا كان يضرك لو قدمت بطاقة تدل على وظيفتك؟ - إني مأمور بزيارة سرية لدولتكم، وأستغرب أن سعادة السفير لم يتلفن لدولتكم.
عند ذلك رن جرس التلفون، فتقدم الغازي إلى السماعة ووضعها على أذنه، فإذا سفير روسيا يخاطبه وسخط على مصلحة التلفون لأنها لم تلبه. ثم أخبره أن مندوبا من قبله سيصل إليه ويبسط له أمرا.
فقال الغازي: لقد وصل والحمد لله بالسلامة ونجا من خطر. - عجبا! ماذا جرى؟ - حدث سوء تفاهم بينه وبين الحارس، وسيروي لك ما حدث.
فقال السفير: وهو سيروي لك الآن ماذا حدث.
عند ذلك خاطب مصطفى باشا مركز التلفون ووبخ الإدارة، وكان عذرها أن عطلا حدث كالعادة.
فتمرمر الغازي لنفسه وقال: يالله! متى نستطيع أن نتقن أعمالنا كالإفرنج! إن هذا الشرق عليل، عليل، عليل، يجب أن نطلقه.
Bilinmeyen sayfa
ثم انفرد الغازي بمندوب السفارة الروسية في مكتبه الخاص، ونظر إلى رجاء الدين أفندي كأنه يسأله ماذا يريد أن يقول. فقال رجاء الدين: إن سعادة السفير يرجو من دولتكم الرفق بوليد بك، فهو أخف جرما من سواه.
فنظر فيه الغازي مستغربا كلامه وقال: أهذا ما لقنكه سعادة السفير؟ - نعم يا سيدي، هل فيه ما يسوءك؟ - كلا، وإنما لا أعرف من هو وليد بك. - عجبا! ألا تعرف وليد بك صاحب جريدة توحيد أفكار في الآستانة؟ - لعلي لا أعرفه، وإنما أعرف أن صاحب توحيد أفكار يسمى وليد بك. - حسنا. هو الذي يرجو السفير منك أن ترفق به؛ لأن ذنبه أخف من ذنوب آخرين.
فتململ الغازي وقال: إلى الآن لم أزل غير فاهم ما تقول. - عجبا! أما أمرت بالقبض على وليد بك؟ - كلا، لماذا نقبض عليه؟ - أولا أمرت بالقبض على سواه من الصحفيين في الآستانة؟ - لا. لا. - إذن لقد تأخرتم دولتكم عن القبض عليهم، ولا بد أن تفعلوا غدا. - ولكن لا أدري لماذا نقبض عليهم. - الله! أما بلغت إلى دولتكم رسالة علي أغا خان، النبيل الهندي؟
فاختلج الغازي مصطفى باشا مضطربا، وجعل عقرب القلق يلسع صدره، فقال: رسالة أغا خان الهندي؟ لا أعرف شيئا عن رسالة لأغا خان، فما هي هذه الرسالة؟
فتمايل رجاء الدين أفندي في خيلاء وقال: وي وي! رسالة أغا خان الموجهة إليكم وفيها يطلب منكم إعادة السلطة والنفوذ للخليفة، وإلا تضعضعت صولة الدولة التركية.
فانتفض الغازي وقال: ولهذا جئت من قبل سعادة السفير؟ - نعم، سل سعادته، إني لست حائدا عن موضوع المهمة التي وكل إلي سعادته قضاءها. - إن الحديث الذي ترويه يا هذا أشبه عندي بالتخيلات الشعرية منه بالحقائق.
فضحك رجاء الدين أفندي وقال: إذن لم تزل الصولة في الآستانة كما كانت يا مولاي، فلماذا لا تقيمون دولتكم في الآستانة.
فامتعض مصطفى باشا كمال من هذا الغمز وقال: لا تخرج عن دائرة مهمتك، قل ما تريد أن تقوله باختصار وصراحة.
فأجاب: أريد أن أقول لدولتكم: إن جرائد الآستانة تنشر الرسائل الواردة عليكم قبل وصولها إليكم. فنفوذ الدولة لا يكون في أنقرة بل في الآستانة. فحبذا أن تنقلوا العاصمة إلى الآستانة لكي تنقل السفارة معكم؛ لأني ضجرت من العيشة في أنقرة وميداني في الآستانة. عذرا يا دولة الغازي، كلامي الأخير هذا خارج عن دائرة مهمتي، وجل ما أريد أن أقوله لدولتكم: إن رسالة أغا خان المرسلة إليكم نشرتها صحف الآستانة اليوم، وبعضها علقت عليها تعليقات لا تسركم. فلا بد أن تقبضوا على تلك الأقلام التي علقت عليها. ولا بد أن يكون وليد بك من جملة المغضوب عليهم الضالين. فأرجو بلسان سعادة السفير أن ترأفوا به لأنه أقل إثما وأسلم نية من سائر الصحفيين. وسعادة السفير يود أن تتغاضوا عنه إكراما لخاطره.
أما الغازي مصطفى باشا كمال فلم يكن يسمع الكلام الأخير جيدا؛ لأن باله اشتغل قلقا لهذا الخبر الغريب، وقال: ويحك يا هذا، إن كان كلامك هذا إفكا فالويل لك! كيف عرفت كل هذا وكيف تثبته؟ هذا مستحيل.
Bilinmeyen sayfa
فتبسم رجاء الدين وهو لا يتقلقل من مكانه، كأنه صاحب الصولة والدولة ومصطفى كمال الصعلوك أمامه، وقال: أما كيف عرفت كل هذا فقد جاء تفصيله من قنصلنا في الآستانة إلى السفارة هنا في تلغراف جفري سري، وأما إثبات هذا الكلام فعلى دولتكم يا سيدي، على دولتكم أن تتحققوا إن كان إفكا أو حقيقة. ولو شئت يا مولاي التحقيق الدقيق لرأيت أن الرفيقين شيشرين وتروتسكي عرفا برسالة أغا خان الهندي لكم قبل أن يكتبها.
فازداد الغازي تأثرا ودهشة وقال: مهلا يا هذا، إني مشغول على التلفون بضع دقائق.
ولكن قبل أن ينهض الغازي من مكانه وافى الحارس الداخلي بتلغراف، ففضه الغازي. وما وقعت عينه على الإمضاء إلا ضرب بيده على المكتب، فصاح: تبا له من بارد بليد. جعلناه حاكم الآستانة لكي ...
ثم أمسك عن الكلام؛ إذ فطن أنه لا يزال مع شخص غريب لا يليق أن يطعن برجال حكومته أمامه، ولكن رجاء الدين تناول الحديث معتذرا عن حاكم الآستانة وقال: عذرا يا صاحب الدولة، ليست مصلحة التلغراف أحسن حالا من مصلحة التلفون، راجع التاريخ.
وكان الغازي يقرأ التلغراف وهو ينتفض غضبا، ثم طواه وقال: لقد ثبت ما تقول يا رجاء الدين أفندي. وسيعلم الذين ... أبلغ سعادة السفير أن خاطره عزيز عندي.
وكان كلام مصطفى باشا كمال الأخير يدل على أنه خاتمة الحديث، فقال له رجاء الدين: إن سعادة السفير لا يزال يترقب بفروغ صبر الأدلة الواضحة على تنفيذ وعودكم.
فنظر إليه الغازي مستفهما وقال: أي وعود؟
فقال رجاء الدين مبتسما: الوعود المقدسة المختصة بالفائدة من محالفة الجمهورية التركية لحكومات السوفيات. - اسمح لي الآن. إن لي شغلا مع ... - عفوا يا دولة الغازي. أعلم أن لكم شغلا الآن مع عصمت باشا وغيره. ولكن شغلكم معنا أهم.
فقال مصطفى باشا كأنه يريد أن يختصر الحديث: نعم. نعم. أنا عالم أن شغلي معكم أهم. سلم على سعادة السفير وقل له أن يرجئ الموضوع إلى جلسة خاصة بيني وبينه. - عفوا يا دولة الباشا، إن كل أشغالك التي تشغلك بعد هذه الدقيقة تتوقف على معلوماتي التي لا تعلم منها شيئا بعد، والتي لا تأتيك بتلغراف من حاكم الآستانة ولا يقدر أن يفيدك إياها أحد. فمهلا، تسلح قبل أن تناضل. أنا الجبخانة يا باشا، فخذ مني السلاح والذخيرة!
فازداد الغازي دهشة لحديث هذا الرجل الذي لا يعرفه أكثر من كاتب في السفارة، وقال: هل عندك أخبار أخرى مهمة؟ - من غير شك، وإلا لما جئت أنا إليك، بل كان السفير يجتمع بك وكفى، فمهلا، إن شغلك مع عصمت باشا وشكري بك ومظهر مفيد بك ومحمد أمين بك وإحسان بك وغيرهم يمكن تأجيله. وأما حديثك معي فلا يؤجل دقيقة. - حسنا. تفضل قل ما عندك. - قبل كل شيء أرجو أن تجيب على سؤالي الأول، وهو: متى تنفذون الوعود المقدسة التي وعدتموها، وأعني بها: متى تتبلشفون تماما!
Bilinmeyen sayfa
فتجهم مصطفى باشا وقال: هل أنت مفوض بهذا الحديث! - نعم، السفير يتحاشى أن يجتمع بكم كثيرا حتى لا يجعل سببا لاتهام أعدائكم لكم. ولكنه يود أن يعلم متى تنفذون وعودكم. - يالله! أما كفاه أننا فصلنا الدين عن السياسة، وألغينا التعلم الديني أو حصرناه بفئة رجال الدين الذين جعلناهم تحت سلطتنا، وألغينا المحاكم الشرعية، ورفعنا الحجاب عن المرأة، ومنعنا تعدد الزوجات. أما كفى كل هذا؟ - فعلتم كل ذلك، ولكنكم لم تعلنوه، كأنكم تهابون مغبة إعلانه. فمتى تعلنونه؟ - تدريجيا. أما أعلنا نزع السلطة الزمنية من الخليفة! - ولكن العالم الإسلامي لا يزال يتطلع إلى منصة السلطة التركية كالركن المتين أو الحمى المنيع. ولهذا ترى أغا خان وأمثاله لا يزالون يشدون إزر الخليفة ويطالبون برد السلطة الزمنية له. والخليفة بما له من أمثال هذه المؤازرة يكيد المكايد ويدس الدسائس وينقب تحت أساس جمهوريتكم حتى يقلبها رأسا على عقب.
فانتفض مصطفى باشا كمال وازبأر شعر رأسه، وقال: ويحك! ماذا تقول؟ - أقول: إن مؤامرة عظيمة تدبر لأجل هدم الجمهورية، وستسمعون دولتكم خبرها في حينها. - أخبرني الآن ماذا تعرفه عنها، من هم القائمون بها! - ليس الآن يا باشا، ليس الآن، بل حين أستوفي معلوماتي، وإنما أقول لك: إن فريد باشا الدماد زنبلكها. - والسلطان وحيد الدين؟
فوجم رجاء الدين عن الكلام، ثم قال: يكفي الآن يا دولة الباشا أن تعلم أن هناك مؤامرة، وحين تنضج تطلع عليها جيدا، فلا تتعب نفسك كثيرا في البحث عن ذويها، لا تكسر البيضة قبل أن ينضج الجنين، وإلا فلا تستطيع أن تقتل «الكتكوت» ولا «الفرخة» ولا الديك، فمهلا، وإنما يجب أن تقتل الديك أخيرا وإلا ... - لا تكلمني ألغازا. - بل أكلمك بصراحة يا دولة الباشا، يجب أن تقطع الرأس. - أجل، أنا عالم أننا سنضطر إلى خلع الخليفة الحالي عبد المجيد.
فضحك رجاء الدين وقال: لا لا. هذا وحده لا يكفي. - وسننفي كل من يشد أزره أو يلتف حوله. - لا لا. كل هذا لا يفيد شيئا يا دولة الباشا؛ تخلعون خليفة فيأتي خليفة آخر. - إذن! - يجب إلغاء الخلافة برمتها، كما ألغى لنين البطركية بتاتا وكما ألغت فرنسا الدين والإكليريكية والرهبنات.
فاختلج مصطفى كمال، وقال: ويحك يا هذا! إن الخلافة رأس ثلاث مائة مليون مسلم. فهل تريدون أن أقطع رأس ثلاث مائة مليون مسلم! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. - نحن قطعنا رأس مائة وثمانين مليون أرثوذكسي، وسنقطع رءوسا أخرى. وإلا فكيف يتحرر العالم من قيود التقاليد القديمة لكي يستطيع أن يرتدي رداء المدينة الجديدة.
فبهت مصطفى كمال. قال: هل أنت أرثوذكسي؟ - كلا، بل أنا تركي مسلم. ولكني الآن موظف بلشفي. فبأمر سيدي السفير البلشفي أتكلم، وباسم البلشفية أقول.
فكان لفظ البلشفية يعبر في مسمعي مصطفى كمال الجبار كعبور كهرباء السمك الرعاد في بدن فريسته.
وبعد بهته هنيهة قال: إن سفيرك يطلب مني أن أحمل نقمة ثلاثمائة مليون مسلم على رأسي. - لا بأس يا باشا، إن لنين حمل نقمة ألف وخمسمائة مليون آدمي على رأسه. سمعا يا سيدي الباشا، إذا لم تستطع أن تحمل نقمة فريق من الناس، فكيف تتوقع لقب إمبراطور تركيا وتركستان؟
فانتفض مصطفى كمال وقال: ويلك، لا تجربني أيها الشيطان. من قال لك: إني أتوقع ... - التاج الطوراني؟ أجل، إذا لم تتوقعه فهو يتوقعك. إن نابليون لم يكن يتوقع أن يأخذ التاج من يد البابا ويضعه على رأسه، يا نابليون طورانيا العظمى.
فحملق فيه مصطفى كمال وقال: تبا لك من رجيم مجرب. كيف تظن أني أتشبه بنابليون.
Bilinmeyen sayfa
وكان رجاء الدين لا يزال في برودته يجاوب مبتسما، فقال: ما أنا ظننت يا سيدي الباشا. وإنما كل الأتراك، بل كل العالم يقول عنك الآن: إنك نابليون الأناضول. فإذا ألغيت الخلافة شرعوا يقولون عنك نابليون طورانيا. فلا تضع هذه الفرصة. إن أبواب سراي طولمة بغجة العظيمة وسائر سرايات الآستانة مفتوحة لجلالتكم وجلالة الإمبراطورة لطيفة هانم عقيلتكم.
فسخط به مصطفى باشا كمال وقال: ويحك يا وقح، ما هذا الكلام الذي تتطاول به؟
وهم مصطفى باشا أن يضربه، فرفع رجاء الدين يده كأنه يرد الضربة وقال: حاذر يا باشا أن ترفع يدك علي، فكأنك ترفعها على لنين. لا تنس أني موظف في سفارة روسيا.
فارتد مصطفى باشا كمال واجما وامتلك عنان خلقه، ثم قال: ولكنك تماديت في الحديث معي كأنك تمازحني. - كلا يا مولاي، لست أمازحك. وإنما أريك المستقبل في مرآة جلية واضحة. فإن لم تشأ أن تنظره فلا تلم إلا نفسك. الخليفة يخلع والخلافة تلغى، وإلا فالجمهورية التركية تنسف نسفا والحلم الطوراني يذهب وهما بعد أن كان حقيقة.
وهم رجاء الدين أفندي أن ينهض لكي يخرج، فأمسك به مصطفى باشا قائلا: مهلا. - أظن أنه حان الوقت يا مولاي لاجتماعكم بعصمت باشا وغيره من الأعوان. - مهلا. أود أن أسألك أمورا. - تفضل يا سيدي سل، إني في خدمتك بكل إخلاص. - تقول إنك تركي. وما الذي قذف بك إلى حضن السفارة الروسية؟ - وماذا يمنع هذا يا مولاي؟ يقول المثل: «حيث ترزق الزق.» - ليس ما يمنع ذلك يا صاح. وإنما رجل مثلك تحتاج إليه الجمهورية أكثر من روسيا. - لا بأس! أستطيع أن أخدم الجمهورية وأنا في سفارة روسيا أكثر مما كنت خارجها، ولا سيما لأن مصلحة الجمهورية تتفق مع سياسة الحكومة الروسية البلشفية. - كيف تستطيع أن تخدم الجمهورية؟ - بما يتسنى لي من الاطلاع على خفايا أعدائها وأسرارهم. - كيف يتسنى لك ذلك؟
فضحك رجاء الدين وقال: أوه! إني أعرف كل أعداء الجمهورية. ومعظمهم في قصور الأمراء. وأعرف الأمراء واحدا واحدا. وأعرف أصل كل واحد وفصله. - لعلك كنت متصلا بهم جميعا. - بل كنت متصلا ببعضهم. كنت سكرتيرا مدة عام للداماد فريد باشا، وكاتبا في دائرة البرنس برهان الدين أفندي، وبعد حين مديرا لأشغال البرنسس خديجة هانم بنت السلطان مراد. وأخيرا كنت سكرتيرا للبرنس سناء الدين. وأعرف جميع الأمراء. - ولكن هذا يستلزم أن تكون في الآستانة يا صاح.
فابتسم رجاء الدين وقال: أقدر أن أكون حيث أشاء متى أشاء يا سيدي. - وإنما إذا كنت تجد أقل صعوبة أو عرقلة، فإني أسهل لك كل سبيل. - إن السبيل سهل يا سيدي بإذن الله. أستودعكم الله الآن يا صاحب الجلالة الإمبراطور العتيد. إن طورانيا وضعت فيكم كل آمالها. فحققوا هذه الآمال. أظن جرس التلفون ... لعل عصمت باشا يريد أن يخاطبكم الآن. وداعا! - إلى ملتقى قريب يا رجاء الدين أفندي، أود أن أراك من حين إلى آخر.
الفصل الثاني
جوزفين مصطفى
وكأن رجاء الدين أفندي كان نبيا، فإن حرم عصمت باشا كانت تخاطب دولة الغازي بالتلفون لأن عصمت باشا ضعيف السمع، فسألت: هل عند دولتكم أخبار جديدة من الآستانة؟
Bilinmeyen sayfa
فأجاب الغازي: نعم يا هانم. سلي سعادة الباشا هل يمكنه أن يأتي إلى هنا الآن. هل ورد له خبر؟ - نعم، ورد تلغراف من حاكم الآستانة الدكتور عدنان بك. - إذن هو نفس نص التلغراف الذي ورد إلي. قولي للباشا أن يحضر. هل يقدر؟ - لقد انتصف الليل يا باشا. - نعم. ونحن ما تعودنا أن نفرق بين الليل والنهار يا هانم.
وحدثت فترة خاطبت الهانم فيها عصمت باشا، ثم قالت: نعم، الباشا يقول أنه في برهة قصيرة يكون عندكم.
ثم خاطب الغازي كلا من سيد بك وزير الحقانية، وشكري بك نائب أزمير، وطلب إليهما أن يأتيا إليه.
ثم دخل إلى قسم الحريم فوجد لطيفة هانم زوجته لا تزال مستيقظة. فنظر فيها ونظرت فيه، وقال: ما بالك يقظة؟ لماذا لم تنامي؟
فأجابت: وأنت ما بالك متجهما هكذا؟ إن من يراك يظنك تبتغي المصارعة.
فحاول الابتسام وقال: نعم، إني أستعد لاحتمال نقمة ثلاث مائة مليون. - ثلاث مائة مليون ليرة ورق أو ذهب؟ دع هذا الحمل على رأس وزير المالية أو على المجلس الوطني الكبير.
فقهقه مصطفى باشا بالرغم من اضطراب مقلتيه في وقبيهما بسبب خفقان فؤاده، وقال: لله منك! ألا تلهجين بغير الذهب؟ ولكنك معذورة، فإن النساء نساء حيثما كن وكيفما كن، لا يخلب ألبابهن إلا بريق الذهب والجواهر. - إذن ضعوا هذه المسئولية على أعناق السيدات وكل واحدة تنزع عقدها من جيدها وتقدمه للوطن. وأنا أفعل ذلك في مقدمتهن. - بورك بك وطنية غيورة يا عزيزتي. لست أقصد ثلاثمائة مليون ليرة، بل ثلاثمائة مليون نفس سأتعرض لنقمتها.
فهبت لطيفة هانم من مكانها مذعورة، وقالت: ويلاه! لماذا؟
فقال الغازي ممازحا: لكي أجعلك إمبراطورة في قصر طولمة بغجة. ألا تريدين؟
فتوردت لطيفة هانم زوجته وقالت: بالله ماذا تقول يا مصطفى؟
Bilinmeyen sayfa
فقال متظاهرا بالجد: أقول: سأخلع الخليفة والخلافة معا، وأطرد كل بني عثمان من تركيا الجمهورية. فاستعدي لكي تتوجي إمبراطورة في الآستانة.
فقالت ومقلتاها تضطربان في وقبيهما اضطراب الزئبق في كف الأشل: أتمزح يا مصطفى؟ إن كثيرا من المزاح يتحول إلى جد. لقد كان نابليون يمازح جوزفين قبل أن صار إمبراطورا.
فكادت نشوة الغرور ترفع فؤاد بطل أنقرة إلى أعلى صدره. ولكن فخر رجال اليوم بالزعامة أعظم من فخر رجال الأمس بالتيجان، فقال مستدركا غرور زوجته: نحن نهدم إمبراطورية لكي نبني جمهورية يا لطيفة. ولا محل لإمبراطور في الجمهورية.
فقالت: ولكن في عهد نابليون احتاجت فرنسا الجمهورية الجديدة إلى إمبراطور، فولت نابليون. أو هو تولى وخلع سلطة البابا عن أوروبا كلها. أفلا يحتمل حدوث ذلك في جمهورية تركية لعهد مصطفى كمال نابليون تركيا؟
فقال باسما ومبالغا في الممازحة: ولكني أخاف أن تنوئي تحت تاج الإمبراطورية التركية يا لطيفة!
فقالت: أما زلت تظن هذا مستحيلا والناس يعتقدونك نابليون تركيا الذي ليس في قاموسه لفظ المستحيل؟ ليتك تفكر في المسألة بجد يا مصطفى. إن عرش تركيا الجديدة يكاد يكون تحت قدميك. الفرصة سانحة فلا تضيعها.
فقال الغازي مبالغا بالممازحة: وتريدين أن تكوني جوزفينا لنابليون تركيا؟
فقالت: لا وربك. أتجهل ماذا كان حظ جوزفين مع نابليون حين صار إمبراطورا.
فطوق عنقها بذراعه وقبلها قائلا: معاذ الله أن يكون حظك كحظها؛ لأنه لا يوجد لنابليون تركيا «أنة» بنت ملك نمسا. فأنت «أنة» مصطفى و«جوزفينه» معا.
فنظرت إليه نظرة دلال وقالت: إذا لم توجد «أنة» بنت ملك نمسا فتوجد نميقة بنت الأمير سناء الدين. - ما الذي جعلها تخطر على بالك الآن! - الحديث. والحديث أعاد ذكرى ماضية. - أي ذكرى؟ - أتتجاهل أن نميقة كانت في قائمة العرائس اللواتي افتكرت فيهن. - انا لم أفتكر بواحدة. وإنما عرضت علي فتيات كثيرات فما اخترت سواك. - أوما كانت نميقة من جملتهن؟ - لقد حاول أبواها أن يصاهراني فلم أرد. - عجبا! كيف ترفض أميرة معروضة عليك عرضا كالسلعة؟ - لأني لا أريد أميرة مؤمرة، بل أريد أن أبدع أميرة أنا أؤمرها. - هل رأيت نميقة؟ - لا، حتى ولا أبويها، ولا أعرفها. - إنها جميلة. - أتعرفينها؟ - نعم، كنا معا مدة في مدرسة واحدة. - إذن تعرفين كثيرا من أحوالها. - نعم، إنها تمثال الكبرياء والحسد والغيرة والغرور والتهور والطيش. - عجبا عجبا! - نعم، وأمها قبلها. وإذا تسنى الآن لنميقة أن تذبحني فلا تتأخر. - خسئت. لا تستطيع أن تنال منك قلامة ظفر. - بل استطاعت. - عجبا! كيف؟ - لما ذهبنا بعد زواجنا إلى الآستانة، زارتني بعض البرنسات وبعض حريم الباشاوات، إلا هي ، فقد استنكفت أن تزورني. وبعض الزائرات نقلن إلي حديثا جرى في مجلس البرنسيس سنية هانم أم نميقة حرم البرنس سناء الدين، مفاده أنها تحتقر كل أميرة تزورني. وكانت تقول: من هي هذه الحقيرة لطيفة التي تزرنها! ومتى كانت أميرات آل عثمان يزرن عبيدهن؟ ومن هو مصطفى كمال حتى تصبح زوجته، وهي من عاميات أزمير، مزارا للأشراف والأميرات؟! ما هو إلا جندي متمرد. بمثل هذا الحديث كانت سنية وبنتها نميقة تتدفقان.
Bilinmeyen sayfa
فقهقه مصطفى كمال باشا وقال: خففي من حقدك يا عزيزتي، إن سنية هانم وبنتها معذورتان أن تهيجا غضبا وحقدا بعد أن رفضت أنا نميقة زوجة.
فتدللت لطيفة هانم وقالت: من يدري أن لا تتزوج نميقة وتجعل أباها خليفة، فيكون مؤتمرا بأمرك. - هذا ما كان يحلم به البرنس سناء الدين فيما أظن، ولكن لم أنله وطره. - ليس ما يمنع أن تنيله إياه يا مصطفى إذا اقتضت السياسة، كما اقتضت سياسة نابليون أن يتزوج «أنة» بنت ملك النمسا. - يستحيل. لأننا قررنا في قانون الجمهورية تحريم تعدد الزوجات. - نابليون لم يتزوج «أنة» إلا بعد أن طلق جوزفين. - وقررنا في قانون الجمهورية تحريم الطلاق إلا لسبب يقتضيه. وحيث يوجد حب فلا يكون طلاق. - ما أظن نابليون أحب امرأة كما أحب جوزفين. ومع ذلك طلقها لأن السياسة اقتضت ذلك. - نابليون كان مغرورا يريد ولي عهد، فما بقي ملكه ولا ولي عهده. - إن ولي العهد في يد الله يا عزيزي. - لست أطلب منك إلا الحب يا لطيفة، وأعاهدك على أن أقلب ملك آل عثمان عن العرش ... أظن عصمت باشا جاء، فيجب أن أقابله الآن.
وخرج مصطفى من خدر زوجته إلى بهو المقابلة.
الفصل الثالث
شرارة حب تحولت إلى شرارة غضب
ننتقل بالقارئ الكريم إلى الآستانة، حيث نجد البرنس سناء الدين جالسا في مجلسه الخاص ومعه صديق يدعى نامق بك، وهو يرتجف غضبا أو غيظا، ويقول: ما خطر لي قط أن الشخص الذي أحسن إليه يكون عقربا فيلسعني في أرق عواطفي. خذ يا عزيزي نامق بك اقرأ هذه الرسالة.
ودفع إليه ورقة، فقرأ ما يأتي:
صاحب السمو البرنس عثمان أفندي
إني عارف بسر تجهله، ولا أدري إن كان يعرفه شخص آخر أيضا. ولما كان يهمك أن تعرفه رأيت أنه يجب علي أن أبوح لك به.
لقد خطبت سمو الأميرة نميقة هانم كريمة سمو البرنس سناء الدين أفندي، وإلى الآن لم تدر أنها عشيقة شخص آخر يدعى أمل الدين أفندي رغبت. فقد كان مدة في خدمة سمو البرنس سناء الدين وأتاحت له الظروف أن يتعرف بالأميرة نميقة وتنقدح بينهما شرارات الحب. وإثباتا لذلك أرجو أن تتأمل الصورة التي تجدها طي هذا. ومتى تيقنت صحة هذا السر فهمت لماذا لا تجد من الأميرة نميقة الميل الذي تبتغيه؟ بل لماذا تجد منها الجفاء الذي يؤلمك؟ ها قد عرفت الحقيقة، فلا تلم في المستقبل إلا نفسك إذا عرضت لك أمور لا تسرك. قد تسخط على من يفضح لك هذا السر، ولكنك تشكره على كل حال.
Bilinmeyen sayfa
المخلص
صديق من بعيد
فلما انتهى نامق بك من تلاوة هذا الخطاب امتقع قليلا، وقال: كيف وصل هذا الخطاب إلى سموك يا مولاي؟
ورد مع هذه الرسالة من البرنس عثمان. تفضل اقرأها.
فتناول نامق بك ورقة أخرى، وقرأ:
سيدي البرنس سناء الدين
ورد إلي أمس هذا الخطاب، وطيه الصورة التي تجدها معه. وبعد تردد طويل رأيت أن من الواجب أن أرسلهما إليك لأن أمرهما يهمك. واقبل فائق احترامي.
ونظر نامق بك إلى البرنس سناء الدين أفندي، ففهم هذا أنه يريد أن يرى الصورة، فقدمها له بيد ترتجف. فلما رآها نامق بك اكفهر وقال: هذه صورة نميقة هانم، وإلى جنبها ... هل هو أمل الدين المشار إليه بالرسالة؟ - أي نعم يا عزيزي. هي صورة ذلك الساقط الذي كان جائعا فأشبعته وعاريا فكسوته. وكان يتواطأ على قدمي تذللا وعبودية. - ولكن كيف أمكنه أن يتصور والأميرة إلى جنبه. - أيصعب عليه يا عزيزي أن يسرق صورتها ويكلف مصورا أن يحتال على وضعها بأسلوب شيطاني إلى جنب صورته، ويأخذ عنها صورة فوتوغرافية واحدة كأنهما كانا واقفين جنبا إلى جنب؟
فقال نامق بك: والله إنها لبراعة. والله إنها لقباحة ووقاحة لا مثيل لهما، إن ذلك الخائن يستحق قطع العنق. - قد لا أعتب على ذلك الرذيل القبيح السافل المنحط الذي فعل هذه الفعلة الشنيعة. وإنما أعتب على البرنس عثمان لتصديقه إفك هذه الرسالة التي يراد منها الفتنة بيننا وبينه، وأما ذلك الوغد الزنيم الذي يحاول التطاول على أعراض الأمراء فلا يستحق أن نلتفت قط إلى رذائله أو أن نهتز لها. أما البرنس عثمان، وهو العزيز في الأسرة والمؤمل بأن يكون فخرها، فلم يكن يظن أن تؤثر عليه هذه السعاية الشنيعة تأثيرها الذي أراده فاعلها، بل كنت أومل أن يكون ساخطا على ذلك الوغد الزنيم.
فقال نامق بك: ولكني لست أرى في رسالة البرنس عثمان ما يفيد تغيير قلبه. - عجبا يا عزيزي نامق بك، ما الداعي أن يرسل هذه الرسالة مع رسول خاص. وماذا يمنع أن يأتي بها هو بنفسه إذا لم يكن قلبه متغيرا؟ لقد انقطع عن زيارتنا من أول أول أمس. فما معنى هذا؟
Bilinmeyen sayfa
ففكر نامق بك قليلا، وقال مترددا: وإنما هل يمكنني أن أسأل يا سمو البرنس عن صحة كلام ذلك الأفاك الزنيم بشأن جفاء نميقة للبرنس؛ لأن في نيتي أن أباحث البرنس في الأمر، ولذلك أود أن أكون على بينة من كل شيء. - لا بأس أن تخاطبه يا عزيزي نامق بك. وإنما أود أن يفهم من مخاطبتك له أنه ليس الغرض من مخاطبته العودة إلى نميقة؛ لأن ذلك لم يعد يهمني. وإنما أود أن يقتنع أن هذه الصورة مفتعلة بلؤم ومكر، وأن الأميرة نميقة بريئة من كل ما يتهمها به ذلك الوغد الزنيم. - بالطبع هذا أول ما يجب أن أقنعه به؛ صونا لطهر كريمتكم المصونة الأميرة نميقة، ولاعتصام مقامكم السامي بالنبل والمجد والشمم. وبعد ذلك نرى ماذا يكون بيننا وبينه. - حسنا، وأنا أدعو نميقة الآن وأنت تسمع كلامها. فأنت كعمها وهي لا تستحي في مجلسك الشريف يا عزيزي نامق بك، بل أتركها معك لكي تقول لك كل ما في نفسها، حتى إذا كانت تكتم عني أو عن والدتها أي عاطفة فلا تكتمها عنك.
وفي الحال استدعى البرنس سناء الدين بنته الأميرة نميقة، فبدت بدو البدر من وراء الغيوم. سبحان مقسم المحامد والمواهب. بهاء تستتر الشمس من أمامه خجلا وتضطرب الدراري في السماء لديه غيرة وحسدا. وهي القامة التي قال فيها الشاعر:
سافر الوجه عن محاسن بدر
مائس القد عن معاطف بانه
لست أدري أراكة هز من أع
طافه الهيف أم لوى خيزرانه
وهما اللحظان اللذان قال فيهما آخر:
وألحاظ بأسياف تنادي
على عاصي الهوى الله أكبر
وهما الوجنتان اللتان قال فيهما المعز:
Bilinmeyen sayfa
أطلع الحسن من جبينك شمسا
فوق ورد في وجنتيك أطلا
وكأن الجمال خاف على الور
د جفافا فمد بالشعر ظلا
وهو الثغر الذي قال فيه شهاب الدين الأعزازي:
ثم اتخذن من المدام مراشفا
ونظمن من حبب المدام ثغورا
ولما استوت في مقعدها كاستواء الشمس على نصف قامة فوق الأفق، وبادلت نامق بك التحية، خرج البرنس سناء الدين مستأذنا بحجة أنه فطن لأمر كان قد سها عنه.
ولما خلا المكان لها ولنامق بك سألها هذا: اسمحي لي يا بنتي يا أميرة نميقة أن أغنم هذه الفرصة القصيرة لأسألك سؤالا بيني وبينك، قد لا يتسنى أن أسألك إياه في فرصة أخرى. هل بينك وبين البرنس عثمان من جفاء؟
فأجابت الأميرة نميقة بصوت خافت: لا. - اعلمي يا بنتي أن على جوابك هذا تتوقف سعادتك. إذا كان لم يكن منك رضى تام فلا يحسن أن تكوني له زوجة في المستقبل لئلا يتنغص عيشك.
Bilinmeyen sayfa
فازدات الفتاة توردا وقالت: إن هذا الحديث قد انبت فيه يا سيدي نامق بك، وقد سلمت الأمر لوالدي لأنهما أعظم مني علما وحكمة وخبرة. وهما قد قررا قرارهما وانتهى الأمر.
وهنا شعر نامق بك كأن الحديث انتهى، ولكن ضميره غير مطمئن للنتيجة، فسكت هنيهة ثم قال: وهل كان من علاقة بينك وبين أمل الدين أفندي رغبت؟ - كان أمل الدين كاتبا عندنا وكان يقضي مهام أبي البرنس. ولم تكن بيني وبينه أية علاقة سوى هذه المعرفة البسيطة. - وما قولك بالرسالة والصورة؟
فامتقع لون الأميرة نميقة أي امتقاع، وكان من يراها في تلك اللحظة يظن أنها تشتعل تأثرا، فقالت:عفوا يا سيدي نامق بك، لا رأي لي في ذلك البتة. ولا أدري كيف يجوز أن أسأل هذا السؤال أو أن أكون مسئولة عن عمل أجهل مصدره وسببه ولا طوق لي بتلافيه. ألا توافقني يا سيدي على أن الناس أحرار في أعمالهم ساءت أم حسنت؟ - نعم. نعم. وإنما كل غرضي من هذا الحديث يا بنتي أن أعلم حقيقة ضميرك لكي أعلم كيف أباحث البرنس عثمان في المسألة، ليس فقط لإزالة أي عثرة أو عقبة بينكما بل للحرص على شرف الأسرة.
عند ذلك باغتهما دخول البرنسيس سنية هانم زوجة البرنس سناء الدين. وهي كالفرس الجموح التي ازدرت فارسها ولم تعد تطيق عنانها في يده.
دخلت وارتمت توا على المقعد واكمداد الغضب على وجهها كالدخان فوق الأتون المتقد. وما أن استوت على المقعد حتى قالت: عذرا يا سعادة نامق بك، إن الشخص الذي يجب أن أبرهن له شرفي وطهارتي ولا يسلم بهما إلا ببرهان، لا يستحق أن يكون زوج بنتي. أحمد الله أنه حتى الآن لم يكتب عقد الزواج. إن البرنس عثمان من أنبل نبلاء الأسرة العثمانية السليلة المجد، فهو حفيد سلطان، وكذلك زوجي ابن سلطان وأنا حفيدة سلطان أيضا وبنتى حفيدة سلطان. وإذا كان بيننا وبينه من تمايز فنحن المتمايزون. ولذلك أرجو منك يا حضرة الصديق المخلص ألا تكلف نفسك أي مشقة في مخاطبة البرنس عثمان. إذا كان سموه يريد بنتي فيجب أن يسعى كثيرا للحصول عليها بعد أن يبرهن كفاءته بكل وسيلة.
وكانت البرنسيس سنية هانم تزداد حدة جملة بعد جملة. فما أتت على الجملة الأخيرة حتى كادت تختنق بالكلام. فتداركها نامق بك قائلا: عفوا وعذرا وحلما يا سمو البرنسس السلطاني. لست أنوي قط أن أرجو البرنس عثمان رجاء أن يتزوج العزيزة الأميرة نميقة. أظنك تثقين أني أعرف كيف أتكلم. - نعم. ولكني كنت أظن يا حضرة الصديق أنك تستنكف مخاطبة البرنس عثمان بأي أسلوب بعد أن يقبل خطابا وسخا كذلك الخطاب وصورة مصطنعة بيد شيطانية كتلك الصورة ولا يتردد في إرسالهما إلينا. وأخيرا يقرر أن يرسلهما ولا يخجل أن يرسل لنا نتيجة مكيدة لخزي بنتنا وعارها. ولو كان نبيلا حقيقة لكان أقل ما يجب أن يفعله هو أن يمزق ذلك الخطاب القذر ويحرق تلك الصورة المخزية، لا أن يرسلهما إلينا لكي تطلع بنتي على أمر مشين. وإن كان الأمر قد همه فقد كان حريا به أن يبحث عن الدساس الكائد ويحرض أحد رجاله أن يلطمه كفين ويصفعه صفعتين. نعم، كان يجب أن يفعل ذلك من غير أن يدعنا نعرف شيئا. أما وقد أرسل لنا الخطاب البذيء والصورة مع خطاب بارد فصرنا نخجل أن نقول: إننا نعرف شخصا يدعى البرنس عثمان ويدعي أنه نبيل. لا لا، أرجو منك يا نامق بك ألا تخاطبه بهذا الأمر بتاتا. لقد انتهت كل علاقة بيننا وبينه. هلمي يا نميقة.
وقامت البرنسيس سنية تتبعها نميقة من غير أن تدعا لنامق بك فرصة لكلمة.
عند ذلك دخل البرنس سناء الدين مستغربا خروج زوجته في حالة تأثر شديد. فسأل نامق بك في أمرها. فأخبره ماذا كان من حديثها.
فقال سناء الدين: إني أعذر نفسها الكبيرة، فإنها تتأثر كثيرا. فاعذرها يا عزيزي نامق بك. - إني أمتدح أنفتها هذه. وإنما سأعمل عملي بحسب ما تعهده من حكمتي يا سيدي البرنس. هل تسمح لي بالخطابين والصورة إلى حين؟ - لا بأس، وإنما أرجو ألا يراهما أحد.
الفصل الرابع
Bilinmeyen sayfa
التنقيب تحت عرش
ثم قال البرنس سناء الدين بصوت خافت، كأنه يريد أن يدخل في حديث يخشى عليه من كيد الجواسيس: وماذا عندك يا نامق من الأخبار الجديدة من جهة سان ريمو؟ - أهم أخباري من جهة أنقرة يا مولاي.
فاشرأب البرنس سناء الدين وقال: ماذا يا نامق. ماذا عندك من أخبار أنقرة؟ - إن زوبعة هائلة قادمة من أنقرة يا سيدي البرنس. فإذا لم تتأهبوا لها أطارتكم بين السماء والماء. - ويحك ماذا؟ هل ينوون خلع الخليفة عبد المجيد؟ - لو كانت الزوبعة تقتصر على خليفة فقط لكانت نعمة؛ لأنها قد تئول إلى تنصيبك أنت في عرش الخلافة. ولكنهم يتحدثون عن إلغاء الخلافة برمتها.
فانتفض سناء الدين في مكانه كأنه جالس على كرسي مكهرب، ثم قال: ويحهم من مجانين. كيف يكون ذلك! لا أظنهم يجنون هكذا يا نامق. لا تصدق كل ما تسمع. ربما كان بعض غلاة الجمهورية المتفرنجين يتحدثون به في مجالسهم. وأما مصطفى وعصمت وغيرهما فيستحيل أن يتهوروا إلى هذا الحد. - كذا أعتقد يا سيدي البرنس. ولكن ألا تعلم أن العجين يختمر كله من خميرة صغيرة؟ فإذا لم تقابل حركة الغلاة حركة مقاومة لها بشدة امتدت إلى نفوس العقلاء كمصطفى وعصمت وغيرهما. وكل فكرة ثورية ابتدأت أولا عند المتهورين المتهوسين. الفكرة الثورية لا تنشأ في رءوس المتعقلين المتبصرين ولا في رءوس الزعماء والقادة ولا في أدمغة أهل العلم والحنكة وأساطين الساسة. بل تبدأ في العصبيين المتهوسين من عامة الشعب، بل قل: في المجانين. ثم تسري في الجمهور سريان الداء في البدن، فتعدي الطبقة الوسطى ثم الخاصة ثم أهل الحنكة والسياسة. وثم تستنبت منهم زعماء وقادة للحركة.
وكان البرنس سناء مضطرب النفس يبدو اضطرابه في كلامه وجلسته وحركاته، فقال: يستحيل يا نامق، يستحيل. لا أعتقد أن مصطفى وأعوانه يجنون هذا الجنون ويتركون من يدهم قوة سياسية عظيمة كانت فيما مضى مصدر عز الدولة وصولتها وسؤددها، ولا تزال كذلك حتى هذه الساعة، بالرغم من فصل السلطة الزمنية عنها. لا تزال تركيا حتى هذه الساعة كلما هاجمتها الدول الغربية تتحرك لها الهند ومصر وتونس ومراكش وكل بلاد إسلامية في العالم. فلا أصدق أن هؤلاء المستفحلين المتغطرسين يجنون إلى حد أن يخسروا هذه القوة بلا ثمن أو عوض أعظم. - يعتقدون يا سيدي البرنس أنهم يستعيضون منها بالتمدن الغربي الذي لا مناص منه لكل أمة تريد السير في سبيل النجاح إلى جنب الأمم الغربية، وإلا هلكت. كذا يعتقدون. - ولكن الخلافة لا تقف في سبيل تقلد محاسن التمدن الغربي. ولا سيما لأن الحسن والجيد من التمدن الغربي مقتبس من تمدن شرقي سبقه. فنحن يمكننا أن نسترد كل محاسن التمدن الغربي الحاضر ونظل ضمن دائرة شريعتنا الغراء السمحاء. فإذا كانوا لهذا الغرض يريدون إلغاء الخلافة فلا ريب أنهم مجانين. يستحيل أن يرتكبوا هذا الضلال. - لا شيء مستحيل يا سيدي. إن لمصطفى وعصمت وغيرهما نظريات غير نظرياتنا.
فتململ البرنس سناء الدين وقال: لا يا نامق، لا تظن أن مصطفى كمال وعصمت وأعوانهم يجسرون أن يحملوا على رءوسهم نقمة ثلاثمائة مليون نسمة بسبب إلغاء الخلافة.
فضحك نامق بك وقال: لا ينقم عليهم أحد يا سيدي البرنس. بل جميع الأمم تسر بإلغاء الخلافة من تركيا؛ لأن إلغاءها منها ليس معناه إلغاء الخلافة من العالم الإسلامي كله. فإذا ألغوها من تركيا تنازعتها الأمم الإسلامية الأخرى.
فتبرم البرنس سناء الدين وقال: مهما يكن الأمر، فلا أظن أن مصطفى وعصمت يفاديان بقوة الخلافة العظمي لقاء أي فدية أخرى؛ إذ لا تعادلها قوة أخرى يمكن اكتسابها بإلغائها. فهل أنت واثق بصحة هذا الخبر؟ - نعم يا سيدي البرنس. إني واثق بأن الخبر آخذ شأنا بين بعض الأمراء الآن لأن مصدره وثيق. والظاهر أن الحركة تجاوزت المتهوسين إلى المتعقلين. وصار مصطفى وأعوانه يتباحثون فيها. - من هم الأمراء الذين تشير إليهم؟ - برهان الدين وفريد باشا الداماد ومحمد سيف الدين أفندي وعبد الكريم أفندي، وغيرهم. وهم يتحادثون الآن بعقد مؤتمر من جميع الأمراء يقررون فيه خطة السير مع الجمهورية، من غير أن يغض من مقام الخليفة أو حقوق الأسرة. وإلا فإن مصطفى وأعوانه يتمادون في اهتضام حقوق الأسرة وإضعاف نفوذ الخليفة.
فتململ سناء الدين وقال: إن المصيبة كلها أتت من قبل الخليفة عبد المجيد؛ لأنه ما صدق أن تربع في العرش من غير قيد ولا شرط كما يريد الكماليون، فضيع حقوق الخليفة وحقوق الأسرة جميعا. ولو جمعنا - نحن الأمراء - كلمتنا في ذلك الحين واتحدنا اتحادا متينا لأمكننا أن نحول دون خلع السلطان وحيد، وكان السلطان وحيد قد ثبت في عرشه لو وجد حوله معضدين ومناصرين. نعم، كان يبقى في العرش ولا يهرب ولو عرض نفسه للخطر. ولكننا نحن نهدم مصلحتنا بأنفسنا. فهل رجع هؤلاء الأمراء إلى رشدهم الآن وصاروا يودون أن يعقدوا مؤتمرا يوحدوا كلمتهم! لقد فات الوقت وضاعت الفرصة واستفحل الكماليون، فماذا يفعل الأمراء! - الظاهر أن فريد باشا الداماد يريد أن يجدد اتحاد الأمراء. والسلطان وحيد يوعز بالتعليمات. والمسألة آخذة الآن دورا اللهم من غير علم الخليفة عبد المجيد. - عجبا! ماذا علمت من هذا الدور؟ - لقد وفد إلى الآستانة منذ عهد قصير شخص ذو شأن يظهر أنه ذو اتصال بالسلطان وحيد، واسمه رجاء باشا راغب، ويقال: إن نسبه من جهة أمه يتصل بالأسرة العثمانية الكريمة. - رجاء باشا راغب؟ لم أسمع بهذا الاسم من قبل. - نعم، لم يكن معروفا لأنه قضى برهة طويلة في أوروبا. وقد اتصل أخيرا بالسلطان وحيد في سان ريمو وجاء برسالة منه إلى الداماد فريد باشا. وهو الآن يفاوض الأمراء ويأخذ رأيهم في عقد هذا المؤتمر قبل أن يتقرر عقده. - أخاف أن الكماليين يخنقون هذا المؤتمر وهو جنين يا نامق. - رجاء باشا يقول إنه يتحمل كل مسئولية، ولا سيما لأن الغرض من المؤتمر ليس مناهضة الكماليين بل الاتفاق معهم على كيفية معينة لمعاملة العيلة.
ثم قال نامق بصوت كالهمس: وأخيرا يمكن الاتفاق معهم على خلع عبد المجيد؛ لأنهم ليسوا مسرورين منه كثيرا، وإعادة السلطان وحيد الدين إلى العرش أو تعيين أمير آخر. ولماذا لا تتعين أنت يا سمو البرنس؟!
Bilinmeyen sayfa
فأبرقت أسرة البرنس سناء الدين وقال: لا، لا أريد أن أزاحم، وإنما أود أن يتقرر أمر الأسرة تقريرا نهائيا ولا يكون موضوع مساومة بين عبد المجيد وعصمت ومصطفى. - كل شيء ممكن يا سمو البرنس إذا كان الأمراء يتكاتفون. فلماذا لا تزور رجاء باشا وتتباحث معه في الأمر وتبدي له رأيك، فهو يقيم في منزل فخم.
لماذا لا تدعوه إلى هنا؟ - الأفضل ألا يأتي لئلا يشتبهوا بمؤامرة، وأما زيارة الأمراء له فتقصر الشبهة عليه، وهو محتاط لكل مسئولية. والظاهر أنه مسلح بحمايات دولته. - إذن زرته؟ - نعم، فقد انتدبني فريد باشا الداماد لمقابلته لأجل مسألة بهذا الموضوع؛ لأن فريد باشا يتجنب أن يتردد عليه كثيرا، ولا يخفى عليك أن فريد باشا يثق بي كما تثقون سموكم. وتعلمون أني كنت سكرتيره في سفارة ... - نعم لا أنسى، وإذا كان رجاء باشا هذا حاصل على حماية دولية قوية فلا خطر من تداخله. وإنما هل هو أهل؟ - يلوح لي يا سمو البرنس أنه داهية عظيم يعرف أمورا كثيرة، وله نظر صائب في الأمور. فحبذا أن تزوره. - لا بأس أن أزوره، متى؟ غدا؟ ألا يوافق غدا؟ - حسنا، أنا اليوم أبلغه أنك مشرف غدا بعد الظهر. وسأقابل البرنس عثمان اليوم وفي جلسة واحدة ينتهي الأمر معه، وأفهمه أنه أخطأ بقبول خطاب وسخ كهذا على علاته. وكان يجب أن يفهم من نفسه أن كل الحكاية مفتعلة بسوء قصد. - أي نعم. ولا تعلق أهمية كبرى على كلام البرنسيس سنية هانم. فهي من شدة غيظها ... - أي نعم. إني أعرف مزاجها وطبعها، وقد عذرتها، وسأبذل جهدي بإقناع البرنس عثمان أن يعيد مياه الود إلى مجاريها. - نعم. نعم. هذا ما يهمني جدا يا عزيزي نامق. أود أن يتم الأمر عاجلا. إذا أمكن أن نكتب الكتاب في هذا الأسبوع كان أفضل؛ تجنبا لمثل هذه السعايات الدنيئة.
فتلمظ نامق بك لعابه، ثم قال: إني أود أن أكون مسلحا بكل السلاح يا سمو البرنس حتى أستطيع النصر. هب أن البرنس عثمان فاجأني بحكاية أخرى كهذه أو بتفاصيل عن هذه الحكاية كان علمه بها سببا لإحجامه هذا، فيجب أن أكون عارفا بكل شيء حتى أعلم كيف أجاوبه. فاسمح لي أن أسأل بحرية سؤال صديق مخلص: هل كان بين سمو الأميرة نميقة وذلك الوغد أمل الدين رغبت شيء من التودد؟
فتمهل سناء الدين باشا، وقال: كان ذلك الزنيم كاتبا عندي، وكنت أكل إليه كثيرا من أشغالي، فكان يقضيها كالواجب لأنه ذكي . ولذلك كنت أعامله كخادم أمين وأقربه، حتى أصبح ذا دلال علي. وكان يأتي أحيانا إلى المنزل لقضاء أشغال الأميرتين، فصارت له علاقة معرفة بهما، كمعرفة الخادم بالسيد. وما خطر لي أن تسامحنا معه يجرئه أن يتواقح ذات يوم ويطلب مني أن أزوجه نميقة. فلطمته على وجهه وشتمته وحذرته أن يفوه ثانية بمثل هذا الكلام. فأجاب بكل قحة أنه ليس تحت السماء من قوة تمنعه أن يفوه بمثل هذا الكلام وبأعظم منه، لأنه يحب نميقة ولا يكف عن طلبها. فغضبت عليه غضبا شديدا وقلت له: من أنت يا هذا حتى تتجاسر على طلب يد أميرة لا تستطيع أن تنال منها موطئ نعلها. ونهضت لكي أضربه ففر من أمامي. ثم انتهز فرصة وقصد إلى الأميرة سنية وطلب منها نفس الطلب، وقال لها إنه يحب نميقة ويجب أن يتزوجها. فما تمالكت الأميرة سنية أن أوسعته ضربا بالشبشب حتى خرج خروج الكلب المطرود. لهذا السبب هو يحاول أن ينتقم بمثل هذه السعايات الدنيئة. - لعنة الله عليه وألف لعنة. ولكن سعاياته لا تؤثر قط في مقام لا يستطيع أن يناله. على أني أود أن تسمح لي يا سيدي بسؤال آخر: هل كانت سمو البرنسيسة نميقة توده أو تمازحه حتى تجرأ هذه الجرأة؟ - لا أعتقد قط. وإنما هو وقح يسوغ لنفسه ما لا يسوغ. وقد خاطبت نميقة فماذا قالت لك؟
قالت إنها طوع لإرادة والديها. ولكن الفتاة المرباة لا تقول إلا هكذا وتكتم كل ما في ضميرها. فأخاف أن يكون بينها وبين البرنس عثمان جفاء حقيقي.
فتبرم البرنس سناء الدين وقال: لا لا، لا تخف. اجتهد في إقناع البرنس أن يكتب الكتاب في هذا الأسبوع ونحن كفيلون برضى نميقة. لا تستغرب يا عزيزي نامق بك إلحاحي هذا. فإن ابنتي هذه سيئة الحظ، ولطالما عرض لها في حياتها مثل هذه الحوادث. قبلما كنت سفير الدولة في روسيا كانت في أول صباها وكاد يحدث لها مثل هذا الحادث هناك، إذ إن موظفا روسيا حدثته نفسه أن يخطبها، إذ كان قبلا يدرسها قواعد اللغة الروسية وقد برعت بها. وأعجب بها ذلك الموظف الروسي وطمع أن يتزوجها. فانظر سخافة هؤلاء المغرورين. يكونون مستخدمين عندنا فنعاملهم بكل حسنى فيتطاولون علينا. لذلك اضطررت في الحال أن أعزل ذلك المترجم الروسي من السفارة اتقاء لتماديه في غروره، ولذلك صرت تراني أود أن أزوج نميقة عاجلا حتى لا تبقى تطمح أنظار المغرورين، ولا يخفى عليك أن نميقة جميلة، والجمال يعرض صاحبه للأخطار. فأرجو أن ... - اطمأن يا سيدي البرنس. سآتيك بالخبر السار عاجلا إن شاء الله. إلى الملتقى غدا.
ثم ودع نامق بك البرنس ومضى مفكرا.
الفصل الخامس
ففراق يكون فيه دواء ... أو فراق يكون فيه الداء
ننتقل بالقارئ الآن إلى منزل فخم أحاطت به حديقة غناء صغيرة وامتلأ رياشا فاخرا، تعنى به مدبرة أوروبية على جانب من التبرج والأبهة تليق بأن تستقبل الزائرين في خير فنادق باريس. وفي بابه خادم يفتح للطارقين، حسن المرأة أيضا مشرق الطلعة. وبالإجمال يقال: إن منزل رجاء باشا كان مضارعا قصور الأمراء ولائقا لاستقبالهم.
Bilinmeyen sayfa
كانت الساعة الثالثة حين دخلت المدموازال «راين» إلى غرفة رجاء باشا وقالت: هنا يا صاحب السعادة هانم تريد مقابلة سعادتكم. - من هي؟ بطاقتها؟ اسمها؟ - كل ذلك محفوظ لسعادتكم يا سيدي.
فنظر رجاء باشا إلى الساعة وقال: إني أنتظر زيارة البرنس سناء الدين باشا الساعة الرابعة. والآن الساعة الثالثة ونصف. لا بأس، أدخليها إلى الحجرة الآخرى لا إلى البهو. بعد دقيقة أكون هناك.
وما تأخر رجاء باشا دقيقة حتى دخل إلى الحجرة، فبهت إذ وقعت عينه على عين الزائرة، وأجفل وانتفض. ثم تمالك روعه وأقفل باب الحجرة ودنا إلى مقربة منها وقال: لقد لاحت لي خواطر مختلفة حين أنبأتني مديرة المنزل أن سيدة تريد مقابلتي، ولكن ما خطر لي أن تكوني أنت يا نميقة. - أمديرة منزل هذه الحسناء؟ - نعم، إن المنزل المعد لاستقبال الأمراء يجب أن تكون مديرته حسناء هكذا. فهل جئت لكي تنتقدي منزلي يا نميقة؟ - كلا، أنت مستقل بشئونك. وإنما جئت لكي أتحقق إن كان رجاء هو أمل الدين نفسه. - كيف خطر لك أن يكون الاثنان واحدا؟ - لأن الرجاء والأمل لفظان لمعنى واحد. ويهمني المعنى. - أراك قلقة جدا، كأن جميع أعصابك ترتج وجميع جوارحك ترقص، فماذا طرأ عليك؟ - إني على أبواب أزمة هائلة يا أمل الدين. - ماذا؟ أنبئيني. - هي أن أدفن حية أو ميتة. - ولماذا تدفنين حية أو ميتة، ولا تعيشين كما يعيش البشر؟ - جئت إليك لكي تسهل لي طريق الحياة. - من أسهل الأمور عندي تسهيلها، ولكني لم أفهم كيف تدفنين حية أو ميتة؟ - لقد أحرجوا موقفي، فإما أن يزوجوني للبرنس عثمان أو أن أنتحر. - أما وجدوا خيرا من هذا العلج زوجا لك؟ فهل يصلح هذا زوجا وهو لا يعود إلى قصره في الأسبوع مرة، ويقضي أيامه في المواخير. - لهذا لا أجد أمامي إلا الانتحار. وإنما قبل أن أقدم عليه جئت إليك. - أهلا وسهلا. أنت تعلمين كم أحببتك، وسأجدد ذلك الحب، فها هو بيتك، والمأذون يحضر لكتابة الكتاب في نصف ساعة إذا شئت. - ويحك! هكذا تتزوج بنت البرنس سناء الدين؟ - بل هكذا يتزوج رجاء باشا راغب. - لا أظنك تعني ما تقول. - ماذا تريدين أن أعني؟ - أريد أن تجدد الطلب لأبوي وأنا أؤيد طلبك.
فنظر فيها نظرة كادت تشق فؤادها نصفين، وقال: ويحك! لم أنس ولن أنسى «شبشب» أمك ولا كف أبيك. هل تظنين أني أصغر قلبا من سلطانك أو ملكك أو ... لا تدعيني أكفر.
فقالت نميقة بصوت تضرع: لا بأس يا أمل، لقد أصبحت الآن في منزلة الكبراء، ونلت ثقة الأمراء، فلم يعد أبي ولا أمي يستنكفان مصاهرتك. فإذا طلبت يدي من أبي فأنا أقنعه بأن يرضى. - ويحك! هل يسلم عقلك بأن أطلب يدك من غيرك. فإذا كانت يدك ملك الآلهة فلا أطلبها منهم. هل تظنين أني صفحت عن أبيك وأمك! لن أصفح، بل يصعب علي أن أصفح عنك لأنك لم تعصي أمرهما وفوق ذلك نكثت عهدك لي.
فتجهمت نميقة وقالت: معاذ الله، لم أنقض عهدنا.
فصاح بها: لا تمكري يا نميقة، لا تعظمي إثمك بالكذب. أما طمعت في أن تتزوجي الغازي مصطفى باشا كمال؟ - هذه كانت أمنية أبواي؛ لأنهما لما رأيا أن قوة السلطان بادت وأصبح الخليفة بلا حول ولا طول فصار موقف الأمراء مزعزعا والأمراء لم يعرفوا أن يتحدوا، افتكر أبي أن يعزز مركزه بمصاهرة مصطفى باشا كمال. - إذن تعترفين أن أباك كان يتاجر بك.
فتمرمرت نميقة وصاحت: لقد تجاوزت الحد يا أمل الدين. - ما أنا أمل الدين الآن، بل أنا رجاء باشا زعيم الأمراء. أما بلغ هذا إلى مسامعك؟ - نعم، بلغ إلى مسامعي أنك تحاول جمع كلمة الأمراء. ولهذا جئت إليك لظني أن الفرصة مناسبة لإتمام العهد. ولكن وا أسفاه، لا أرى منك إلا شموخا وصلابة. - عجبا! أتحسبين هذه الرحابة مني بعد صدك وجفائك شموخا؟ أوتعدين هذا التسامح مني بعد إهانة أبويك لي صلابة. قلت لك: إني أجعلك أفضل الزوجات في كل شيء حتى في الجاه. - ولكن لا بد من استرضاء أبوي حتى لا أكون مضغة في أفواه الأميرات والأمراء.
فصاح بها رجاء باشا أو أمل الدين: ويحك! هل تظنين أن الأمراء والأميرات يقدرون أن يكسبوك شرفا أو يسلبوك نبلا. فلينظروا إلى أنفسهم أولا وثم يدينوننا. - مهما يكن الأمر يا أمل الدين، لا يليق أن تخرج فتاة من منزل أبويها من غير علمهما لكي تتزوج. هل تقبل أنت بذلك؟ - إنه أمر غير مألوف، ولكنه ليس بفرية. ناهيك عن أني لا أستطيع أن أذل نفسي لأبويك بعد الذي جرى منهما. - ماذا يمنع أن تكلف أحدا من الأمراء أن يكون واسطة بين أبي وبينك. أليس فريد باشا الداماد صديقك؟ كلفه أن يخاطب أبي في الأمر وهو صديق أبي.
ففكر رجاء باشا هنيهة، ثم قال: لا أدري إن كان فريد باشا أو غيره يتوسط في الأمر بالصيغة التي أريدها. - يكفي أن يكون في أول الأمر وسيلة للصلح بينكما. وبعد ذلك يسهل الطلب وأنا أعززه. وقد أصبح كل ذلك سهلا الآن. - عجبا. كيف ذلك؟ - لأن المقام الذي بلغت إليه كالتلسكوب الذي يقرب الأبعاد أو الميكروسكوب الذي يكبر الأمجاد. - أستغرب كيف عرفت كل ذلك يا نميقة. - لقد أصبح أمرك حديث الأمراء في جميع أنديتهم، وإنما أنا أستغرب كيف وصلت إلى هذا المقام! - إن أبويك هما اللذان دفعاني في هذا الطريق. إن كف أبيك جعلتني أجري بلا انقطاع، وشبشب أمك منحني قوة لا تفنى. فهما صاحبا الفضل الأول في توصيلي إلى هذا المقام. - إني آسفة لما حدث يا أمل الدين، ولكن النتائج حسنة، فأود أن تخفف من غلواء حقدك. سوف تتكيف المسائل وتتحول كلها إلى الخير. فلا تغال في غيظك ولا عنفوانك. هل تظن أن مؤتمر الأمراء يأتي بفائدة؟
Bilinmeyen sayfa