وكان هنيبال وسيبيو أعظم قواد ذلك الزمان الذي عاشا فيه؛ لأنهما قضيا خمس عشرة سنة أو عشرين سنة في ساحات القتال، وأتيا من معجزات الحروب ما ملأ العالم بشهرتهما، وكانت ساحات حروبهما متباعدة كثيرا بحيث لم ير واحدهما الآخر، أما الآن فقد اجتمعا معا للمرة الأولى، ولما تعارفا وقف كلاهما وقتا طويلا محدقين كل منهما بالآخر بتأمل يدل على أن كل واحد منهما يريد اختبار شخصية الآخر بدون كلام.
أخيرا بدأت المفاوضة؛ وعرض هنيبال على سيبيو أمورا أراد عقد الصلح عليها، وكانت موافقة للرومانيين إلى الدرجة القصوى، على أن سيبيو لم يقتنع بذلك بل طلب الزيادة من التضحيات التي أراد هنيبال التساهل بها، وكانت النتيجة بعد مفاوضات طويلة عديمة الثمرة أن كل واحد منهما رجع إلى معسكره وتأهب للعراك، ومعلوم أن المنتصر في المعارك يسهل عليه متابعة انتصاراته، والنتائج تتوقف في الغالب على ما يتوقعه كل جيش عند نزوله إلى المعترك.
فسيبيو وجنوده كانوا يتوقعون الانتصار، والقرطجنيون كانوا يتوقعون الانكسار، وكانت النتيجة للفريقين حسبما توقعا، ففي ختام اليوم الذي دارت فيه رحى معركة زاما سقط من الجيش القرطجني أربعون ألفا في ساحة الوغى، بعضهم قتلى وبعضهم على وشك الموت، ومثل هذا العدد أو أكثر منه سيقوا أسرى إلى المعسكر الروماني، وما بقي من الجيش أصبح فلولا هائمين على وجوههم في كل صوب، يسوقهم الرعب في كل طريق مؤدية إلى قرطجنة.
ورجع هنيبال إلى قرطجنة، وهناك مثل أمام مجلس الشيوخ، وأعلن انكساره قائلا إنه لم يعد قادرا على القيام بأكثر مما قام به، ثم قال: «إن حسن الطالع الذي كان مصاحبا لي في الماضي قد هجرني إلى الأبد، ولم يبق أمامنا سوى عقد الصلح مع أعدائنا على الشروط التي يطلبونها مهما كانت قاسية.»
الفصل الحادي عشر
هنيبال شريد طريد ومنفي
كانت حياة هنيبال أشبه بأحد أيام شهر نيسان أبهاها وأجملها عند الصباح، فغروب شمسه قد رافقه ظلام الغيوم والأمطار، ومع أن الرومانيين لم يستطيعوا في غضون خمس عشرة سنة العثور على قائد يتمكن من الثبات في وجه هنيبال، فإن سيبيو قهره في آخر الأمر فكان بانتصاره عليه ختام فتوحاته كما تنبأ هانو، وقد انتهت تلك الفتوحات بجعل بلاده في حالة أردأ كثيرا مما كانت عليه قبل ذلك.
وفي الواقع أن القرطجنيين عندما كانوا منصبين بكل قواهم على العمل النافع، ساعين وراء الاتجار والسلام والطمأنينة كانوا في نعيم مقيم، وكانت ثروتهم تتعاظم سنة عن سنة ويتعاظم معها نفوذهم ومجدهم من كل وجه، وقد اتجهت سفنهم في كل صوب وقوبلت بالترحيب حيثما رست، فسعدوا وأثروا وأدركوا أرفع درجات العظمة، وكانوا في الوقت نفسه عاملين بإخلاص على ترقية وإسعاد شعوب أخرى كثيرة.
ولقد كان ذلك الحظ دون ريب يرافقهم أجيالا طوالا، وهم في بحبوحة من العيش ورفاهية واطمئنان لو لم يقم فيهم أبطال حروب يسعون لإدراك العلا، ويتسابقون لنيل الأمجاد العسكرية الباطلة. وكان والد هنيبال من كبار أولئك الأبطال، فبدأ بتدويخ إسبانيا والاعتداء على السلطة الرومانية، وقد أوجد مثل روحه الحربية في صدر ابنه هنيبال، وزرع الطموح إلى المعالي وأضرم في صدره كرها مضطرما للرومانيين.
وقد رافقهما الجد وصاحبهما الفوز في سائر التدابير التي اقتادا أبناء وطنهما لإتمامها أعواما عديدة، فكان نجاحهما في ذلك باهرا، وهكذا فبعد أن كانوا من القوم الذين يرحب بهم العالم؛ لما يتأتى لهم منهم من الفوائد الجمة أصبحوا السادة لقسم منه واللعنة الكبرى عليه، فكان هنيبال طيلة الأيام التي كان فيها متفوقا على كل قائد روماني يؤتى به لمعاركته مثابرا على الفتح والتدويخ.
Bilinmeyen sayfa