إلى القارئ
1 - الحرب القرطجنية الأولى
2 - هنيبال في ساغونتوم
3 - افتتاح الحرب القرطجنية الثانية
4 - عبور نهر الرون
5 - هنيبال يجتاز جبال الألب
6 - هنيبال في شمالي إيطاليا
7 - جبال أبنين
8 - المتسلط المطلق فابيوس
9 - معركة كانيه
10 - سيبيو
11 - هنيبال شريد طريد ومنفي
12 - تدمير قرطجنة
إلى القارئ
1 - الحرب القرطجنية الأولى
2 - هنيبال في ساغونتوم
3 - افتتاح الحرب القرطجنية الثانية
4 - عبور نهر الرون
5 - هنيبال يجتاز جبال الألب
6 - هنيبال في شمالي إيطاليا
7 - جبال أبنين
8 - المتسلط المطلق فابيوس
9 - معركة كانيه
10 - سيبيو
11 - هنيبال شريد طريد ومنفي
12 - تدمير قرطجنة
تاريخ هنيبال
تاريخ هنيبال
تعريب
نعوم مكرزل
إلى القارئ
لا أكون مهديا إلا لأكون هاديا إلى ما أعتقد أن فيه شيئا من الخدمة النصوح العائدة، ولو بالتافه من الفائدة، على أبناء وطني، وفي نشري تاريخ هنيبال على علاته دليل على الغاية التي أرمي إليها.
أصل التاريخ هو لجاكوب أبوت، كتبه بالروح الغربية «القائمة» على الأثرة والتفوق، وقد بذلت بعض المال والعناية لترجمته، ثم أعدت النظر فيه غير متعرض للروايات والآراء التاريخية التي أعلم كما يعلم العالمون أن في الكثير منها شططا وتزييفا، فعلى علماء التاريخ وغواته من أبناء الوطن أن ينشطوا لسد الخلل وإصلاح الخطل، ويجمعوا تواريخ بلادهم وتراجم أبطالهم وغزاتهم ونوابغهم ودهاتهم، كما توجب الحقيقة لا كما يكيفها المكيفون.
أنا مستعيض بالتاريخ عن الأقاصيص والروايات في الهدى، ثم أجمع ما أنشره في كتب مستقلة، أرجو أن يستعين بها قارئوها على حفظ وصون الدروس التي يلقيها الأقدمون عليهم من أصدقاء وأضداد، وليس كالتاريخ أستاذا مهذبا ومرشدا مدربا.
إلى أحفاد أكبر قائد فينيقي، بل أكبر قائد في التاريخ عند المجردين، أهدي هذا السفر الذي أرجو أن يقوم من أبناء أمتي من يقوم منآده، ويزيل فساده، عادلا عن الشكوى وهو قاعد، وناظرا إلى لهب الأفكار وهو جامد.
نعوم مكرزل
الفصل الأول
الحرب القرطجنية الأولى
كان هنيبال قائدا قرطجنيا أحرز شهرته الطائرة كأعظم الكماة بتهالكه في محاربة الرومانيين، ومن المعلوم أن رومية وقرطجنة نشأتا معا على جانبين متقابلين من بحر الروم، وظلت الحروب الطاحنة مستعرة الضرام بينهما مدة مائة سنة. وعدد الحروب التي نشبت بينهما ثلاث، خرجت رومية من ساحاتها ظافرة منتصرة في آخر الأمر، ودكت قرطجنة إلى أساساتها.
ولم يكن ثم من باعث حقيقي على اقتتال تينك الأمتين، فالنزاع بينهما قد تأتى باختيارهما عن المزاحمة والشحناء، فاختلافهما الأصلي نشأ عن تباين في اللغة والأصل، وعن استيطانهما جهتين متقابلتين من البحر الواحد، وبهذا كرهت إحداهما الأخرى وعملت على سحقها وإبادتها.
والذين قرءوا تاريخ الإسكندر الكبير يذكرون دون ريب الصعوبة الكلية التي عاناها في محاصرة مدينة صور والتغلب عليها، وهي مدينة بحرية يبعد موقعها عن الشاطئ نحو الميلين، قائمة على الجانب الشرقي من بحر الروم، وابتنى قرطجنة جماعة من ماهدي المستعمرين نزحوا عن صور، وبنوا المدينة الجديدة فأصبحت قوة بحرية وتجارية عظيمة كأمها، وابتنى القرطجنيون المراكب العديدة التي مكنتهم من اكتشاف مجاهل بحر الروم، وزاروا على متونها كل الأمم الساكنة على شواطئه، واشتروا منهم كل الحاجيات المختلفة التي كانوا يتجرون بها، ويحملونها إلى الشعوب الأخرى ويبيعونها منها بأرباح وافرة، وبهذا أحرزوا غنى وقوة في مدى قصير.
وكانوا يستأجرون الجنود ليحاربوا حروبهم وليمكنوهم من الاستيلاء على جزائر بحر الروم وعلى بعض الأماكن الداخلية في بعض الأحيان، مثال ذلك: أنهم في إسبانيا التي مخرت إليها مراكبهم وجدوا المقادير الكبيرة من ركاز الفضة والذهب، استخرجوها من معادن بادية على وجه الأرض تقريبا، وقد كان القرطجنيون في بادئ الأمر يحصلون على الذهب والفضة بالمقايضة، فيعطون الوطنيين حاجيات متنوعة كانوا اشتروها من بلادهم بثمن بخس جدا، بالنسبة إلى ما كانوا يتقاضونه الإسبانيين ثمنا عنها.
واستولوا أخيرا على ذلك القسم من إسبانيا الذي توجد فيه تلك المعادن، وصاروا يستخرجون كنوزها بأنفسهم متعمقين في الحفر كثيرا، واستخدموا لذلك الغرض جماعة من المهندسين ابتدعوا المضخات؛ لكي ينظفوا المعادن مما يتسرب إليها من الماء، ولكي تتوفر لهم الوسائل العلمية والآلية التي تمكنهم من التغلب على سائر العوائق، وهناك ابتنوا مدينة أطلقوا عليها اسم قرطجنة الجديدة - نوڨا كرثاجو - وحصنوا هذه المدينة وأقاموا فيها حامية عسكرية، واتخذوها مركزا لأعمالهم في إسبانيا ، ولا يزال اسم تلك المدينة قرطجنة إلى هذا اليوم.
وهكذا كان القرطجنيون يتمون العظائم بقوة المال، فتوسعوا بأعمالهم في سائر أنحاء البلاد، وكانت كل ناحية تدر عليهم كنوزا جديدة، فتوفر لهم الوسائل المساعدة على زيادة التوسع، وكانت لهم، عدا السفن التجارية التي هي ملك أفراد الشعب، بوارج حربية للحكومة، كانت في تلك الأيام تعرف بالسفن الواطئة، وتسير بمئات المجذفين يقيمون فيها صفوفا الواحد بعد الآخر، حتى إنك لتجد في السفينة الواحدة من هؤلاء أربعة أو خمسة صفوف يتناوبون التجذيف.
وكانت لهم جيوش جرارة مجندة بالأجرة من بلدان مختلفة ومنظمة بحسب براعة رجالها في فن معلوم من فنون القتال والتوماديان؛ مثلا: الذين كانوا يقطنون أقطارا متدانية من قرطجنة على الشاطئ الأفريقي كانوا مشهورين بالفروسية؛ لأن بلادهم ذات سهول واسعة خصيبة التربة كثيرة الكلأ، وفي مثل هذه البلاد يكثر كما لا يخفى عدد الذين يربون الخيول الصافنات، ويجيدون ركوبها ويتلقنون فنون الفروسية.
ثم إن سكان جزائر بلياريك - المعروفة اليوم باسم ماجوركا ومينوركا وإيفاكا - اشتهروا بحذقهم في رمي الحجار بالمقلاع، وعلى هذا النمط كان القرطجنيون يجرون في ترتيب جيوشهم، فيأتون بالفرسان من نوميديا وبرماة المقلاع من جزائر بلياريك، وللأسباب نفسها كانوا يستأجرون المشاة المشهورين بالإقدام من إسبانيا.
وكان اتجاه الشعوب المتنوعة إلى استنباط طرق حربية مختلفة وتقليد غيرهم فيها والقيام عليها في الأزمنة الذاهبة أعظم منه في هذا الزمان، فجزائر بلياريك في الواقع قد اتخذت اسمها هذا من الكلمة اليونانية «بليان» التي معناها الرمي بالمقلاع؛ لأن الأحداث فيها كانوا يتمرنون إلى حد الإجادة على إتقان هذا النوع من السلاح من أول عمرهم، حتى قيل: إن الأمهات كن يضعن الخبز لإفطار أولادهن على أغصان الأشجار العالية، ولا يسمحن لهم بتناوله للأكل إلا بعد أن ينزلوه بحجر يرمى بمقلاع.
وعلى هذا النسق من الاختبار والتنظيم امتدت صولة القرطجنيين واتسع مجال سيطرتهم، على أن حكومتهم بجملتها كانت منحصرة بجماعة قليلة العدد من سراة الأسر الغنية «الأرستقراطية» في الوطن، فكانت مماثلة من هذا الوجه للحكومة الإنكليزية في هذا الزمان، إلا أن سراوة «أرستقراطية» إنكلترا مبنية على السلالة العريقة في النسب وعلى ملكية العقار، أما في قرطجنة فقد كانت مستندة إلى العظمة التجارية، متحدة في الواقع مع ميزة الأسر الوراثية.
وكانت سراوة «أرستقراطية» قرطجنة مسيطرة ومسلطة على كل شيء، فلم تكن وظائف القوة تعطى لغير أبنائها إلا فيما ندر؛ ولهذا أصبحت بقية العامة من الأهلين في حالة الاسترقاق والعبودية. جرت قرطجنة على هذا النمط كما جرت عليه إنكلترا في هذا الحين، وهو أمر بعيد عن العدل ومؤلم للمنبوذين، على أن النتيجة كانت يومئذ - كما هي كائنة في إنكلترا اليوم - حسنة جدا، وصالحة من وجه أنها عملت على إيجاد حكومة نشيطة منزهة عن الدنايا ولوثات التلاعب، ومن المعلوم أن حكومة الأعيان تساعد في بعض الأحيان على إيجاد دولة غنية وقوية، ولكنها في الوقت نفسه تجعل بقية الشعب شقيا، وغير قانع بما هو فيه.
فليتحول القارئ الآن إلى الخارطة، ويجد فيها المكان الذي كانت فيه قرطجنة، وليتصور مدينة عظيمة وافرة الثروة هناك بأرصفتها العظيمة ومرافئها، ومخازنها الكبرى الخاصة بالمتاجر الواسعة، وهياكلها وأبنيتها العمومية الجميلة المشيدة لدوائر الحكومة وللمعابد، والقصور الفخمة والدور الشائقة التي كان يسكنها أرباب المال والحسب والنسب، وكذلك الأسوار والأبراج المرتفعة في الجو لأجل الدفاع عن الكل.
وليتصور بعد ذلك بلادا خلفية تمتد مئات الأميال إلى داخلية أفريقيا المشهورة بخصبها ووفرة خيراتها، وما تنتجه من مقادير الذرة والخمر والثمار اللذيذة المتعددة الأنواع، ولينظر بعد هذا إلى جزائر سيسيليا وكورسيكا وسردينيا والبلياريك، ويدرك بالتصور أنها كانت جميعا بلدانا كبيرة الثروة كثيرة الخصب، وكلها تابع للسيادة القرطجنية.
وانظر أيضا إلى الشاطئ الإسباني - انظر بعين التصور - مدينة قرطجنة هناك بحصونها وجيوشها، ومعادنها الذهبية والفضية التي يشتغل فيها عشرات الألوف من الأرقاء، وتصور أساطيل السفن تمخر على الدوام، من بلاد إلى أخرى على شواطئ بحر الروم ذهابا وإيابا إلى صور فقبرص فمصر فجزيرة سيسيليا فإسبانيا، تحمل الذرة والكتان والصباغ الأرجواني والبهارات والعطورات والأحجار الكريمة والحبال والشرع للمراكب، والذهب والفضة في أشكال مختلفة ، وبعد هذا ترجع بالدور إلى قرطجنة؛ لتفرغ في الخزائن ما احتملته من أنواع الثروة، فتزيد الموجود منه عند القرطجنيين أضعافا. ليتصور القارئ كل هذا والخارطة مفتوحة أمامه؛ لكي يرى جليا العلائق الجغرافية التي تربط تلك الأماكن بعضها ببعض، فترتسم في ذهنه من ذلك صورة إجمالية صحيحة تمثل له القوة القرطجنية، حينما بدأت في حروبها الهائلة مع رومية.
أما رومية فتختلف في موقعها وحالتها عن ذلك، فقد ابتنى رومية أناس من تروادة هاموا على وجوههم في هاتيك الأنحاء، فنمت زمانا طويلا بهدوء وبطء متمشية على مبدأ الحياة والنشاط الداخليين، وكانت الأقاليم المختلفة في شبه الجزيرة الإيطالية تنضم إلى رومية واحدها بعد الآخر، فتألف من عشائرهم شعب كان على الغالب فطريا زراعيا، فحرثوا الحقول واقتنصوا الوحوش الضارية وربوا المواشي على تنوعها، وقد بدا منهم ما دل على أنهم جنس - خليط من الأجناس البشرية - حائز على نظام بديع متفوق، سعى بالتدريج لإيجاد صفات الثبات والنشاط والقوة فيه جسديا وعقليا؛ الأمر الذي استوجب إعجاب الجنس البشري كله به.
خص القرطجنيون بالذكاء - والرومانيون سموه دهاء - وبالنشاط والإقدام على الأعمال الكبرى وبالثروة الطائلة، وكان مزاحموهم من الجهة الأخرى موصوفين بالنبوغ والشجاعة والقوة، يصحبها جميعا تصميم أكيد هادئ راسخ ونشاط غريب أصبح بعد ذلك، في كل جيل وفي أذهان الشعوب، ملازما لكلمة «الرومانيين» عينها، وكان رقي الأمم بطيئا في الأزمنة القديمة أكثر منه الآن، وبقيت هاتان الدولتان المتزاحمتان مثابرتين على النمو المتتابع والتوسع في الملك، كل منهما على جانبها الخاص من ذلك البحر العظيم الذي فصلهما عن بعضهما مدة خمسمائة عام قبل أن تدانتا من الاصطدام. أخيرا حدث التطاحن المنتظر وكان ابتداؤه كما يأتي:
يرى الناظر إلى الخارطة أن جزيرة سيسيليا منفصلة عن جسم البر ببوغاز ضيق يسمى بوغاز مسينا، واسم هذا البوغاز متخذ من بلدة مسينا على الجانب السيسيلي، وقبالة مسينا على الجانب الإيطالي قامت في ذلك الزمن بلدة اسمها راجيوم، وحدث أن جماعات من الجيوش غير المنظمة استولت على كلتا البلدتين، فأتى الرومانيون وأنقذوا بلدة راجيوم ، وأنزلوا بالجنود التي احتلوها عقابا أليما، وأقبلت حكومة سيسيليا لإنقاذ بلدة مسينا، فلما رأت الجنود التي كانت فيها أنها مهددة على تلك الصورة أرسلت إلى الرومانيين، تقول لهم إنهم إذا أتوا لنجدتهم وحمايتهم يسلمونهم مسينا.
فالجواب على هذا السؤال استلزم رفع القضية إلى مجلس الشيوخ الروماني، وسبب لذلك المجلس إشكالا وارتباكا عظيمين؛ إذ بدا لأعضائه أن التحيز لخوارج مسينا ليس من الأمور الملائمة، في حين أنهم هم الرومانيون قد عاقبوا خوارج راجيوم بصرامة، ومع ذلك فإن الرومانيين كانوا مدة الأعوام الطوال ينظرون بعين الغيرة والحسد إلى تعاظم صولة قرطجنة وامتدادها، ورأوا أن الفرصة قد سنحت لهم لملاقاتها ومقاومتها، وكانت حكومة سيسيليا إذ ذاك تراسل قرطجنة طالبة منها النجدة لاسترجاع المدينة.
وكان في تلبية قرطجنة ما طلبته حكومة سيسيليا منها ما يؤدي إلى إقامة جيش قرطجني قبالة الشاطئ الإيطالي؛ وعلى مرأى منه وفي نقطة يسهل عندها على ذلك الجيش أمر القيام بحركات عدائية والاعتداء على البلاد الرومانية، وبالجملة فإن المسألة كانت مما يسمى في لغة السياسة ضرورة سياسة. وبعبارة أخرى: إنها مسألة متعلقة بمصالح أحد الجانبين التي وجد فيها حقها قويا إلى حد يحمل على تضحية كل اعتبارات العدالة واللياقة والشرف في سبيل الاحتفاظ بها، ومن المعلوم أن قضايا عديدة من نوع الضرورة السياسية، كثيرا ما تحدث في إدارة شئون الشعوب في كل أدوار العالم.
فالنزاع من أجل مسينا كان في آخر الأمر معتبرا في نظر الرومانيين مجرد علة أو عذر، أو بالحرى فرصة سانحة للابتداء بالكفاح الذي كانوا منذ زمن طويل راغبين في الإقدام عليه، وقد برهنوا على عظمتهم ونشاطهم الموصوفين بالخطة التي اتخذوها في بدء العراك، فهم كانوا يعرفون جيدا أن قوة قرطجنة قائمة بالأكثر على سيادتها البحرية، وأنه لا رجاء لهم في خوض غمرات الحرب معها على شيء من الأمل بالنجاح، إلا إذا حاربوها وقهروها في ذلك الميدان.
ولم يكن عندهم في ذلك الحين سفينة واحدة أو بحار واحد، في حين أن بحر الروم كان غاصا بسفن القرطجنيين وبحارتهم، على أن ذلك لم يثبط من عزائمهم ولا خاموا لما علموه من الميزة العظمى التي لعدوهم عليهم، فشرع الرومانيون في الحال يبنون قوة بحرية عظيمة تجعل كفتهم البحرية مساوية لكفة قرطجنة.
واستغرق الاستعداد وقتا غير يسير؛ لأنه لم يتعين على الرومانيين أن يبتنوا السفن فقط، بل كان عليهم أن يتعلموا كيف يبنونها، فتلقنوا أمثولتهم الأولى من سفينة قرطجنية كانت قد دفعتها العواصف إلى الشاطئ الإيطالي، فاستولوا عليها وجاءوا بالنجارين لكي يدرسوها وبقطاعي الأشجار ليوجدوا منها خشبا للشروع في بناء مثلها على سبيل التقليد، فدرس النجارون تلك السفينة بتدقيق وقاسوا كل قسم منها، ولاحظوا كيفية بناء الأقسام المختلفة وطريقة ربطها معا جسما واحدا.
ومن المعلوم أن الصدمات التي تصيب السفن في البحار من الأمواج والتيارات تجعل أمر العناية في بنائها ضروريا لإبلاغها من القوة الدرجة القصوى، ومع أن سفن الأزمنة الماضية كانت صغيرة جدا، وليست على شيء من الإتقان بالمقابلة مع دوارع الوقت الحاضر، فمن المدهش أن ينجح الرومانيون فورا وبسرعة في محاولة ابتنائها على غير سابق استعداد أو عهد لذلك الفن.
وكل ما يقال في هذا الشأن أنهم نجحوا، وبينما كانت السفن تبنى كان الضباط الذين عهد إليهم في تمرين رجال للقيام عليها يدربونهم عند الشاطئ على كيفية تسيير تلك السفن بالتجذيف، فأقاموا مقاعد كالتي يجلس عليها المجذفون في المركب على الأرض، وعلى هذه أجلسوا الرجال المراد تمرينهم وجعلوا في أيديهم أخشابا كالمجاذيف؛ ليتقنوا تحريكها كما لو كانوا في السفن.
وكانت النتيجة الحاصلة مما بذله الرومانيون من الجهد في شهور قليلة: أنهم أكملوا بناء مائة سفينة، في كل واحدة منها خمسة صفوف لرجال التجذيف بمجاذيفها وسائر ما يتعلق بها، وأبقوا هذه السفن في الميناء زمانا معلوما؛ لكي يروا ما إذا كان المجذفون يحسنون القيام على التجذيف في البحر كما أجادوا فيه برا، ولما استيقنوا من ذلك ساروا بتلك السفن في البحر للقاء القرطجنيين.
وكان في جملة تدابير الرومانيين لإعداد أسطولهم قسم واحد دل على غريزتهم التي انفردوا بها عن سائر الناس، من حيث التصميم على الإجادة وبلوغ حد الكمال في سائر أعمالهم، ذلك أنهم ابتنوا آلات محتوية على كلاليب من الحديد نصبوها على مقدم السفينة، فكان من أمر هذه الكلاليب عند التقاء السفينة الرومانية بالسفينة القرطجنية أنها تترامى على ظهر سفينة العدو، فتمسكها بحيث لا تقوى على الإفلات، وتربط السفينتين معا كأنهما واحدة.
وبهذه الطريقة ينزعون كل فكر يخطر للعدو أنهم راغبون في الفرار من المعركة، على أن خوفهم الوطيد كان منحصرا في الاحتساب من أن بحارة القرطجنيين يستخدمون حذقهم ودربتهم البحرية للفرار من المعركة، ولقد عد الناس طرا عمل الرومانيين هذا من أدل البراهين على شجاعتهم البحرية، وتصميمهم النهائي على مجالدة أعدائهم بتلك الصورة التي لا مثيل لها في التاريخ، ذلك بأن يحتاطوا للعدو فلا يفر من بين أيديهم، وينجوا من القضاء المحتوم الذي قرروا في نفوسهم أنه سيكون من نصيبه، إذا هو بقي مقيدا في مكافحتهم، وعلى شجاعة يندر وجود ضريع لها في غير الرومانيين.
وفي الواقع أن إقدام الرومانيين هذا غريب في بابه؛ فليس بالسهل أن ينزل جيشهم البري إلى شاطئ البحر، ومن غير أن يكون قد رأى مركبا في زمانه يبتني أسطولا كبيرا من السفن الحربية، وينازل به دولة ملأت أساطيلها البحار، وتفرد رجالها في خوض غمراتها بحيث أصبحت سيدة البحر بلا منازع.
فهم قد توفقوا إلى إمساك سفينة محطمة من سفن أعدائهم، واتخذوها قالبا يبنون عليه فابتنوا مائة سفينة مثلها، وتمرنوا على حركات الأساطيل الحربية وقتا يسيرا في مينائهم، ثم ذهبوا للقاء أساطيل عدوهم البطاش، ومعهم تلك الكلاليب التي مر وصفها؛ ليقيدوهم بها غير خائفين من شيء سوى إفلات الأعداء من قبضتهم.
وكانت النتيجة حسب المنتظر، فإن الرومانيين أسروا وأغرقوا وحطموا أو مزقوا شمل الأسطول القرطجني الذي أقبل على مساجلتهم، فأخذوا مقدم كل سفينة أسروها وأرسلوها كلها إلى رومية، وهناك شيدوا بها عمودا «منقاريا» كتذكار لانتصارهم، وقد حطمت الصواعق ذلك العمود تقريبا بعد خمسين سنة من نصبه، ولكنهم أصلحوه وأعادوا بناء ما تهدم منه ، فظل قائما في مكانه أجيالا عديدة شاهدا عادلا على انتصارهم البحري الباهر.
وكان القائد البحري في تلك الموقعة القنصل دويليوس وقد شيد العمود المنقاري إكراما له، وعندما احتفروا خربات رومية من مضي ثلاثمائة وخمسين سنة عثروا فيما يقال على بقايا ذلك العمود، وعول الرومانيون بعد ذلك على التوسع في الحرب إلى قلب أفريقيا بالذات، وكان ذلك سهلا عليهم بعد أن حطموا الأسطول القرطجني؛ لأنهم استطاعوا نقل جنودهم إلى الشاطئ القرطجني بلا أقل خوف عليه من سفن الأعداء.
وكانت رومية مسودة بمجلس شيوخ «سناه» ليسن الشرائع، وفوق هذا المجلس مسيطران للتنفيذ باسم قناصل، فهم قد فكروا في أن وجود رئيسين للحكومة أسلم عاقبة من رئيس واحد؛ وذلك لأن كل واحد منهما يكون رقيبا على الآخر وكابحا لجماحه عند الاقتضاء، ولكن النتيجة جاءت على خلاف ما أملوا فتفاقم التحاسد بين الرئيسين، وكان كثيرا ما يؤدي إلى مجادلات عنيفة ونقار كثير، فآل ذلك في العصور الحديثة إلى الاقتصار على رئيس واحد للحكومة، وسن قوانين يتقيد بها وتكون بمثابة رادع له إذا هو أساء استعمال سلطته.
وكان القناصل الرومانيون يتولون قيادة الجيوش في الحروب، وكان اسم القنصل الذي وقع عليه الاختيار لمتابعة الحرب ضد القرطجنين بعد الانتصار الأول الباهر روغولوس، وقد خلد لاسمه ذكرا في كل جيل بفعاله المجيدة وتدابيره الحكيمة وإقدامه المنقطع النظير في تلك الغارات، وانقطاع حبل حياته قبل أوان الأجل العادي، وحكاية ذلك وما فيها من الصحة هو من الأمور التي يستحيل تحقيقها، ولكن القصة حسبما رواها مؤرخو الرومانيين هي كما يأتي:
كان روغولوس أيام انتخب قنصلا من أواسط الناس يعيش بغاية البساطة، في مزرعة محصلا أوده بعمل يديه وآكلا خبزه بعرق جبينه، وليس في سجاياه للطموح والكبرياء أثر، على أن مواطنيه قد لاحظوا هاته الخلال الكريمة المنطبعة في ذهنه، وقدروها قدرها مجمعين على إجلال الرجل، وقد آل إعجابهم به إلى إقامته قنصلا، فترك المدينة وتولى قيادة الجيش، وجد في تكبير الأسطول، فأصبح عدد سفنه أكثر من ثلاثمائة سفينة، وجند فيها مائة وأربعين ألف رجل ركب البحر قاصدا أفريقيا.
استغرق في التأهب لذلك عامين، كان القرطجنيون فيهما قد توفروا على الوقت لابتناء سفن جديدة، فكان أنه عندما خاض الرومانيون عباب البحر، وهم على شواطئ سيسيليا، إذا بهم يرون الأسطول القرطجني محتشدا للقائهم، فتقدم روغولوس للكفاح وقهر الأسطول القرطجني ودمره كالأول، فالسفن التي لم تؤسر أو تدمر أركنت إلى الفرار في كل ناحية فاتحة السبيل للقائد روغولوس الذي سار بدون معارضة، وأنزل رجاله على الشاطئ القرطجني.
وهناك ضرب خيامه حال نزوله إلى البر، وبعث يستشير مجلس الشيوخ الروماني فيما الذي يجب القيام به بعد هذا. ولما أدرك مجلس الشيوخ أن الصعوبة العظمى والخطر المهدد - ألا وهما دحر الأسطول القرطجني - قد زالا، أمر روغولوس بإرجاع كل السفن تقريبا وقسم كبير من الجيش إلى رومية، والتقدم على قرطجنة بمن يبقى معه من الجند، فأطاع روغولوس ذلك الأمر وأرجع إلى رومية الجنود الذين طلبتهم، وزحف بمن بقي على قرطجنة.
في ذلك الحين وصلته أنباء من الوطن تفيد أن الفلاح الذي عهد إليه في العناية بأملاكه قد مات، وأن المزرعة التي كان عليها معول إعالة عائلته متدانية من الخراب، فطلب إلى مجلس الشيوخ إقالته من القيادة وإرسال من يتولى اقتياد الجيش مكانه؛ لأن في نيته الرجوع إلى حيث يهتم بأمر زوجته وأولاده، فورد عليه الأمر من مجلس الشيوخ بالبقاء حيث هو، وملاحقة حملته واعدا إياه بالاهتمام بعائلته من كل وجه، واستخدام شخص يعتني بأملاكه.
أوردنا هذه القصة لنري ما كان عليه الرومانيون من عيشة البساطة المتناهية والابتعاد عن الفخفخة في العادات، وسائر شئون الحياة في تلك الأيام، وهي في الواقع كذلك بل هي غريبة في بابها؛ ذلك أن يكون هذا الرجل الذي عهد إليه في الذود عن حياض مملكة عظيمة، وولي قيادة أسطول مؤلف من مائة وثلاثين سفينة، وجيش يزيد عدده على مائة وأربعين ألف رجل ذي عائلة معتمد في أمر قوتها على حراثة سبعة أفدنة من الأرض، يقوم بها رجل مأجور؛ ولكن تلك هي القصة رويناها على حقيقتها.
تقدم روغولوس على قرطجنة غازيا منتصرا في زحفه، وكان القرطجنيون يندحرون من أمامه ويخسرون المعركة بعد الأخرى، وقد نقص جيشهم بما قتل وأسر منه، إلى أن كادوا يصلون إلى طرف الجبل لولا انقلاب فجائي طرأ، فعكس ميزان الحرب ورجح كفتهم، وكان ذلك الانقلاب وصول قطعة من الجنود آتية من اليونان يقودهم قائد يوناني، أولئك جنود كان القرطجنيون قد استأجروهم؛ ليحاربوا معهم كما كانت عادتهم في كل حروبهم.
ولكن أولئك الجنود كانوا يونانيين، ومعلوم أن اليونانيين هم من الجنس الروماني حائزون على مثل سجايا الرومانيين، فبحال وصول القائد اليوناني الجديد قلده القرطجنيون زمام القيادة العليا؛ لما أبداه من المهارة الحربية والتفوق في الإدارة، فشرع في تنظيم الجيش وإعداده للعراك، وكان معه مائة فيل ممرنة على النزال، وعلى الهجوم دفعة واحدة، ودوس الأعداء تحت أقدامها، وقد أوقفها في الطليعة.
وكان المشاة الشاكو السلاح من رجاله في القلب، وعددهم بضعة آلاف رجل متماسكين معا وفي أيديهم رماح طويلة مصوبة إلى الأمام، فكانوا في زحفهم دفعة واحدة يجرفون كل ما يعترضهم كما يجرف السيل العرم ما يلقى في مجراه، أما روغولوس فكان على استعداد للقاء القرطجنيين إلا أنه لم يكن متأهبا لمجالدة اليونانيين، ففي المعركة الأولى فر جيشه هاربا ووقع هو أسيرا، وكان ابتهاج القرطجنيين وتهليلهم عظيما جدا، حينما رأوا روغولوس القائد الروماني ونحو خمسمائة من نخبة رجاله أسرى في المدينة، بعد أن كانت قلوبهم تخفق رعبا واحتسابا، قبل ذلك بأيام من دخول ذلك القائد مدينتهم فاتحا منتصرا ومنتقما.
على أن مجلس الشيوخ الروماني لم ييئس من هذه النكبة التي أصيب بها الجيش الروماني، بل كان ذلك مشددا عزيمته ومضاعفا تصميمه على متابعة الجهاد، فحشد جيوشا جديدة ووجهها إلى ميدان الكفاح، أما روغولوس فبقي أسيرا محجورا عليه في قرطجنة، أخيرا فوض القرطجنيون إليه أمر السعي في عرض الصلح على الرومانيين والمفاوضة في مبادلة الأسرى، وأخذوا منه عهدا مؤيدا بيمين غموس، مفادها أنه إن لم ينجح في ذلك يرجع إليهم.
وكان الرومانيون قد أسروا عددا كبيرا من القرطجنيين في الوقعات البحرية واحتملوهم إلى رومية واعتقلوهم هناك، وقد جرت العادة عند أهل ذلك الزمن أن يتبادلوا الأسرى ويعيدوا المعتقلين في الحرب من الجانبين إلى أهلهم وذويهم في وطنهم؛ تلك كانت مبادلة الأسرى إلى أن عهد القرطجنيون إلى روغولوس في إتمامها، فلما وصل روغولوس إلى رومية أبى دخول المدينة، ولكنه مثل أمام مجلس الشيوخ خارج الأسوار بأثواب بالية وبحالة المسكنة والذل.
فهو قال إنه لم يعد جنديا رومانيا أو وطنيا رومانيا بل أسيرا قرطجنيا، وإنه يأبى ادعاء الحق في إبداء رأي أو مشورة للحكومة الرومانية في شأن الخطة التي يجدر بها اتباعها في تلك الحرب، وإنما له كلمة واحدة يقولها للرومانيين، وهي أن يرفضوا عقد صلح واستبدال الأسرى. وكان هو ورفاقه الأسرى الرومانيون قد بلغوا من العمر عتيا وتملكهم الوهن؛ ولهذا فإنهم لا يستحقون الاستبدال، وفضلا عن ذلك فإنهم ينكرون كل حق وكل دعوى وكل فضل لهم على بلادهم؛ ذلك لأنهم وقعوا أسرى، ولأنه لم تكن لهم شجاعة ووطنية صحيحة تحملانهم على الموت في الدفاع عن بلادهم.
وقال إن القرطجنيين قد تعبوا من الحرب، وملوا طول الجهاد وإن معداتهم قد نفدت، وإن على الرومانيين أن يتابعوا الجهاد بنشاط جديد وهمة قعساء، وأن يتركوه هو ورفاقه الأسرى رهن القضاء والقدر.
فمال مجلس الشيوخ إلى العمل بنصيحته بتؤدة وشيء من التردد، على أنهم بذلوا منتهى جهودهم في إقناع روغولوس بعدم الرجوع إلى قرطجنة، قائلين له إنه ليس ببقائه في بلاده وصمة عار على اسمه؛ ذلك لأن الوعد الذي أعطاه بالرجوع إليها قد أخذ منه بظروف الحالة التي هو فيها مرغما غير مختار، ولهذا فهو غير مرتهن به.
ولكن روغولوس أصر على البر بوعده لأعدائه وأبى أن يرى عائلته، وهكذا ودع مجلس الشيوخ ورجع إلى قرطجنة، ودرى القرطجنيون بأنه هو الذي عمل على فشل إرساليته، وعدم نجاحه في الذي عهدوا إليه في القيام به، فأنزلوا به أشد أنواع التعذيب وأخيرا قتلوه. وقد يقول قائل إنه كان من الواجب عليه أن يشير على قومه بالصلح وبمبادلة الأسرى، وألا يأبى مقابلة زوجته التاعسة وأولاده المساكين، ولكن الحقيقة يجب أن تقال؛ إنه قد تصرف بشرف ونبالة في أنه أبى إخلاف وعده.
واستمرت الحرب زمانا بعد هذا إلى أن أصبح الفريقان في حالة الوهن، وتعبا من الجهاد فرضيا بعقد صلح، وهذه هي معاهدة الصلح التي عقداها، فهي تظهر لنا أن الميزة في الحرب القرطجنية الأولى كانت على جانب الرومانيين:
يجب أن يعقد صلح بين رومية وقرطجنة، وعلى القرطجنيين أن ينجلوا عن سيسيليا، وألا يشهروا حربا على حلفاء الرومانيين، وأن يعيدوا إلى الرومانيين بدون فدية جميع الأسرى الذين اعتقلوهم، ويدفعوا إليهم في غضون عشر سنوات ثلاثة آلاف ومائتي وزنة من الفضة.
ودامت هذه الحرب التي انتهت على تلك الصورة أربعا وعشرين سنة.
الفصل الثاني
هنيبال في ساغونتوم
كان اسم والد هنيبال هميلقار وهو من مشاهير قواد القرطجنيين، وكان وجيها فيهم لمقامه وثروته، ولما لأسرته من العلائق النسبية في قرطجنة، وما اشتهر به من الدربة الحربية الفائقة التي أبداها في اقتياد الجيوش إلى ساحات الظفر في البلدان الأجنبية، فهو شهر حروب قرطجنة في أفريقيا وإسبانيا، وقام بالأمر خير قيام، وذلك بعد انتهاء حروبها في رومية، وكان تائقا إلى إعادة الكرة على الرومانيين أيضا.
وقد ورد في دائرة المعارف الإنكليزية أن الاسم هنيبال، أو «حني بعل» كان من الأسماء القرطجنية الكثيرة الاستعمال، وهو مأخوذ فيما يقال من اسم البعل، فالقسم الأخير منه «بال» أو «بعل» هو اسم الإله «البعل» الذي كان القرطجنيون يعبدونه، وما قبله يماثل قولنا «عبد» الله؛ فهو إذن يفيد أن حني بعل هو «عبد» البعل، والذي يرضى عنه البعل.
وكان هنيبال المشهور وبطل الحرب القرطجنية الثانية ابن هميلقار برقا ولد في عام 247 قبل المسيح، وهو وأخواه هسدوربال وماغو كانوا معروفين بلقب أعطاهم إياه والدهم، وهو «أشبال الأسد». وعندما بلغ هنيبال التاسعة من عمره كان أبوه يتأهب للحملة على إسبانيا، فتوسل إليه أن يصحبه معه فوعده بذلك، وشرع في إقامة الحفلات الدينية وغيرها إيذانا بدنو سفره؛ إذ كانت العادة في ذلك الزمن أن الشعوب التي تؤذن بعضها بحرب تقيم الاحتفالات؛ لاسترضاء الآلهة وطلب معونة السماء.
والأمم المسيحية في هذا الزمان تفعل الشيء ذاته بإقامة الصلوات في كل بلاد لنجاح جيوشها في المعترك، أما الوثنيون فكانوا يفعلون ذلك بتقديم الضحايا والخمور والتقدمات المختلفة، وكان هميلقار يعد تلك الضحايا المراد تقديمها بواسطة الكهنة وفي حضرة الجيش بكامله، وكان هنيبال حاضرا يومئذ وهو ابن تسع سنين كما تقدم القول، وقد عرف في حداثة سنه بالنشاط والإقدام والروح العالية، فشارك المحتفلين باحتفالاتهم، وصرح بعزمه على الذهاب إلى إسبانيا مع الجيش، وهكذا ألح على والده ليتيح له ذلك.
فلم يشأ والده السماح له بالذهاب؛ لأنه كان حديث السن بحيث لا يقوى على تحمل متاعب تلك السفرة، وما يلقى فيها الجندي من المشاق المتنوعة، على أنه في آخر الأمر أتى به إلى أمام المذبح، وأمره أن يضع يده على الضحية، ويقسم اليمين المعظمة متعهدا بأنه متى بلغ الرشد وتوفرت له المقدرة يتابع محاربة الرومانيين، فأقسم اليمين التي قررت مستقبل حياته، والتي إنما أرغمه عليها والده لتكبير نفسه وتحقيق آماله من حيث الذهاب مع الجيش، وقد هيأ له بذلك عدوا كبيرا يحاربه في مقبل الأيام.
فاحتفظ هنيبال باليمين، وقد كان شديد الشوق للوصول إلى الوقت الذي يتاح له فيه الزحف بجيش لهام لمحاربة الرومانيين. وهكذا فإن هميلقار قضى سنة الوداع وركب البحر يريد إسبانيا، وأطلقت له الحرية أن يتوسع في فتوحاته، ويغزو كل الأنحاء الواقعة غربي نهر إيباروس، وهو نهر يجده القارئ على الخارطة منسابا جنوبا بشرق إلى بحر الروم، وقد تبدل اسمه مع الأيام فأصبح في هذا الحين إبرو.
وكان من جملة مواد المعاهدة التي عقدها أهل قرطجنة مع الرومانيين: أنه لا يحق للقرطجنيين عبور نهر إيباروس، وكانوا أيضا مرتبطين بتعهد في تلك المعاهدة بألا يعتدوا على سكان ساغونتوم، وهي مدينة واقعة بين نهر إيباروس وأملاك قرطجنة، وكانت ساغونتوم حليفة للرومانيين وتحت حمايتهم.
وكان هميلقار قلقا شديد الانزعاج لاضطراره إلى تحاشي مناهضة دولة الرومانيين، فبدأ حال وصوله إلى إسبانيا يرسم الخطط الحربية لتجديد الحرب، وكان معه تحت إمرته شاب بوظيفة ملازم أول في جيشه قد تزوج بابنته اسمه هسدروبال، فاستعان به على التوسع في اجتياح إسبانيا، وتقوية موقفه هناك، واستكمال خططه تدريجا مع الأيام لتجديد الحرب مع الرومانيين، ولكنه قبل أن يبلغ مشتهاه من ذلك أدركته المنية، فخلفه هسدروبال على القيادة.
وكان هنيبال يومئذ، وهو في الحادية والعشرين من عمره أو أكبر من ذلك بسنتين، باقيا في قرطجنة، فبعث أسدروبال إلى حكومة قرطجنة بطلب هنيبال؛ ليكون معه في إسبانيا بوظيفة معلومة في الجيش، ذلك ما ورد عنه في مؤلفات أبوت عن «صانعي التاريخ»، أما دائرة المعارف البريطانية فتقول: إن هنيبال ذهب إلى إسبانيا قبل ذلك، وتمرن على الحركات العسكرية تحت مناظرة والده، وإنه حضر المعركة التي سقط أبوه فيها قتيلا في عام 228 قبل المسيح، وعمره يومئذ تسع عشرة سنة.
وكانت مسألة إرسال هنيبال إلى إسبانيا موضوع جدال عنيف في مجلس الشيوخ القرطجني، وتلك هي الحال في كل الحكومات الانتخابات من أقدم الأزمان إلى الآن، يحتدم الجدال على أمر من الأمور بين حزبين يعارض واحدهما الآخر وتكون الأكثرية هي الفاصلة، كذلك جرى في مسألة إرسالية هنيبال؛ إذ عارض حزب والده في قرطجنة حزب آخر يضارعه في القوة، وزعم الحزب المعارض في مجلس الشيوخ اسمه هنو؛ وكان شديد العارضة في المعارضة قوي الحجة فصيح اللسان، فألقى خطابا في ذلك المجلس يعارض به إرسال هنيبال إلى إسبانيا.
فقال عنه: إنه لا يزال حديث السن بحيث لا يتوقع منه كبير أمر، فضلا عن أن اختلاطه بالجند قد يفسد منه الأخلاق، ويؤدي إلى خرابه «أدبيا»، وفوق هذا وذاك فإن مسألة قيادة الجيش القرطجني في إسبانيا قد أصبحت من نوع الحق الوراثي فيما يظهر، ولم يكن هميلقار ملكا لكي يرث سلطته صهره أولا، ثم ابنه الذي متى وجد في الجيش يكون وجوده كمقدمة لاستيلائه على أزمة القيادة، عندما يموت هسدروبال أو يستعفي.
ويقول المؤرخ الروماني الذي ننقل عنه تفاصيل هذا الجدال: إن القوة قد انتصرت في آخر الأمر على الحكمة كالمعتاد، وجاءت نتيجة التصويت مؤيدة لمريدي إرسال هنيبال إلى إسبانيا، وهكذا ركب ذلك الفتى البحر بقلب مفعم بالجذل والمسرة، ولما وصل إلى إسبانيا حدثت ضوضاء ابتهاج في الجيش الذي كان تائقا إلى رؤية ذلك الابن؛ لأن الجنود كانوا يحبون والده حبا يقرب من العبادة، وقد صمموا على تحويل تلك المحبة إلى الابن إذا كان جديرا بذلك.
فلم تطأ قدماه المعسكر حتى برهن على أن هذا الشبل من ذلك الأسد، وحال وصوله قصر همه على واجبات وظيفته، وعمد إلى القيام بها بنشاط وصبر وتجرد، مما لفت الأبصار إليه وحمل الجند على التعلق به، فأصبح الرجل الفرد الذي أحرز محبة كل فرق الجيش. كان لباسه بسيطا وسلوكه شريفا بلا صلف ولا عجرفة ولا كبرياء، يأكل أبسط الأطعمة ولا يتطلب رفاهة، ولا يميل إلى البطالة واللذة، ولا يكلف أحد الأنفار ما ليس في طاقته، ولا يميز نفسه عنهم في شيء، ولا يحاول التملص مما يلحق بالجندي من العناء وشظف العيش.
ينام على الثرى بين الجنود ويؤاكلهم ويشاربهم، ويسير عند الهجوم في طليعتهم، ويكون آخر من يغادر أرض المعركة منهم عند الرجوع للاستراحة.
ويقول الرومانيون عنه: إنه فضلا عن هذه الصفات التي كان متحليا بها، قد عرف بالخشونة وغلاظة الكبد وقلة الرحمة في المعارك، وكان في معاملة الأعداء داهية وفي معالجتهم باقعة، وقد يكون الأمر كذلك؛ فمثل هذه الخلال كانت مما يرغب فيه جدا في ذلك الزمان، كما أنها مستحسنة كثيرا في هذا الزمان، على أنها في نظر الأعداء تعد من القبائح.
وكيفما كان الحال؛ فإن هنيبال أصبح محبوبا من الجيش الذي أحله محل الإجلال القريب من العبادة، فثابر على الاستزادة من الاختبار العسكري في السنوات الأولى من وجوده في الجيش، وعلى التوسع في التأثير والنفوذ، إلى أن اغتال أحد الوطنيين هسدروبال بغتة، وقتله انتقاما لوطنه، وحالما سكنت ضجة الحادثة ذهب قواد الجيش في طلب هنيبال، وأتوا به بالإكرام والتهليل إلى خيمة هسدروبال، وسلموا إليه مقاليد القيادة العامة بإجماع الآراء مبتهجين مهللين مستبشرين.
ولما بلغ النبأ قرطجنة أسرعت الحكومة فوافقت على عمل الجيش، وهكذا وجد هنيبال نفسه في أرفع درجات الرتب العسكرية، وبصيرورته قائدا عاما يفعل ما يريد ازدادت رغبته في محاربة الرومانيين، وتعاظم شوقه إلى امتحان قوته ودربته معهم في المعترك، إلا أن البلادين كانتا في سلام، وهما مرتبطتان بمعاهدات رسمية للمحافظة عليه.
وكان النهر إيباروس الحد الفاصل بين أملاك الأمتين في إسبانيا، فكان القسم الواقع شرقيه تحت سيطرة الدولة الرومانية، والقسم الكائن في الغرب منه تابعا لقرطجنة، ما عدا سوغانتوم التي كان موقعها في الغرب وهي حليفة الرومانيين، والقرطجنيون مقيدون بالمعاهدة مع الرومانيين للمحافظة عليها وتركها حرة مستقلة.
ولهذا لم يكن هنيبال قادرا على عبور نهر إيباروس ومهاجمة ساغونتوم من غير أن يعبث بالمعاهدة، وعلى هذا عقد النية على التحرك نحو ساغونتوم والزحف على الأمم القريبة منها ذلك؛ لأنه أدرك أن أفضل الوسائل المؤدية إلى الحرب مع الرومانيين هي الاقتراب من عاصمة محالفيهم، علما منه بأن دنو جيشه منها يبعث على الاحتجاج واللجاج، فيئول ذلك إلى اتقاد لظى الحرب التي يريدها.
ويقول الرومانيون: إن هنيبال كان داهية مكارا وذا دربة فائقة في إصلاء نيران الحروب، وفي الواقع أنه قد أبدى دراية متناهية في حركاته العسكرية، وانتصر بجيش قليل على جيش أكبر منه عددا بطريقة مدهشة وذلك في أول حروبه، فهو إذ كان عائدا من معركة انتصر فيها مثقلا بالغنائم والأسلاب، علم بزحف جيش على مؤخره يبلغ في العدد نحو المائة ألف رجل.
وكان قدامه نهر على مسافة قريبة من جيشه، فأجهد هنيبال نفسه وجيشه في المسير، وعبر ذلك النهر من مكان ضحضاح لا يزيد عمق الماء فيه على الثلاث أقدام، وأرصد قسما من فرسانه مستترين على محاذاة ضفة النهر، وتقدم ببقية الجيش إلى مسافة معلومة بعيدا عن النهر؛ قصدا منه في خدع الذين يلاحقونه بأنه يسرع الخطى؛ لينجو بجيشه القليل العدد.
وأبصره الأعداء على تلك الحال فاندفعوا بلا إمهال إلى اللحاق به، وخاضوا مياه النهر جماعات جماعات من أنحاء مختلفة، فلما وصلوا إلى منتصف النهر، وهم يجهدون القوى لمغالبة المجرى والماء بالغ من أوساطهم، وقد رفعوا أسلحتهم فوق رءوسهم؛ لكيلا تعيقهم عن الخوض في المياه وتعرقل سرعتهم، أسرع فرسان هنيبال إلى لقائهم ومهاجمتهم، وهم في ذلك المأزق الحرج.
ومعلوم أن الميزة في النهر كانت على جانب الفرسان؛ لأن جيادهم كانت مغمورة بالماء، وأما هم فكانوا فوقه وأيديهم حرة مطلقة، بينما كان أعداؤهم مغمورين إلى مناكبهم مثقلين بما كان معهم من الأسلحة وتماسكهم واحدهم بالآخر بحيث يعجزون عن الدفاع عن أنفسهم فضلا عن القتال، وهكذا وقعوا في ارتباك متناه ففروا من أمام الفرسان وتولاهم الذعر، فلم يهتدوا إلى النجاة واحتمل الماء منهم عددا غفيرا.
ففاز بعضهم في الخروج من النهر على أبعاد مختلفة، ولكن على الجانب الذي كان فيه هنيبال، وقد انقلب هو وجيشه يريدهم فداستهم الفيلة بأرجلها، وهي طريقة عسكرية كانت كثيرا ما تستخدم في حروب تلك الأيام، ولما خلا النهر من العدو عبره هنيبال بجيشه، وأعمل السيف في رقاب من بقي من الأعداء على الجانب الذي كانوا فيه، فانتصر انتصارا مبينا بدد به شمل ذلك الجيش، واستولى على كل البلاد الواقعة غربي نهر إيباروس، ما عدا ساغونتوم التي بدأت تشعر بقلق ورعدة لقدومه.
وأرسل أهل ساغونتوم رسلا إلى رومية؛ لينبئوا الرومانيين بالخطر الذي يهددهم وليطلبوا من رومية حمايتهم من غوائله، فبذل أولئك الرسل جهدهم في الوصول إلى رومية بالأسرع الممكن، ولكنهم بالرغم من جدهم في ذلك بلغوها متأخرين؛ لأن هنيبال كان قد خلق أسبابا أدت إلى خلاف بين ساغونتوم وإحدى القبائل المجاورة لها، ثم انتصر للقبيلة وتقدم زاحفا لمهاجمة المدينة، فتأهب سكان ساغونتوم للدفاع عن أنفسهم، وكانوا في الوقت نفسه معتمدين على وصول النجدات من رومية.
فضاعفوا أسوارهم قوة وزادوها تحصينا، وكان هنيبال إذ ذاك يأتي بأدوات القتال العسكرية الكبرى لتهديم تلك الحصون، وأدرك هنيبال جيدا أنه بإصلائه ساغونتوم نيران القتال كان يكاشف رومية نفسها بالعدوان، وأن رومية لا بد لها من مناصرة ساغونتوم حليفتها، فهو كان في الواقع يدبر لإيقاد جذوة الحروب بين الأمتين من جديد، وقد ابتدأ بساغونتوم لسببين:
الأول:
لأنه لا يكون أمينا على نفسه، إذا هو عبر نهر إيباروس، وتقدم إلى الأرض الرومانية تاركا مثل تلك المدينة الغنية القوية وراء ظهره.
والثاني:
لأنه وجد من السهولة الكلية التذرع بواسطة سواه إلى إيجاد خلاف يؤدي إلى مناهضة ساغونتوم، ملقيا مسئولية إعلان الحرب رسميا على عاتق رومية، بدلا من أن يحاول إقناع القرطجنيين بنقض تعهدهم السلمي والشروع في محاربة الرومانيين، وكان في قرطجنة كما تقدم القول حزب كبير معاكس لهنيبال، وهذا الحزب يعارض كل حركة يقصد بها شهر الحرب على رومية؛ لأن في تلك الحرب حسبما يدركون ما يشبع مطامع هنيبال كقائد.
فلم يجد هنيبال سوى طريقة واحدة يتذرع بها إلى إيقاد جذوة الشر، ألا وهي التهجم على حلفاء الرومانيين، وهي أفضل الطرق التي عرضت له وعمل بها، وكانت ساغونتوم مدينة غنية وقوية جدا، وهي قائمة على مسافة ميل من شاطئ البحر، وهكذا استمر الهجوم على المدينة ودفاع سكانها عنها وقتا طويلا، بلغ فيه الجهاد منتهى ما في مقدرة البشر، وقد عرض هنيبال نفسه للخطر في ذلك الهجوم مرارا عديدة، فتدانى مرة وهو يدير شئون القتال ويلاحظ أمر تقريب آلات الرماية من السور، فأصابته حربة رمي بها من نوافذ السور في فخذه، فخرقت اللحم وجرحته جرحا بليغا فوقع على الأرض لساعته، واحتمله جنوده إلى مكان بعيد عن ساحة القتال.
وبقي أياما طويلة طريح الفراش يعاني ألم الجرح، وقد انحلت قواه لما فقده من الدم، وكان جنوده في غضون ذلك على أحر من الجمر خوفا عليه، وبلغ منهم انشغال البال والاحتساب حدا حملهم على إبطال الحركات الحربية. على أنهم حالما علموا أن هنيبال قد تعافى، جددوا الهجوم بأوفر شجاعة وبإقدام أعظم مما عرف عنهم قبل ذلك.
وكان سلاح الحروب في تلك الأيام مختلفا عما نعرفه اليوم، ومنه نوع من السلاح يصفه مؤرخ قديم ، وقد رأى أهل ساغونتوم يستخدمونه في هذا الحصار بما يجعله أشبه بأسلحة هذه الأيام النارية، اسمه «فالاريكا»، وهو أشبه بالمزارق مؤلف من عمود خشبي في رأسه حربة حديدية، «ولعله الرمح المعروف عند العرب». وكان طول حربته ثلاث أقدام، فهذا المزراق كان يرمى من يد أحد الجنود، أو بواسطة آلة تدفعه شديدة نحو العدو.
وأهم ما فيه مما يختلف عن الرماح: أنهم يضعون قريبا من رأسه الحديدي حزمة من القنب ملفوفة عليه مشربة بالزفت وغيره من الأشياء القابلة للالتهاب، وكانوا يشعلونها قبل رمي المزراق، فعندما ينطلق نحو العدو تزداد ناره اشتعالا بفعل الريح، فتندلع منه ألسنة اللهيب، فإذا أصاب ترس الجندي المتصدي له انغرز فيه بحيث لا يمكن انتزاعه منه، فيضطر الجندي إلى نزع الترس وتركه على الأرض.
وبينما كان سكان ساغونتوم يدافعون عن أنفسهم جهد إمكانهم، ويتفانون في الذود عن مدينتهم ضد عدوهم القوي المخيف، كان الرسل الذين وجهوهم إلى رومية قد وصلوا، وعرضوا على مجلس الشيوخ الروماني ما يخشونه من هجوم الأعداء على مدينتهم - إذ كانوا غير عالمين بأنها هوجمت - وتضرعوا إليه لاتخاذ أقوى التدابير لمنع ما يتوقعونه من الهجوم.
فقر رأي المجلس الروماني على إرسال سفراء إلى هانيبال؛ ليسألوه عما ينوي القيام به ويحذروه من عواقب مهاجمة ساغونتوم، فلما وصل أولئك السفراء إلى الشاطئ القريب من ساغونتوم، وجدوا الحرب قائمة على ساق وقدم والمدينة في حصار شديد، فحاروا في أمرهم وتشاوروا بينهم في الذي يفعلونه.
ومن المعلوم أن الأفضل للخارجي أو للذي يرتكب مخالفة ألا يسمع أمرا قد صمم قبل سماعه على عدم العمل به، وهكذا أبى هنيبال ببراعته التي يسميها القرطجنيون دهاء، ويسميها الرومانيون خداعا ومكرا أن يقابل سفراء رومية، فوجه إليهم من حذرهم من الدنو إلى معسكره قائلا إن البلاد في حالة اضطراب، بحيث لا تكون سلامتهم مضمونة إذا هم نزلوا إلى البر، فضلا عن أنه لا يستطيع مقابلتهم أو الإصغاء لما يريدون عرضه عليه؛ لأنه في شغل شاغل بالحركات الحربية عن كل مفاوضة أو جدال في أي أمر كان.
وأدرك هنيبال في الوقت نفسه أن السفراء الذين خيب آمالهم وقابلهم بمثل تلك المقابلة الفظة، والذين رأوا أن الحرب قد استعرت وأن ساغونتوم محصورة وفي أشد ما يكون من الضيق، لا بد أن يسرعوا المسير إلى قرطجنة؛ ليطالبوا الحكومة هناك بما قدموا لأجله، وعرف أيضا أن هانو وحزبه المعادي له سوف ينتصرون للرومانيين، ويحاولون إفساد خطته عليه.
فسارع إلى إرسال سفرائه إلى قرطجنة؛ لكي يستميلوا الحكومة إليه في مجلس الشيوخ، ويحرضوهم على رفض مطاليب الرومانيين، ويتيحوا للحرب بين رومية وقرطجنة العود إلى ما كانت عليه، فصح ما خمنه ووصل سفراء رومية إلى قرطجنة، وهناك حظوا بالمثول أمام مجلس الشيوخ، وعرضوا عليه دعواهم قائلين: إن هانيبال قد شهر حربا على ساغونتوم، مخالفا بذلك المعاهدة المنعقدة بين رومية وقرطجنة، وأنه قد أبى مقابلتهم أو الإصغاء لما أراد إبلاغه إياه مجلس الشيوخ الروماني بواسطتهم.
وطلبوا من الحكومة القرطجنية التبرؤ من عمله وتسليمه إليهم؛ لكي ينال الجزاء العادل على مخالفته المعاهدة واعتدائه على حليفة الرومانيين، ومن المعلوم أن ممالئي هنيبال في المجلس كانوا يبذلون جهودهم في حمل الحكومة على رفض طلب الرومانيين باحتقار واستنكاف. أما حزب هانو من أعداء هنيبال، فكانوا يقولون: إن مطالب الرومانيين معقولة وعادلة.
ووقف هانو الزعيم المعادي لهنيبال وخطب في المجلس بلهجة بليغة شديدة، وذكره بأنه هو قد حذرهم من إرسال هنيبال إلى إسبانيا، علما منه بأن مزاج ذلك القائد الناري يورطهم في متاعب مع الرومانيين لا آخر لها، وقال في خطابه: إن هنيبال قد خالف المعاهدة فهاجم ساغونتوم، وحاصرها وهي المدينة التي تعهدوا هم بشرفهم بألا يمسوها بأذى، فلا يتوقعون مقابلة لهذا الاعتداء سوى مجيء مواكب الرومانيين لمهاجمة قرطجنة ومحاصرتها، وأن البادئ بالشر أظلم.
وقال أيضا: إن الرومانيين كانوا متساهلين صبورين، فلم يتهموا قرطجنة بالأمر، بل وجهوا التهمة إلى هانيبال المذنب الحقيقي الوحيد، فبالتبرؤ من أعمال هنيبال يتخلص القرطجنيون من المسئولية، وأشار على المجلس بوجوب إرسال وفد يعتذر لرومية، وبعزل هنيبال وتسليمه للرومانيين والتعويض على ساغونتوم عما لحقها من الأضرار والخسائر.
وقام أنصار هنيبال في المجلس فدافعوا عنه بكل قواهم، وأوردوا له تاريخ الحوادث المتتالية التي أدت إلى الحرب، وأظهروا أو إنهم حاولوا إظهار ساغونتوم بأنها البادئة بالعدوان، وأنها هي التي أصلت جيش هنيبال حربا لم يجد بعدها بدا من مقاتلة الشر بمثله، وقالوا: إنهم هم - وليس هنيبال - المسئولون عما تلا ذلك من الشر المستطير، وتطرقوا من هذا إلى أنه ليس للرومانيين تحت هذه الظروف أن ينتصروا لساغونتوم، فإذا فعلوا يبرهنون عن كونهم قد فضلوا صداقة ساغونتوم على موالاة قرطجنة، وعلى هذا يكون من الجبن والعار على القرطجنيين أن يسلموا قائدهم الذي قلدوه زمام القيادة، والذي أبدى عظيم استحقاقه للثقة التي وضعها فيه القرطجنيون بشجاعته ودربته إلى أيدي ألد أعدائهم الشديدي الحقد.
ومما ورد في دائرة المعارف الإنكليزية عن ساغونتوم: أنها كانت مستعمرة يونانية مأهولة بأناس أتوها من «زانتي»، فعظمت ونمت وأثرت أيما إثراء وكانت على ولاء مع رومية، وأن هنيبال لم يشأ مهاجمتها فورا؛ لأنه بذلك يكون يبادئ مجلس الشيوخ والشعب الروماني بالعداء؛ ولهذا كتب إلى حكومته في قرطجنة أن ساغونتوم تعتدي على رعايا قرطجنة المجاورين لتخومها، وتسيء معاملتهم، على أنه شرع في محاصرتها قبل انتظار الجواب.
وهكذا كان هنيبال شاهرا حربين في وقت واحد؛ الواحدة في مجلس الشيوخ القرطجني حيث كان السلاح مجادلات وبلاغة، والأخرى تحت أسوار ساغونتوم وسلاحها المنجنيق والسهام النارية، وقد فاز في الحربين إذ قر رأي المجلس في قرطجنة على إعادة سفراء رومية إلى أوطانهم دون أن يقضي لهم وطرا، وفي الوقت نفسه كانت أسوار ساغونتوم قد تداعت أمام آلات هنيبال الحربية المدمرة.
وأبى سكان ساغونتوم كل ما عرض عليهم من آراء التسوية وثابروا على الجهاد إلى النهاية، فدخل جيش هنيبال الظافر المدينة زاحفا فوق أشلاء القتلى، وأعمل السلب والنهب وتهديم كل ما اعترضه في سيره، والإجهاز على من بقي فيها حيا، وعاد السفراء إلى رومية وأخبروا مجلسهم بأن ساغونتوم قد خربت ووقعت في قبضة هنيبال، وأن أهل قرطجنة لم يجيبوا سؤالهم ولا عرضوا تعويضا عن الأذى، بل تحملوا كل مسئولية من هذا الوجه وهم يتأهبون للحرب.
وهكذا أتم هنيبال مقصده في تمهيد السبيل لتجديد الحرب مع الدولة الرومانية، واستعد للنزول إلى ميدانها بنشاط وإقدام عظيمين، ودامت الحرب الضروس التي تلت ذلك سبع عشرة سنة، وهي معروفة في التاريخ بالحرب القرطجنية الثانية، فكانت عراكا مخيفا إلى الغاية بين أمتين متزاحمتين تأصل فيهما العداء، وغلت في صدورهما مراجل الشحناء بما لا يضارعه شيء في تاريخ الإنسان المظلم، والحوادث التي جرتها هذه الحرب سوف نجيء على بيانها في الفصول التالية.
الفصل الثالث
افتتاح الحرب القرطجنية الثانية
عندما تتجه الأميال في أية أمة إلى جهة الحرب؛ فإنها تقدم عليها في الغالب بقوة وإجماع رأي، بحيث لا يقف في وجهها شيء، فتكون كالريح الهوجاء أو السيل الجارف لا يبقي ولا يذر، كذلك كانت الحال في قرطجنة عندما جنح الناس فيها إلى الحرب، فحزب هانو الذي كان يعارض محاربة الرومانيين ألقي في زاوية النسيان وأسكت، وفاز أصدقاء هنيبال وأنصاره بحمل الحكومة على العمل برأيهم، وبإثارة الشعب برمته على التهليل للحرب والمناداة بها، وكان هذا الإجماع متأتيا من بعض الوجوه عن عدوى الروح العسكرية التي هي أشبه بالوباء، تتصل من واحد إلى آخر إلى أن تعم الجميع.
بل هي كالنار في الهشيم إذا علقت بمكان، وصادفت رياحا امتدت ألسنة لهيبها إلى مكان والتهمت الأخضر واليابس، وفضلا عن ذلك فإنه عندما استولى هنيبال على ساغونتوم وجد هناك أموالا كثيرة لم يأخذها لنفسه، بل وقفها على تقوية جيشه وتأييد قوته العسكرية والمدنية، وقد تهالك أهل ساغونتوم في سبيل منع هنيبال من الوصول إلى هاتيك الكنوز، وقاتلوا قتال المستميتين إلى النهاية وأبوا كل رأي عرض عليهم للتسليم.
ويقول عنهم المؤرخ ليفي: إنهم كانوا في الجلاد كالمجانين، حتى إنهم عندما شاهدوا الأسوار تنهار منقلبة إلى الداخل، وأدركوا أن رجاءهم بالدفاع عن حياضهم قد انقطع أوقدوا نيرانا كبيرة في الشوارع العمومية، وألقوا فيها كل الكنوز والأشياء الثمينة التي وصلت إليها أيديهم ، وليس ذلك فقط بل إن العدد الكبير منهم ألقوا بأنفسهم في تلك النيران؛ لكيلا يقعوا أسرى في قبضة المنتصرين فيخسر هؤلاء الكنوز وأصحابها معا.
ولكن هنيبال بالرغم من ذلك استولى على مقادير غير يسيرة من الذهب والفضة، منها نقود ومنها سبائك وآنية، فضلا عن الأبضعة الثمينة المختلفة التي اختزنها تجار ساغونتوم في قصورهم ومخازنهم، فاستخدمها جميعا في تعزيز مركزه السياسي والعسكري كما تقدم القول، فدفع للجند أرزاقهم المتأخرة بكاملها وقسم بينهم أسلابا كثيرة كانت بمثابة حصتهم من الغنائم، وبعث إلى قرطجنة أسلابا كثيرة وهدايا، بينها نقود وجواهر وأحجار كريمة إلى أصدقائه وإلى غيرهم ممن أراد اكتساب صداقتهم.
فكانت نتيجة هذا السخاء وما اشتهر في الأنحاء عن انتصاراته في إسبانيا أن هنيبال بلغ ذروة المجد والنفوذ والشرف الذي لم يبلغه قائد قبله، وانتخبه القرطجنيون واحدا من السفطاء، وكان السفطاء أسمى موظفي الحكومة القرطجنية المنفذين وأهل الأمر والنهي فيها، فقد كانت الحكومة على نوع ما جمهورية أرستقراطية، والجمهوريات تحذر دائما من إلقاء مقاليد القوة حتى القوة التنفيذية إلى شخص واحد.
وكما كان لرومية قنصلان يملكان معا، ولفرنسا بعد ثورتها الأولى مجلس إداري مؤلف من خمسة مديرين، كذلك كان القرطجنيون ينتخبون اثنين من السفطاء كل سنة، وهكذا كانوا يسمونهم في قرطجنة. على أن كتبة الرومانيين قد أطلقوا عليهم أسماء متعددة كالسفطاء والقناصل والملوك، وعلى هذا فقد أحرز هنيبال هذا المنصب السامي، بالاشتراك مع زميله قابضا على السلطة المدنية العليا في قرطجنة فضلا عن أنه كان قائد الجيش اللهام الظافر في إسبانيا.
وعندما اتصلت أنباء هذه الحوادث برومية، وبلغها خبر حصار ساغونتوم وتدميرها، وما أقدم عليه أهل قرطجنة من رفض مطاليب سفراء الرومانيين، وما هم شارعون فيه من الاستعداد الكبير للحرب تولاها الاستياء والرعب، فعقد مجلس الشيوخ والشعب اجتماعات ساد فيها الهياج والتشويش، ودار فيها البحث عن أعمال القرطجنيين وعن وجوب استعداد الرومانيين للحرب، وطال الجدال في ذلك وسط ضوضاء وحدة عظيمتين، وكان الرومانيون في الواقع متخوفين من القرطجنيين؛ ذلك لأن حملات هنيبال في إسبانيا وما أبداه في جميعها من الدربة والشدة والبطش قد أوقعت الرعب في قلوبهم من مآتي هذا القائد، وأدركوا من ذلك أنه مصمم على تكييف خطته الحربية في صورة تمكنه من الزحف على إيطاليا، وأنه لا يبعد أن يتابع التقدم إلى أبواب المدينة، فينزل بها وبهم ما أنزله بساغونتوم وسكانها، وقد دلت الحوادث التي تلت على إصابة ما حسبوه من هذا القبيل، وعلى إدراكهم مقدرة هذا الرجل.
دام السلم بين الرومانيين والقرطجنيين بعد الحرب القرطجنية الأولى نحو ربع جيل، وفي غضون هذه المدة أدركت الأمتان تقدما عظيما في الثروة والقوة والرقي، على أن القرطجنيين قد فاقوا الرومانيين من هذا الوجه، «ومن المعلوم أن الرومانيين كانوا أوفر نجاحا من أعدائهم في الحرب الأولى، ولكن القرطجنيين قد برهنوا على أنهم أنداد لهم في كل أمر، مما دل على سهرهم واجتهادهم؛ لكيلا تكون للرومانيين عليهم ميزة، ومن أجل هذا بدت على الرومانيين أدلة الخوف من النزول مع عدوهم القوي في ميدان حرب جديدة، يقودهم إلى معاركها مثل ذلك القائد هنيبال.»
فقر رأيهم على توجيه وفد ثان إلى قرطجنة، وبذل الجهد في المحافظة على السلام بين الشعبين قبل الإقدام على العراك، وانتخبوا لذلك الوفد خمسة من أعاظم رجالهم ومن أكبر أهل الوجاهة بينهم سنا، وأمروهم بالسفر إلى قرطجنة، وأوصوهم أن يسألوا مجلس قرطجنة عما إذا كان أقر نهائيا على الرضا عن أعمال هنيبال وتحمل مسئوليتها، فركب الوفد البحر ووصل إلى قرطجنة، ومثل أمام مجلسها، وهناك أوضحوا الغاية التي قدموا لأجلها، ولكنهم كانوا يخاطبون آذانا صماء.
وأجابهم خطباء قرطجنة على كلامهم ورد عليهم أولئك، بحيث كان كل جانب يتبرأ من اللوم في خرق المعاهدة ويلقيه على الآخر، وكانت ساعة هائلة يتوقف على نتيجتها سلام العالم، وحقن دماء مئات الألوف من الرجال وسعادة الشعبين أو تعاستهما وخرابهما، وتدمير عمران البلادين في حرب ضروس، لا يعلم نهايتها إلا الله، فكانت نتيجة الجدال اتساع الخرق لسوء الحظ، وعندها قال رجال الوفد الروماني: «إننا نعرض عليكم السلم أو الحرب فأيهما تختارون؟» فأجاب القرطجنيون قائلين: «اختاروا أنتم»، قال الرومانيون: «نختار الحرب إذن، ما دام لا مفر لنا منها»، وانفض المجلس وعاد الوفد إلى رومية.
على أنهم رجعوا بطريق إسبانيا، وكان غرضهم من اتخاذ تلك الطريق المرور بالممالك والقبائل المختلفة في إسبانيا وفرنسا التي يمر فيها هنيبال، عندما يزحف مريدا اجتياح إيطاليا، ومحاولة حملها على نصرة رومية، على أنهم وصلوا متأخرين؛ لأن هنيبال كان قد أجهد نفسه في مد نفوذه وتأصيل تأثيره في هاتيك الأنحاء، بحيث لا يقوى أحد على أن يفسد ذلك عليه، ومن أجل هذا كانت البلدان التي يجيئها الوفد الروماني طالبا محالفتها ترفضه متعللة معتذرة بمختلف الأعذار.
من ذلك أن قبيلة ذات صولة وقوة معروفة باسم «فولسياني» قصدها الوفد الروماني، وأعلن لمجلسها العالي احتساب رومية لحرب أصبحت على الأبواب، ودعا الناس إلى محالفة الرومانيين، فقالوا له: «إننا نرى مما حل بساغونتوم، ماذا تكون نتيجة محالفتنا للرومانيين، فأنتم بعد ترككم تلك المدينة، وهي بلا وسائل دفاع، وحيدة في عراكها المر ضد العدو الذي أحدق بها من كل جانب. لا يجوز أن تتوقعوا من الأمم الأخرى الثقة بحمايتكم، فإذا أردتم اكتساب حلفاء جدد ينصرونكم على أعدائكم، فاذهبوا إلى أناس لم تتصل بهم نكبة ساغونتوم.»
فكان لهذا الجواب رنة استحسان في كل ناحية سمع أهلها به، وهكذا يئس الوفد الروماني من إدراك مبتغاه في إسبانيا، وغادرها ذاهبا إلى «غال»، وهو الاسم الذي عرفت به البلاد المعروفة اليوم باسم فرنسا، ولما وصلوا إلى مكان معلوم كان نقطة دائرة النفوذ والقوة في بلاد الغال، عقدوا مجلسا حربيا هناك، وكانت مظاهر المجتمعين فيه وملابسهم باعثة على الحماسة؛ لأن الذين حضروها أتوا بسلاحهم الكامل، حتى كأنهم زاحفون إلى قتال لا إلى عقد مجلس شوروي ومباحثات.
وأمام ذلك المجلس عرض الوفد الروماني الغاية التي قدم لأجلها، وأسهب في إطراء عظمة الرومانيين وما لهم من الحول والطول، وأكد للمجتمعين أن رومية ستكون الظافرة في العراك المقبل، وحث الغاليين على الانحياز إلى جانبها، وإنجادها وعلى امتشاق الحسام والحئول دون مرور هنيبال في وسط بلادهم، هذا إذا خطر له جعل طريقه من تلك الناحية.
وتعذر على الوفد إقناع ذلك المجلس بالتريث إلى أن يفرغ متكلموهم من إيضاح مهمتهم، فكانوا كثيرا ما يقاطعون من تكلم منهم بالاعتراض والصياح، وفي آخر الأمر حدثت في ذلك المجلس ضوضاء وجلبة كلها اشمئزاز واستياء يتخللها أصوات استهزاء، أخيرا استعيد النظام ونجح كبار القوم في إسكات المتذمرين، وعندها أخذ النائبون عن ذلك المجلس يجيبون الرومانيين على ما طلبوه، فقالوا لهم: إن بلاد الغال لم تلق من رومية سوى الاعتداء والأذى، في حين أنها قد لقيت كل عناية ورعاية وموالاة من قرطجنة.
ولهذا فهم لا يريدون ارتكاب مثل هذه الحماقة، باستجلاب عواصف غضب هنيبال على رءوسهم؛ لمجرد طلب أعدائهم الألداء إليهم بالانتصار لهم عليه وإنقاذهم من بطشه، وعلى هذه الصورة فشل الوفد الروماني في مساعيه في كل مكان، ولم يعثروا على روح مسالمة لهم عاطفة عليهم إلا بعد أن عبروا نهر الرون.
وشرع هنيبال عندئذ في رسم خططه الحربية بطريقة مبنية على التأني والحذر والتبصر؛ وذلك للزحف على إيطاليا، فهو قد أدرك أن القتال سيكون سجالا، وأن الحملة ستبلغ درجة من التوسع عظيمة وتستغرق وقتا طويلا؛ ولذلك فهي تدعو إلى التدبير المدقق المبني على مزيد التأني والتؤدة، بحيث يتناول القوات التي تزحف وغيرها التي يجب استبقاؤها خلف الجيش.
وكان فصل الشتاء مقبلا، وأول شيء فعله هو أنه أطلق سراح جانب عظيم من رجاله؛ لكي يزوروا أوطانهم، وقال لهم إن في نيته الإقدام على أمور جسيمة في الربيع المقبل، قد تبعث بهم إلى مسافات بعيدة وتبقيهم وقتا طويلا متغيبين عن إسبانيا؛ ولهذا فقد رأى أن يعطيهم الفرصة المعترضة بين ذلك الوقت وفصل الربيع؛ لكي يزوروا أوطانهم وعيالهم ويدبروا شئونهم حسبما ينبغي.
فلطف هنيبال ورعايته وثقته التي أبداها لجنوده جددت تعلقهم به، فذهبوا وعادوا إلى معسكره في الربيع، وهم متجددو النشاط والقوة والإخلاص لقائدهم، وبشوق متضاعف للقيام بواجباتهم نحوه في العمل العظيم الذي صمم على القيام به، وبعد أن صرف هنيبال جنوده إلى أوطانهم ذهب هو إلى قرطجنة الجديدة الواقعة، كما يفهم من الخارطة إلى الغرب، بعيدا عن ساغونتوم حيث أراد قضاء فصل الشتاء والاشتغال بإكمال الخطط التي رسمها.
وكان عليه، فضلا عن إعداد ما يلزم لزحفه، أن ينظم حكومات صالحة للبلدان التي يغادرها وراءه، وعلى هذا أخذ في إعداد كل ما يكفل له إبقاء تلك البلدان في هدوء، بعيدة عن خطر الخروج والعصيان عليه بعد ارتحاله، فكان في جملة ما دبره تنظيم جيش لإسبانيا من الجنود الذين أخذهم من أفريقيا، وأخذ الجنود التي كان عليها المحافظة على قرطجنة، وحماية حكومتها من إسبانيا.
فهو باستبدال الجنود على تلك الصورة في البلادين، قد ألقى مقاليد السيطرة العسكرية في كل بلاد إلى عهدة جنود أجانب عنها، يكونون أطوع لقوادهم وأعظم إخلاصا وأقل خطرا من الاندغام، والجنوح إلى الأهلين الذين يسيطرون عليهم، مما لو اختارهم من أهل البلاد عينها، وعرف هنيبال جيدا أن البلدان والمقاطعات الإسبانية المختلفة التي أبت محالفة الرومانيين وتركه، قد أرغمت على ذلك بتأثير هداياه أو بالخوف من بطشه، وأنه إذا لقي اندحارا في إيطاليا بعد التوغل فيها، فذلك الفشل يقلل رجاءهم من الانتفاع بهباته أو خوفهم من صولته، فيئول أمرهم إلى شق عصا الطاعة له أو الانتفاض عليه.
ولكي يكون أمينا إلى الحد المتناهي من هذا القبيل ابتدع هذه الخطة البديعة، وهي أنه جند جيشا من سائر الأمم التي في إسبانيا والموالية له، منتخبا الشبان المتطوعين من أسر ذات وجاهة ونفوذ، وعندما اكتمل عدد هذا الجيش وتنظم بقواده وضباطه وجهه إلى قرطجنة، وغرضه من ذلك أن يفهم تلك الشعوب التي انتخب ذلك الجيش من أبنائها أنه لا يعد تلك الجنود عساكر منخرطة في سلك جيشه فقط، بل يعدها أسرى أو رهائن يمسكها كضمان يكفل له إخلاص هاتين البلدان وطاعتها، وكان عدد ذلك الجيش أربعة آلاف رجل.
وكان لهنيبال أخ اسمه مثل اسم صهره أسدروبال من قبيل التصادف، فعهد إليه في القبض على زمام الحكومة في إسبانيا مدة غيابه عنها، وكانت الجنود التي وضعها تحت إمرته في إسبانيا مأخوذة من أفريقيا كما تقدم القول، ونظم له قطعة من الفرسان زيادة على هذا الجيش، وترك معه أربعة عشر فيلا، وإذ كان على احتساب من إمكان هبوط الرومانيين على شاطئ إسبانيا في غضون غيابه من جانب البحر منتهزين فرصة انشغاله في إيطاليا؛ ابتنى لأخيه نحو ستين سفينة وجهزها بالعدة الكاملة منها خمسون سفينة من الطراز الأول.
ومعلوم أن أهمية البوارج والمستزريات الحربية العصرية تتوقف على عدد المدافع التي تحملها، أما أهمية سفن تلك الأيام الحربية فكانت متوقفة على عدد صفوف المجدفين فيها، ومن أجل هذا ابتنى لأخيه خمسين بارجة خماسية (كونكواريوم كما كانوا يسمونها)، وهي التي كانت ذات خمسة صفوف من المجذفين، ولم يكن الرومانيون متهاملين في أمر الاستعداد، فهم مع كونهم قد ترددوا في أمر الحرب إلا أنهم وجدوا من الضرورة الماسة التأهب لها؛ لكي - إذا فوجئوا بها - يكونوا على أتم الاستعداد لخوض غمراتها بهمة تامة وعدة كاملة، عندما يرون ألا مناص لهم منها.
فقر رأيهم على حشد جيشين عظيمين، كل جيش لقنصل من قنصليهما، ووضعوا لهما خطة حربية مآلها أن أحد الجيشين يتقدم لملاقاة هنيبال بينما الآخر يقصد سيسيليا، ومنها يعبر إلى الشاطئ الأفريقي بقصد أن يهدد عاصمة القرطجنيين، فإذا نجحت هذه الخطة فإنها ترغم القرطجنيين على استدعاء قسم من جيش هنيبال أو الجيش كله من الساحة الإيطالية؛ لكي يدافع عن أوطانهم.
وكان عدد الجيوش التي حشدها الرومانيون نحو سبعين ألف مقاتل؛ ثلثهم جنود رومانيون والبقية مجندة من أجناس الأمم المختلفة القاطنة في إيطاليا، وفي جزائر بحر الروم الموالية للرومانيين. وكان من هذا الجيش نحو ستة آلاف فرسانا، وكان على الرومانيين أن يعدوا أسطولا إذا هم فكروا في اجتياز البحر إلى أفريقيا، فابتنوا أسطولا وجهزوه بكل معدات القتال، وكان عدده مائتين وعشرين سفينة من الطراز الكبير، أي الخماسي، وكان لديهم عدد من السفن الصغيرة للأعمال التي تتطلب سرعة في السير.
وكان لدى أهل تلك الأيام سفن أكبر من السفن الخماسية، فقد ذكر المؤرخون شيئا كثيرا عن سفن ذات ستة وسبعة صفوف أيضا من المجذفين، على أن مثل هذه السفن الضخمة كانت تستخدم بمثابة بوارج لأمراء البحر ولغير ذلك من الاحتفالات والاستعراضات؛ ذلك لأنها كانت ضخمة ثقيلة بحيث لا تصلح للعراك.
وكانت عادة الرومانيين في مثل هذه الظروف إلقاء قرعة لتقليد زمام الجيشين إلى كل واحد من القنصلين، فالجيش الذي كان عليه أن يلقى هنيبال على طريقه من إسبانيا ألقيت مقاليده بحسب القرعة إلى القنصل كرنيليوس سيبيو، واسم القنصل الآخر سمبرونيوس فهذا عهد إليه في اقتياد الجيش الذي يسير إلى سيسيليا ومنها إلى أفريقيا، ولما فرغوا من كل هذا طرحت المسألة نهائيا أمام الشعب الروماني للتصويت والموافقة النهائية عليها بهذه العبارة: «هل يقر رأي الشعب الروماني على شهر الحرب ضد القرطجنيين؟»
فكان الجواب بالإيجاب، وعند ذلك أعلنت الحرب باحتفال رسمي على جاري العادة، وتلت ذلك طقوس وحفلات دينية وتقديم ضحايا لاستجلاب رضا الآلهة والاستعانة بها، ولتحريض الجنود وبث روح البسالة في صدورهم وإيجاد الثقة في نفوسهم بالتقاليد التي تحمل كل واحد منهم مهما كان شريرا على الإقدام، عندما يتصور أنه أصبح تحت حماية السماء، ومتى تمت كل هذه الحفلات والطقوس يكون كل استعداد قد أكمل.
وكان هنيبال في الوقت نفسه يزحف متقدما مع إقبال فصل الربيع نحو ضفاف نهر إيباروس، ذلك المجرى الذي يفصل التخوم، والذي مكنه عبوره في الماضي من اجتياح الأرض التي كانت معدودة أرضا رومانية، فاجتاز النهر بإقدامه المعروف، وزحف إلى جبال البيرنيه التي منها يتألف الحد الفاصل بين فرنسا وإسبانيا.
ولم يكن جنوده عندئذ يعرفون شيئا عن مراميه، فإن القادة في تلك الأيام كانوا - كما هم اليوم - يكتمون مقاصدهم وخططهم الحربية عن الجيوش، ذلك فضلا عن أن جنود تلك الأيام لم تتوفر لهم الوسائل المتوفرة لجنود هذا الزمن، من حيث كثرة الجرائد التي لا تترك خبرا إلا وتنشره أو سرا إلا وتفضحه للناس. وهكذا فإنه إذا كان ضباط الجيش ووجهاء القوم في رومية وقرطجنة عالمين بمقاصد هنيبال وما يرمي إليه، فإن جنوده الجهلاء المستعبدين لم يعرفوا شيئا سوى أنهم مسيرون إلى عمل بعيد كثير المشقة.
ولهذا كانوا يجهلون ما هي إيطاليا أو رومية وعظمة المملكة الواسعة التي كانوا يسيرون لاجتياحها، وهكذا فإنهم عندما وصلوا إلى جبال البيرنيه، وأدركوا أنهم سوف يرغمون على تسلقها وقطع قممها والهبوط منها بمثل ذلك العناء، قطبوا وجوههم وتولاهم الخور وصار كثيرون منهم يتذمرون علنا، وبلغ منهم التذمر حدا حمل قسما منهم يبلغ عدده ثلاثة آلاف رجل على الانفلات من بقية الجيش، وساروا راجعين نحو أوطانهم.
ولدى البحث علم هنيبال أن عشرة آلاف آخرين من جنوده قد تولاهم الشعور نفسه فصمموا على اللحاق بأولئك، فالآن ما الذي يتصوره القارئ بالذي يفعله هنيبال في مثل ذلك الموقف الحرج؟ هل يلحق الفارين من الجيش الذي لا يزيد عدده على مائة ألف ويبطش بهم تأديبا لهم وعبرة لغيرهم، أو أنه يتركهم وشأنهم ويحاول بالكلام اللطيف والتشجيع إقناع من معه بالبقاء؛ لكي يبقى لديه جيش يحارب به العدو؟
إن هنيبال لم يفعل هذا ولا ذاك، بل دعا العشرة آلاف جندي الذين كانوا لا يزالون في المعسكر وهم على أهبة الرجوع وقال لهم بصريح اللفظ: إنهم ما داموا خائفين من مرافقة جيشه أو غير ميالين إلى اتباعه فليرجعوا؛ فهو لا يريد أن يكون بين رجاله من ليست له الشجاعة الكافية والصبر على الجهاد، واللحاق به حيثما أراد اقتياده؛ فالجبان أو الخائر القوى ليس له محل في جيشه؛ لأنه يكون حملا ثقيلا يهد به قوى بقية الجيش ويفت من صلابتهم.
وإذ قال هذا أمرهم بالرجوع في الحال، واستأنف المسير ببقية الجيش متسلقا الجبال، وقد تصلبت قلوب رجاله مما قد سمعوه، وتضاعفت شجاعتهم من كلمات التوبيخ التي قالها للرجال الذين تولاهم الجبن والخوف. ومن المعلوم أن عمل هنيبال هذا بالسماح لجنوده المتذمرين ليرجعوا كان من الشهامة بمكان، وقد أثر على جنوده الباقين، ونفخ في صدورهم روح الشجاعة والإقدام، على أنه ليس من أصالة الرأي أن يحسب عمله نبالة مقصودة ، بل هي من النوع الذي تجيء به الضرورة عندما يصبح الإنسان بين أمرين شديدين لا بد له من أحدهما، فيختار الأخف.
وهذا ما يقال له سياسة، فهنيبال كما قد عرف عنه كان شديد الوطأة لا يعرف قلبه الرحمة، ولا يلين لأمر إذا كان في اللين ضرر أو خطر؛ ولهذا فالقائد الأريب ذو الحزم يجب أن يعرف متى يعاقب ومتى يغضي ويتسامح. فهنيبال كان كالإسكندر ونابليون توفرت له الحكمة، وهي التي حملته في هذه الحادثة على ما فعل، وهكذا اجتاز هنيبال جبال البيرنيه، وكانت الصعوبة التي اعترضته بعدها في عبور نهر الرون.
الفصل الرابع
عبور نهر الرون
لم يلق هنيبال بعد اجتياز جبال البيرنيه عوائق جديدة حتى انتهى إلى نهر الرون، فهو قد عرف أن النهر عريض وسريع الجري وأن عليه أن يعبره عند مصبه حيث الماء عميق والضفتان منخفضتان، وفضلا عن هذا كله فقد يكون الجيش الروماني الزاحف لملاقاته، بقيادة القنصل كرنيليوس سيبيو، قد بلغ النهر ورصد هناك؛ لكي يمنع جيش هنيبال من العبور.
فأرسل هنيبال كتيبة تتقدمه إلى حيث تستكشف البلاد وتستهدي إلى أفضل الطرق الموصلة إلى ذلك النهر، وبعد الوصول إليه تستمر على المصير إلى جبال الألب؛ لكي تكون على علم بالدروب والمضايق التي سيمر فيها جيشه عندما يقدم على اجتياز تلك الجبال المغطاة بالثلوج، وحدث أنه إذ كان يسير لاجتياز جبال البيرنيه، وهو بعد في أرض إسبانيا على الجانب الآخر منها، أن بعض القبائل التي اضطر إلى المرور في أراضيها تصدت له وأرادت مناوأته.
فتعين عليه أن يهاجمها ويبطش بها، فلما انتهى منها وسار أبقى وراءه قسما من رجاله في تلك الأرض التي قهر أهلها لإرغامهم على السكون، فبلغت أخبار هذه المواقع أرض الغاليين وحملتهم على الاحتساب والتأهب للذود عن سلامتهم، وكانوا قبل وقوفهم على ما أصاب غيرهم يظنون أن هنيبال يبغي المرور ببلادهم للوصول إلى إيطاليا؛ ولهذا لم يفكروا في التعرض له، أما الآن فقد رأوا ما حل بأهل البلدان التي مرت فيها، وأيقنوا أن هنيبال مصمم على تدويخ كل أرض تطؤها أقدام رجاله، فولد لهم ذلك قلقا عظيما.
ولهذا عمدوا إلى أسلحتهم واجتمعوا في روسينو على عجل، وأخذوا يفكرون في وسائل الدفاع؛ وروسينو هذه هي البلدة التي لقي فيها سفراء رومية مجلس بلاد الغال العالي عند رجوعهم من قرطجنة إلى رومية، وفيما كان المجلس الغالي (أو بالحرى الجيوش المتألبة) تفد إلى روسينو ملتهبة الصدور غيظا وحماسة، كان هنيبال في إيليباريس، وهي بلدة في سفح جبال البيرنيه، ولم يكن هنيبال يتوقع مقاومة من الغاليين ولا يحسب لهم إن قاوموه حسابا، على أنه كان يخشى من أن يعيقوه.
ولم يشأ هنيبال أن ينفق شهور أوائل الصيف الثمينة في مجالدة مثل هؤلاء الأعداء، والطريق إلى إيطاليا مفتوحة أمامه وهي، لا هم، ضالته المنشودة، ذلك فضلا عن أن معابر جبال الألب المشهورة بكونها صعبة الاجتياز إلا في شهري تموز وآب، وهي في كل فصول السنة الباقية تكون، أو إنها كانت، في ذلك الزمن مملوءة بالثلوج التي يتعذر السير فوقها، وفي الأزمنة المتأخرة قد مهدت فيها السبل واحتفرت في صخورها الأروقة والدهاليز وأشباهها، التي تقي السائرين العواصف الثلجية وركامات الجليد التي تنحط عليهم من شواهق القمم؛ بحيث أصبح السفر بين فرنسا وإيطاليا بين تلك الجبال ممكنا في كل فصول السنة إلى درجة معلومة.
أما في أيام هنيبال فلم يكن اجتيازها ممكنا في غير شهور الصيف، ولو لم يكن الإقدام على قطعها ضروريا لعد القيام به من نوع المخاطرة الكلية بل الحماقة المتناهية، ولا سيما مع جيش لهام؛ ولهذا لم يستطع هنيبال إضاعة الوقت، فرأى من الحكمة العمل بالتؤدة والمجاملة ومكارم الأخلاق بدلا من استخدام النكاية والقوة، ومن أجل هذا أنفذ الرسل إلى مجلس روسينو ليقولوا لرجاله بغاية اللطف والملاينة: إن هنيبال يريد الاجتماع بأمرائهم وزعمائهم شخصيا والمفاوضة معهم، وهو إن شاءوا يتقدم إلى روسينو لهذه الغاية، أو يقدمون هم عليه في إيليباريس إن أرادوا حيث يكون في انتظارهم.
ثم دعاهم إلى معسكره مخيرا إياهم بالقدوم، وقال لهم إنه مستعد إذا رغبوا في مقابلته للذهاب إليهم كصديق وحليف، وإنه لا يطمع في شيء سوى المرور ببلادهم، وزاد على هذا قوله إنه قد قطع عهدا على نفسه إذا أتاح له الغاليون إتمامه، لا ينتضى في كل جيشه سيف إلا بعد أن يصل إلى إيطاليا، فانتفى بهذه الرسالة كل ما كان في صدر الغاليين من المخاوف وشعور العداء، وسري عنهم كثيرا، فأعدوا العدد في معسكرهم وساروا قاصدين إيليباريس، ولما وصلوا قصد أمراؤهم وقواد جيشهم معسكر هنيبال، فقوبلوا هناك بمزيد الحفاوة والإكرام على الصورة لم يكونوا يتوقعونها، ورجعوا من عنده مثقلين بالهدايا والتحف، وهم يلهجون بلطفه وكرم أخلاقه وسخائه النادر المثال. وهكذا فبدلا من أن يعملوا على عرقلة مسيره كانوا هم أدلاء الجيش وهداته، فأخذوه أول كل شيء إلى روسينو عاصمتهم، ومن هناك بعد إبطاء يسير زحف الجيش قاصدا نهر الرون.
وكان القنصل الروماني سيبيو في الوقت نفسه قد أعد مراكبه لملاقاة هنيبال، وهي ستون مركبا عبأها بالجنود عند مصب نهر التيبر وأقلع يريد مصب نهر الرون، وكان الجنود في تلك المراكب مكردسين بعضهم فوق بعض، كما تكون الحال على الغالب في الجيش الذي يركب البحار، ولم يستطيعوا التوغل في البحر لعدم وجود الحك (الإبرة المغناطيسية) في تلك الأيام، بحيث يصعب عليهم معرفة الوجهة التي يسيرون فيها إذا كان الجو غائما، أو كانت العواصف تهب إلا بما يرونه من البر.
ومن أجل هذا أقلعت مراكبهم ماخرة ببطء على محاذاة الشاطئ فكانوا يدفعونها أحيانا بالشراع وتارة بالمجاذيف، وبعد معاناة المضني من مشقة السفر والجوع القتال من قلة الزاد والدوار، وما يتسبب من تحرج الصدور عن انحشار ألوف الناس في فسحات ضيقة، الأمر الذي يفرغ معه الصبر وتزهق الأرواح، وصلت المراكب الرومانية إلى مصب نهر الرون، ولم يكن قواد الجيش الروماني يعلمون أن هنيبال قريب من تلك النقطة، بل كل ما اتصل بهم عنه أنه قد اجتاز نهر إيباروس.
ولهذا ظنوا أنه لا يزال خلف جبال البيرنيه، وهكذا دخلوا نهر الرون في أول فرع وصلوا إليه منه - ذلك لأن نهر الرون كنهر النيل يتفرع عند مصبه، وينصب في البحر بمجار عديدة - وثابروا على المسير فيه إلى أن بلغوا مرسيليا؛ ظانين أن عدوهم لا يزال بعيدا عنهم مئات الأميال، وربما كان قد تلبك جيشه في دروب البيرنيه ومضايقه، ومعلوم أن هنيبال على العكس من ذلك كان عندئذ معسكرا على ضفاف نهر الرون فوق المكان الذي وصلوا إليه بمسافة قصيرة، وهو يفكر في إعداد الوسائل لعبوره بصبر وهدوء.
ولما أنزل القنصل كرنيليوس جيشه إلى البر كان جنوده في حالة من التعب والدواخ الكثير، لا يقوون معها على ملاقاة هنيبال إلا بعد أن يأخذوا نصيبا من الاستراحة أياما معدودة، على أن كرنيليوس انتخب من جيشه ثلاثمائة فارس، علم بمقدرتهم على الحركة ووجههم إلى أعالي النهر للاستكشاف، ولكي يعلموا مقر هنيبال ويعودوا ويطلعوه على ذلك في الأسرع الممكن، وبعد إرسالهم عمد إلى تنظيم جيشه والقيام على إتمام صفوفه؛ لكي يكون على أتم الاستعداد حال رجوعهم.
ومع أن هنيبال لم يلق مقاومة شديدة في مسيره ببلاد الغال، فلا يجوز أن نظن أن الناس الذين اجتاز في وسطهم كانوا موالين له أو مسرورين من وجوده بينهم، فالجيش عبء ثقيل على الدوام ولعنة على كل بلاد يدخلها، حتى ولو كان مارا بها غير محارب.
فالغاليون أبدوا كل صداقة لهذا الفاتح الرهيب وجموعه، على اعتقاد منهم أنه سيمر بسرعة ويرتحل عنهم، ولا سيما أنهم كانوا غير متأهبين ولا قوة لهم على محاولة الوقوف في وجهه؛ ولهذا اختاروا أهون الشرين، وقرروا بذل كل خدمة ممكنة له ليسرع في الابتعاد عنهم.
وظلت تلك خطة القبائل التي اجتاز في وسطها إلى أن بلغ النهر، على أن الناس المقيمين على الجانب الآخر من النهر قد وجدوا أن الأفضل لهم أن يقاوموه، فهم كانوا على مقربة من البلاد الرومانية، ومن المعدودين على نوع ما تحت النفوذ الروماني؛ هؤلاء كانوا يخافون من استياء الرومانيين إذا هم ساعدوا - ولو بالوقوف على الحياد - تقدم هنيبال ووصوله إلى حيث يقصد بدون أقل معارضة . ولما كان النهر عريضا في ناحيتهم معترضا بينهم وبين أعدائهم، فكروا في مركز يمكنهم أنهم بالنظر إلى النهر في مأمن من بطش هنيبال، وفي مركز يمكنهم من صده عن التقدم.
ولما شرع هنيبال في عبور النهر كان السكان من الجانب الواحد ميالين إلى مساعدته، وتسهيل كل صعوبة تقف في سبيله، وكان سكان الضفة الأخرى يبذلون أقصى جهودهم في عرقلة مساعيه ومنعه عن العبور، وكلاهما مدفوع إلى ذلك بالرغبة نفسها، وهي إبعاد العدو المجتاح عن أرضه، والتخلص من ذلك الجيش الماحق الذي يبلغ عدده التسعين ألفا. وهكذا وقف هنيبال بين أمرين متناقضين؛ أناس على جانبه يسهلون له سبيل العبور مقدمين له السفن والقوارب التي يملكونها، وباذلين منتهى الجهد في إبلاغه غايته من العبور، وأناس على الضفة الأخرى واقفين له صفوفا كالجيش الراصد للكفاح بأسلحته البراقة يهددونه بالويل والثبور، إذا هو أقدم على العبور.
ورآهم هنيبال ألوفا مصفوفة بالسيوف والرماح وخيامهم وراءهم تخفق فوقها راياتهم، وكل حركة من حركاتهم تدل على أنهم يبغون به وبجيشه شرا، وفي غضون تلك الفترة كان الثلاثمائة فارس الذين أرسلهم كرنيليوس للاستكشاف يسيرون على مهل قاصدين أعالي النهر ليستطلعوا طلع العدو. وبعد أن تأمل هنيبال مليا في هذه الحالة وهو ساكت شرع في إعداد ما يلزم لعبور النهر، فجمع كل القوارب التي أمكن الحصول عليها من الغاليين القاطنين على ذلك الجانب للقيام بذلك، على أن هذه القوارب لم تكن سوى مقدمة لذلك العمل الكبير، وبما أنها لاتكفي أخذ في جمع الأخشاب والأدوات لابتناء غيرها، وكانت عادة الغاليين في ذلك الإقليم أن يصنعوا القوارب من جذوع الشجر الضخمة، ويحفرونها كقارب فيقطعون الشجرة حسب طول القارب، وينقرون جوفها بالفأس والقدوم، ويصقلون كعبها الخارجي وجوانبها؛ لكي تجري على الماء بسهولة، وهي طريقة سهلة جدا ما برح الناس يعملون بها إلى هذه الأيام في الأماكن التي يوجد فيها شجر كبير.
وكانت في تلك الناحية أشجار ضخمة كثيرة وهي قريبة من ضفة النهر، وكان جنود هنيبال يراقبون الغاليين في اشتغالهم بحفر القوارب فتعلموا منهم ذلك الفن وأتقنوه، وكان الكثيرون منهم يساعدونهم في قطع الشجر والحفر إلى أن صاروا هم أنفسهم يقطعون الشجر ويحتفرون القوارب وحدهم. ومن الجنود من رأوا في ذلك بعض البطء فصاروا يقطعون الأشجار بقياس معلوم، ويرمونها في الماء، ثم يضعونها القطعة بإزاء الأخرى ويربطونها معا على شكل أرماث طافية، قائلين: إن الأمر لا يحتاج إلى قوارب رسمية فكل ما يطوف على الماء يصلح لعبور الجيش؛ لأن العبور وقتي، ويجب أن تكون وسائله وقتية ما دامت تفي بالحاجة من حمل الجنود ومتاعهم.
وكان الأعداء الراصدون على الجانب الآخر ينظرون، ولا يستطيعون حراكا لمنع تأهب هنيبال، فهم لو كانت لهم مدافع زماننا لأطلقوها عبر النهر، وحطموا ما هنالك من القوارب والأرماث بالقنابل بأسرع ما يقوى على بنائها القرطجنيون والغاليون، فضلا عن أن العمال عنذئذ لا يستطيعون بناءها وهم هدف لضرب المدافع، ولكن الأعداء يومئذ لم يكن لهم سوى الحراب والسهام والأحجار ترمى إما باليد أم بالمجانيق، بحيث لا تصل إلى المكان المقصود، وإن وصلت بعد اجتياز مسافة النهر لا تأتي بالفعل المطلوب.
ومن أجل هذا أرغموا على النظر إلى جماعة هنيبال بسكون وصبر، وأتاحوا لهم على غير رضا منهم المثابرة على إعداد تلك التأهبات العظيمة لمهاجمتهم، بدون أن يكون لهم ما يساعدهم على إيقافها. وكان رجاؤهم الوحيد في الانتظار ريثما يسير العدو في القوارب والأرماث على النهر، ويريد النزول إلى البر وعندئذ يضربونه بما عندهم من سهام وحراب وأحجار؛ لكي يمنعوه من الوصول إلى البر.
ولو أراد جيش عبور النهر، ولم يكن ثم جيش آخر على الضفة الأخرى يعارض عبوره، لكفته قوارب قليلة في العدد؛ وذلك لأنه إذ ذاك ينقل من الجانب الواحد إلى الآخر جماعات جماعات على التوالي، فيعيد القوارب نفسها التي حملت فريقا واحدا إلى حيث تجيء بالفريق الآخر، ولكن عندما يرصد له على الجانب الثاني عدو يريد صده، يكون من الضروري عندئذ أن يعد الوسائل التي تمكنه من نقل قوة كبيرة من رجاله كل مرة؛ لأنه لو أرسل قوة صغيرة إلى حيث العدو واقف، فإنه إنما يرسلها إلى الهلاك المحتم، ويوقعها في أيدي الأعداء الذين يتربصون به ريب المنون.
ومن أجل ذلك صبر هنيبال ريثما تتوفر له القوارب والأرماث والدكات الطافية؛ لكي يحمل عليها قطعة كبيرة من الجيش تكون قوية بعددها ومعداتها فتعارك العدو الراصد ولها أمل بالنجاح، والرومانيون، كما قد سبقنا فقلنا، كانوا يقولون إن هنيبال داهية مكار. فهو لم يكن يميل كالإسكندر إلى الاعتماد في معاركه على التفوق في الشجاعة والقوة، بل كان يبتدع الوسائل المختلفة على الدوام، ويعد التدابير التي ترجح كفة ميزان النصر في جانبه، وذلك ما أتاه في هذه المرة.
فثابر أياما عديدة يتأهب ويبني القوارب ويستعرض الجيش ويصف الأرماث بإزاء الشاطئ على مرأى من أعدائه، مظهرا لهم أن جل اعتماده هو على ما لديه من جموع الرجال الذين يقذف بهم عبر النهر دفعة واحدة، وهكذا عمل على حصر اهتمام العدو بتلك الاستعدادات، وكان في غضون ذلك يدير خطة أخرى، وهي أنه وجه قطعة من الجيش خفية إلى أعالي النهر، وأمرهم بالتسلل خفية في الغاب وعبور النهر من مكان يبعد عنه، حيث كان أميالا معدودة.
وكان التدبير أن هذه القطعة المرسلة، لتعبر النهر من مكان آخر، تنقض بعد التمكن من ذلك على الأعداء ملتفة حولهم ومهاجمة إياهم من الوراء، وذلك لكي تعمل فيهم القتل حينما يكون هنيبال عابرا النهر بأهم كتائب جيشه، فإذا نجحت تلك القطعة من الجيش بعبور النهر يجب أن تعلن ذلك بإشعال نار في الغابة على الجانب الآخر، فيعلم هنيبال من دخان النار المتصاعد في الجو أنها قد اجتازت النهر.
وكان قائد هذه الفرقة ضابط اسمه هنو - وهو غير هنو عدو هنيبال الكبير الباقي في قرطجنة - فسار هنو ليلا مبتعدا عن النهر في بدء مسيره؛ لكيلا يراه العدو من الجانب الآخر يتقدمه الأدلاء من أهل البلاد الذين وعدوه بهدايته إلى مكان يسهل منه عبور النهر، فسارت تلك الفرقة على محاذاة النهر مسافة خمسة وعشرين ميلا، وهناك وجدوا النهر متسعا منبسطا والماء ضحضاحا والمجرى غير سريع.
فقصدوا ذلك المكان بسكوت وبمزيد التستر، بحيث لم يشعر بهم الأعداء الذين تحتهم على الضفة الأخرى، وكان عبورهم النهر من هناك سهلا جدا؛ إذ لا يوجد من يصدهم فابتنوا عددا من الأرماث، واحتملوا من لا يحسن السباحة من الرجال، وغير ذلك من المعدات الحربية التي يفسدها التبلل بالماء، وأما القسم الآخر منهم فعبر سباحة، وكانوا قد وضعوا الأتراس على بطونهم ليستعينوا بها على العبور.
وعلى هذه الصورة عبروا النهر وبلغوا الضفة الأخرى سالمين، وتربصوا هناك يوما كاملا لكي تجف ثيابهم وليأخذوا نصيبا من الاستراحة، ومن ثم ساروا بتمهل نزولا على جانب النهر إلى أن صاروا على مقربة من هنيبال بحيث يرى إشارتهم، وعندئذ أوقدوا النار وصاروا يتأملون في كثيف الدخان المتصاعد منها في الجو.
ورأى هنيبال النار، فأخذ من فوره يتأهب لعبور النهر بجيشه، فنزل الفرسان في القوارب ممسكين بأرسان خيولهم؛ لكي يقتادوها إلى الماء بحيث تتبعهم سباحة وراء القوارب، وحملت خيول أخرى في قوارب ذات قعر مسطح؛ لكي تبلغ الجانب الآخر غير مبللة، فيسهل استخدامها في الحال عند النزول إلى البر، وانتقى هنيبال أفضل رجال جيشه وعبر بهم النهر أولا، وأبقى الضعفاء والذين أصيبوا بتعطيل مع معدات الحرب؛ لكي يجلبهم جميعا بعد أن يكون القسم الأول من الجيش قد وصل إلى الجانب الآخر.
وكان الأعداء على الجانب الآخر من النهر يرتبون جموعهم، ويتأهبون لمهاجمة جيش هنيبال حالما يقترب من البر. وكان السكوت سائدا في معسكر هنيبال عندما كان جيشه يركب القوارب والأرماث ويبعد عن البر، ولكنهم عندما اقتربوا من تيار النهر علت صيحاتهم، وتتالت أوامر القادة للرجال بالجد في التجذيف، فأحدث اختلاط الأصوات وتدافع القوارب في مجرى النهر ضجة كبرى ومنظرا هائلا، وكاد الأمر يؤدي بهم إلى تشويش كبير لولا براعة المجذفين وصبرهم.
وحالما وصلت القوارب الأولى إلى البر تأهب الغاليون لمقاومة من فيها، ورموهم بكل ما لديهم من أدوات القتال وصاحوا فيهم صيحات دوت لها هاتيك الأنحاء، وكانت عادة أولئك الأقوام الإكثار من الصراخ عند الإقدام على القتال؛ لتحميس بعضهم بعضا وتحريك روح الشجاعة الهامدة، ولإرهاب العدو بتهديدهم ووعيدهم. أما ضباط هنيبال؛ فقد حثوا مسيري القوارب على التقدم، وحاولوا بكل صبر وترو الوصول برجالهم إلى اليابسة.
وفي الواقع أنه لو لم ينجدهم هنو برجاله من وراء الغاليين، لكانت نتيجة عبور النهر من الأمور التي يشك في نجاحها، فإنه بينما الغاليون يحاولون صد القرطجنيين إلى الوراء، ومنعهم من النزول إلى البر بتصميم ومجالدة عظيمين، ذعروا فجأة عند سماعهم صيحات أعداء قامت من وراء ظهورهم، فكانوا كمن انقضت عليهم الصاعقة، ولما التفتوا إلى الوراء أبصروا جنود هنو تنسل إليهم من بين الغياض والأدغال بحماسة شديدة واندفاع، كاندفاع السيل الجارف.
ومن الصعب، كما لا يخفى، على جيش أن يحارب من الأمام ومن الوراء في وقت واحد. فصبر الغاليون للعدو، وثبتوا لهذه المقاومة وقتا يسيرا، إلا أنهم في آخر الأمر انكفوا عن مقاومة نزول رجال هنيبال إلى البر، وولوا الأدبار على محاذاة النهر مسافة يسيرة، توغلوا بعدها في داخل هاتيك المجاهل تاركين هنو سيد تلك الضفة من النهر، فكانت هذه الحركة مما ساعد رجال هنيبال على الوصول إلى البر بدون عراك أو انزعاج، وحينما وصلوه استقبلهم هناك الأصدقاء بدلا من الأعداء.
ثم شرعوا في استجلاب بقية الجيش والمعدات الحربية من الضفة الأخرى، فأتموا ذلك بسهولة؛ لأنه لم يبق من الأعداء من يزعجهم أو يصدهم عن ذلك. على أن قسما من قوتهم الحربية قد سبب لهم عناء وإبطاء عظيمين؛ وذلك القسم هو الفيلة التي كانت تؤلف جانبا من الجيش، فإن نقل تلك الحيوانات الضخمة فوق نهر عريض سريع المجرى لم يكن من الهنات الهينات، وقد ذكر المؤرخون روايات مختلفة عن الطريقة التي تمكن بها هنيبال من إتمام ذلك، مما دل على أنه استخدم وسائل متنوعة كانت إحداها كما يأتي: أن القيم على الفيلة انتخب واحدا منها يختلف عن البقية بنشاطه وحدته، وشرع في إزعاجه وإيلامه لكي يستشيط غيظا، عندئذ هجم الفيل الهائج على سائقه رافعا خرطومه ليثأر لنفسه منه، فهرب السائق وتبعه الفيل وتبعته بقية الفيلة جريا على عادة هذا النوع من الحيوان في مثل هذه الظروف.
فهرب السائق إلى الماء متظاهرا بالفرار من الفيل، ولحق به الفيل الثائر ورفاقه. وسبح السائق هاربا إلى أن وصل إلى منتصف النهر، فلم تشعر الفيلة إلا وقد أصبحت في العمق فاضطرت إلى السباحة للنجاة، وكان بعضها ملاحقا للسائق جادا في طلبه إلى أن عبر النهر ووصل إلى الشاطئ الآخر، على أن قسما من الفيلة استولى عليه الخوف، فلم يجاهد واحتمله تيار الماء معه إلى مكان بعيد، وأصاب من اندفاعه مع التيار أماكن غير عميقة تجسسها، ونجا منها بعضهم إلى الشاطئ الواحد والبعض إلى الشاطئ الآخر.
وكانت هذه الطريقة غير تامة النجاح، فابتدع هنيبال وسيلة أفعل من هذه؛ لاستجلاب ما بقي من الفيلة، وذلك أنه ابتنى رمثا عظيما جدا، وجلبه على الماء عند الشاطئ وغطاه بالتراب وجذور الشجر، ثم ابتنى رمثا آخر بحجم هذا وأتى به على الماء، فوصله بالرمث الأول الواحد قدام الآخر، ومكنهما معا بحبال وستر الأخير بالتراب والأعشاب كما فعل بالأول.
وكان الأول من هذين الرمثين ممتدا مائتي قدم من الشاطئ فوق الماء، وعرضه خمسون قدما، وأما الثاني فكان أصغر منه قليلا.
وعندئذ طارد الجنود الفيلة نحو الرمثين؛ بحيث أصبحت على الرمث الأمامي، وهي تحسب لما تراه حولها أنها باقية على البر، ولما وقفت الفيلة على الرمث الأمامي أفلتت الحبال التي تربط الرمث، وراح الرمث الأمامي طافيا في النهر والفيلة عليه تجره القوارب العديدة التي كانت قد ربطت إلى طرفه الخارجي.
فحالما شعرت الفيلة بالحركة غير العادية ارتعدت وخافت وصارت تنظر إلى ما حولها، ثم احتشدت عند أحد أطراف الرمث فوجدت أنها محاطة بالمياه من كل جانب، فراع ذلك بعضها وتدافع حيث هوى في النهر فقذفه التيار إلى حيث أنقذه الجنود، على أن بقية الفيلة التي لم تر لها مهربا من ذلك استكانت، ولم تعد تبدي حراكا إلى أن بلغت الشاطئ، علما منها بأن المقاومة لا تجدي نفعا .
في ذلك الحين إذ كانت هذه الحوادث تشغل الجيش القرطجني عن كل أمر آخر، كان الثلاثمائة جندي التي أرسلها سيبيو إلى أعالي النهر لاستطلاع طلع القرطجنيين، قد تدانت من النقطة التي عندها عبر هنيبال النهر، وفي الوقت نفسه كان هنيبال لدى وصوله إلى النهر قد وجه خمسمائة جندي لاستطلاع أنباء الرومانيين، ولم يكن أحد الفريقين على علم بمقدار اقترابه من الآخر، وهكذا تقابلت الطليعتان على غير انتظار في بعض الطريق، وكلا الفريقين أرسلا للاستكشاف وليس للعراك، وكان كل منهما تائقا إلى إحراز المجد من أسر الفريق الآخر واقتياد رجاله إلى معسكره.
فتعاركا عراكا دمويا طويلا وقتل منهما عدد كبير متماثل على الجانبين تقريبا، فقال الرومانيون إنهم أحرزوا النصر على أننا لا نعلم ما قاله القرطجنيون، ولكن بما أن الفريقين انسحبا من المعركة متراجعين نحو معسكرهما، فمن الراجح ألا يكون أحدهما قد أحرز نصرا حاسما على الآخر.
الفصل الخامس
هنيبال يجتاز جبال الألب
إنه يصعب على كل واحد لم ير جبال الألب بأم العين أن يتصور في ذهنه حقيقة جمالها وعظمتها، ولم يكن هنيبال قد رأى الألب؛ على أن العالم كان يومئذ كما هو اليوم عالما بشهرتها وجلالها، ومن جملة مظاهرها الدالة على التسامي والعظمة البرد الدائم على قمم هذه الجبال، وهذا ناتج بالطبع من علوها الشاهق؛ ففي أي مكان من الكرة الأرضية نرى أننا كلما علونا إلى الجو يصير الهواء لما لا نعلم من الأسباب باردا على التوالي مشتدا كلما تابعنا الصعود، بحيث تصير فوق رءوسنا مسافة ميلين أو ثلاثة من البرد المستمر القارس، ويصح هذا ليس فقط في المناطق الباردة والمعتدلة من الكرة الأرضية، بل في الأقاليم الشديدة الحرارة أيضا، حتى إننا إذا حلقنا بمنطاد في بلاد بورنيو عند منتصف النهار، حيث تكون حرارة الشمس المحرقة فوق رءوسنا تماما إلى علو خمسة أو ستة أميال، نجد حرارة الشمس مع اقترابنا على الدوام منها تقل، وأشعتها تفقد حرها الشديد بالتدريج، نعم إنها مصوبة إلينا على التوالي مشرقة حوالينا وعلينا بلمعانها المعروف إلا أن حرارتها مفقودة، إنها عندئذ تصير كأشعة القمر ونصير نحن في وسط محيط بارد كما لو كنا في المنطقة المتجمدة.
ومن هذا الإقليم العالي ذي البرد الأزلي يهبط علينا الثلج ومن هناك يسقط، ولكنه إذا كان كالقطن المندوف قبل الوصول إلى الأرض، وهكذا فبما أن البرد صلب المادة سريع السقوط لثقله وملاسته، فهو يندفع سريعا ويصل إلينا بشكله، وأما الثلج فينحل وينزل علينا كمطر مرطب بارد، فالمطر يبرد الهواء حولنا وعلى الأرض؛ لأنه يأتي من مناطق باردة كائنة في الهواء المتعالي فوقنا.
ومن أجل هذا تظل أعالي جبال الألب ومنحدراتها حوالي القمم في شتاء دائم يخف نوعا ولكنه لا ينقضي، فذروة جبل بلانك مغطاة ببساط من الثلج عظيم السمك يماثل ببقائه على حاله ما هنالك من الصخور الصماء الكائنة تحته، ومن المعلوم أن جبال الألب بجملتها أوديتها وتلالها تظل مغطاة في فصل الشتاء، أما في الربيع فالثلوج تأخذ في الذوبان في أوديتها وما فيها من السهول.
وكثيرا ما تنقد منها جلاميد جليدية في وقت ذوبانها، فتنحط من عل بشدة متناهية تجرف معها الصخور والأشجار وتفتك بما يعترضها في طريقها فتكا ذريعا، وفي منحدرات الجبال الشاهقة العلو وحوالي الذرى السامية يبقى الثلج عالقا في مكانه السنة بطولها، فلا يذوب منه إلا اليسير بفعل حرارة أشعة الشمس حتى في شهر تموز، وفي شقوق جبال الألب العليا وأوديته حيث يتجمع الثلج مندفعا إليها بالرياح والعواصف الدائمة الهبوب في فصل الشتاء، تجد ركام الثلوج راسخة كالأطواد لا يزحزحها شيء من حيث هي مقيمة.
وهي في قلبها تصير على توالي الأيام جليدا صلبا تحت سطحها؛ لأن القسم الأعلى منها أو السطح يأخذ في الذوبان شيئا فشيئا، على أن المنحل منه ماء يجمد بعد انفصاله قليلا بفعل الرياح الباردة، ويصير جلاميد من الجليد الصلب بعد انحداره في الأودية، والأخاديد التي كثيرا ما تكون مساحتها بالطول عشرة أو خمسة عشر ميلا وعرضها بين الميلين أو الثلاثة، وهي كتلة واحدة من الجليد الشفاف الصلب الأزرق اللون الذي يبلغ من العمق مئات الأقدام، وتسمى هذه الأجسام الجليدية جبال الجليد.
وهي في حركة دائمة ولكنها بطيئة جدا، وذلك من تفاعيل ما في قلبها من حرارة الأرض المتصلة إليه، فيقال إنها تنزاح قدما واحدة في كل 24 ساعة بالرغم مما يبدو من صلابتها وجمودها، والواقف بإزائها يسمع ارتجاج حركتها جليا من وقت إلى آخر، وقد تحقق الذين رأوها من هذا الأمر بأن وضعوا علامة على الجليد، وعلامة مقابلة على الصخر على جانبي الوادي، فعرفوا بذلك حقيقة تحركها ومقدار تلك الحركة.
وهاتيك الأودية هي في الواقع أنهار من الجليد قائمة بين قمم الجبال، وجارية بكل بطء ولكن باستمرار إلى حيث تجد لها مخرجا في واد كائن في سفح الجبال، فترى المياه هناك خليطا من الجليد تارة تجري تحت طبقاته، وطورا فوقها فتؤلف منظرا يرتعد له المسافر، وإلى الجانبين أسوار من الجليد هائلة كثيرا ما تتصدع منها جلاميد عظيمة فتهوي إلى المجرى فيسمع لها دوي شديد، فإذا أقبل صيف شديد الحرارة يذوب معظمها ويحدث طوفانا في السهول المجاورة يجرف في طغيانه الأشجار والمزروعات والمنازل.
وجبال الألب واقعة بين فرنسا وإيطاليا وأوديتها العظيمة، وسلاسل الجبال مكونة على صورة تجعل عبورها متحتما على مريد المرور من بلاد أخرى، ولكن تلك السلاسل الجبلية ليست على شيء من الانتظام بل تتخللها الوهاد والمهاوي الكثيرة والأخاديد العظيمة، وفي تلك السلاسل ما يرتفع قمما لها في الجو رواعف، ومنها ما يكون بشكل قباب، ومنها ما هو كالمسلات المصقولة لا يعلق بها ثلج، ولا تستطيع الوعول اجتيازها والتوغل فيها.
فحول هذه القمم وبين تلك المضايق تمتد الدروب متعرجة صعدا على الدوام، فيكون السائر فيها حينا على شفا جرف هار، وحينا تحته وقلبه يدق وجلا من شيء يدفعه إلى أعماق الهوة السفلى الفاغرة فاها لالتهام كل من يهبط به نكد الطالع إلى أعماقها التي لا يدرك لها غور. ومن تلك الأعالي المخيفة يطل السائر على سهول منبسطة سندسية الحلة، فيها الأشجار والمزروعات المختلفة التي تجعلها من أجمل ما تقع عليه العيون تتخللها البيوت الجميلة الهندسية، وتسير في طرقاتها وبين حقولها الماشية على اختلاف أجناسها تقتات مما هنالك من الأعشاب والكلأ.
فتصميم هنيبال على اقتياد جيش إلى إيطاليا عبر جبال الألب بدلا من نقل الجنود على الجواري في البحر، كان ولا يزال معدودا من أعظم الأعمال في الأزمنة الذاهبة، فهو قد تروى قليلا مترددا فيما إذا كان يسير نازلا في نهر الرون، ويلاقي سيبيو ويعاركه أو أنه يترك الجيش الروماني ذاهبا في سبيله، ويقصد هو إيطاليا من طريق جبال الألب. وكان ضباط هنيبال وجنوده الذين أدركوا شيئا من مقاصد قائدهم، وعلموا إلى أين هم ذاهبون تائقين لملاقاة الرومانيين.
ولكنهم كانوا خائفين من جبال الألب كارهين لما يتوقعونه من معاناة اجتيازها. أما العدو فإنهم يرغبون في الاقتتال معه أينما وجد؛ لأن الحرب مهنتهم وقد اعتادوا فلا يحسبون لها حسابا؛ لأنهم يفهمونها ولذلك لا يهولهم أمرها كما يهولهم أمر الصعود في جبال شاهقة تغطيها الثلوج وركام الجليد، فلا يدرون في أية ساعة تزل بهم القدم من فوق الجرف والمنحدرات المخيفة، فيهوون إلى حيث يتعذر عليهم الخلاص، ويموتون بردا وجوعا في تلك الثلوج الأزلية.
ولما أدرك هنيبال أن جنوده في خوف من تسلق تلك الجبال دعا إليه قوادهم، وألقى عليهم خطابا لامهم فيه وعنفهم على استسلامهم للجزع الذي لا موجب له، بعد أن لاقوا صعوبات قاصمة للظهور فقهروها وتغلبوا على أعظم الأخطار، فقال لهم: «إنكم اعتليتم قمم جبال البيرنيه وعبرتم نهر الرون، وأنتم الآن مواجهون لجبال الألب التي هي مفتاح بلاد العدو، فماذا تحسبون جبال الألب؟ إنها ليست سوى تلال عالية، وليس فيها ما يخيف أو يوجب كل هذا الذعر.
ولنفرض أنها أعلى من جبال البيرنيه، فهي غير بالغة عنان السماء في السمو، وبما أنها ليست في شيء من ذلك فتسلقها غير مستحيل، بل إن الناس يجتازونها كل يوم وهي في الواقع مأهولة بالناس الذين يحرثون بطاحها، والسياح يجتازونها ذهابا وإيابا في كل حين، والذي يقوى عليه الفرد يقوى عليه الجيش؛ إذ ما الجيش إلا عدد غفير مؤلف من أفراد، فضلا عن أن الجندي الذي لا يحمل معه إلا عدة حربه لا يجد صعوبة في تسلق الجبال، مهما كانت شاهقة هذا إذا كان ذا شجاعة ونشاط.»
وبعد الانتهاء من الكلام شعر هنيبال بأن رجاله قد تشجعوا بما ألقاه عليهم، وهكذا أمرهم بالانصراف إلى خيامهم ليرتاحوا ويتأهبوا للسير في اليوم التالي، فانصاعوا له ولم يبدوا أقل مقاومة بعد ذلك، على أن هنيبال لم يقصد جهة جبال الألب رأسا على أثر ذلك، فهو لم يكن يعرف شيئا عن تدابير سيبيو الذي كان تحته كما يذكر القارئ عند القسم الأسفل من نهر الرون مع جيشه الروماني، ولم يرد هنيبال أن ينفق وقته وقوته ضياعا بمعاركة سيبيو في بلاد الغال، بل فضل متابعة الزحف، واجتياز جبال الألب إلى إيطاليا بالأسرع الممكن.
وهكذا فإنه لخوفه من مسير سيبيو في وسط البلد ليعترضه إذا هو حاول الزحف في طريق مستقيمة، صمم النية على الجنوح شمالا صاعدا على ضفاف نهر الرون، ثم إلى أن يتوغل مسافة معلومة في الداخلية، بقصد أن يصل جبال الألب في آخر الأمر بدوره. وفي الواقع إن الخطة التي دبرها سيبيو هي أن يلتقي هنيبال ويهاجمه على عجل، وعلى هذا فإنه حالما عادت فرسانه أو الذين نجوا منهم من عراكهم مع القرطجنيين على مقربة من معسكرهم جمع قواته، وسار يريده صعدا على ضفاف النهر.
ووصل إلى المكان الذي عبر هنيبال عنده النهر بجيشه، فوجد تلك البقعة في حالة الخراب والتشويش قد ديس فيها العشب والبقول على استدارة ميل واحد، وآثار القرطجنيين مبعثرة في كل مكان، ولا سيما آثار النيران التي أوقدوها في معسكرهم هنالك، ووجد أغصان الأشجار ملقاة على الأرض هنا وهناك وجذوعها مقطوعة، فعلم أنها استخدمت في عبور النهر ورأى بقايا الأرماث والأطواف والقوارب، وما لا يحصى من الأسلحة التي تركت أو أضاعها أصحابها، وعددا كبيرا من جثث الغرقى أو القتلى وبعضهم من رجاله. كل هذه الآثار رآها، ولكن الجيش قد غادر المكان إلى جهة غير معروفة .
على أنه لقي هنالك جماعات من أبناء تلك الناحية، وغيرهم من الذين قصدوا ذلك المكان للتفرج على ما تركه الجيش القرطجني في تلك النقطة التي قدر لها أن تصير مذكورة في تاريخ العالم على توالي الأجيال، فمن هؤلاء عرف القائد الروماني سيبيو إلى أين ذهب هنيبال، وفي أي وقت برح المكان، وقرر في فكره أن اللحاق به لا يأتي بفائدة، فحار فيما يقدم عليه وهو قد عهد إليه في الدفاع عن إسبانيا بالقرعة، ولكن بما أن العدو الكبير الذي تعين عليه البطش به قد ترك إسبانيا بالكلية، فلم يبق له أمل بالوقوف في وجهه وصده عما يبغيه إلا بالرجوع إلى إيطاليا، وملاقاته حالما يهبط من جبال الألب إلى وادي «بو» الكبير، ومع هذا فإنه ما دام أمر إسبانيا قد وكل إلى عهدته لا يرى من الحكمة التخلي عنها بتاتا، وبناء على هذا الزعم وجه قسما من جيشه إلى إسبانيا لكي يبطش بالجيوش التي أبقاها هنيبال، وسار هو مع القسم الأكبر من جيشه إلى شاطئ البحر، وأقلع من هناك عائدا إلى إيطاليا.
وتوقع سيبيو أن يجد جنودا رومانية في وادي «بو» يتقوى بها على ملاقاة هنيبال حال هبوطه من الجبال، هذا إذا تسنى له اجتيازها سالما، وكان هنيبال في الوقت ذاته جادا في قطع الجبال وهو يقترب شيئا فشيئا من قممها المتوجة بالثلوج التي رآها جنوده من قبل ملاصقة للأفق وهابوها كثيرا. وكانت تلك القمم البيضاء من أجمل ما وقعت عليه العيون عندما أرسلت عليها الشمس المتدانية من الغروب باهر أشعتها، فلما اقترب منها الجيش خفيت عن أبصاره لما اعترض بينه وبينها من الهضبات التي هي أقل منها علوا، ولكنها أقرب إليه.
فلما تدانى الجنود من تلك المنحدرات الهائلة، وما تشرف عليه من الأعماق التي ترتعد لهولها فرائص الناظر إليها من ذلك العلو الشاهق والدروب المغطاة بالجليد، عادت إليهم مخاوفهم وتولاهم الرعب والاحتساب، ولكن الرجوع من هنا كان متعذرا عليهم فلم يعد أمامهم إلا التقدم، فتقدموا مرغمين ذاهبين صعدا على الدوام ، إلى أن صارت الطرق التي يسيرون فيها كجدران الهاوية يصعب المشي فيها، يرون تحتهم أعماقا لا نهاية لها وفوقهم قمما وجلاميد من الجليد تكاد تنقض عليهم وتسحقهم، وركام الثلوج تواجههم وتحيط بهم من كل صوب.
أخيرا وصلوا إلى معبر ضيق، وكانوا مضطرين إلى المسير فيه، وأبصروا فوقه رجالا يحرسونه قائمين فوق شواهق الصخور ومتأهبين لرجمهم بالأحجار، وبكل ما تصل إليه أيديهم ليحولوا دون مرورهم. عندئذ وقف الجيش إذ أمر هنيبال رجاله أن يعسكروا حيث هم، إلى أن يفكر فيما الذي يجب عليه القيام به، وعلم بعدئذ أن أولئك الجبليين لا يبقون في تلك الأماكن الشاهقة في غضون الليل، وذلك بالنظر إلى البرد الشديد وتعرضهم لأذاه. وعلما منهم بأنه يتعذر كثيرا على أي جيش المرور من هنالك بغير أن يهتدي بنور النهار؛ نظرا لضيق المعبر ولما يشرف عليه من المنحدرات الهائلة التي يتوقف السقوط في أعماقها على زلة قدم.
ولما كان الجبليون لا يرون من لزوم لحراسة ذلك المعبر الضيق في الليل - لأن خطره المخيف كاف لحراسته - فقد اعتادوا تركه عند المساء طلبا لمأوى يستريحون فيه في بعض أهزعة الليل؛ ليعودوا إلى عملهم الشاق عند الصباح، فلما علم هنيبال هذا قر رأيه على مسابقتهم إلى تسلق الصخر الذي اتخذوه مخفرا في اليوم التالي، ولكي ينفي كل شك عندهم في أمر حركاته وما عزم عليه، أخذ يتظاهر بأنه يدبر الوسائل ليخيم حيث هو الليل بطوله.
ولكي يزيدهم اطمئنانا ضرب خياما أخرى، وأمر بإيقاد النيران عند المساء، وقام بحركات أراد بها إيهام أولئك الجبليين أنه يتأهب للمرور في ذلك المعبر في اليوم التالي، ونقل لساعته فيلقا كبيرا من جيشه إلى نقطة قريبة من مدخل المعبر، وأقامه هناك في موقف حصين؛ وذلك لكي يكونوا على أهبة التقدم عندما يأزف الوقت في اليوم التالي، فلما رأى الجبليون هذه الحركات والاستعدادات التي قام بها جيش هنيبال، توقعوا منها حدوث عراك في الغد، وعلى هذا انصرفوا لكي يرتاحوا مدة ذلك الليل في الأماكن التي اتخذوها مقرا .
وفي اليوم التالي عندما نهضوا باكرا وشرعوا في الصعود إلى مواقفهم، وجدوا لمزيد اندهاشهم أن هاتيك القمم والمرتفعات المحيطة بالمعبر مغطاة بالقرطجنيين، إذ كان هنيبال قد أيقظ قسما كبيرا من جيشه قبل انبثاق الفجر، واقتادهم إلى حيث قاسوا العناء المر في تسلق هاتيك القنن التي تركها الجبليون، وذلك لكي يكونوا هنالك قبلهم فلا يجرءون على مقاومته. فوقف الجبليون وقد تولتهم الحيرة من هذا المشهد الذي رأوه وازدادوا اندهاشا عندما ترامت أبصارهم إلى الوادي تحتهم، فرأوا مجموع الجيش ينسل على مهل مارا في ذلك المعبر في صف واحد على الترتيب، وهو في مأمن من الطوارئ؛ لأن أماكن الحراسة قد أصبحت الآن في أيدي الأصدقاء بدلا من الأعداء.
فلم يطق الجبليون صبرا على ذلك ولا استطاعوا كظم غيظهم، بل اندفعوا بعامل الغضب من هذه الحيلة منحدرين من حيث كانوا، وهاجموا الجيش السائر في أسفل الوادي، وعندئذ قام بين الفريقين عراك مخيف فقتل البعض بالسلاح أو بالصخور المنقضة عليهم من فوق، وانقلب كثيرون من جراء الهرج والمرج، وتماسك واحدهم بالآخر من ذلك الممر الضيق إلى الهوة العميقة الكائنة تحتهم، وتدهورت الجياد بأحمالها لما نالها من الذعر، وأفلتت من ماسكي أزمتها أو جرتهم معها إلى تلك المهاوي المخيفة، وكان ذلك المشهد من المشاهد الراعبة إلى الدرجة القصوى؛ لما قتل فيه وهوى من الناس في تلك المنحدرات العميقة.
ونظر هنيبال الذي كان واقفا فوق صخرة عالية إلى هذا المشهد المخيف، وهو مربد الوجه يرتعد جزعا وتأثرا، ولم يجرؤ على النزول بنفسه والاشتراك بذلك المعترك مخافة أن يزداد بوجوده الارتباك ويتفاقم الخطب. على أنه بعد التأمل قليلا وجد من الضرورة الكلية التدخل في الأمر، فهبط بأسرع ما يمكنه تصحبه فرقته، ونزلوا جميعا بسير مائل متعرج وطرق مستديرة حيثما وجدوا لهم موطئ قدم بين تلك الصخور، وهاجموا الجبليين بأشد ما استطاعته عزائمهم.
وكانت النتيجة كما خشي هنيبال أن تكون، فاشتد الارتباك أولا وكثر القتل والتدهور، وأجفلت الخيل من ذلك ومن الصياح المتتابع الذي ملأ هاتيك الأودية، وبصداه المتردد من كل ناحية مما زاد ضجته أضعافا مضاعفة، فارتعدت له فرائص الخيل واستطارت في الإجفال والجموح، وعلى أثر ذلك تماسك الناس بعضهم ببعض وبينهم الأفراس المثقلة بأعبائها، وهووا جميعا إلى تلك الهوة متدافعين على الصخور منقضين بشدة الاندفاع، وبما كانوا يصدمون به من الأماكن الناتئة إلى قعر تلك الهاوية، حيث يقع بعضهم فوق بعض، فكانت أناس منهم يصلون موتى ومنهم يتألمون مائتين، أو محاولين بقواهم المنحلة الزحف على الجليد طلبا للنجاة.
وفي آخر الأمر اندحر الجبليون وانهزموا وخلا المعبر للقرطجنيين واستعيد نظام الجيش، والخيول التي لم تجمح ولم تسقط في المهواة أخذت بالملاطفة لتهدأ وتستكن، والأحمال التي سقطت في المنحدرات جمعت واستعيدت، والجرحى وضعوا على محامل خشبية بنيت لساعتها هنالك، وذلك لكي ينقلوا عليها إلى حيث يداوون، وأصبح الجيش بمهماته في وقت قصير على قدم المسير فتقدم زاحفا، وإذ كانت المصاعب قد أزيلت من أمامه أسرع الخطى سائرا بانتظام وهدوء إلى أن اجتازوا ذلك المضيق.
ولما بلغوا نهايته وصلوا إلى قلعة عظيمة تخص أبناء تلك الأنحاء، فاستولى هنيبال عليها وألقى عصا الترحال هنالك طلبا للجمام والراحة له ولرجاله، ومن أعظم الصعوبات التي تعترض القائد الزاحف بجيش لهام في مثل تلك الدروب الشاقة الكثيرة الأخطار هي عول الجيش؛ فالجيوش تحمل معها ما يقيتها مسافة يسيرة لا سوى. والناس المسافرون على طرق ممهدة لا يقوون على استصحاب زاد يزيد على عيالتهم أياما قلائل، فمتى كان مسيرهم في مثل جبال الألب حيث الدروب عسيرة كثيرة الخطر، فإنهم بالكد يقوون على حمل شيء، فعلى القائد في مثل هذه الحالة أن يجد ما يقيت به جنوده في البلاد التي يمر بها، وهكذا كان على هنيبال أن يحافظ ليس فقط على سلامة جيشه، بل أن يتخذ كل وسيلة فعالة لإيجاد القوت الذي أوشك الآن أن ينفد. ومن المعلوم أن الأراضي المنبسطة الكائنة في أعالي الجبال تحتوي على علف للماشية والحيوانات المختلفة؛ لأن الأمطار التي يكثر تهطالها هنالك، والرطوبة الناجمة عن ذوبان الثلوج من على جوانب الجبال تنعش الزرع فتجعل الأرض دائمة الاخضرار، والغنم والماعز وغيرها ترتاد هذه الأماكن لتتقوت بما فيها؛ ولذلك فالماشية تدرك أنها كلما تصاعدت في التسلق كان المرعى أخصب والعشب أوفر.
ويمكن إنماء الحبوب في الأودية والمنحدرات، ولكن قمم الجبال مع أنها تنبت عشبا كثيرا فحراثتها من الأمور المستحيلة لانصبابها، وهكذا فإنه حالما استولى هنيبال على تلك القلعة، أرسل رجاله جماعات شتى لمطاردة الماشية التي يعثرون عليها هنالك، وبالطبع كان أولئك الرجال مسلحين لكي يتمكنوا من مقاومة كل عدو يتصدى لهم. على أن الجبليين لم يتصدوا في هذه المرة لمقاومتهم فهم قد أقروا بانغلابهم، وتولاهم الرعب والخوف مما لقوه قبل ذلك فخافوا، وهكذا فإنهم وجدوا أن أفضل الطرائق لإنقاذ ماشيتهم أن يطاردوها، ويخفوها في الغياض والأماكن التي يتعذر على ملاحقيها الوصول إليها فيها.
وبينما كان رجال هنيبال يتوغلون في الأودية والهضبات الكائنة حولهم، ويفحصون كل مكان وكل حظيرة في تلك السفوح كان الأهلون يفرون من أمامهم متفرقين في جهات مختلفة سائقين ماشيتهم قدامهم إلى حيث تصير من العدو في حرز حريز؛ إذ عليها تتوقف حياتهم ومعاشهم، فطاردوها إلى أن صارت في أعالي الهضبات أو في أسفل المنحدرات أو في غير ذلك من المنعطفات والغياض؛ لكي يبعدوها عن طالبي إمساكها من رجال العدو.
على أن جهادهم من هذا القبيل لم يصادف إلا القليل من النجاح، إذ عاد رجال هنيبال إلى المعسكر وكل واحد منهم يسوق أمامه ثلة من الماشية منها ما هو قطيع كبير، ومنها ما هو أقل منه عددا ولكن المجموع كان عظيما، فاقتات الجيش على هذه الماشية ثلاثة أيام، ومن المعلوم أن إطعام جيش مؤلف من تسعين ألفا أو مائة ألف رجل يتطلب كميات كبيرة، حتى ولو أن ذلك لمدة ثلاثة أيام، ذلك فضلا عن أن الجيش يبدد ويبذر من طعامه أكثر مما يأكل.
وفي غضون الأيام الثلاثة هذه لم يكن الجيش معسكرا، بل متحركا ببطء على الدوام، والطريق وإن كانت لا تزال كثيرة العقبات والأخطار أصبحت الآن مفتوحة أمامه؛ لأنه لم يبق فيها عدو يناوئه أو يتصدى لمقاومته، فساروا على تلك الصخور وهم يلتهمون ما معهم من القوت فرحين بانتصارهم على الأعداء المتعرضين لهم، وعلى صعوبات الطريق وما فيها من الأخطار والمهالك. أما الجبليون فإنهم عادوا إلى ملاجئهم وقد خسروا ماشيتهم وقهروا في القتال؛ لأن أمثالهم إذا خسروا الغنم والبقر والماعز فقد أضاعوا كل شيء.
ومن المعلوم أن جبال الألب ليست كلها في سويسرا، بل إن منها في جوار مقاطعة سافوى ما هو مشهور بعلوه الشاهق وانحداره المخيف، والبلاد منقسمة إلى مقاطعات صغيرة تسمى اليوم «كانتون» وقد كانت كذلك في أيام الرومانيين، وعلى هذا فإن هنيبال في تسياره بعد اجتياز المضيق الذي تقدم وصفه تدانى من حدود مقاطعة أخرى، وبينما هو يتقدم ببطء نحو تلك المقاطعة ومن ورائه جيشه الجرار يتسلل من الأودية كالأفعى لقيه وفد أرسلته حكومة المقاطعة المذكورة، وجلب ذلك الوفد معه أقواتا مختلفة من الأدلاء، وقال رجال الوفد له: إنه قد اتصل بهم ما نزل بالمقاطعة الأولى من الدمار لمحاولة أهلها مقاومة مرور الجيش القرطجني فيها، وأنهم هم لا يريدون تجديد مثل ذلك العمل الدال على الحماقة، ومن أجل هذا جاءوا ليعرضوا على هنيبال صداقتهم ومناصرتهم، وأنهم قد جلبوا معهم عددا من الأدلاء؛ لكي يرشدوا الجيش إلى أفضل الدروب في الجبال وكميات من الأقوات، ولكي يبرهنوا على إخلاصهم عرضوا على هنيبال رهائن.
وكانت هذه الرهائن شبانا وأولادا هم أبناء أعيان البلاد عرضوهم؛ ليكونوا تحت مطلق تصرف هنيبال يحتفظ بهم إلى أن يستيقن من إخلاصهم فيما أقدموا عليه، وأن عملهم هذا بريء من الخديعة. ولما كان هنيبال معتادا الدهاء والخداع حار في أمره بادئ ذي بدء؛ لأنه لم يدر ما إذا كان الذي عرضه القوم من دلائل الإخلاص حقيقيا أم لا، وما إذا كانوا يحاولون بذلك حمله على الطمأنينة؛ لكيلا يحتاط لشر ولا يحتسب لمكر.
وجال في فكره للحال أن عمل الوفد هذا قد يكون من قبيل الخدعة، فيقتادون جيشه بعد أن يستسلم لهم إلى مهواة عميقة أو إلى مضيق بين شواهق الصخور، وهناك ينقضون عليه ويفتكون به. على أنه قرر أن يعطيهم جوابا حسنا وأن يكون على حذر منهم، ويسير بإرشادهم مع البقاء متيقظا ما أمكن، وأخذ ما عرضوه عليه من الرهائن والأقوات.
وسلم الرهن من الشبان والأولاد إلى قطعة أخرى من جيشه فساروا بمعية الجيش، ثم أشار إلى الأدلاء بالمسير أمام الجيش الذي اقتفى خطواتهم.
وسارت الفيلة في الطليعة يتقدمها ويحيط بها بعض الجنود لحمايتها، وتلتها الخيل والبغال المثقلة بأحمالها العسكرية والمئونة، وتلا هذه الجنود المشاة يمشون على غير انتظام صفا طويلا، وكان طول ذلك الصف الذي تقدم وصفه أميالا عديدة، وقد كان منظره من شرفات الجبال كمنظر حية كبيرة بين الأدغال، وملتفة حوالي الدروب المستديرة الموحشة.
وكان هنيبال مصيبا في احتسابه من أن الوفد الذي لاقاه كان لخدعه، فالذين أرسلوا الوفد أرصدوا كمينا في معبر ضيق استتر رجاله بين الصخور والغياض والمخابئ المختلفة، وهكذا فإنه عندما اقتاد الأدلاء الجيش إلى نقطة الخطر المتفق عليها بدت منهم إشارة معلومة، فخرج الكامنون من مخابئهم وانقضوا على الجيش من كل مكان انقضاض النسور، وشوشوا نظام صفوفه وجددوا ما لقيه في المعركة الأولى وتعالى الصياح، وملأت زمجرة الرجال هاتيك القلل، فرددت صداها الأغوار.
وقد يظن غير الخبير أن الهجوم يصوب أول كل شيء على الفيلة لتخويفها، وحملها على الجموح والطغيان، ولكن الأمر كان على العكس من ذلك، فإن الجبليين كانوا يخافونها لأنهم لم يروا مثلها من قبل ولهذا كانوا يرتعدون عند النظر إليها؛ لأنهم لا علم لهم بما لها من القوة وشدة البطش؛ ولهذا تحاشوها وابتعدوا عنها وعن الفرسان، وصبوا كل قوتهم على جيش المشاة الذي كان يسير في المؤخرة.
وأدركوا في أول الهجوم نجاحا عظيما فشقوا صف الجيش، وهزموا القسم المتأخر منه إلى الوراء، وكانت الجياد والفيلة مثابرة على المسير وعليها أحمالها، فأصبح الجيش قسمين منفصلين واحدهما عن الآخر، وكان هنيبال مع الجنود إلى الوراء، وظل الجبليون فائزين حتى خيم الغسق فتوقف الفريقان عن القتال؛ لأن العراك في مثل تلك الوعور لا يتأتى لأحد إلا على نور النهار.
وبقي الجبليون في موقفهم بين قسمي الجيش يحولون دون اتصالهما، وكان هنيبال في غضون الليل على مثل الجمر لا يدري ما الذي يفعله وجيشه ممزق على تلك الصورة، والفيلة والخيل بعيدة عنه وقد أصبحت تحت رحمة الأعداء، ولم ينم تلك الليلة بل كان يفكر ويتأهب للهجوم على الجبليين في اليوم التالي، وحالما انبثق الفجر هاجمهم وتغلب عليهم فدحرهم إلى مسافة تمكن بعدها من جمع شمل جيشه، ثم تابع المسير.
على أن الجبليين لم ينفكوا عن مناوأته، بل أجهدوا نفوسهم في التضييق عليه والاعتداء على جيشه من أبعاد مختلفة، فاستتروا في المكامن وكانوا يهاجمون القرطجنيين عند مرورهم من حيث كمنوا لهم ويقلبون الصخور عليهم، ويرمونهم بالنبال والسهام من مواقفهم الشاهقة القائمة فوق الجيش العابر، حتى إذا تأخرت فرقة من جيش هنيبال عن مجموع الجيش كانوا يحيطون بها ويأسرونها أو يسحقونها، وهكذا فإنهم سببوا لهنيبال تعبا وعناء عظيمين، فأعاقوه عن المسير وضيقوا عليه المضايق وذلك من غير أن يهاجموه بفريق منهم بحيث تسنح له فرصة مناهضتهم.
ومن المعلوم أن هنيبال لم يعد واثقا بمن معه من الأدلاء، فاعتمد في الاستهداء على نفسه بين هاتيك المجاهل المخيفة، فكان يصيب مرة ويخطئ مرارا معرضا نفسه وجيشه لألوف الأخطار، وعظيم النكبات التي كان بإمكان الخبير في تلك الدروب الصعبة تحاشيها، وكان الجبليون مثابرين على مضايقته؛ عصابات كعصابات قطاع الطرق يهاجمون جيشه مرة في الطليعة، وحينا في المؤخرة، وحيثما سنحت لهم فرصة للإيقاع به. على أن هنيبال ثابر على المسير صابرا على كل هذه المثبطات محافظا على رجاله جهد الاستطاعة، جادا في قطع الوهاد إلى أن بلغ إحدى القمم بعد تسعة أيام.
وفي ذكرنا إحدى القمم لا نعني قمة تلك الجبال، بل قمة ذلك المضيق، أي: أعلى ذروة منه وصل إليها بعد اجتيازه، ولكن بقيت أمامه هنالك قمم كثيرة شاهقة محلقة فوقه بالغة عنان الجو في الارتفاع، فعسكر هنا يومين لكي يريح رجاله ويعيد إليهم ما فقدوه من الهمة والنشاط وكان الأعداء قد تركوه، وفيما هو مقيم هنالك كانت بعض فرق الجيش التي تاهت أو انهزمت من أمام الجبليين تنسل مقبلة نحو المعسكر من كل صوب ومعها الخيول، ومن الرجال الجريح والمنهوك تعبا أو الذي أوهن قواه المرض.
وكانت الخيل في بعض الأحيان تأتي إلى المعسكر لذاتها، وهي الخيل التي انفصلت عن الجيش فرارا من المهاجمين أو التي سقطت عياء أو تدهورت، فلما استعادت نشاطها سارت تريد المعسكر تسوقها السليقة أو رائحة رفاقها أو متأثرة خطوات الجنود إلى أن وصلت إليهم سالمة، وفي الواقع أن بقاء هنيبال مدة يومين هنالك كان المقصود منه إعطاء فرصة كافية للتائهين من جيشه؛ لكي ينضموا إليه هذا إذا كانت لهم مقدرة على اللحاق، ولولا ذلك لكان تابع المسير إلى أن يبلغ مكانا يتوفر له فيه الدفء، أو يكون ملائما للاستراحة.
وفي الواقع أن أردأ مكان للاستراحة هو في ذرى تلك الجبال بل لا يمكن أن يكون أردأ منه، فالصخور جرداء والأرض خالية من العشب وكل ما هنالك يضيق الصدر ويحمل على الاستيحاش، ذلك فضلا عن العواصف التي يكثر هبوبها هنالك والأمطار التي تجعل المقام متوعرا والغيوم التي تتلبد عند ذلك العلو الشاهق فتهدد من هناك بالثلوج أو الأمطار، وفي الجملة إن المكان الذي عسكر فيه هنيبال كان مخيفا موحشا إلى الحد المتناهي.
وداخل الجيش الخوف والجزع من ذلك المكان الذي عسكر فيه خصوصا، وأن الدروب هنالك غير واضحة، فإذا تساقطت الثلوج بغزارة ازداد الموقف هولا وأصبح الجنود في مأزق متجهم لا يدرون منه كيف وفي أية جهة يتوجهون، حتى إن مثل هذه الحالة تخيف الجبليين أنفسهم الذين كثيرا ما يؤدي بهم الأمر إلى التدهور في المنحدرات العميقة لعدم معرفتهم الطريق التي تكون الثلوج المتراكمة قد سترتها عن الأبصار.
ولا يمكن في هذه الحالة الاهتداء بنور النجوم؛ لأن النجوم تستتر وراء الغيوم أو وراء الثلوج المتساقطة التي تحول نور النهار إلى ظلام يحيط من كل الجهات بالمسافر الغريب الذي يضل طريقه ، فلا يعود يدري كيف يتجه، وذلك ما جرى لهنيبال وهو على تلك القمة داهمته عاصفة ثلجية أوقعت الرعب في قلوب رجاله. كان ذلك في شهر تشرين الثاني؛ لأن العراقيل الكثيرة والصعوبات الطبيعية المتعددة التي لقيها الجيش في تسلق تلك الجبال، فضلا عن مناوأة العدو له في زحفه قد عاقته من المجازفة إذا هو صبر إلى أن تذوب هذه الثلوج؛ ولهذا فإنه حالما انقطع تهطال الثلج وصفا الجو من الغيوم بحيث أصبح الجنود يبصرون ما هو أمامهم اقتلع الجيش خيامه وتابع المسير، فكانت الجنود تسير خائضة في ركام الثلج بملء الخوف والاحتساب، على أن هنيبال أرسل فرقة للاستكشاف والتعرف على الأماكن الصالحة للسير، وقد حملت الأعلام ليهتدي بها الجيش.
فكان السائرون أمام الجيش يمهدون له السبل وذلك بدوسهم الثلج مرارا بحيث يصير صالحا للمشي عليه، ولكن بالرغم من كل ذلك فإن العناء الذي لقيه الجيش من ذلك كان شديدا، فضلا عن مخاوفه المستمرة وإبطائه في الزحف. وبعد أن ساروا مسافة معلومة ونزلوا من تلك القمة أدرك هنيبال أنهم سيطلون بعد اليسير من السير على أودية إيطاليا وسهولها الكائنة فيما وراء الألب، فتقدم مسرعا إلى أن صار بين رجال الطليعة الذين يحملون الأعلام التي يهتدي بها الجيش، وحالما بدت البلاد بجملتها للناظر من هناك اختار مكانا تظهر منه السهول المنبسطة بأبهى مناظرها، وأوقف جيشه لكي يتأمل رجاله في تلك البلاد الجميلة الممتدة أمامهم.
ومعلوم أن جبال الألب على الجانب الإيطالي شامخة وهائلة الانحدار، والنزول منها يكاد يكون فجائيا من الذرى المتجمدة الباردة إلى السهول الدافئة الخصيبة التي تبهر النواظر بما ألقي عليها من أشعة الشمس، من هنالك نظر هنيبال ورجاله تلك السهول المنبسطة تحت أقدامهم، وقد لبست رداء من الخصب جميلا يروق العيون ويشرح الصدور فسروا كثيرا وابتهجوا، وأبصروا في تلك البطاح المترامية الأطراف بحيرات عديدة تخللتها جزر كثيرة، كان شعاع الشمس يترامى عليها فيزيدها وما حولها بهاء ورواء.
وهناك الحقول التي لم يروا لها نهاية مزدانة بألوان الخريف الدالة على الذبول ، قامت عليها أكواخ العمال والفلاحين وعلت عندها أكداس القمح كالقباب، وتجري في جنباتها الأنهار فتزيدها رونقا وجمالا يروق العيون ويأسر الألباب. في تلك الساعة وقف هنيبال في قواد جيشه خطيبا وهنأهم على وصولهم والجنود سالمين إلى حيث ينتهي تعبهم وينتفي عناؤهم ونصبهم، وقال لهم: «إن مشاق الطريق قد انتهت في آخر الأمر، وهذه القمم التي قطعناها بشق النفس هي أسوار إيطاليا بل هي أسوار رومية بالذات، وما دمنا قد اجتزنا جبال الألب فإنه لم يبق للرومانيين ما يحميهم من بأسنا. وإنني أؤكد لكم أن معركة واحدة على تلك السهول أو على الكثير معركتين نجالد فيهما الأعداء تكفيان لإحراز النصر والاستيلاء على تلك المدينة العظيمة.»
فأثر كلام هنيبال على الجيش التأثير المطلوب وأثار فيه روح الشجاعة، وزاده استبشارا ما رآه من خصب الأرض وجودة هوائها. واستعد الجنود للهبوط إلى هاتيك الجنان حاسبين أن الصعوبات قد زالت، على أنهم ما كادوا يتحركون للمسير حتى علموا أن متاعبهم وضيقاتهم لم تنته، فالجبال على جانب إيطاليا أكثر علوا وانحدارا منها على الجانب الآخر؛ ولهذا عانوا أشد الصعوبات في إيجاد دروب يسيرون عليها بسلامة.
وساروا على هذا وقتا غير يسير يعانون الشدائد والتعب المضني في قطع المسافات القليلة. أخيرا وقعت طلائع الجيش فجأة فأرغمت الجيش برمته على الوقوف، ورأى ذلك هنيبال فخاف أن يتفاقم شر الازدحام وتسوء العقبى، فأرسل إلى الطلائع رسولا ليأتيه بالخبر اليقين فعاد إليه، وأعلمه بأن الطليعة قد وصلت إلى هاوية يستحيل على أحد النزول فيها، ووجدت من الضروري الانحراف عن ذلك المكان بسير مستدير لعلهم يجدون طريقا يكون النزول منه أقل خطرا.
فوافق هنيبال على ذلك وسار الذين يتقدمون الجيش وهم الكشافة، فعثروا على جبل من الثلج ملقى أمامهم ووجدوا أن الثلج المتساقط قبل ذلك بأيام يسير الجليد الذي تحته، ويغطي ما هنالك من الأودية والمهاوي العميقة، فساروا فوقه ومهدوا بأقدامهم طريقا للجيش. على أن الجليد ما لبث أن تحلل وأخذ الثلج في الانضغاط والذوبان إلى أن أصبح المسير فوقهما متعذرا عظيم المشقة كثير الخطر، ذلك فضلا عن أن المسير فوق الثلج الذي يستر الجليد هو من الصعوبة بمكان بالنظر إلى ما يتسبب عنه من الزلق.
وهكذا كنت ترى الرجال والحيوانات تنقلب متدهورة في تلك المنحدرات، فكان البعض منهم ينهضون وقد أصيبوا برضوض، والبعض الآخر الذي هوى في الأعماق المملوءة ثلجا اندفن هناك بحيث لا ينهض بعد ذلك، على أنهم جهدوا النفوس وابتعدوا بعض المسافة، ولكن بمجازفة عظيمة ومخاطرة أودت بعدد غير يسير منهم. ولما اجتازوا هذه الثلوج في انحدارهم المتواصل وصلوا إلى ما يشبه السد المكين الذي يحول دون تقدمهم خطوة واحدة، ألا وهو جبل من الصخر الذي اعترضهم وضيق عليهم المسالك.
وبعد التروي في الأمر رأوا من الضروري إزالة الصخر أو تحطيمه لكي ينفسح لهم مجال المرور، وقد جاء في رواية أحد مؤرخي الرومانيين أن هنيبال أزال قسما من تلك الصخور الهائلة بأن أشعل نارا عظيمة فوقها، ثم صب عليها خلا فتشققت، ثم قطعها بالأمخال والأسافين، ولكن قارئ ما رواه المؤرخ الروماني لا بد أن يتوقف هنيهة قبل تصديقه، فهم إذ لم يكن البارود معروفا عندهم في تلك الأيام قد اضطروا إلى استخدام مثل تلك الطريقة التي تقدم بيانها لتصديع الصخور.
ومن المعلوم أن من الصخور نوعا يمكن تحطيمه بحرارة النار التي تشققه بسهولة ولكن منه ما لا تؤثر النار فيه، على أننا لا نرى ما يؤيد قول المؤرخ المذكور في تأثير الخل على الصخر المحمى بالنار، ذلك فضلا عن أننا لا نظن أن هنيبال قد حمل معه مقدارا من الخل يكفي لمثل هذا العمل الجسيم. وعلى الجملة نقول إنه إذا كان ذلك صحيحا فيكون ما تم منه دون اليسير، وتكون النتيجة غير جديرة بالذكر بالرغم من أن هذا العمل قد عده التاريخ من أجل الأعمال التاريخية المنسوبة إلى هنيبال بحقيقة مقررة.
هذا وفي المسير فوق الثلوج والانحدار على الصخور التي تحته قد قاسى الجيش، وخصوصا الحيوانات التي معه، الأهوال الجسام والجوع الذي أضنى القوى، ولا سيما ما لقوه من الصعوبة في إيجاد علف للخيل والفيلة في تلك الأماكن التي لا يرى فيها غير الثلج المتراكم، أو الجليد الذي أمات كل شيء أخضر. أخيرا وصلوا في تسيارهم إلى غياض وغابات غضة، ومن هناك أقبلوا على وهاد فيها الحقول الملأى بالعشب والأودية الخصيبة ذات الأشجار المثمرة.
وهناك وقفت الحيوانات لتنال نصيبا من الراحة وتقتات بما يعيد إليها نشاطها، وشمل الفرح الجيش برمته إذ أدرك عندئذ أن عناءه قد انتهى وأن الأخطار قد زالت وأصبحت وراء ظهره، فسار مسرعا وضرب خيامه في سهول إيطاليا الكثيرة الخيرات المملوءة بكل نوع من الثمار والبقول والأعشاب، وغير ذلك من ضروب الأقوات العديدة.
الفصل السادس
هنيبال في شمالي إيطاليا
عندما أصبح جنود هنيبال في سهول إيطاليا، وأقاموا هنالك طلبا للراحة شعروا بتأثير تعبهم وعنائهم بما يزيد كثيرا على شعورهم بمثل ذلك عندما كانوا يعانون المشقات المضنية في قمم الجبال، فقد كانوا في أشد حالات التعاسة والشقاء، وقال القائد هنيبال لضابط روماني أسره بعدئذ: إن أكثر من ثلاثين ألفا من جنوده قد هلكوا في اجتياز جبال الألب؛ بعضهم لقي حتفه في المعارك التي نشبت، وأكثر من ذلك البعض هلكوا من البرد والتعب والسقوط في المهاوي العميقة، ومن الأمراض وغير ذلك من ضروب العناء والشقاء المتعددة.
وكانت بقية من سلم من الجيش القرطجني التي وصلت إيطاليا مبددة مريضة عريانة إلا قليلا، ومعدومة النشاط جانحة بالأكثر إلى الاستسلام للموت من الزحف إلى ملاقاة الجيش الروماني والجهاد لافتتاح إيطاليا ورومية، على أنه بعد أيام معدودة عمدوا إلى سد فراغ صفوف الجيش ولم شعثه، ومع أنهم ذاقوا الأمرين من الجوع في الجبال فقد توفر لهم الآن كل نوع من القوت، وهكذا نشطوا لترقيع ملابسهم الممزقة وإصلاح أسلحتهم المكسرة.
وكانوا في غضون ذلك يرددون على مسامع بعضهم البعض ذكرى الأهوال التي تعرضوا لها والمشقات التي عانوها وشوامخ الراسيات التي اجتازوها، ويعجبون من صبرهم واحتمالهم وما أقدموا عليه مما لم يقدم عليه رجال حرب قبلهم، وبهذا كانوا يعملون على تنشيط بعضهم بعضا وإثارة روح البسالة في صدور محلولي العزائم من رفاقهم، وحضهم على السير معا لإتمام العمل الجسيم الذي أتوا لأجله وإدراك الأمجاد المعدة لهم، والتي ستكون ثمرة جهادهم وشجاعتهم في المعارك التي سيقدمون عليها.
تركنا القائد سيبيو وجيشه عند مصب نهر الرون يتأهب لركوب البحر عائدا إلى إيطاليا بقسم من جيشه بعد أن وجه القسم الآخر إلى إسبانيا، فمخر سيبيو البحر على محاذاة الشاطئ القريب من جنوى ومنها سار يريد بيزا حيث نزل إلى البر، وهناك استراح قليلا لينظم جيشه بعد تلك السفرة، وبعث يستدعي الجنود الرومانية في شمال إيطاليا لتنضوي تحت لوائه، وقد أمل من ذلك حشد جيش لهام يمكنه من معاركة هنيبال.
وبعد أن تم له من ذلك ما أراد سار نحو الشمال مسرعا جهد الإمكان، فهو قد أدرك ما تكون عليه حالة جنود هنيبال بعد هبوطهم من جبال الألب، وأراد مهاجمتهم قبل أن يتمكنوا من الاستراحة وإصلاح ما أحدثته في نظامهم مشقات اجتياز جبال الألب الشاهقة، وهكذا واصل السير إلى نهر «بو» قبل أن يرى شيئا من آثار الجيش القرطجني، أو يسمع ما يدله على المكان الموجود فيه.
ولم يكن هنيبال في الوقت نفسه متكاسلا، فهو حالما نال جيشه قسطا من الراحة وأصبح في حالة تمكنه من الزحف بدأ بمعالجة القبائل التي عثر عليها حوالي هاتيك الجبال، فوالى بعضها وهاجم البعض الآخر، فتغلب على كل قبيلة حاولت مقاومته زاحفا على الدوام بلا توقف في سير مستمر نحو الجنوب يريد نهر «بو». ولهذا النهر عدة فروع منها فرع اسمه تيسينوس وعلى ضفافه تلاقى الجيشان في آخر الأمر.
وكان كل واحد من القائدين دون ريب يمني نفسه بإحراز الغلبة على عدوه في العراك الذي أصبح الآن أمرا لا بد منه، وكان سيبيو على علم ببسالة هنيبال وعظم دربته كمحارب، كما أن سيبيو كان قائدا عظيما ومن أبطال الرومانيين، بحيث إن هنيبال لم يكن يتوقع فوزا هينا، وكان القواد يخفون ما اختلجت به صدورهم من الشكوك أو المخاوف في اليوم الذي سبق نشوب القتال، ويشجعون رجالهم بإبداء الثقة التي لا يعتورها ريب بأنهم سيكونون الظافرين بالأعداء.
وعلى هذا خطب هنيبال وسيبيو في رجالهما - وذلك ما رواه مؤرخو تلك الأيام - فقال كل منهما لجنوده: إنه على يقين من الظفر بالعدو بمنتهى السهولة، وكان الخطاب الذي نسب إلى سيبيو كما يأتي: «أريد أن ألقي على مسامعكم بعض كلمات أيها الجنود قبل النزول إلى المعركة، فإني لست أرى حاجة إلى كل الجنود الذين كانوا تحت قيادتي عند مصب نهر الرون، فهم قد عرفوا القرطجنيين هناك وأؤكد لكم ما كانوا ليخافوهم، إن فصيلة من فرساننا قد لاقت وهاجمت جيشا كبيرا من أولئك الأعداء وبددت شملهم، ومن ثم زحفنا متقدمين بكل قوتنا نحو معسكر الأعداء على نية معاركتهم.
أما هم فغادروا المكان وتراجعوا إلى الوراء قبل وصولنا إلى حيث كانوا، فكان هربهم اعترافا منهم بخوفهم منا ومن تفوقنا عليهم، فلو أنكم كنتم معي يومئذ وشهدتم هذه الحقائق كلها لما كان ثم من حاجة بي إلى مخاطبتكم بهذه الكلمات؛ لأقنعكم بالسهولة الكلية التي سوف تقهرون بها هذا العدو القرطجني، لقد سبق لنا معارك عديدة مع هذه الأمة قبل الآن فسحقناهم يومئذ برا وبحرا، وعندما عقد الصلح بعدئذ طلبنا منهم الجزية وبقينا نتقاضاها منهم عشرين عاما.
ومن هذا تدركون أنهم أمة مغلوبة، والآن قد أقدم هذا الجيش المنكود الطالع على اجتياز جبال الألب محمولا بجنونه ليلقي بنفسه بين أيدينا، فهم سيلاقوننا وقد قل عديدهم وتناقصت معداتهم وانحلت قواهم من مشقات السفر وعناء اجتياز الجبال، فإن أكثر من نصف الجيش القرطجني قد هلك في الجبال والذين سلموا منه قد صاروا إلى حالة من الضعف والخور والعري والمرض لا يقوون معها على قتالنا، ومع ذلك فإنهم مضطرون إلى منازلتنا، ولو وجدوا مهربا منا أو لو تسنى لهم التقهقر إلى حيث لا يواجهوننا لفعلوا ذلك بلا تردد.
ولكن لا مفر لهم ولا ملجأ، فهم محاطون بالجبال التي هي السد الشاهق الذي يعجزون عن اجتيازه ثانية بما أصابهم من قممه وثلوجه من العناء الذي يهد العزائم ويسحق القوى، فهم ليسوا أعداء حقيقيين، بل هم بقية جيش أعداء أشبه بالظل الذي لا يلبث أن يزول، إذ إن عزائمهم قد خارت وقواهم قد انحطت وشجاعتهم قد ذهبت ونشاطهم قد زال؛ بما قد أصابهم من الجوع والتعب والعناء المر نفسا وجسدا في قطعهم هذه الجبال الشاهقة.
فقد يبست أمعاؤهم وجفت دماؤهم وتصلبت مفاصلهم، وأصبحوا كالأصنام المنحوتة بعد الذي ذاقوه من مر عذاب المسير وقطع الوهاد ومناوأة القبائل، فضلا عن الجوع والبرد وغير ذلك من أنواع البلاء الذي أنزلته بهم الطبيعة، ثم إن سلاحهم متحطم وخيولهم عرج وكل أدوات قتالهم معطلة بحيث لا تصلح بعد لشيء، وغاية ما أخشاه الآن هو أن العالم ينكر علينا مجد الانتصار عليهم، ويقول لنا إن جبال الألب هي التي قهرت هنيبال لا الجيش الروماني.
ومهما يكن الظفر بهم سهلا يجب علينا أن نتذكر فوق كل شيء أن أمورا جسيمة تتوقف على هذا العراك، فنحن في ملاقاتهم لا نسعى وراء الأمجاد فقط؛ لأنه إذا انتصر هنيبال يزحف على رومية دون ريب، وتصبح نساؤنا وأولادنا وكل ما نملكه تحت مطلق رحمته، فتذكروا هذا وانزلوا إلى ميادين الوغى شاعرين أن رومية نفسها متوقفة على النتيجة.»
وقد نسب إلى هنيبال أيضا خطاب بليغ ألقاه على جنوده بمناسبة هذه المعركة، فأبدى فيه براعته ودهاءه وما له من موهبة الاختراع والإبداع، وأجاد إلى الغاية في لفت الأنظار كلها؛ لتنحصر فيما كان مزمعا أن يقوله بالطريقة التي هيأ بها الجيش لسماع خطابه، فأوقف جيشه في شكل دائرة كان أرادها أن تشهد منظرا غريبا خارقا، وأتى بعدد من الأسرى الذين وقعوا في قبضته عندما اجتاز جبال الألب وجعلهم في وسط تلك الدائرة، ولعلهم كانوا الرهائن الذين سلموا إليه كما تقدم القول عن ذلك في الفصل السابق.
وسواء كانوا أسرى أم رهائن فإن هنيبال استقدمهم مع جيشه إلى إيطاليا، وأتى بهم إلى وسط تلك الدائرة وألقى أمامهم مثل الأسلحة التي اعتادوا استعمالها في أوطانهم الجبلية، ثم سألهم عما إذا كانوا يريدون استخدام هذه الأسلحة في محاربة واحدهم الآخر، على شرط أن الذي يقتل خصمه منهم يطلق سراحه ويعطى جوادا وسلاحا؛ ليرجع بهما إلى وطنه بالفخر والشرف.
فقال أولئك البرابرة إنهم يفعلون، وامتشقوا تلك الأسلحة من فورهم ليقتلوا بها، فأجاز هنيبال لزوجين أو لثلاثة أزواج فقط منهم العراك لوحدهم، فقتل واحد من كل زوج وأطلق سراح الآخر ومنحه حريته التامة كما وعدهم هنيبال، فكان هذا العراك عاملا على إثارة شجاعة جنود هنيبال ومهيجا لنشاطهم ومجددا الميل إلى الحرب فيهم، وعندما تم لهنيبال من تلك الرواية ما أراده من التأثير على الجيش أطلق سراح الباقين من الأسرى، وعندها خاطب هنيبال جيشه المحيط به من كل جانب بما يأتي: «أيها الجنود، لم أقصد بما شهدتموه الآن مجرد إيجاد لهو وتسلية لكم، بل أردت به إبداء صورة لحالتكم الخصوصية، فأنتم محصورون من اليمين واليسار بين بحرين، وليس لكم في مياه أحدهما مركب واحد، وهناك نهر «بو» وجبال الألب من الوراء، ونهر «بو» أعمق وأسرع جريا وأوفر اضطرابا من نهر الرون. أما جبال الألب فيكفي أن أقول لكم إنكم لم تجتازوها إلا بشق النفس والعناء الكبير أيام كنتم على جمام وفي منتهى القوة والنشاط، فهي لكم الآن سور يستحيل تسلقه، وعلى هذا تكونون محصورين كالسجناء من كل جانب، ولا رجاء لكم بالحياة ولا أمل بالحرية إلا إذا حاربتم وانتصرتم.
على أن الانتصار والحالة هذه لن يكون صعب المنال، وأنا حيثما وجهت نظري بينكم أرى على وجوهكم سيمياء التصميم والشجاعة التي أؤكد أنها ستجعلكم الفائزين، فالجنود التي ستواجهكم هي على الغالب حديثة العهد بالحروب، أي إنها تجندت مؤخرا بحيث لا تعرف شيئا عن النظام وعيشة المعسكر، ولا تستطيع الثبات أمام أبطال حروب عديدة مثلكم حنكتهم المعارك، وجعلهم التمرن على خوض المعامع من أصلب المحاربين عودا وأشدهم ثباتا في حومة الوغى، إنكم تعرفون بعضكم بعضا وتعرفونني حق المعرفة، وأنا في الواقع كنت تلميذا معكم أعواما عديدة قبل استلامي زمام القيادة.
وأما جنود سيبيو فغرباء واحدهم عن الآخر وغرباء عن قائدهم أيضا؛ ولهذا فليس بينهم رابطة شعور مشتركة، أما سيبيو نفسه فهو لم يتول القيادة إلا من مضي ستة شهور فقط، وإني ألفت أنظاركم إلى الحياة الهنيئة المفعمة باللذات التي يهيئها لكم النصر، إنه يقودكم إلى رومية ويجعلكم سادة مدينة من أعظم مدن العالم صولة وثروة، ولقد كنتم لحد هذا الوقت تحاربون لإحراز المجد أو للسيطرة على الأعداء فقط، أما الآن فإن جهادكم سيمنحكم ما هو أعظم فائدة وأجمل عائدة إذا ظفرتم.
فإن هنالك كنوزا عظيمة تقتسمونها بينكم إذا انتصرنا، وأما إذا انكسرنا فإننا نهلك عن آخرنا، وبما أننا محصورون من كل جانب فلا يوجد لنا ملاذ يمكننا الوصول إليه بالفرار، ولكن كونوا على يقين من أن الفرار متعذر علينا ولهذا يجب أن ننتصر.»
ومن الصعب جدا أن نعتقد أن هنيبال كان يشعر حقيقة، وعن إخلاص، بالثقة التي أوضحها لجنوده في خطابه، فقد كان بدون شك شعر بشيء من المخاوف يومئذ، وفي الواقع أن كل المشاريع التي يقوم بها الإنسان وأدلة النجاح التي تبدو له فيها والآمال المبنية عليها تتبدل مترددة بين اليأس والرجاء من حين إلى آخر، بحيث يكون ما يشعر به من الحصول على الفوز ممزوجا بشيء من الاحتساب والوجل وانقطاع الرجاء.
وهذه الحالة يشعر بها كل الناس شجاعهم وجبانهم نشيطهم وضعيفهم، على أن الشجاع منهم لا يسمح لتذبذب الرجاء واليأس بالتأثير على عمله، ولا يجيز للمخاوف التسلط على تدابيره وإزالة ما في صدره من الثقة، فهو يعتبر أول كل شيء الأمور الجوهرية التي تمنيه بالنجاح، وذلك قبل الابتداء بعمله، ومن ثم يتقدم إلى الأمام شيئا فشيئا تحت كل الظروف، وبالرغم من كل حالة جوية سواء كانت مطرا أو صحوا إلى أن يبلغ الغاية وينال ما هو ساع إليه.
أما غير القدير وغير الخبير والمتردد فلا يجاهد إلا عندما تبدو له تباشير الرجاء، فالغاية التي يسعى إليها يجب أن تبقى ظاهرة أمام عينيه في كل وقت، فإذا اختفت في ساعة غير منتظرة تذهب ريحه ويرتبك في تدابيره، ولا يعود قادرا على الإتيان بحركة إلا إذا أعادتها التقادير مرة أخرى فمثلتها أمامه. وغني عن البيان أن هنيبال كان من أهل النشاط والتصميم فإن الوقت الذي فكر فيما إذا كان يحرك سواكن غضب الإمبراطورية الرومانية، ويقدم على محاربتها قد بلغ أعظم الدرجات في نظره عندما انتظمت صفوف جيشه على ضفاف نهر إيباروس وقبل أن يعبره، فنهر إيباروس كان في نظره حد الفصلين، فإذا اجتازه لا يعود أمامه إلا الإقدام؛ لأن وقت التردد يكون قد مضى. فالصعوبات التي عاناها من وقت إلى آخر كانت تلقي سحابا قاتما على أنوار آماله، لم تكن إلا لتستزيده تصميما وتجدد فيه روح النشاط والإقدام، ومثل ذلك شعر عند جبال البيرنيه وعند نهر الرون، وبمثله أحس في جبال الألب حيث الأخطار الهائلة والضيقات التي تضعضع القوى البشرية كانت كافية لحمل أي قائد آخر على الرجوع، وقد أصابه الآن مثل ذلك، حيث وجد نفسه مع جيشه محصورا من كل جانب بجبال إيطاليا التي لا يتوقع اجتيازها مرة أخرى، وبما هو عتيد أن يواجهه من جيوش الإمبراطورية الرومانية الراصدة على مقربة منه بقيادة أحد قنصلي رومية.
على أن الخطر المحدق به لم يحمله على الجزع ولا زين له التردد ولا صور له هول الموقف، ولم يكن الجيشان على مرأى الواحد من الآخر، على أنهما كانا في الحقيقة متقابلين على جانبي نهر «بو» وقد خطر للقائد الروماني أن يعبر النهر بجنوده، ويتقدم لملاقاة هنيبال الذي كان بعيدا عن ضفاف النهر أميالا معلومة، ولدى التفكير في كيفية عبور النهر والتدقيق في الوسائل المختلفة قر رأيه أخيرا على ابتناء جسر.
وقد اعتاد القواد إلقاء جسر من أي شكل كان فوق النهر المراد اجتيازه إذا كان عميقا، بحيث يصعب السير فيه إلا إذا كان عريضا وسريع المجرى مما يتعذر معه ابتناء الجسر، فإذا صادف جيش من الجيوش الصعوبة الأخيرة، فإنه يعبر النهر الذي يعترضه ركوبا في القوارب والأرماث والسباحة، وكان نهر بو في تلك النقطة متقارب الضفتين إلا أنه كان عميقا؛ ولهذا ابتنى سيبيو جسرا.
فقطع الجنود الأشجار القريبة من النهر ونجروها وألقوها في النهر على شكل متعارض أو متصالب، وأنيط بعضها ببعض فأصبحت أرماثا بإزاء بعضها بعضا بين الضفتين، وربطت بالبر من الجانبين فكانت على تلك الصورة أساسا لجسر، ثم وضعوا فوقها الأخشاب وغيرها بحيث صارت طريقا يصلح للمسير، وهكذا سار الجيش على ذلك الجسر بعد أن أوقفت فصيلة من الجند عند طرفيه لتحرسه.
ومثل هذا الجسر يصلح لوقت الحاجة وفي الأنهر ذات المياه الهادئة، كما لو أقيم على بحيرات ضيقة أو مجار بطيئة الجري حيث لا يوجد تيار، وكثيرا ما يبنى مثل هذه الجسر الموقت على مثل هذه المجاري بصورة دائمة، إلا أن أمثال هذا الجسر لا تصلح ولا تثبت فوق الأنهار التي تطغى؛ ذلك لأن شدة ضغط الماء عند طغيانه تحل روابط الجسر، وفضلا عن ذلك فإن النهر يحمل في طغيانه الشيء الكثير من الخشب أو الجليد فيصدم به الجسر لتعذر مرور هذه تحته، ويتكاثر ذلك إلى أن يميل الجسر من صدمته وينقلب بما عليه فيجرفه النهر إلى مصبه.
أما الجسر الذي ابتناه سيبيو فقد سد الحاجة فعبر جيشه عليه إلى الجانب الآخر سالما، ولما درى هنيبال بذلك أدرك أن المعركة قد دنت، وكان هنيبال وجيشه على مسافة خمسة أميال من ذلك المكان، وبينما كان سيبيو يشتغل في بناء الجسر كان هنيبال كعادته من يوم هبط من الجبال مشتغلا في إخضاع القبائل والأمم الصغيرة الموجودة إلى الشمال من نهر «بو». على أن بعضا من هاتيك القبائل قد والته ومالت إلى الانضواء تحت لوائه، والبعض الآخر كانوا حلفاء الرومانيين وأحبوا البقاء كذلك.
فعقد مع الذين والوه المعاهدات وأرسل إليهم النجدات، ووجه جنوده للتنكيل بحلفاء الرومانيين وإخضاعهم، على أنه عندما علم بأن سيبيو قد عبر النهر أصدر أمره بجمع كل فرق جيشه في مكان واحد تأهبا للعراك المقبل، ثم دعا رؤساء الجيش وأعلن لهم اقتراب ساعة المعركة، وردد على مسامع الجنود جميعا كلمات التشجيع التي تلفظ بها سابقا ، وزاد على ذلك بأن وعد الجنود بإعطائهم إقطاعات من الأرض إذا رافق النصر أعلامه، فقال لهم: «إني أعطي كل واحد منكم حقلا حيثما أراد إما في أفريقيا أو في إيطاليا أو في إسبانيا، وإذا فضل أحد منكم المال على الأرض فله ذلك، وعنذئذ يعود كل جندي منكم إلى أهله أو أصدقائه، ويعيش بهناء كما كان قبل الحرب، ويكون محسودا من أولئك الذين بقوا في الوطن، وإذا أراد أحد منكم الإقامة في قرطجنة أجعله وطنيا حرا، بحيث يقدر أن يعيش مستقلا وبشرف.»
ولكن ما هو الضمان الذي يحقق للجنود هذه المواعيد؟ ففي هذا الزمان يكون الضمان بمثابة رهائن أو بمال نقدي، أو بجعل حجج الأرض الموعود بها مع أناس مأمونين، أما في الزمن القديم فإن مثل هذه المعاملات كانت تتم على صورة مختلفة، فصاحب الوعد كان يقيد نفسه بالأيمان المغلظة يصحبها بطقوس دينية معلومة، يراد بها تثبيت ما وعد به وحصر المسئولية في شخصيته.
وهكذا استجلب هنيبال خروفا وأمسكه بيده اليسرى أمام كل الجيش واحتمل باليد اليمنى حجرا ثقيلا، ثم دعا الآلهة بصوت جهوري طالبا إليها إهلاكه كما سيهلك هو ذلك الخروف، إذا أخلف بوعده ولم يتمم تعهداته لرجاله، وعند ذلك ضرب الخروف ضربة شديدة بذلك الحجر فسقط الخروف ميتا عند قدمي هنيبال، وبذلك أصبح هنيبال مقيدا بوعده مرتبطا رسميا بكل ما تعهد به بتلك الحفلة وبذلك الدعاء.
فتضاعفت حماسة الجنود وشجاعتهم بهذه الوعود، وأصبحوا يتوقعون دنو يوم العراك بفارغ الصبر، أما جنود الرومانيين فكانوا فيما أظن في حالة فكرية تختلف عن هذه؛ فقد جرت جوار عدوها من طوالع النحس وتطيروا منها فحملتهم على اليأس والتشاؤم وضيقت منهم الصدور، ومن مدهشات الأمور أن يستسلم الناس لأمثال هذه الحوادث التي تقع بالصدفة ويتأثروا بها، وكانت إحدى تلك الحوادث أن ذئبا أتى إلى المعسكر من غابة هناك، وبعد أن جرح عددا من الجند أفلت ونجا بنفسه.
والحادثة الأخرى كانت أقل أهمية من هذه، فإن سربا من النحل طار إلى المعسكر، وتعلق في شجرة قائمة فوق مضرب سيبيو، فعد الجند هذا علامة لنكبة تصيبهم قريبا ولهذا خارت قواهم وتولاهم الهلع، ومن أجل هذا كانوا ينتظرون المعركة بخوف واحتساب، بينما كان جنود هنيبال يتوقعونها بشوق وابتهاج وهم شديدو الرغبة في ملاقاة العدو.
أخيرا دنا وقت المعركة واحتدمت نارها بغتة وعلى غير انتظار أحد الجانبين؛ ذلك أن فرقة من جنود كل جيش كانت تزحف متقدمة نحو معسكر الجيش الآخر قريبا من نهر تيسينوس للاستكشاف، والتقيا بالصدفة فبدأت المعركة من تلك الدقيقة، فزحف هنيبال بكل قوته كالسيل الجارف وأرسل فرقة من جيشه في ذات الوقت؛ لكي تهاجم عدوه من الوراء.
عندئذ أخذ الرومانيون في التراجع إلى الوراء بدون انتظام، وأدى بهم التشويش إلى اشتباك الفرسان والرجالة معا فداست خيل الفرسان المشاة وجمحت الخيل لخوفها من الرجال وضوضائهم، وفي خلال ذلك الارتباك أصيب القائد الروماني بجرح، ومن المعلوم أن سيبيو كان قنصلا وهو من رجال البلاد الجديرين بالحرمة والإكرام والرعاية ومقامه أشبه بمقام نصف ملك، فلما علم الضباط والجنود بأن القنصل قد جرح ارتعدوا واضطربوا، وشرعوا في التقهقر إلى الوراء لا يلوون على شيء.
وكان لسيبيو ابن لا يزال في ريعان الشباب اسمه سيبيو أيضا، وكان يحارب بجانب والده عندما جرح، فأسرع إلى حماية والده واحتمله إلى وسط فرقة من الفرسان التي كانت تقيه ضربات العدو، وهي في الوقت نفسه تتراجع شيئا فشيئا، والعدو يلاحقها بضرب يقد الدروع إلى أن وصلت بقائدها الجريح إلى المعسكر، حيث ارتاح الجيش الليل بطوله، وهناك شرع الرومانيون في تحصين موقفهم، أما هنيبال فلم ير من الحكمة اللحاق بهم ومهاجمتهم هناك.
وصبر هنيبال إلى الصباح، أما سيبيو فلما رأى أنه قد جرح وأن جيشه قد خام وتضعضع لم يشأ الصبر إلى الصباح، بل سار وجيشه عند منتصف الليل متراجعا إلى الوراء تحت ستار الظلام، وأبقى نيران المعسكر مضطرمة وبذل كل عناية؛ لكيلا يدري القرطجنيون بتراجعه ويلاحقوه، فسار الجيش الروماني خفية وبغاية الهدوء إلى أن بلغ النهر، وعبروه على نفس الجسر الذي ابتنوه هناك .
ولما أصبحوا على الجانب الآخر منه قطعوا قيود الجسر في الحال واحتملته المياه إلى نهر «بو»، ومن هناك إلى بحر أدريا حيث طاردته الأرياح إلى الشاطئ في آخر الأمر، واستيقن الرومانيون من أنه لم يعد لهنيبال وسيلة تساعده على عبور النهر واللحاق بهم.
الفصل السابع
جبال أبنين
عندما أحس هنيبال في صباح اليوم التالي أن سيبيو وجيشه قد تركوا مواقفهم جد على الفور في اللحاق بهم؛ لكي يوقفهم قبل أن يصلوا إلى النهر إلا أنه وصل متأخرا؛ لأن معظم الجيش الروماني كان قد عبر إلى الضفة الأخرى، ولم يبق منه سوى فصيلة عددها بضع مئات من الرجال كانت قد بقيت على جانب هنيبال من النهر لحراسة الجسر إلى أن يعبر كل الجيش؛ لكي يساعد في قطع أوصال الجسر.
فأتمت تلك الجنود مهمتها هذه قبل وصول هنيبال، ولكنها لم تتوفر على الوقت للنجاة إلى الجانب الآخر من النهر، فلما وصل هنيبال وقعوا أسرى في يديه، وبهذه المعركة وبتقهقر سيبيو إلى ما وراء نهر «بو» تغيرت أحوال الرومانيين والقرطجنيين فيما يرمون إليه؛ لأن كل الشعوب القاطنة في شمال إيطاليا التي كانت إما خاضعة للرومانيين أو موالية لهم قد مالت إلى هنيبال، فأرسلوا بعوثا إلى معسكره يعرضون عليه ولاءهم ومناصرتهم.
وفي الواقع أن فريقا كبيرا من الغاليين في المعسكر الروماني وهم مناصرون للرومانيين، وكانوا يحاربون تحت راية سيبيو في معركة تيسينيون تركوه بعد ذلك، واجتمعوا تحت لواء هنيبال بجملتهم وقاموا بهذه الفتنة ليلا، وبدلا من أن يذهبوا إلى معسكر هنيبال سرا متسللين أحدثوا لغطا كثيرا وقتلوا الحراس، وملئوا المعسكر صياحا وتهديدا، وأوقعوا الرعب في قلوب بقية الجنود.
فرحب بهم هنيبال ولكنه كان كثير الحذر وأوفر الدهاء، فلم يجازف في مزج هذه الطائفة الخائنة في جيشه، على أنه بالغ في إكرامهم والحفاوة بهم وعاملهم بمنتهى الملاطفة، وأتاح لهم الرجوع إلى أوطانهم مثقلين بالهدايا وأوصاهم بالسعي لما يؤيد مصلحته بين القبائل التي أتوا منها، وكان جيش هنيبال قد ازداد شجاعة وكبرت آماله بما جرى في بدء هذه الحرب، وهكذا أخذ في الاستعداد الضروري لعبور النهر.
فمن الجنود من ابتنوا أرماثا ومنهم من سار إلى أعالي النهر بقصد العثور على رقراق يعبرون منه، ومنهم من قطع النهر سباحة، وكانوا في قطعهم النهر على تلك الصورة مطمئنين غير مبالين؛ لأن الرومانيين لم يرصدوا لهم ولا وقفوا ليصدوهم عن ذلك، بل ولوا الأدبار ممعنين في الهزيمة بأسرع ما استطاعوه وهم حاملون سيبيو الذي أخذت جراحه في التورم والفساد، وسببت له الآلام الشديدة.
وفي الواقع أن الرومانيين كانوا قد خاموا ويئسوا لما رأوه من الخطر المحدق بهم، وحالما وصل الخبر إلى المدينة أسرعت الحكومة بإرسال سعاة إلى سيسيليا؛ لاسترجاع القنصل الآخر وكان اسمه سمبرونيوس، ويذكر القراء أنه عندما ألقيت القرعة بينه وبين سيبيو قضت على هذا الأخير بالذهاب إلى إسبانيا؛ ليوقف زحف هنيبال وتعين على سمبرونيوس الذهاب إلى سيسيليا؛ لكي يمخر من هنالك إلى أفريقيا.
وكان الغرض من هذه الخطة مهاجمة قرطجنة وتهديد القرطجنيين في أوطانهم؛ لكي يشغلوهم هناك ويمنعونهم من إرسال النجدات إلى هنيبال، ويلجئوهم إن أمكن إلى استدعائه من إيطاليا؛ لكي يذود عن حياضهم ويدافع عن عاصمتهم.
أما الآن وقد اجتاز هنيبال جبال الألب وتجاوزها إلى ما وراء نهر «بو»، وهو زاحف على رومية وسيبيو مثخن بالجراح وجيشه منهزم أمامه لا يلوي على شيء، فقد اضطر الرومانيون إلى العدول عن تهديد قرطجنة، وأنفذوا الرسل إلى سمبرنيوس يأمرونه بالرجوع إلى رومية؛ ليساعد في الدفاع عنها، وكان سمبرونيوس معروفا بحدة المزاج لخوض الغمرات.
فرجع في الحال إلى إيطاليا وجند عساكر جديدة لجيشه واقتاده زاحفا نحو الشمال؛ للاجتماع بالقائد سيبيو على نهر «بو»، وكان سيبيو يتألم من جراحه الخطرة بحيث لا يقوى على إدارة أمور جيشه، وقد تقهقر ببطء أمام هنيبال فزاد المسير في آلامه التي نفرت وجاشت بسبب حركات السفر الدائم، فوصل على تلك الحالة إلى ثرابيا وهو نهر صغير يجري شمالا ويصب في نهر «بو» وعبره، على أنه رأى نفسه عاجزا عن متابعة المسير بالنظر إلى اشتداد الآلام ، فأوقف الجيش وأمره بأن يعسكر هناك وأقام التحصينات حول معسكره وتأهب للوقوف في وجه العدو.
ولحسن طالعه انكشفت غمته بوصول سمبرونيوس وجيشه إليه وهو هناك فاتحد الجيشان، وهكذا التقى هناك قائدان، وكان نابوليون يقول: إن قائدا جاهلا خير من قائدين خبيرين؛ ذلك لأن من الأمور الجوهرية للفوز في كل الحركات العسكرية حصول السرعة والثقة والتصميم بدون أقل تردد، وهو لا يتم إلا إذا توحدت القيادة وصدر الرأي عن فكر واحد مستقل.
وقد صح قول نابوليون هنا؛ فإن سمبرونيوس وسيبيو اختلفا على الخطة التي يجب العمل بها؛ إذ إن سمبرونيوس أراد مهاجمة هنيبال مباشرة أما سيبيو فأشار بالتأني، وعزا سمبرونيوس تردد سيبيو عن الابتداء بالعراك إلى الذعر الذي استولى عليه وانحلال عزيمته بما ناله من جراحه، أو أنه مدفوع بالحسد من أن يحرز سمبونيوس شرف البطش بالقرطجنيين وحده، بينما سيبيو طريح الفراش في مضربه، وكان سيبيو من الجهة الأخرى يظن أن سمبرونيوس غير مترو أو أنه مغامر في تصميمه على خوض المعمعة لمجالدة عدو لا يعرف عن قوته وبطشه شيئا.
وفيما كان القائدان مختلفين في الرأي بشأن العراك المقبل حدثت مناوشات غير ذات بال بين طرفي الجيش، ظن سمبرونيوس عندها أن الميزة حاصلة بجانبه، فزاد ذلك في تهوسه وعول على استجلاب عراك عمومي، وأصبح كارها لتردد سيبيو وحذره، وقال لسيبيو: «إن الجنود تائقة إلى الكفاح وهي قوية وعلى جمام، فمن الحماقة أن نمسكها عن ذلك بسبب تراخي رجل واحد مريض، وفضلا عن ذلك ما الفائدة من التأجيل؛ فنحن على أتم أهبة لمنازلة القرطجنيين أكثر من أي وقت آخر.
ثم إنه لا يوجد قنصل ثالث نتوقع مجيئه لمناصرتنا، وأي عار يلتحق بنا نحن الرومانيين الذين اقتدنا جيوشنا في الحروب الماضية إلى أبواب قرطجنة بالذات، إذا سمحنا لهنيبال بالسيطرة على كل شمالي إيطاليا بينما نحن نتراجع أمامه بالتدريج خائفين من منازلة جيشه طالما أنزلنا به العبر في الماضي.» ولم يخف على هنيبال ما كان بين القائدين الرومانيين من الخلاف؛ فجواسيسه أنبئوه بكل ما جرى ، وقالوا له إن سمبرونيوس متهوس للقتال أكثر من سيبيو، ففكر هنيبال في استدراج سمبرونيوس للعراك في وقت ومكان، يكونان مناسبين لهنيبال وغير ملائمين لسمبرونيوس.
فرسم لذلك خطة نجحت أيما نجاح، وجاءت نتيجتها مماثلة للخطط الكثيرة التي سطرها التاريخ للقائد القرطجني معترفا له بالدربة والدهاء في التدبير، وهي مع غيرها من تدابيره التي حملت الرومانيين على اتهامه بالخدع والمكر في حروبه. وكانت خطة هنيبال عبارة عن سحب الرومانيين من معسكرهم في إحدى ليالي شهر كانون الأول المظلمة الشديدة البرد وحشرهم في النهر، وذلك النهر كان نهر ثرابيا الذي يجري شمالا، ويصب في نهر «بو» بين معسكر الرومانيين ومعسكر القرطجنيين.
وكان من تدبيره في ذلك أن يرسل قسما من جيشه عبر النهر؛ ليهاجم الرومانيين في الليل أو عند انبثاق الفجر مؤملا من ذلك إرغام سمبرونيوس على الخروج من معسكره ليهاجم القرطجنيين، فإذا فعل تعين على القرطجنيين أن يسرعوا الرجعة، فيعبروا النهر على رجاء أن يلاحقهم سمبرونيوس مدفوعا إلى ذلك بحماسة القتال وما يراه من انهزامهم، عندئذ يكون لدى هنيبال جيش احتياطي قوي بقي مستريحا وفي دفء، فيخرج ويهاجم الرومانيين بنشاط وبسالة لا يعتورهما ضعف، بينما يكون الرومانيون قد تعرضوا للبرد والبلل، وتشوش نظامهم من جراء ارتباكهم في عبور النهر.
وكان من تدابير هنيبال أيضا أن يجعل قسما من جيشه في كمين وراء أشجار غضة، يتخللها الشيء الكثير من الأعشاب العالية وهي كائنة قرب الماء، وذهب هنيبال بنفسه لفحص ذلك المكان فوجد العشب فيه ناميا إلى حد يستر معه الفارس بحيث لا يرى منه شيء، فقر رأيه على إرصاد ألف راجل وألف فارس هناك، وانتخبهم من أبرع وأشجع رجاله وكان اختياره إياهم على الصورة التالية:
استدعى أحد أركان حربه إلى تلك البقعة وأوضح له بعض مقاصده، ثم أمره بأن يذهب وينتخب مائة من الفرسان ومائة من المشاة من أفضل أبطال الجيش، فلما أحضرهم تأمل فيهم هنيبال برضا وارتياح، ثم قال: «نعم، أنتم الرجال الذين أحتاجهم لهذا الموقف ولكن بدلا من مائتين أحتاج إلى ألفين، فارجعوا كلكم إلى الجيش، ولينتخب كل واحد منكم تسعة رجال مثله في النشاط والقوة.» ولا حاجة إلى القول إن أولئك قد سروا كثيرا بما طلبه منهم القائد، وأنموا رغائبه من هذا الوجه.
وهكذا اجتمع ذلك الجيش هناك مختبئا في خلال ذلك الضراء الذي تقدم ذكره حيث رصد للرومانيين؛ ليوقع بهم بعد أن يعبروا النهر، وترك هنيبال أيضا قسما كبيرا من جيشه في معسكره بالذات متأهبا للقتال، وأوصاهم بتناول الأكل والاستراحة والاستدفاء إلى أن يصدر إليهم الأمر بالذي ينتظر منهم القيام به، ولما أتم هذه التدابير على ما تقدم البيان أرسل فرقة من الفرسان لتعبر النهر، وتحاول بعد ذلك إزعاج الرومانيين وإرغامهم على الخروج من معسكرهم واللحاق بها.
قال لهم هنيبال: «اذهبوا واعبروا النهر وازحفوا على معسكر الرومانيين وناهضوا الحراس هنالك، وعندما يهب الجيش إلى مهاجمتكم تقهقروا بتمهل أمامهم إلى أن تعبروا النهر.»
ففعلت تلك الفرقة العسكرية كما أمرها هنيبال تماما؛ وصلت إلى معسكر الرومانيين عند انبثاق الفجر - لأن هنيبال أراد إخراج الرومانيين من معسكرهم قبل أن يتناولوا طعام الفطور - فهب سمبرونيوس عندما أحس بها، وأمر جنوده بالإسراع إلى أسلحتهم متوهما أن الجيش القرطجني بجملته يهاجمه، وكان صباح ذلك اليوم باردا وكانت الرياح تهب بشدة والجو قاتما يتخلله المطر والثلج، بحيث لا يرى الإنسان ما حوله.
وهكذا خرج الرومانيون فرسانهم ومشاتهم صفا صفا من معسكرهم، وهجموا على القرطجنيين الذين تراجعوا إلى الوراء على مهل، فتحمس سمبرونيوس كثيرا عندما بانت له سهولة اندحار مهاجميه، وظن أن النصر قد تم له عليهم فلاحقهم، وثابر على اللحاق بهم إلى أن بلغ النهر - وكما توقع هنيبال لم يقف عند ذلك الحد من تأثرهم، ولا اكتفى بالوقوف عند ضفة النهر، فعندما اندفع فرسان القرطجنيين في الماء طالبين الجانب الآخر، تبعهم الرومانيون فرسانا ومشاة.
وكان ذلك النهر صغيرا إلا أنه في ذلك اليوم طما ماؤه بسبب تهطال الأمطار في الليل الذي مضى، وكان الماء بالطبع باردا جدا، فالفرسان اجتازوه من غير أن يلحقهم أذى، وأما المشاة فقاسوا البلاء المر من البلل والبرد القارس، ذلك فضلا عن الجوع الذي هد قواهم؛ إذ إنهم لم يكونوا أكلوا شيئا في ذلك الصباح لاستعجالهم في مهاجمة الأعداء، فنالتهم النهكة وأثر عليهم التعب إلى الحد النهائي.
على أنهم بالرغم من ذلك جدوا في ملاحقة أعدائهم، وصعدوا على ضفة النهر بعد أن خاضوا متدفقات مياهه، وهناك التأم شملهم واستجمعوا صفوفهم وأمعنوا في اللحاق بالقرطجنيين المتراجعين أمامهم، وعندئذ فاجأهم جيش هنيبال الراصد على مقربة من النهر، وهو على أتم استعداد وعلى جمام ودفء وفتك بهم فتكا ذريعا، فهالهم الأمر الذي لم يكن في حسبانهم وتولاهم الذعر من المباغتة التي انقضت عليهم من الوراء بين صيحات كالرعد القاصف، فانخلعت قلوبهم وسقطوا تحت ضربات أعدائهم من الأمام والوراء.
وجاءت هذه الحركات بصورة سريعة جدا، بحيث تولى الرومانيين الذهول والجزع لما لقوه من هول الموقف بعيدين عن معسكرهم، وقد خارت منهم القوى في الركض وفي اجتياز مياه النهر، وأطبق عليهم رجال هنيبال من كل جانب فأبلوا فيهم بلاء حسنا، فحاروا في أمرهم ولم يدروا بأية طريقة يتخلصون من تلك الورطة المشئومة، وعندها تراجعوا بكل صعوبة إلى النهر فوصلوه من أماكن مختلفة مشتتين متفرقين، فوجدوه طاميا وقد غطت المياه التي طغت كل مكان على ضفتيه، فلم يعرفوا من أين ينزلون إليه ولا كيف يعبرونه وهالهم طغيان المياه كثيرا.
ولما تمزق شمل الجيش الروماني على تلك الصورة المخيفة توقف القرطجنيون عن متابعة القتال، فهم كانوا مثل أعدائهم قد تبللوا وتعبوا فلم يروا من أنفسهم مقدرة على متابعة العدو الهارب، وحاول عدد كبير من الجيش الروماني عبور النهر فنزلوه هربا من الأعداء، فاحتملتهم مياهه الطاغية في مجراها وأغرقتهم ولم يقو أحد منهم على مقاومة التيار؛ لما كانوا عليه من الخوف والتعب، وبعضهم اختبئوا في الأماكن المستورة عن القرطجنيين، ومن ثم اصطنعوا أرماثا عبروا عليها إلى الجانب الثاني من النهر.
وكانت جنود هنيبال قد تبللت إلى حد الأجسام وبردت، ونالها من التعب ما بلغت به حد الإعياء فلم تشأ ملاحقة الرومانيين، فاجتاز هؤلاء النهر على مهل، على أن الكثيرين منهم بالرغم من ذلك غرقوا وجرتهم المياه في تيارها إلى أبعاد مختلفة وأهلكت منهم العدد الكبير، وكان إذ ذاك شهر كانون الأول كما تقدم القول، فرأى هنيبال أن الطقس لا يساعد على ملاحقة الأعداء، ولكنه وجد الطريق إلى جبال أبنين مفتوحة أمامه بعد انكسار سمبرونيوس؛ لأن لا هذا ولا سيبيو يستطيعان الآن الوقوف في وجهه إلا بعد أن تصلهم نجدات جديدة قوية من رومية.
وفي مدة فصل الشتاء اشتبك هنيبال وجيشه في معارك جديدة مع بقايا الجيش الروماني المنهزم، ومع بعض القبائل الوطنية المجاورة لهاتيك الأنحاء، وقاسى مشقات كثيرة لا سيما في توفير القوت لرجاله إلا أنه تمكن بعدئذ من إرشاء حاكم إحدى القلاع الرومانية؛ حيث كانت تحتوي على أقوات كثيرة فدفعها الحاكم إلى هنيبال فأصبح بعدها موفور القوت، على أن سكان هاتيك الأماكن لم تكن ميالة إليه ولا راضية عنه وقد حاولت في غضون الشتاء عرقلة مساعيه، والتهجم على رجاله بكل ما لديها من قوة.
فلما رأى تحرج موقفه هناك سار جنوبا، وصمم في آخر الأمر، بالرغم من رداءة الطقس، على اجتياز جبال أبنين. وعندما يلقي القارئ نظرة على خارطة إيطاليا يجد أن نهر «بو» الكبير يمتد عبر شمالي إيطاليا كله، وأن وادي أرنو ووادي أمبرو واقعان إلى الجنوب منه منفصلان عنه بسلسلة من جبال أبنين، وهذا الوادي الجنوبي هو وادي أتروريا في الجنوب، فقر رأي هنيبال على اجتياز الجبال للوصول إلى أتروريا على نية أن يجد هنالك طقسا دافئا وسكانا أميل إليه، ويكون بذلك أقرب إلى رومية.
وإذا كان هنيبال قد قهر جبال الألب فجبال أبنين قهرته؛ فإنه عندما بلغ أرفع ذراها هبت عليه عاصفة هوجاء، وكان البرد قارسا إلى الغاية والهواء يهب بشدة، فيحمل الثلج وحب الغمام ويدفعها على وجوه الجنود فيسدل على عيونهم نقابا كثيفا يجعل متابعة السير عليهم مستحيلة، ولما أعيوا عن مقاومة العناصر وقفوا وأداروا ظهورهم للرياح، ولكن العواصف تضاعفت في الشدة وجاء معها رعود وبروق أزعجت الجنود وأوقعت الرعب في قلوبهم؛ لأنهم كانوا في قمم الجبال ملتحفين بالغيوم التي كان البرق والرعد ينبعثان منها.
ولم يشأ هنيبال النكوص إلى الوراء، فأصدر أوامره إلى الجيش بالنزول في تلك البقعة، وفي أفضل ملجأ منها استطاعوا العثور عليه فضربوا الخيام؛ ولكنها لم تثبت في وجه العواصف؛ إذ كانت قد اشتدت في الهياج فقلبت عمد الخيام واقتلعت الجنفيص من معالقه، فكان بعضه يتمزق قطعا وتحمله الأرياح، وكان ذلك على الأفيال أو ما بقي حيا منها أشد منه على الناس، فخارت قواها من البرد الشديد وماتت فلم يبق منها حيا إلا فيل واحد.
إذ ذاك أمر هنيبال الجيش بالتراجع من ذلك المكان فعادوا إلى وادي «بو»، ولكن هنيبال كان قلقا هناك؛ لأن السكان كانوا منزعجين من وجوده بينهم، ذلك لأن جيشه قد التهم أقواتهم وخرب بلادهم وعكر كأس سلامتهم وهنائهم، فشعر هنيبال بأنهم سيكيدون له ليقتلوه إما بالسم أو بغيره؛ ولهذا كان كثير الحذر والاحتياط لاتقاء شرهم، وكانت له ملابس عديدة مختلفة وشعور عارية يلبسها عند التنكر، فيظهر كل يوم بحلة تختلف هي وشعر الرأس عن غيرها باللون والزي.
عمد إلى هذه الطريقة لكيلا يعرفه القتلة من وصف منظره ويغتالوه؛ إما في مضربه أو في مكان آخر، ولكنه بالرغم من ذلك كان كثير القلق عظيم المخاوف على حياته، بحيث إنه لم يصدق أن أقبل الربيع حتى رحل وجيشه لاجتياز تلك الجبال ففاز بذلك هذه المرة، ولما هبط من الجبل على الجانب الجنوبي علم أن جيشا رومانيا جديدا بقيادة قنصل جديد يزحف من ناحية الجنوب للقائه، فتاق إلى مواجهة هذه القوة الجديدة، وأسرع المسير في أقرب الطرق لملاقاتها.
على أنه وجد أن هذه الطريق تؤدي به إلى القسم الأدنى من وادي أرنو وهو واد عريض جدا، ولكن مع أن عبوره سهل على الغالب؛ فقد كان يومئذ طاغيا لتدفق المياه عليه من الثلوج التي كانت تذوب في رءوس الجبال، وفي الواقع أن هاتيك البلاد كانت عبارة عن مستنقعات وآجام لا حد لها يصعب المسير فيها، ومع ذلك فقد صمم هنيبال على اجتيازها فعرض جيشه لصعوبات ومخاطر كثيرة زادت في هولها على ما لقيه في جبال الألب.
فالمياه كانت قد بلغت الربى في طغيانها، وهي تزداد طغيانا على الدوام حتى غصت بها المجاري ومنخفضات الأرض، وطمت بعد ذلك على السهول كلها، وكان الماء عكرا كثير الكدورة بحيث تصعب رؤية أعماقه وما تحته، فكانت الجنود في خوضها إياه تغرق في الحفائر والوحول، فلا تعود تتمكن من الخلاص، وقد غرق عدد كبير منها على هذه الصورة.
وكانت الجنود تعبة خائرة القوى من البلل والبرد الشديد، ومن تعرضها لذلك على الدوام، وقد انقضى عليها أربعة أيام بلياليها في هذا المأزق الحرج، ولم تتجاوز في جهودها مسافة كبيرة؛ لأن السير كان بطيئا جدا، ولم يذق الجنود في تلك المدة طعم النوم، بل كان الكثيرون منهم يستندون على أسلحتهم يركزونها في الماء ليغفوا قليلا، حتى إن هنيبال نفسه كان مريضا فأصيب بتورم في عينيه أضر بإحداهما في آخر الأمر فلم يعد يبصر بها.
على أنه لم يكن متعرضا للعناصر مثل ضباطه؛ ذلك لأنه كان قد بقي معه فيل واحد من كل الأفيال التي جلبها معه، فكان في غضون الأربعة أيام راكبا ذلك الفيل بحيث لم يمسه الماء، وقد سير أمامه رجالا يتجسسون للفيل أفضل الطرق، فاستعان بهم وبالفيل على قطع الوحول والمياه سالما.
الفصل الثامن
المتسلط المطلق فابيوس
وعندما كان هنيبال يجد في سيره متجها نحو أبواب رومية كان سكانها في خوف وقلق عظيمين إلى أن تفاقم أمر الرعب بينهم وشمل سائر الطبقات ولا سيما العليا منها، وأصبح العامة والجنود معا في رعدة متناهية، وكانت الحكومة قد جندت جيشا جديدا بقيادة قنصل جديد؛ لأن مدة القنصلين الحاليين كانت قد انتهت.
واسم هذا القنصل الجديد فلامينيوس، فتولى قيادة الجيش الجديد وزحف به شمالا، وهنيبال إذ ذاك يعاني البلاء والعناء في قطع هاتيك المستنقعات والآجام والسباخ حوالي نهر أرنو، ولم يكن حظ هذا الجيش أفضل من حظوظ من سبقه من الجيوش، فإن هنيبال فكر حال سماعه به في جره إلى أحبال ينصبها له كما فعل بجيش القنصل سمبرونيوس قبله، وكان ذلك في القسم الشرقي من أتروريا على مقربة من الجبال، وعند بحيرة اسمها تراسمين.
وقد صدف أن هذه البحيرة تمتد إلى قاعدة الجبال، فلا يبقى بين مائها وبين الجبل إلا ممر ضيق لا يزيد في اتساعه على عرض طريق متوسطة، فعقد هنيبال النية على إرصاد فصيلة من الجند في كمين عند سفح الجبل وفرق أخرى من الجيش في سفوح الجبل وشقوقه وأغواره، وأن يستجر القائد فلامينيوس مثل سمبرونيوس ناري المزاج عظيم الثقة بنفسه وكثير التهوس إلى حد الحماقة والاندفاع بدون ترو.
فكان يحتقر قوة هنيبال ويهزأ به ويظن أن فوزه في المعارك الماضية قد تأتى عن تهاون القواد الآخرين وترددهم، وهو لذلك كان يتوق إلى الالتقاء به في الحال؛ لاستيقانه من أن الانتصار عليه من الأمور الهينة، وعلى هذا الزعم زحف متقدما بإقدام وقلة مبالاة إلى مضيق تراسمين، وهناك علم أن هنيبال معسكر وراء ذلك المضيق.
وكان هنيبال قد عسكر في مكان مرتفع مفتوح من كل الجوانب عبر المضيق، فلما وصل فلامينوس وجيشه إلى أضيق مكان في المضيق رأوا معسكر هنيبال على مسافة قريبة بينهم وبين معسكره وآخر المضيق سهل واسع، وتوهموا أن جيش العدو بجملته مرابط هنالك، فلم يخطر لهم ببال أن هنالك أقساما من جيش العدو راصدة في أخاديد الجبال فوقهم، وهي تطل عليهم من مكامنها بين الآجام والصخور وتتربص بهم ريب المنون.
فلما اجتاز الرومانيون المضيق انتشروا فوق السهل المنبسط بعده وزحفوا نحو خيام العدو، عندئذ باغتتهم الجنود الكامنة منقضة كالسيل من سفوح الجبال واستولت على المضيق، وفي الوقت نفسه هجمت على مؤخر الجيش الروماني، بينما كان هنيبال وبقية جيشه يهاجمونهم من الأمام، ودارت إذ ذاك معركة دموية هائلة بين الجيشين كان الخذلان في كل جهة منها نصيب الرومانيين الذين انحصروا عندئذ بين البحيرة والجبل والمضيق، بحيث تعذر عليهم التراجع والفرار، وأعمل الجيش القرطجني فيهم القتل الذريع فأفناهم كلهم تقريبا؛ حتى إن فلامينيوس نفسه وقع قتيلا.
فانتشرت أنباء هذه المعركة في كل مكان وأحدثت ضجة في البلاد وشغبا في الشعب، وأرسل هنيبال رسلا إلى قرطجنة يعلن لها أمر انتصاره النهائي على عدوه القوي فتلقت قرطجنة هذه البشائر بالابتهاج العظيم. على أن خبر تلك الكسرة المشئومة من الجهة الأخرى وقع على أهل رومية وقوع الصواعق، فارتاع الناس لهول النكبة وهال الحكومة ما بدا لها من خيبة الآمال وانسحاق جيوشها، وتولاها الرعب من غوائل انتصار هنيبال.
وبان لحكومة رومية أن الرجاء الأخير من مقاومة ذلك العدو القاهر قد انقطع، وأنه لم يبق أمامها سوى الاستسلام لليأس وانتظار تدفق صفوف جيشه في بوابات رومية مكتسحة سالبة، وكان سكان رومية في الواقع حاسبين لحدوث الاضطراب والرعب في المدينة؛ لأن مخاوفهم قد تفاقمت وتضاعفت على مرور الأيام، وقد تم الذي توقعوه وحذروه. ومن المعلوم أنه في مثل هذه الأوقات الحرجة يكثر اللغط ويحسب الناس حسابا لأقل شيء يبدو لهم مما لا يعبئون به في غير ذلك الوقت، وتتعدد الروايات وتتجسم الأخبار ويبالغ معيدوها فيها إلى حد تستولي على الأذهان، وتولد في العقول رعبا وفي القلوب انسحاقا وفي الأذهان وقرا.
وبلغ الرعب والهول من القوم مبلغا أصبحوا معه يتشاءمون من كل حركة وكل علامة؛ جريا على تسليم أهل ذلك الزمن بالخرافات المختلفة، فكانت الحكومة تبذل الوسع في إزالة مخاوف الناس وتحاول نفي ما يعلق في أذهانهم من غضب الآلهة عليهم، ثم أشارت بتقديم الضحايا لاسترضاء الآلهة، وهي ترمي بذلك على حمل الناس على الهدوء والطمأنينة والثبات في وجه الخطر المقبل.
ومن جملة هذه الأوهام وآيات التشاؤم التي استولت على أهل رومية عندما كان هنيبال يزحف عليها من كل صوب في غضون الشتاء وأوائل الربيع ما نورده بالإيجاز. من ذلك: أن ثورا فلت من حظائر الماشية ودخل أحد البيوت وضاع رشده فهام في المنزل وصعد في درجه إلى الطبق الثالث، ولما أزعجه القوم الذين يطاردونه بصياحهم الشديد ذعر ورمى بنفسه من إحدى النوافذ ، فسقط على الأرض.
ومنها: أنه ظهر في جلد السماء نور بشكل سفن كثيرة.
ومن ذلك: أن أحد الهياكل أصيب بصاعقة، واهتزت الحربة الموجودة في قبضة تمثال جونو، وهي إحدى آلهتهم بدون أن تمسها يد، وحمل خوف الناس بعضهم على رؤية أشباح أناس بثياب بيض في مكان معلوم، وسطا ذئب على معسكر الجند واختطف سيفا من يد أحد الجنود وفر هاربا به، وبدت الشمس للقوم في ذات يوم أصغر من حجمها العادي، وأبصر القوم أيضا في ذات يوم قمرين معا في السماء وذلك في النهار، وكان أحد القمرين هالة من الغيم الأبيض دون ريب، وسقطت أحجار من السماء في مكان يسمى بيسانوم، وهذا أمر خارق العادة ولهذا كان مخيفا وموجبا للرعب الشديد. مثل هذه الحوادث التي قد يكون بعضها صحيحا، كانت دون ريب موجبة للدهشة والجزع إلا أنها بالرغم من ذلك لم تكن من الدلائل على النكبات التي لا بد من حدوثها، وكل هذه الأمور وغيرها من التي توهم الناس أنهم شاهدوها رفعت إلى مجلس الشيوخ ليرى رأيه في الأمر، ورأى الناس أمورا غريبة غيرها، ومنها درعان شوهدتا في معسكر للجنود تقطران دما.
قيل إن بعض الناس كانوا يحصدون فسقطت في سلالهم سنابل دموية اللون من القمح، وهذا قد كان وهما دون ريب إلا إذا كان أحد الحصادين أصيب بجرح في أصبعه من المنجل فصبغ بدمه السنابل. وقالوا إن بعض السواقي والينابيع جرت دما، وأن المعزى في بعض الأماكن تحولت إلى خراف، وأن دجاجة صارت ديكا، وديكا تحول إلى دجاجة وغير هذا شيء كثير.
فأمثال هذه الخرافات المضحكة ما كانت لتلاقي أقل اهتمام، لولا درجة الأهمية المتعلقة بها من حيث اقتراب الخطر العام، على أنها رفعت إلى مجلس الشيوخ وهذا استدعى الناس الذين رأوها واستنطقهم في شأنها، وخاض القوم في مجادلات طويلة بشأن الطريقة الواجب العمل بها لاتقاء الشر الذي سينجم عن هذا التشاؤم.
فقر رأي المجلس على إفراز ثلاثة أيام للتوبة وتقديم الضحايا يقوم فيها الناس بالصلوات، ومراعاة الطقوس الدينية على اختلافها توسلا بذلك إلى تلطيف غضب السماء، فقدمت ضحايا كثيرة متنوعة لآلهة متنوعة بينها حجر صاعقة من الذهب ثقله خمسون بوندا صنع خصيصا لجوبتير «المشتري» الذي كانوا يلقبونه بالرعاد. وكل هذه الأعمال أجريت قبل معركة تراسمين؛ ولهذا كان الناس قبل سماع أخبارها بين اليأس والرجاء والتحمس الشديد يتوقعون بفارغ الصبر وصول أنباء القائد فلامينيوس عنها ليعلموا ما الذي جرى.
فلما جاءت أنباء ذلك القائد اضطربت المدينة من أقصاها إلى أقصاها، وضج الناس ضجة الاحتساب من غوائل انتصار العدو وانكسار الجيش الروماني. ومعلوم أن الرسول ذهب توا إلى مجلس الشيوخ ليبلغ ما معه من الأخبار المحزنة إلى الحكومة رأسا، ولكن حكاية ما يحمله من الأخبار عن الانكسار المشئوم كانت قد انتشرت في المدينة كلها، وتسارع الناس إلى الشوارع للوقوف على الحقيقة، حتى غصت بهم ساحاتها على رحبها.
وذهب جم غفير إلى مجلس الشيوخ وهناك طلبوا من الحكومة إطلاعهم على ما تم بالجيش، فأطل أحد الموظفين عليهم من إحدى الشرفات، وخاطبهم بصوت عال قائلا: «لقد انكسرنا في معركة هائلة.» ولم يزد على هذا شيئا آخر، وأخيرا تسربت الأخبار من المجلس إلى الناس، فعلموا منها أن هنيبال قد انتصر على الجيش الروماني وقهره في معركة عظيمة، وأن عددا كبيرا من الجنود الرومانيين قد صرعوا أو أسروا وأن القائد نفسه قد ذبح.
وانقضى ذلك الليل على قلق ورعب عظيمين، وفي اليوم التالي والأيام العديدة التي تلت كان الناس يتجمهرون حول أبواب قاعة المجلس سائلين بلهفة وفروغ صبر عن الأنباء الجديدة التي جاء بها القادمون من داخلية البلاد، وبعد ذلك بقليل أخذت فلول الجنود أفرادا وجماعات تتوارد إلى المدينة حاملة معها أخبارا ومعلومات كثيرة عن المعركة، وكل واحد من أولئك الجنود يروي حكاية تختلف عن غيرها بناء على اختباراته الخصوصية في المعركة.
وكان عندما يصل أمثال أولئك الجنود يتألب عليهم الناس، ولا سيما النساء اللواتي لهن أزواج أو أولاد في الجيش ويلقين عليهم الأسئلة العديدة، ويرغمنهم على إعادة قصصهم المرة بعد المرة، حتى كأن قلق الناس وتحرج صدورهم لم يكونا ليكتفيا بالرواية الواحدة. وكانت الروايات المختلفة التي قصها أولئك الجنود متفقة في خلاصتها من حيث إثبات ما كان الناس السامعون يخشونه، على أنه كان يصدف في بعض الأحيان أن يتلفظ أحد الجنود باسم زوج أو ابن نجا، فيحدث ذلك ارتياحا وفرحا عند البعض، كما يحدث عكسه حزنا وقنوطا عند الآخرين.
وقد كانت المحبة الوالدية أو حنان الأم في تلك الأيام مثله أو أشد منه في يومنا هذا، يدل ذلك على أن اثنتين من الأمهات كانتا قد أخبرتا أن ابنيهما قد قتلا في المعترك، وفي ذات يوم وصل الابنان إلى المدينة وهما في أحسن صحة وسلامة جسم، فلما وقع نظر الأمين على ولديهما سقطتا ميتتين في الحال، كأنهما أصيبتا بضربة شديدة وذلك لفرط فرحهما وانفعالهما.
وكانت عادة الرومانيين أوقات اقتراب الخطر العظيم من البلاد أن يقيموا مسيطرا مطلق السلطة فعالا لما يريد، ويكون مطالبا بالذود عن حياض الوطن ووقايته من النكبات بإجراء ما يراه كفيلا بسلامة البلاد، وقد أوجبت الضرورة في هذا الحين الالتجاء إلى اتخاذ مثل ذلك التدبير، ولم يكن الوقت منفرجا حينذاك للبحث والمجادلات؛ لأن التردد والجدال في أوقات الشدة والحدة والخطر المحدق بالبلاد يؤديان إلى الخلاف، وينتهيان بالشقاق والضوضاء والفوضى.
ومن المعلوم أن هنيبال كان زاحفا في طليعة جيش منتصر يعيث في البلاد التي اجتاحها فسادا، ويعمل فيها النهب والتخريب، وهو يسرع الخطا نحو العاصمة التي لم يكن بينه وبينها ما يرد عنها هجماته. ومن أجل هذا دعت الضرورة الكلية إلى إقامة مسيطر مطلق التصرف من كل وجه، فوقع اختيار الشعب على رجل له شهرة عظيمة بالاختبار والحنكة والحكمة اسمه فابيوس، فسلموه زمام الحكومة، ومنحوه كل قوة وأطلقوا له الحرية في إجراء ما يراه ويرتئيه.
وهكذا بطلت بعد تعيينه كل سلطة، فأصبح كل شيء رهن إرادته وتحت مطلق تصرفه، ووضعت المدينة بجملتها وبما فيها من النفوس والأملاك تحت رعايته المطلقة يتصرف بها كيف شاء، فتقلد زمام الأمور وتولى إدارة الجيش والأسطول ، حتى إن القناصل أصبحوا رهن إشارته وطوع أوامره ونواهيه، فرضي فابيوس بتحمل تلك المسئولية العظمى التي ألقاها الشعب على عاتقه، وشرع للحال في اتخاذ التدابير الضرورية.
وأول ما أمر به كانت إقامة الحفلات الدينية والصلوات؛ للتكفير عما تشاءم الشعب منه ولاسترضاء الآلهة، وأخرج كل الشعب في اجتماع عظيم، وأرغمهم على القسم بصورة مهيبة رسمية، والوعد بتقديم ذبائح وقرابين إكراما للآلهة على اختلافها في وقت مستقبل، هذا إذا أرادت الآلهة وقايتهم من الخطر الذي يهددهم. أما ما إذا كان فابيوس يعتقد عن يقين بتلك التقاليد التي أمر الشعب بالقيام بها، وأن للآلهة تأثيرا فعليا على ما سيكون؛ فذلك من الأمور المشكوك فيها، بل يظن أنه أراد بهذا حمل الشعب على الطمأنينة، وإيجاد الثقة في قلوب الناس وإحياء موات الشجاعة في صدورهم، وذلك لا يتم له كما لا يخفى إلا عن طريق السماء، فإذا كان ذلك ما أراده فلا ريب أن تصرفه كان مبنيا على الحكمة.
وأصدر فابيوس الأوامر بجمع الرجال للانخراط في سلك جيش جديد ينظمه، وأمر ثانيه في الإمرة ولقبه رئيس الخيالة بإتمام ذلك، وبأن يحشد الجنود كلهم في مكان اسمه تيبور على مسافة بضعة أميال إلى الشرق من المدينة. وكانت العادة أن يكون لكل مسيطر مطلق رئيس خيالة، وكان اسم رئيس خيالة فابيوس مينوسيوس، وهو من المتصفين بالحدة والسرعة والعنف والغضب، كما أن فابيوس كان معروفا بالتأني والتؤدة والحذر والاحتساب.
فجند رئيس الخيالة العساكر وجمعهم في المكان المعين وذهب فابيوس ليتولى القيادة، وكان أحد القناصل قد جاء إلى هناك ومعه طائفة من الجند يقودها، فلما اقترب من المكان وعلم فابيوس بقدومه أرسل إليه يأمره بالمجيء بعد أن ينتزع عنه كل سمات سلطته؛ لأن سلطته التي يخوله إياها منصبه في الأوقات العادية قد ألغيت، وأصبحت الآن منحصرة في شخص المسيطر الجديد.
وكانت عادة القنصل الروماني أن يركب في موكب حافل حيثما ذهب وفي الاحتفالات الرسمية، فكان يمشي أمامه اثنا عشر رجلا بالملابس الرسمية والأوسمة وغير ذلك من شارات الأبهة، وذلك للتأثير على الجيش وعموم الشعب بما للقنصل من العظمة والجلال، وعلى هذا فإن تجرد القنصل من كل دلائل القوة والعظمة ومجيئه إلى حضرة المسيطر كبقية الموظفين؛ اعترافا بأنه أرفع منه منزلة، قد جعل الجيش ينظر إلى فابيوس قائده الجديد نظرة الاحترام الكلي الناجم عن الشعور بالعظمة الفائقة، والصولة والجلال التي له.
وأذاع فابيوس عندئذ منشورا وجهه مع رسل خصوصيين إلى كل الأقاليم الكائنة حوالي رومية، ولا سيما إلى تلك الناحية من المقاطعة التي أصبحت في قبضة هنيبال، وأمر الناس في هذا المنشور بأن يتركوا البلاد والمدن والقرى غير المحصنة، وأن يلجئوا إلى القلاع والحصون والمدن المتوفرة فيها أسباب الدفاع، وأمرهم أيضا بتخريب البلاد التي يغادرونها وبتعطيل كل الأملاك، والأقوات التي لا يستطيعون حملها معهم إلى حيث يهربون.
فلما تم لفابيوس من ذلك ما أراد استلم قيادة الجيش الذي حشده، وزحف بمزيد الحذر والتأني طالبا عدوه، وكان هنيبال في نفس الوقت قد عبر إلى الجانب الشرقي من إيطاليا، وتوغل هناك يجتاح البلاد ويدمر ما فيها بطريقه إلى أن أصبح إلى الجنوب من رومية، ولم يشأ مهاجمة المدينة مباشرة بعد وقعة بحيرة تراسمين؛ لعلمه بأن سكان المدينة الكثار العدد إذا أحرجهم بالتهديد، ورأوا أن المدينة ستقع في قبضته يتألبون للدفاع مستميتين، ويضايقون جيشه أشد مضايقة.
ولهذا سار منحرفا إلى الشرق وانحاز إلى ذلك الجانب إلى أن اجتاز أرباض المدينة، وهكذا اضطر فابيوس إلى المسير جنوبا وشرقا لملاقاته، وتقابل الجيشان على الجانب الشرقي من إيطاليا قريبا من بحر أدريا، وكانت الخطة التي اتخذها القائد فابيوس مبنية على عدم النزول مع هنيبال في معركة، بل يماطله ويحاجزه، ويهدده من بعيد إلى أن ينال الوهن من جيشه بالتعب والتأجيل.
وهكذا بقي على مقربة منه، ولكنه على الدوام يجمع جيشه في مكان متفوق من حيث الموقف الذي يجعل الميزة في جانبه عند العراك. ولم يكن هنيبال يستطيع حمله على ترك مثل ذلك الموقف، وجره إلى غيره بالرغم من كل الحركات التي يجريها لإغضابه وإبعاده عن النقطة التي عسكر فيها، وعندما يتحرك هنيبال منتقلا بجيشه إلى مكان آخر يحصل فيه على أقوات للجيش، كما كانت الظروف تضطره أن يفعل كان فابيوس يتحرك زاحفا، ولكن على حذر ولا يقف إلا في الأماكن التي تضمن له السلامة وعدم التعرض للخطر.
وحاول هنيبال استجرار فابيوس إلى العراك بكل وسيلة لديه، فخابت آماله ولم ينل المراد من ذلك، وفي الواقع أن هنيبال كان هو نفسه متعرضا للخطر الكبير في بعض الأحيان، وذلك أن براعة فابيوس جرته إلى نقطة كان فيها محاطا بالجبال من كل جانب، وكانت جنود فابيوس قائمة عليها ولم يكن هنالك سوى مخرج واحد للفرار، حتى إن ذلك المخرج نفسه كان في حوزة جنود فابيوس.
فعمد هنيبال وهو في هذا المأزق إلى استخدام الحيلة والدهاء في تدابيره الحربية، كعادته في مثل هذه الحال توسلا بذلك إلى فتح سبيل للخلاص، فجمع قطيعا من الثيران ووضع على قرونها حزما من الحطب وصب على الحطب الزفت؛ وذلك لكي يصير الحطب قابلا للالتهاب، وفي الليلة التي عول في غضونها على عبور ذلك المضيق أمر جيشه بالتأهب للمسير، ومن ثم استاق الثيران تحت جنح الظلام نحو التلال والآكام المقابلة للمضيق الذي يحرسه جنود الرومانيين، وهناك أشعل الحطب المزفت الذي على قرونها بالنار.
فاشتعل الحطب على قرون الثيران، فاضطربت وارتعدت وهاجت من تأثير حرارة النار، وهامت على وجوهها في هاتيك الجبال وتراكضت بين الأشجار وقد عميت منها الأبصار بشرار النار ودخانها، ثم علقت النيران بأطراف الأشجار، وعندئذ حدث اختلاط عظيم بين الثيران وضجة كبرى من الرومانيين الذين شاهدوا ما جرى، فظن الذين يحرسون المضيق منهم أن الجيش القرطجني قد صعد إلى أعالي الجبل وهو يتسلل نازلا لمهاجمتهم.
فتركوا مواقفهم على عجل وبمزيد الارتباك، وساروا يريدون ملاقاة العدو الذي تصوروه مقبلا عليهم تاركين المضيق بلا حراس، وفيما هم يلاحقون النيران المتحركة على قرون الثيران في ذلك الليل المدلهم متدافعين يمينا وشمالا، وساقطين في أودية يتعذر عليهم النهوض منها، وهم لا يهتدون إلى عدوهم انسل هنيبال بكل سكينة مع جيشه، وفروا من ذلك المضيق إلى حيث أصبحوا في مأمن من بطش عدوهم.
ومع أن فابيوس لبك هنيبال وحال دون وصوله إلى رومية، فإن الناس ضجروا من هذه الطريقة في المماطلة وعدم القيام بشيء جازم يزيل مخاوفهم ويبعد الخطر عنهم، وكان مينوسيوس رئيس خيالته يحرض فابيوس دائما على منازلة هنيبال، فلما يئس من حمله على ذلك أصبح هو نفسه ناقما متضجرا وغير راض عن هذه الخطة، ومال الجيش الروماني إلى مينوسيوس، فكتب هذا إلى رومية يشكو بمرارة من تهاون المسيطر فابيوس، وتردده المستمر في أمر منازلة العدو.
وكان هنيبال عالما بكل هذا من جواسيسه ومن مصادر أخرى جديرة بالثقة، استخدمها ذلك القائد الداهية وبرع في كيفية التوصل إليها، وقد انشرح صدر هنيبال - كما لا يخفى - بما عرفه من الشقاق الحاصل في معسكر الرومانيين وعن استياء القوم من فابيوس، وكان يعد مثل هذا العدو الذي يحاكيه في التأني والحذر والمراقبة أعظم خطرا عليه وعلى جيشه من أمثال القواد الآخرين كفلامينيوس ومينوسيوس المعروفين بالطيش والحدة والتسرع والذي يستطيع هو جرهم بسهولة إلى مأزق متجهم ويبطش بهم.
وخطر لهنيبال أن يقوم بمساعدة مينوسيوس من حيث السعي لجعل فابيوس غير محبوب من الشعب، وفي بحثه للتوصل إلى طريقة تسهل له القيام بذلك استخبر من بعض الجنود الذين فروا من معسكر فابيوس أن لهذا المسيطر حقلا عظيم القيمة في تلك الناحية، فأرسل طائفة من الجند إلى ذلك الحقل وأمرها بتخريب كل الأملاك المحيطة به وتعطيلها وقطع أشجارها، وبعدم مس حقل فابيوس بأقل ضرر.
وكان قصد هنيبال من هذا أن يحمل الشعب في رومية على الاعتقاد بوجود تفاهم سري بين فابيوس وهنيبال، وأن فابيوس قد تأخر عن منازلة أعداء البلاد والذود عنها بمحاربتهم في الحال باتفاق معلوم تم بينه وبين القرطجنيين، فكان بذلك خائنا لبلاده، فنجح هذا التدبير أيما نجاح؛ لأن النفور من فابيوس وانتقاد تهامله، والصراحة في تقريعه ملأت البلاد من أقصاها إلى أقصاها وتخللت المعسكر بالذات، ففي رومية ضج الناس طالبين إرجاع فابيوس بلا إبطاء متظاهرين برغبتهم في وجوده بينهم للقيام بالاشتراك معهم في حفلات دينية عظيمة، وهم في الحقيقة يبغون إبعاده عن المعسكر، وإيجاد فرصة لمينوسيوس يهاجم فيها هنيبال.
وفكروا أيضا في تدبير طريقة تساعدهم على تجريده من سلطته وما منحوه من القوة، فهم قد عينوه مسيطرا مطلقا لمدة ستة أشهر ولم تكن تلك المدة قد انتهت فأرادوا تقصيرها، فإذا عجزوا عن ذلك يحددون سلطته ويقللون من نفوذه، فذهب فابيوس إلى رومية تاركا قيادة الجيش لمينوسيوس، ولكنه أوصاه بألا ينازل هنيبال مطلقا، ولا يعرض الجيش الروماني لأي خطر، بل يسير على نفس الخطة التي سار هو نفسه عليها.
ولكنه لم يمض على وجوده في رومية إلا القليل من الوقت، حتى سمع أن مينوسيوس قد حارب هنيبال وانتصر، ووصلت إلى رومية أنباء ورسائل مملوءة بالفيش والمباهاة، وكتب رسمية إلى مجلس الشيوخ الروماني حافلة بامتداح مينوسيوس، وما أقدم عليه وما أبداه من الحزم والدربة، أما فابيوس فإنه شرع في فحص وقائع المعركة وتفاصيلها وقابل الشيء بآخر فوجد ما ظهر بعدئذ أنه الحق الذي لا ريب فيه من أن مينوسيوس لم يحرز نصرا.
واتضح له من ذلك أن مينوسيوس قد خسر نحو خمسة أو ستة آلاف رجل، وأن هنيبال لم يخسر أكثر من ذلك، وأظهر فابيوس للمجلس أن البلاد لم تحرز ميزة ولا ربحت شيئا، وألح فابيوس على المجلس بوجوب اتباع الخطة التي رسمها هو من بدء تعيينه، وأبان له الخطر الكبير الذي ينجم عن المجازفة والمفاداة بكل شيء في معركة واحدة كما قد فعل مينوسيوس، ذلك فضلا عن أن مينوسيوس قد عصى أوامره التي كانت واضحة، ولا تأويل فيها وأنه مستحق للعزل والرجوع إلى رومية.
فأغضب كلام فابيوس أعداءه وسل سخائمهم، وأثار نيران غضبهم عليه، فقالوا: «دونكم رجلا لا يقاتل الأعداء الذين أرسل ليبطش بهم ولا يدع غيره يقاتلهم؛ حتى إنه في هذا الحين وهو بعيد عن الجيش، وعندما انتصر وكيله في القيادة على الأعداء ما برح ينكر حقيقة ذلك الانتصار، ويحاول الغض من مقدرة مينوسيوس وإنكار كل ميزة حصلت من ذلك النصر الذي أحرزه، فهو يريد إلقاء العثرات في سبيل الحرب؛ وذلك لكي يتمتع بالقيادة العليا والسيطرة على البلاد التي منحناه إياها إلى وقت طويل.»
وبلغ النفور من فابيوس حدا حمل الناس على عقد اجتماع طلبوا فيه بإجماع الرأي جعل مينوسيوس مساويا له في القيادة. على أن فابيوس لم يتريث في رومية لحضور البحث في هذا الأمر بل غادرها حالما انتهى الأمر الذي حضر لأجله، وسار يريد المعسكر فلحقه رسول وهو على الطريق يحمل إليه كتابا يتضمن قرار الشعب الذي يقضي عليه باعتبار مينوسيوس زميلا له ومساويا له في كل أمر، وسر مينوسيوس مما قر عليه رأي الأمة دون ريب، وقال عند سماعه ذلك: «الآن سنرى ما الذي نستطيع القيام به.»
والمشكل الأول الذي بدا له في شأن ذلك القرار هو مسألة اقتسام السلطة، وكيفية تحديدها لكل منهما، فقال مينوسيوس لفابيوس: «إننا لا نستطيع كلانا تولي القيادة، بل يمكننا تبادلها بالتعاقب فيتولاها كل منا يوما أو أسبوعا أو شهرا، أو المدة التي تفضلها أنت.» فأجاب فابيوس وقال: «لا، لا، إننا لا نقتسم الوقت بل نقتسم الرجال، فالجيش مؤلف من أربع كتائب تأخذ أنت اثنتين منها، وأنا أتولى قيادة الكتيبتين الباقيتين، فلعلي بذلك أتوفق إلى إنقاذ نصف الجيش من الأخطار التي أخشى أن تندفع أنت والجيش الذي بقيادتك في غمراتها.»
فاتفق الاثنان على هذا، وقسم الجيش نصفين، وراح كل قسم بقائده إلى معسكر منفرد، وكانت النتيجة من أعجب وأغرب الحوادث الحربية وأندرها وقوعا في تواريخ الشعوب؛ فقد شعر هنيبال الذي كان وقف على كل ما جرى بأن مينوسيوس قد أصبح تحت رحمته؛ إذ عرف أن هذا القائد تائق إلى خوض معركة وأنه من السهل على هنيبال أن يجره إليها تحت الظروف الملائمة له، والتي يجعلها غير ملائمة لمينوسيوس، وهكذا أخذ يتحين الفرص حتى سنحت ووجد مكانا يصلح لكمين على مقربة من معسكر مينوسيوس، فأقام في ذلك المكان خمسة آلاف رجل تسترهم هنالك الصخور والأشجار عن الأنظار.
وقامت بين هذا المكان وبين معسكر مينوسيوس رابية عظيمة، فلما أعد هنيبال الكمين أرسل نفرا من جنده ليستولي على أعالي الرابية متوقعا من مينوسيوس إرسال قوة أعظم منها لتطاردها، فصح ما توقعه هنيبال من هذا القبيل، وعندها أرسل هنيبال مددا لرجاله فقابله مينوسيوس بمثل ذلك وأرسل مددا لجنوده مدفوعا إلى ذلك بالغيظ والكبرياء، وبهذه الطريقة استدرج هنيبال عدوه إلى إرسال كل جيشه، وعندها أصدر أمره إلى رجاله بالانسحاب من أمام جيش مينوسيوس، فلحقهم جيش مينوسيوس حتى نزل الرابية من الجانب الثاني؛ بحيث أصبح أمام الكمين ومحاطا به من كل ناحية، فهب الخمسة آلاف رجل الكامنون دفعة واحدة وأعملوا السيف في رقاب الرومانيين الذين اختل نظامهم ووقعوا في ارتباك عظيم، فطلبوا النجاة من كل ناحية فارين من أمام أعدائهم الذين سدوا عليهم مسالك الخلاص، ولولا تدخل فابيوس وإغاثته إياهم لما بقي منهم أحد، فقد اتصلت به أخبار المعركة وهو في معسكره، فجرد الرجال وسار بجموعه ووصل ساحة القتال في وقته، وتصرف تصرف القائد المدرب فبدل الحالة بالكلية، ونجا مينوسيوس ونصف جيشه من الهلاك المحتم.
وتراجع القرطجنيون بدورهم واستاء هنيبال كثيرا وتولته الحفيظة والغيظ؛ لأنهم حرموه فريسته، ويقول التاريخ: إن مينوسيوس قد تصرف بعقل ورزانة بعد هذا؛ إذ اعترف بأخطائه وانصاع منذ تلك الوقعة لإرشاد فابيوس وعمل بآرائه. ولما وصل إلى حيث كان معسكرا جمع قسمه من الجيش وقال لهم: «أيها الجنود، لقد كنت أسمع على الدوام أن أوفر الناس حكمة هم أولئك الذين أحرزوا الحكمة والفطنة بذاتهم، ويتلوهم في ذلك أولئك الذين يدركون ذلك فيهم، ويميلون إلى الاسترشاد بحكمة الآخرين وفراستهم، أما الذين لا يعرفون كيف يسترشدون ولا يميلون إلى العمل بما يشير عليهم أهل الفطنة، فأولئك هم الحمقى ونحن لسنا من هذه الطبقة الأخيرة، وما دمنا لم نبرهن عن أنفسنا أننا من المرتبة الأولى التي ذكرتها فلنكن من الثانية، والآن فلنسر إلى معسكر فابيوس ونضم معسكرنا إلى معسكره، كما كنا قبلا فنحن مدينون له ولجيشه بالمنة الأبدية ؛ لما أبداه من نبالة الروح بإسراعه لنجدتنا وإنقاذنا من الهلاك المحتم، في حين أنه كان قادرا على غض الطرف عنا وتركنا لقمة سائغة للعدو.»
فسارت الكتيبتان إلى معسكر فابيوس، وهناك تم الاتفاق بين قسمي الجيش الروماني وتوحدا، فأحرز فابيوس منتهى الكرامة والإجلال العمومي، على أن مدة سيطرته انتهت بعد ذلك بقليل، وكان الخوف من هنيبال قد تلاشى إلا قليلا، فلم يعد ثم من حاجة إلى تجديد السيطرة المطلقة، فعاد الشعب إلى انتخاب القناصل كالأول.
وقد أحرزت سجايا فابيوس أعظم إعجاب وتقدير من الجنس البشري بأسره، فهو قد برهن في كل ما أقدم عليه عن روح نبيلة وشرف صميم، وكان آخر أعماله من أعظم الأدلة على ذلك، وهو أنه كان قد اتفق مع هنيبال على أن يدفع إليه مبلغا معلوما من المال كفدية لعدد من الأسرى الذين وقعوا في أسر هنيبال، فأطلقهم هنيبال بناء على وعد فابيوس بأداء المال، وكان فابيوس على يقين من أن الرومانيين يوافقون على المعاهدة ويدفعون المال في الحال، إلا أنهم استنكروا ذلك وترددوا في العمل بما تعهد به فابيوس، أو أنهم تظاهروا بعدم رضاهم عن ذلك؛ لأن فابيوس لم يشاورهم في الأمر قبل عقد المعاهدة.
فلما رأى فابيوس منهم ذلك باع حقله؛ لكي يتوفر له المال اللازم فيصون شرفه وشرف بلاده من وصمة كسر العهود، وهو بعمله هذا الدال على روح العدل والأنفة التي عرفت عنه قد صان شرفه وبر بوعده، على أننا نشك فيما إذا كان ذلك العمل قد صان شرف الشعب الروماني.
الفصل التاسع
معركة كانيه
كانت معركة كانيه آخر المعارك الكبرى التي خاض هنيبال غمراتها في إيطاليا، وشغل هذا العراك فسحة غير يسيرة من التاريخ، ليس فقط لطول مدته وهوله والتفاني الذي بدا من الجانبين في وقعاته؛ بل لما رافقه من الحوادث المتناهية في اللذة والباعثة على الإعجاب، إلا أن اللذة فيما نظن متأتية على الغالب من براعة المؤرخ في تنظيم تلك الرواية الحربية، وكيفية سردها أكثر منها عن الحوادث الحربية بالذات.
نشبت هذه المعركة قبل ختام مدة سيطرة فابيوس بنحو سنة، وقد قضى قناصل رومية المدة المعترضة بين انتهاء سيطرة فابيوس، وشبوب نيران المعركة في القيام بحركات عسكرية متعددة لم تكن ذات نتائج جديرة بالذكر، وكان القلق والضجر والتذمر وغير ذلك من دلائل الاستياء شاملة لرومية؛ ذلك لأن وجود مثل هذا القائد القاهر في ضواحي رومية مع أربعين ألفا من رجاله يعتدي على مقاطعات حلفاء رومية، ويهدد المدينة نفسها بالهجوم قد كانت من دواعي القلق الدائم والخوف المستمر.
وتلك الأهوال المروعة التي أحدثها قد عملت على الغض من كرامة رومية وخفض كبرياء الرومانيين، ولا سيما أنهم كانوا مهما حشدوا من الجيوش، وأقاموا من القواد المعروفين بالدربة والحنكة غير قادرين على كبح جماح ذلك العدو ومقاومة هجماته، حتى إن أعظم وأقدر قوادهم في الواقع قد شعر بضرورة اعتزال منصب القيادة، والإصرار على عدم منازلة هنيبال في معركة ما بالكلية.
فأحدثت هذه الحالة استياء شديدا في المدينة، وهب الأحزاب إلى الطعن والانتقاد يوجهه واحدهم إلى الآخر، وقام الناس بعقد اجتماعات عديدة كان معظمها مسرحا للهياج الكثير والضوضاء والمجادلات واللوم والتعنيف، وكل يتهم الآخر بالعجز والإهمال والتراخي، وعلى أثر ذلك قام في الشعب حزبان تألف أحدهما من العامة على الجانب الواحد، والآخر من الخاصة على الجانب الثاني، وأطلق على الحزب الأول حزب العوام وعلى الثاني النبلاء.
وكان بين الحزبين تباعد عظيم في الآراء أقصاهما عن الاتفاق، وأوجد صعوبة كلية في انتخاب القناصل، أخيرا انتخب القناصل واحدا من كل حزب، فكان اسم القنصل المنتخب من النبلاء بولس أميليوس واسم قنصل العوام فارو، استلما زمام الحكومة ومنحا قوة لا حد لها لو تم لها الاتحاد والعمل بقلب وفكر واحد لأتت بالعجائب، ولكن القنصليين لسوء الحظ كانا عدوين سياسيين لدودين، وكان هذا الخلاف كثير الحدوث في الحكومة الرومانية، فالقنصلية كانت حيوانا ذا رأسين ينفق نصف قوته في المقاومة بين شطريه على الدوام.
وصمم الرومانيون على إجهاد نفوسهم في سبيل التخلص من عدوهم، فحشدوا جيشا جرارا مؤلفا من ثماني كتائب ، والكتيبة الرومانية لذلك العهد كانت جيشا قائما بنفسه تحتوي على أربعة آلاف جندي من المشاة وثلاثمائة فارس، ولم يكن من عادتهم إنزال أكثر من كتيبتين أو ثلاث كتائب إلى المعمعة في وقت واحد، على أن الرومانيين في هذه المرة قد خالفوا القاعدة المتبعة بأن أنزلوا إلى ساحة الوغى كتائب أكثر مما كانوا يفعلون في الماضي، وزادوا عدد كل كتيبة خمسة آلاف من المشاة وأربعمائة من الفرسان.
فهم قد أرادوا القيام بما ضمن لهم سلامة مدينتهم ووقاية بلادهم من الدمار والعبودية، ولو مهما كلفهم ذلك، وتأهب القنصلان أميلوس وفارو لاقتياد هذا الجيش اللهام مصممين على جعله من كل وجه واسطة للبطش النهائي بهنيبال، وكان القنصلان مختلفين في السجايا والخلال كما اختلفا في مراميهما السياسية يبدي كل منهما روحا معاكسة لروح الآخر، فإن أميليوس كان صديقا لفابيوس مستحسنا لخطته وسياسته، أما فارو فكان عجولا حاد المزاج بعيدا عن كل ترو.
فهو قد قام بوعود كثيرة مآلها أنه سوف يبطش بهنيبال ويقضي على قوته بضربة واحدة، وقبح خطة فابيوس الذي حاول إنهاك قوى العدو بالإبطاء والتأجيل، وصرح فوق هذا بأن الطبقة النبيلة من الرومانيين تعمل بخطة يراد بها إطالة مدة الحرب بقصد الحصول على الوظائف السامية، والطموح إلى إبداء الأهمية والنفوذ، وأنه لولا ذلك لانتهت الحرب من زمان طويل؛ ولهذا فهو يعد الشعب بإنهائها الآن على عجل وبلا تأخير، وفي نفس اليوم الذي تقع عينه فيه على هنيبال.
أما أميليوس فأبدى نغمة أخرى تدل على التروي والاعتدال، وقال إنه معجب من سماع أي إنسان يدعي الاقتدار على أمر قبل أن يترك المدينة، وهو في الوقت نفسه يجهل كفاءة جيشه وكفاءة جيش العدو وتدابيره، ولا يدري متى وتحت أية الظروف يكون النزول معه في معركة ملائما؛ ولهذا فيقول أميليوس إن الخطط يجب أن تبنى على الظروف؛ لأنه ليس في الإمكان جعل الظروف موافقة للخطط.
ومع هذا يعتقد بإمكان تفوقهم، بل بوجوب تفوقهم على هنيبال في حومة القتال، ولكن أملهم في ذلك وبنجاح تدابيرهم يجب أن يكون مبنيا على التأني والحذر والفطنة؛ لأنه موقن بأن التهيج والاندفاع والطيش تؤدي بهم في مقبل الأيام إلى الفشل والخيبة، كما كانت الحال في الماضي.
ويقال إن فابيوس المسيطر السابق قد تحدث مع أميليوس قبل ذهاب هذا الأخير إلى الجيش، وأبدى له من النصائح ما أوحت به إليه سنه وحنكته وتجاربه، وما يعلمه من سجايا هنيبال وتدابيره، وقال له: «لو كان لك زميل مثلك لما كنت أقدم لك النصيحة؛ لأنك لا تكون إذ ذاك في حاجة إليها، ولو كنت أنت مثل زميلك طائشا ومنخدعا بالذات وكثير الدعوى؛ لكنت أسكت عن النصح والإرشاد لاعتقادي بأنهما يروحان ضياعا، ولكن إذا كانت الحالة على ما أرى وأنت حاذق فطن ولك من درايتك ما يرشدك، فإنك من الجهة الأخرى ستكون في مراكز محفوفة بالخطر والصعوبات العظيمة.
والذي أراه - إن لم أكن مخطئا - هو الصعوبة الكبرى التي ستواجهها ليست هي العدو الذي ستنازله في ساحة القتال، بل ستجد أن زميلك فارو سيتعبك كما يتعبك هنيبال نفسه؛ إذ يكون كثير الصلف والخيلاء عنيدا ومتطرفا في المخاطرة، وهو سيبعث في صدور الشبان الذين في الجيش روح التهجم بجهله وتطرفه، فيحمله على ما لا يجوز، ويكون حظنا عظيما إذا كانت مشاهد عراك بحيرة تراسمين الدموية لا تعاد مرة أخرى بسببه.
وأنا على يقين من أن السياسة الحكيمة التي يتعين علينا العمل بها هي تلك التي رسمتها أنا، فهي الطريقة الوحيدة التي يجب أن يجري عليها الذين يحاربون في عقر دارهم تجاه مهاجميهم، إذا كان هناك أقل شك في نجاح العراك، فنحن بالإبطاء نزداد قوة بينما هنيبال يزداد ضعفا، فهو يبقى مغتبطا ما دام معاركا وقائما بخوارق الحركات الحربية، فإذا حرمناه هذه القوة تنحل صولته مع الأيام وتضعف شجاعة رجاله وينفد نشاطهم، ولا يوجد معه الآن سوى ثلث الجيش الذي كان معه يوم عبر نهر إيباروس، ولا يوجد شيء في العالم ينقذ هذه البقية الباقية من جيشه من الهلاك إذا كنا حكماء.»
فأجاب أميليوس على هذا بقوله أنه رضي بالدخول تحت أعباء هذه المسئولية بشجاعة قليلة واليسير من الرجاء؛ لأنه إذا كان فابيوس قد وجد صعوبة كلية في احتمال تصلف رئيس فرسانه الذي كان دونه في الوظيفة وتحت إمرته، فكيف يأمل هو التمكن من كبح جماح زميله الذي تخوله الوظيفة حق المساواة به من كل وجه؟ ولكنه بالرغم من هذه المصاعب والمثبطات التي يراها أمام عينيه؛ فإنه سيقوم بالواجب عليه ويرضى بالنتيجة، فإذا جاءت النتيجة على خلاف ما يتمنى؛ فإنه سوف يحاول الموت في المعترك لأن موته بحراب جنود قرطجنة أخف شرا في عرفه من غضب مواطنيه وتعنيفهم.
فغادر القنصلان رومية للانضمام إلى الجيش، وكانت حاشية أميليوس مؤلفة من عدد معتدل من الرجال من أرباب المقامات والرتب، أما فارو فقد استصحب من هؤلاء جمعا غفيرا، ولكنهم من أسافل القوم وغوغائهم، فتنظم الجيش وأكملت التدابير لمعسكراته وعندئذ أقيمت حفلة تحليف الجنود اليمين؛ جريا على عادة الرومانيين عند مباشرتهم حربا.
فكان الجنود يحلفون اليمين متعهدين بأنهم لا يفرون من الجيش، ولا يبارحون المراكز التي يعهد إليهم في حراستها من خوف أو هزيمة، وألا يتركوا الصفوف إلا لجلب السلاح أو لاسترجاعه أو لضرب عدو أو لحماية صديق، وعند الفراغ من هذه التدابير وغيرها أصبح الجيش على قدم الزحف، واتفق القنصلان على اقتسام السلطة بطريقة تختلف عن التي عمل بها فابيوس وفلامينيوس؛ فكان اتفاقهما على أن يتولى كل واحد منهما السلطة يوما واحدا بالتعاقب.
وفي غضون ذلك كان هنيبال يعاني البلاء المر في إيجاد أقوات لرجاله، فإن سياسة فابيوس ضيقت عليه المسالك التي كانت تزداد ضيقا يوما عن يوم وتعرقل مساعيه، فلم يكن يستطيع الحصول على القوت إلا إذا طلبه بالسلب والنهب، حتى إن ذلك كان متعذرا عليه في هذا الحين؛ لأن الأهليين كانوا قد جمعوا كل الحنطة واختزنوها في بلدان قوية التحصين، ومع اقتدار هنيبال وثقته بنفسه على منازلة الجيش الروماني في معركة نظامية وفي ساحة مفتوحة والتفوق عليه؛ فهو قد كان عاجزا عن خرق الحصون وتدمير المعاقل.
وكان القوت الحاضر لديه قريبا من النفاد، حتى إنه لا يكفي جيشه لأكثر من عشرة أيام، ولم ير وسيلة للاستزادة منه، ومن أجل هذا كان تائقا إلى جر العدو للعراك، فالقنصل فارو كان ميالا شديد الرغبة في إجابته إلى ما يريد، ولكن بولس أميليوس كان ميالا إلى اتباع الخطة التي سلكها فابيوس إلى أن تنتهي العشرة أيام؛ لعلمه أن هنيبال يصبح عندئذ في أشد الضيق وقد يضطر إلى التسليم لينقذ جيشه من غائلة الجوع.
وفي الواقع أن أرزاق الجند أصبحت قليلة إلى حد كثرت عنده الشكوى والتذمر، وهم كثيرون من الجنود الإسبانيين بمغادرة جيش هنيبال والفرار إلى معسكر الرومانيين، وظلت الحال كذلك إلى ذات يوم أرسل فيه هنيبال جماعة من رجاله في طلب القوت، وكان أميليوس ذلك اليوم متوليا القيادة فوجه قوة من جيشه لتمنعهم من ذلك، فأدرك بهذا ما أمله من النجاح، ولقيت جماعة هنيبال اندحارا مشئوما.
فقتل منها نحو ألفي رجل وهرب الباقون في كل سبيل وجدوه عائدين إلى معسكر هنيبال، وكان فارو شديد الرغبة في ملاحقتهم إلى هناك، ولكن أميليوس أمر رجاله بالكف عن ذلك؛ لأنه كان خائفا من مكيدة أو حيلة مدبرة من هنيبال للفتك بهم، فاكتفى بما أحرزه من الفوز في تلك الوقعة، وكان هذا الفوز عاملا على إلهاب صدر فارو بالشوق إلى العراك وإثارة روح الإقدام في الجيش كله، وقد حدث بعد يوم أو يومين ما أوصل تلك الحدة إلى أرفع الدرجات.
فإن بعض الكشافة من الجيش الروماني الذين كانوا قائمين مقابل معسكر هنيبال؛ لملاحظة ما يدور فيه أبلغوا القنصلين أن حراس الجيش القرطجني القائمين حول المعسكر قد اختفوا فجأة، وأن قد ساد سكوت عظيم في المعسكر القرطجني بجملته الأمر الذي كان من خوارق العادة في المعسكرات.
فتقدمت جماعات من الجيش الروماني بكل تؤدة وحذر إلى أن تدانت من صفوف القرطجنيين، فعرفوا لفورهم أن المعسكر قد خلا من الجنود مع أن الخيام كانت لا تزال باقية والنيران مضطرمة، فكان ذلك باعثا على هياج الجيش الروماني برمته واضطرابه ، فتألب الجنود حول مضارب القنصلين وهناك طلبوا بإلحاح السماح لهم بالزحف على معسكر الأعداء والاستيلاء عليه، وملاحقة الجيش القرطجني قائلين: إن القرطجنيين قد لاذوا بالفرار، وما دام هنيبال قد ترك خيامه ونيرانه مضطرمة فهو يريد مخادعتنا؛ لكيلا نتبعه فلنسرع في اللحاق به في الحال.
وكانت حدة القنصل فارو مماثلة لحدة الجنود وهو يدعو إلى القتال متهوسا، أما أميليوس فكان مترددا وألقى على الجنود أسئلة عديدة مستفهما، وأخيرا دعا إليه ضابطا اسمه ستاتليوس معروفا بالدراية والفطنة، وأمره باقتياد طائفة من الفرسان والذهاب إلى المعسكر القرطجني والوقوف على الحقيقة والرجوع إليه بالخبر اليقين، ففعل ستاتليوس كما أمره أميليوس، فلما تدانى من معسكر هنيبال أمر جنوده بالوقوف، واستصحب فارسين يعتمد على شجاعتهما وقوتهما وتقدم.
فاقترب الفرسان الثلاثة من المعسكر القرطجني، وفحصوا كل شيء للاستيقان مما إذا كان هنيبال وجيشه قد غادروا المكان أو أن في الأمر مكيدة مقصودة. ولما عاد الضابط إلى رئيسه قال إنه يعتقد بأن إخلاء المعسكر لم يكن حقيقيا؛ بل حيلة مدبرة لإيقاع الرومانيين في حباله، فإن أعظم النيران المشتعلة كانت على الجانب المقابل لمعسكر الرومانيين مما دل على أن إيقادها على تلك الصورة كان مقصودا به الخديعة.
وقال أيضا إنه رأى نقودا وأشياء أخرى ذات قيمة مبعثرة في أرض المعسكر، مما أقنعه بأنها ألقيت كذلك بمثابة شرك، وليست مما قد ترك بعد فرار أصحابه للتخفيف عنهم، فلم يقتنع فارو بذلك، وعندما سمع الجيش بالمال المتروك في المعسكر زاد تحمسه، واشتدت رغبته في النهب إلى حد العصيان، حتى أصبح أمر رده عن ذلك من الصعوبة بمكان.
وفي غضون ذلك أقبل على معسكر الرومانيين عبدان رقيقان كانا قد وقعا أسيرين في قبضة القرطجنيين قبل ذلك، فأخبرا القنصلين بأن الجيش القرطجني مختبئ بجملته في مرصاد قريب من هناك، وهو يتوقع دخول الجيش الروماني في معسكره الذي غادره، وعندئذ يحيط به من كل جانب ويفتك برجاله، وقالا إنهما قد تمكنا من الفرار في وسط الضجة التي حصلت من انتقال القرطجنيين إلى حيث اختبئوا .
فاقتنع الرومانيون بما سمعوه ورجعوا عن قصدهم مستائين وقد خابت منهم الآمال، وكذلك هنيبال الذي خاب مسعاه واغتاظ كثيرا عاد إلى معسكره، ووجد بعد ذلك بقليل أنه غير قادر على البقاء طويلا هناك؛ فإن الأقوات التي معه قد نفدت وهو غير قادر على جلب غيرها، وأن الرومانيين لا يخرجون من معسكرهم لينازلوه في ساحة منفرجة، وهم متحصنون في ذلك المكان بحيث يعجز عن مهاجمتهم في مواقفهم، فقر رأيه على مغادرة تلك الجهة من البلاد والانتقال بسرعة إلى ناحية أكويلا.
وأكويلا هذه واقعة على الجانب الشرقي من إيطاليا يجري في وسطها نهر اسمه أفيدوس، وعلى مقربة من مصبه بلدة اسمها كانيه، وكان إقليم نهر أوفيدوس عبارة عن واد دافئ معرض للشمس وفيه الشيء الكثير من مزارع الحنطة التي اقترب وقت حصادها، فأعجبه توجهه إلى ناحية الجنوب حيث تكون المحصولات أقرب إلى النضج بتأثير الشمس من أي مكان، فيتسنى له إذ ذاك أن يمأن جيشه ويوفر له ما يحتاجه.
وعلى هذا صمم على ترك المكان الذي عسكر فيه والانتقال إلى أكويلا، وجرى على نفس طريقته التي عمل بها من قبل لمخادعة الرومانيين، فترك خياما منصوبة ونيرانا مشتعلة وسير جيشه ليلا تحت جنح الظلام بكل هدوء وسكينة؛ بحيث لم يشعر الرومانيون بتركه ذلك المكان، وفي اليوم التالي عندما بدت لهم مظاهر خلو المعسكر القرطجني من الرجال، ظنوها خدعة أخرى فلم يأتوا بحركة.
أخيرا اتصلت بهم أخبار تفيد أن جيشا كبيرا هو جيش هنيبال - دون ريب - يسير على عجل مثقلا بأحماله إلى الشرق بعيدا منهم، فبعد الجدال الطويل والتردد الكثير عول الرومانيون على اللحاق به، وهكذا كانت نسور جبال أبنين تنظر من العلاء جماهير غفيرة من الجنود تزحف بين الغابات سائرة إلى حيث تلحق بجماهير أخرى سبقتها، فإذا سارت تلك سارت هذه، وإذا وقفت وقفت.
وتدانى جيش الرومانيين من جيش هنيبال إلى أن واجهه على نهر أوفيدوس قريبا من كانيه، فعسكر الجيشان هناك استعدادا للقتال، وكانت لهما ضجة وجلبة شأن سائر الجيوش التي تكون آخذة في الاستعداد للقتال في ثاني الأيام وهي قريبة بعضها من بعض. على أن الضجة الكبرى كانت في المعسكر الروماني التي تفاقمت هناك؛ لاختلاف حصل في الرأي بين القنصليين وأشياعهما على أفضل خطة يعمل بها الجيش الروماني في محاربة الجيش القرطجني.
فالقنصل فارو أصر على منازلة القرطجنيين في الحال ولكن أميليوس أبى ذلك، فقال له فارو إنه يحتج بكل قوته على ذلك الإهمال الذي لا عذر لهما في العمل به ويصر على مكافحة الأعداء، وإنه لا يوافق قطعيا على أن يكون بعد ذلك مسئولا عن إبقاء إيطاليا منطرحة أمام ذلك العدو الفاتح، فأجابه أميليوس قائلا إنه إذا أصر على القيام بمعركة فهو أيضا يتبرأ من كل تبعة تتأتى عن نتيجة تلك المعركة.
واشترك رجال المعية في الجدال؛ فمنهم من كان على رأي هذا القنصل ومنهم من أيد ذاك، ولكن الأكثرية ناصرت فارو، ومن أجل هذا امتلأ المعسكر صياحا وحدة متناهية أدت إلى الشحناء، وكان سكان هاتيك الأنحاء في الوقت نفسه يفرون هاربين من أوطانهم بعد مشاهدة هذه الجموع الغفيرة ذات الهيئات الشرسة الواقفة متقابلة استعدادا للعراك الذي توقعوه، وأنه سيكون هائلا للغاية، وقد أخذوا معهم ما استطاعوا حمله من ممتلكاتهم، وساروا بنسائهم وأولادهم إلى مسافات مختلفة إنقاذا لهم من شر المعركة التي أوشكت رحاها أن تدور، فوضعوهم في الجبال والكهوف.
وكان أولئك الهاربون من وجه الجيشين يحملون أخبار العراك القادم إلى حيث يصلون، فدرت إيطاليا بجملتها بقرب اقتتال الجيشين، وأصبح الناس يتوقعون بفارغ الصبر نتيجة المعركة المنتظرة، وتمرنت الجيوش مدة يوم أو يومين استعدادا للنزال، فكان فارو في يوم قيادته يعد كل شيء ويحث الجنود على بذل منتهى الجهد في القتال، وأميليوس في يوم قيادته يعاكسه عاملا بكل قوته على التأجيل والإبطاء.
ولكن القنصل فارو فاز عليه وأقنع الجيش بأفضلية تعجيل المعركة، فهيأ الصفوف تأهبا للشروع في العراك، أما القنصل أميليوس فكان لا يزال معارضا لفارو في الابتداء بالقتال، ولكنه لما غلب على أمره في ذلك أخذ في إعداد ما يساعد على الفوز، ويقلل بواعث الانخذال علما منه بأن الحرب واقعة لا محالة، وابتدأت المعركة على صورة نترك للقارئ تصورها؛ لأن القلم يعجز عن وصفها.
فهناك جيش عدده خمسون ألفا واقف مقابل جيش عدده ستة وثمانون ألفا؛ الأول جيش هنيبال والثاني الجيش الروماني. وقد اشتبكا معا في تقتيل بعضهما بعضا مدة ست ساعات، وفي رواية دائرة المعارف ثماني ساعات ضربا بالسيوف وطعنا بالخناجر وغير ذلك من أدوات قتال ذلك الزمان، بين ضجيج وصياح وعداء وألم وأنين كلها ممتزج معا في ساحة واحدة اهتزت لما يجري فيها جوانب تلك الأرض التي دارت فيها المجزرة على مسافة أميال عديدة، فهيأت مشهدا مرعبا لا يدركه إلا الذي رأى مثل هذه المعارك العظيمة، وما يجري فيها من الهول والويل والتقتيل.
وكأننا بهنيبال لا يستطيع إتيان أمر من الأمور بدون خدعة حربية، فهو قد أرسل في بدء المعركة قطعة من جنوده إلى صفوف الرومانيين تظاهرا بأنهم قد هجروه وفروا من جيشه؛ ليلتحقوا بالأعداء، وعند وصولهم إلى صفوف الرومانيين ألقوا حرابهم وتروسهم على الأرض إشارة إلى تسليمهم، فرحب الرومانيون بهم وفتحوا لهم سبيلا اجتازوه إلى ما وراء الجيش الروماني، وأمروهم بالبقاء هناك.
وبما أنهم كانوا بلا سلاح لم يتركوا عندهم من الحراس سوى عدد قليل، على أن أولئك المخادعين كانوا مسلحين تحت الثياب بخناجر، فقعدوا ينتهزون الفرصة الملائمة حتى إذا حمي وطيس المعركة على أشده هبوا من مجاثمهم وأفلتوا من حراسهم، وهاجموا الرومانيين من الوراء عندما بدا لهم أن الجيش القرطجني قد شد على الجيش الروماني، وأبلى فيه البلاء الحسن من الأمام حتى إنه لم يستطع الثبات في وجه صدماته.
واتضح بعد ذلك أن الجيش الروماني قد أخذ يتضعضع في كل مكان ويتراجع، وكان تراجعه في أول الأمر بطيئا وبشيء من التأني فأصبح بعدئذ أشبه بالهزيمة، وفي فرار الجنود كان الجرحى والضعفاء من الجنود يداسون تحت أقدام المنهزمين خلفهم، أو كانوا يصرعون بضربات شديدة تنقض عليهم من رجال العدو الذين كانوا يجدون في اللحاق بالجند المنهزم ، وفيما كان أحد الضباط الرومانيين منهزما في غضون ذلك المشهد الهائل أبصر عن بعد ضابطا آخر جالسا على حجر، والدم يتدفق منه وهو على وشك الإغماء.
فلما وصل إليه وقف وتأمله فوجد أنه القنصل أميليوس، فعرض الضابط واسمه لنتولوس جواده على القنصل ليمتطيه وينجو بنفسه، فأبى القنصل أميليوس ذلك قائلا إن وقت إنقاذ حياته قد فات، ذلك فضلا عن أنه لا يريد البقاء حيا، ثم قال «اذهب أنت ذاتك بأسرع ما تستطيع وما يجري بك الجواد إلى رومية، وأخبر الحكومة هناك عن لساني أننا قد خسرنا كل شيء، وقل لهم أن يتأهبوا ويعدوا ما أمكن من الوسائل للدفاع عن المدينة، أسرع يا ولدي جهد إمكانك؛ وإلا سبقك هنيبال إلى بوابات المدينة.»
وأوصى أميليوس ذلك الضابط ليقول لفابيوس: إن الذنب ليس ذنبه في المخاطرة بمحاربة هنيبال؛ لأنه قد بذل الجهد في الحئول دون ذلك عاملا في المقاومة بإرشاد فابيوس الذي بقي يرن في أذنيه إلى آخر دقيقة، فاحتمل لنتولس الرسالتين وسار مسرعا، وكان القرطجنيون جادين في أثره وقد ترك القنصل يموت في مكانه، ووصل القرطجنيون فرأوا أميليوس على وشك الاحتضار فشكوا حرابهم في جسمه الواحد بعد الآخر، وهم يمرون من أمامه إلى أن لم يبق فيه حراك.
أما القنصل الآخر فارو فنجا بحياته هاربا مع حرس من سبعين فارسا إلى بلدة محصنة لا تبعد كثيرا عن ساحة المعركة، وأعمل الفكرة هناك في لم شعث جيشه المتبدد، وإعادة تنظيمه في تلك البلدة، وأما القرطجنيون فإنهم عندما رأوا النصر كاملا لم يلاحقوا أعداءهم بل عادوا إلى معسكرهم، وصرفوا عدة ساعات في تبادل المسرات والتهانئ، ثم اتكئوا وناموا؛ لأنهم كانوا منهوكي القوى من التعب الناجم عن شدة جهادهم في المعركة ذلك اليوم.
وكانت ساحة المعركة عندئذ ملأى بالقتلى والجرحى الذين بقوا الليل بطوله منطرحين مع الذين صرعوا، وهم يئنون من الآلام ويبكون مما أصابهم من الروع والجراح، وفي ثاني الأيام ذهب القرطجنيون إلى ساحة القتال بقصد نهب أجساد الرومانيين الذين صرعوا هنالك، وكان منظر تلك الساحة مما تعافه النفوس وتقشعر لهوله الأبدان. هناك كنت ترى جثث الخيل والناس مترامية بعضها فوق بعض، ومن المنطرحين هناك من فارق الحياة ومنهم من بقي فيه رمق يصيح ويستغيث متألما يطلب أن يعطى جرعة ماء ينقع بها الغليل، فلا يجيبه أحد أو يجذب جسمه شيئا فشيئا للانسحاب من تحت أثقال الجثث الملقاة فوقه.
وكأن القرطجنيين الذين أصبح بغضهم للرومانيين مرا شديدا، لم يكتفوا بما أحدثوه من القتل وسفك الدماء بذبح أربعين ألفا من أعدائهم في عراك واحد؛ ولهذا زادوا عليه شيئا من نقمتهم فكانوا يطعنون أولئك الجرحى المنطرحين في تلك الساحة بحرابهم، ويعذبونهم بطرق مختلفة متخذين ذلك وسيلة للتسلية، على أن عملهم هذا لم يحسب قسوة لأولئك الضحايا الأشقياء؛ لأن كثيرين منهم كانوا يتمنون الخلاص من عذابهم؛ ولهذا كان العدد الكبير من الجرحى يكشفون عن صدورهم لمريدي تعذيبهم ويتضرعون إليهم؛ لكي يضربوهم الضربة القاضية التي تنقذهم من آلامهم.
وفيما كان القرطجنيون يتجولون بين القتلى والجرحى عثروا على جندي قرطجني لا يزال حيا، ولكنه مقيد في مكانه بجسم جندي روماني ملقى فوقه، وكان وجه الجندي القرطجني وأذناه في تشويه مخيف ذلك؛ لأن الجندي الروماني عندما سقط فوقه بعد أن وقع كلاهما جريحين تابع الكفاح معه مستخدما أسنانه، عندما صار عاجزا عن استخدام سلاحه، ومات في آخر الأمر على صورة بقي فيها جسده ملقى فوق عدوه القرطجني المنحل القوى.
وأحرز القرطجنيون أسلابا كثيرة؛ إذ كان الجيش الروماني يحوي العدد الكبير من ضباط وجنود من النبلاء وأبناء الطبقات العليا، وكانت أسلحة هؤلاء وثيابهم ثمينة إلى الغاية، وجمع القرطجنيون أيضا كميات وافرة من الخواتم الذهبية التي انتزعوها من أصابع جرحى وقتلى الرومانيين وقتلاهم، فبعث بها هنيبال إلى قرطجنة علامة لانتصاره المبين.
الفصل العاشر
سيبيو
إن السبب الحقيقي في عدم التمكن من إيقاف هنيبال عند حد معلوم من انتصاراته الباهرة لم يكن حسبما ظهر متأتيا عن عدم اتباع الرومانيين سياسة حكيمة في مقاومته؛ بل هو ناجم عن عدم وجود قائد معادل له في الكفاءة إلى ذلك الحين، فإن كل قائد أرسل لمحاربته وجد بعد القليل من الوقت أنه غير كفء له، فقد كان هنيبال متفوقا عليهم جميعا بالتدريب العسكري، وقادرا على الظفر بهم بسهولة في حومة القتال.
ولقد كان من تصاريف القدر أن يظهر في رومية رجل مساو لهنيبال في المقدرة والدراية، وهو الشاب سيبيو الذي أنقذ حياة والده في معركة تسينيوس، وسيبيو هذا مع أنه ابن قائد بهذا الاسم هو من أعظم القواد الذين وقفوا في وجه هنيبال، إلا أنه لقب بسيبيو الأكبر؛ وذلك لظهور واحد بهذا الاسم بعده اشتهر بحروبه الهائلة التي شهرها على القرطجنيين في أفريقيا.
ولقد نال هذان الأخيران من الشعب الروماني لقب أفريقانوس؛ إكراما لما أدركاه من الانتصارات في أفريقيا، والقائد الذي نحن بصدده الآن قد سمي سيبيو الأكبر فقط، وأعمال سيبيو الباهرة عندما حاول صد هنيبال عند نهر الرون ونهر «بو» قد فاقتهما أعمال ابنه، وأعمال سيبيو الآخر الذي تلاه بحيث تناسى الناس سيبيو السابق بعد الذي رأوه من أعمال الاثنين الذين خلفاه؛ ولهذا أهملوه لكي يحتفظوا باسم هذين الأخيرين، فلا يكون ثمة التباس في تعريفهما في التاريخ.
ظهر سيبيو الذي نذكره الآن على مسرح الحروب الحالية كقائد إحدى الفرق بعد معركة كانيه فهو كان ضابطا وضيعا، وفي اليوم الذي تلا المعركة وجد نفسه في مكان اسمه كانوسيوم يبعد مسافة قصيرة عن كانيه على الطريق المؤدي إلى رومية، ومعه ضباط آخرون في مثل رتبته، وتحيط بهما فرق ممزقة من الجيش الروماني تجيء بعضها وراء بعض من ناحية المعركة تعبة محلولة القوى وفي أشد حالات اليأس.
وشاع في الناس أن القنصلين قد قتلا؛ ولهذا لم يكن هناك من يقود تلك الفلول من الجيش الروماني، فعقد أولئك الضباط اجتماعا للنظر في ذلك، وأجمع رأيهم على جعل سيبيو قائدا لهم في ذلك الوقت الحرج إلى أن يصل من هو أرفع منه في القيادة أو يأتيهم نبأ من رومية، وقد حدثت عندئذ حادثة دلت بما لا ريب فيه على ما اتصف به سيبيو الشاب من الشجاعة والإقدام.
ففي الاجتماع نفسه الذي عقد لجعله قائدا كان الكل متحيرين وقد شملهم الهم والارتباك، جاءهم أحد الضباط وأخبرهم أن قد عقد اجتماع في ناحية أخرى من المعسكر مؤلف من ضباط وجنود ذوي رتب عالية يرأسهم الضابط ماتيلوس، وقد قر رأيهم جميعا على ترك أمر الذود عن بلادهم يائسين وعلى القيام بما يوصلهم إلى الشاطئ، ويساعدهم على إيجاد عدة سفن يمخرون فيها البحر إلى وطن جديد يتخذونه في بلاد أجنبية؛ اعتقادا منهم بأن الأقدار قد قضت على بلادهم بالخراب المحتم.
وقال لهم ذلك الضابط: إني قد جئتكم بخبر ما جرى؛ لتجتمعوا معهم وتتفاوضوا معهم فيما الذي يجب علينا القيام به من هذا القبيل، فهب سيبيو من مجلسه وقال: «نجتمع للمفاوضة! إن الحالة لا تدعو إلى المفاوضة بل إلى العمل - إلى الفعل - فجردوا سيوفكم واتبعوني.» وإذ قال هذا سار يتبعه الكل إلى الاجتماع الذي يرأسه ماتيليوس، ودخلوا لفورهم إلى المكان الذي كان القوم مجتمعين فيه يتفاوضون، وهناك أمسك سيبيو مقبض سيفه، ولفظ بكل وقار يمينا معظمة قيد بها نفسه بألا يترك بلاده ولا يتخلى عنها في ساعة شدتها، ولا يسمح لأي روماني بالتخلي عنها.
وقال إنه إذا ارتكب ذنب الخيانة هذا؛ فإنه يسأل المشتري بأشد اللعنات أن يمحقه ويهلكه بالكلية هو وبيته وعائلته وأملاكه وجسده، ثم خاطب ماتيليوس قائلا: «والآن أطلب إليك وإلى من معك من الرفاق أن تقسموا اليمين التي أقسمتها أنا، ويجب عليكم أن تقسموا هذه اليمين في الحال وإلا كنتم مضطرين إلى الدفاع عن أنفسكم من شفار سيوفنا، ومن سيوف القرطجنيين أيضا.»
فانصاع ماتيليوس وجماعته وأطاعوا في الحال، ولم يكن انصياعهم ناتجا عن الخوف فقط، بل بقدر ذلك عن الرجاء، فإن شجاعة سيبيو والطريقة المهيبة التي خاطبهم بها بعد أن حلف اليمين قد أثارت فيهم روحا جديدة من الشجاعة، وبعثت في صدورهم الآمال بالتمكن من الدفاع عن بلادهم، وإنقاذها من صولة الأعداء الذين اجتاحوها.
وكانت أخبار الكسرة المشئومة التي أصابت الرومانيين قد بلغت رومية بسرعة، فأحدثت حزنا شاملا، وضجت المدينة من أقصاها إلى أقصاها؛ لأن الجيش كان مؤلفا من كل عائلة، فكل امرأة وكل والد قد نالهم من أخبار انسحاق الجيش الروماني المقعد المقيم، والمحزن على الأزواج والآباء والأبناء الذين قد صرعوا في المعترك، وزاد في طنبور الحزن نغمة قبيحة خوف شديد من أن هنيبال وجيشه الفاتح قد يدخل أبواب المدينة في كل ساعة فيبطش بهم جميعا.
وغصت شوارع المدينة ولا سيما ساحتها الكبرى بجماهير الناس من رجال ونساء وأولاد، وضج الفضاء بأصوات صراخهم ونحيبهم الناجم عن الذعر والاحتساب لنازلة جديدة تنقض عليهم، وعجز القضاة عن إعادة الطمأنينة إلى الصدور وإرجاع النظام والسكينة إلى نصابهما. أما مجلس الشيوخ فإنه انفض وأجل انعقاده؛ وذلك لكي يتوفر الوقت لأعضائه، فيتجولوا في المدينة ويبذلوا ما لهم من السلطة والنفوذ في إسكات الشعب عن الصياح، هذا إذا هم عجزوا عن إعادة الطمأنينة.
أخيرا خلت الشوارع من الناس وأصدرت الأوامر إلى النساء والأولاد بالبقاء في البيوت، فأرسلت طوائف من الجلاوزة في أنحاء المدينة؛ لكي يمنعوا تجمهر الناس وهياجهم، وبعد هذا عاد مجلس الشيوخ إلى عقد جلساته محاولا التؤدة والتروي الممكنين البحث فيما الذي يجب عليهم القيام به تحت الظروف الحاضرة.
وكان الرعب الذي استولى على رومية من بعض الوجوه بلا موجب؛ لأن هنيبال بخلاف ما توقعته إيطاليا كلها لم يزحف على رومية مع أن قواده قد ألحوا عليه كثيرا في وجوب القيام بذلك قائلين إنه لا يوجد ما يقف في وجهه أو يحول دون استيلائه على المدينة بسهولة، أما هنيبال فقد أبى عليهم ذلك؛ فإن رومية كانت ذات تحصينات منيعة وفيها خلق كثير، ثم إن جيشه من الجهة الأخرى كان منهوك القوى ضعيفا بعد معركة كانيه، ففضل عدم محاولة ضرب رومية والتريث إلى أن تصله نجدات جديدة من الوطن.
وكان الوقت في أواخر الصيف بحيث إنه لم يتوقع وصول النجدات إليه في الحال؛ ولهذا السبب صمم هنيبال على اختيار مكان أسهل حصولا من رومية ليقضي فيه فصل الشتاء ، فمال إلى اختيار كابوي؛ وهي مدينة كبيرة وقوية تبعد عن رومية نحو مائة ميل إلى الجنوب الشرقي، وفي الواقع أن هنيبال قد استنبط فكرة الاحتفاظ بإيطاليا وجعل كابوي عاصمته تاركا رومية لوحدها؛ لكي تصير بطبيعة الظروف التي أوجدها في مصاف المدن الثانوية القليلة الأهمية.
ولعله كان تعبا من أهوال الحروب وأخطارها، وبما أنه قد نجا من الدمار المحتم قبل معركة كانيه العظيمة فقد قر رأيه على عدم الاندفاع والتعرض لأخطار جديدة، وشغلت هذه المسألة باله وقتا طويلا تردد فيه بين أن يسير إلى رومية، أو يحاول ابتناء عاصمة جديدة خاصة به في كابوي، وكانت هذه المسألة موضوع جدال كثير في أيامه وبحث لا آخر له بين رجال الحربية في كل عصر بعد تلك الأيام، ولا تزال كذلك إلى يومنا هذا.
وسواء كان هنييال مخطئا أو مصيبا فقد صمم النية على اتخاذ كابوي عاصمة له، وترك رومية مؤقتا مطمئنة، وأرسل من فوره إلى قرطجنة في طلب النجدات، وكان رسوله إليها أحد قواده، واسمه ماغو، فأسرع هذا المسير قاصدا قرطجنة يحمل معه بشائر النصر، وأحمالا من الخواتم التي انتزعها القرطجنيون من أيدي قتلى الرومانيين في ساحة كانيه كما تقدم البيان، فكان لبشرى النصر في قرطجنة ضجة فرح عظيمة، وسر أصدقاء هنيبال ومريدوه كثيرا مما أوتيه من الظفر بالأعداء ووبخوا أعداءه، وطعنوا على الذين قاوموا تعيينه قائدا في بادئ الأمر للجيش في إسبانيا.
فاجتمع ماغو بمجلس الشيوخ القرطجني، وألقى عليه خطابا بليغا أخبرهم فيه عن المعارك العديدة التي خاض هنيبال غمراتها وعن الانتصارات التي أحرزها، وأنه قد لقي أعظم القواد عند الرومانيين وقهرهم جميعا وقتل في معاركه أكثر من مائتي ألف رجل، وأن إيطاليا أصبحت تحت رحمته ورهن إشارته، فجعل كابوي عاصمة له بعد أن سقطت رومية، ثم قال لهم: إن هنيبال في حاجة ماسة إلى الرجال والأموال والأقوات، وإنه لا يشك بأن القرطجنيين يوافونه من ذلك بما يعوزه بدون أقل تردد.
وبعد الفراغ من خطابه أتى بأكياس الخواتم إلى المجلس، وأفرغها على أرض القاعة دليلا على الانتصارات التي أعلن للمجلس أن هنيبال قد أحرزها، وكان ما فعله ماغو رسول هنيبال وافيا بالمراد من مهمته، لو أن أصدقاء هنيبال وقفوا عند هذا الحد الذي وصل إليه ماغو، لكنهم لم يرعووا ولا اتأدوا بل تطرفوا في سب أعدائه وشتمهم وتعييرهم، وخصوصا هانو الذي كما يذكر القراء كان في مقدمة مقاومي إرسال هنيبال إلى إسبانيا.
فالتفتوا إليه وسألوه عما يعتقده الآن في أمر مقاومته المصنعة لذلك البطل المقدام، فوقف هانو والتفت إليه كل أعضاء المجلس رغبة منهم في سماع ما يريد أن يقوله جوابا لسائليه، فتكلم بكل هدوء ورزانة كما يأتي: «كان في نيتي ألا أقول شيئا، بل أترك للمجلس حرية العمل بما طلبه منه ماغو لو لم أخاطب في ذلك شخصيا، فأنا الآن تحت هذه الظروف أقول: إني أعتقد اليوم بمثل ما اعتقدت في الماضي، وهو أننا قد اندفعنا في تيار حرب باهظة النفقات ولا فائدة ترجى منها، وأننا حسبما أرى لسنا أقرب إلى آخرها منا في الماضي بالرغم من الانتصارات التي نهلل لها ونطبل. يؤيد قولي بفساد هذه المزاعم ما أراه من غرائب التناقض فيما يدعيه هنيبال، وعدم ثباته على قول في مطالبه وادعاءاته.
يقول إنه قد قهر أعداءه جميعا ومع ذلك فهو يسألنا أن نمده بالجنود، وأنه قد ذلل إيطاليا - أخصب بلدان العالم - وأخضعها وسيطر عليها من عاصمته كابوي، ومع ذلك فهو يطلب منا أن نرسل إليه الحنطة، وأرسل إلينا أكياسا عديدة من الخواتم الذهبية دليلا على الغنى الذي أحرزه بالسلب والنهب، وقد أتبع ذلك بطلبه منا إرسال مقادير جديدة من الأموال.
ففي رأيي أن انتصاراته وهم وخداع، وأنه لا يوجد شيء حقيقي في الظروف الحاضرة إلا احتياجاته، والأعباء الثقيلة التي ستلقى على عاتق البلاد من جراء تلك الحاجيات.»
ولكن بالرغم من تهكم هانو صمم القرطجنيون على مؤازرة هنيبال وإمداده بالمئونة التي يحتاج إليها، على أنهم أبطئوا في الوصول لما حال دون ذلك من الصعوبات والعوائق، فالرومانيون مع عجزهم عن طرد هنيبال من بلادهم حشدوا جيوشا جديدة في بلدان مختلفة، وشهروا حروبا عديدة على القرطجنيين وحلفائهم في أنحاء مختلفة من العالم بالبر والبحر في وقت واحد.
فكانت نتيجة ذلك أن هنيبال أقام في إيطاليا خمس عشرة أو ست عشرة سنة بدون جدوى، مشتبكا في غضون ذلك بحروب ومناوشات مملة مع القوى الرومانية، وبدون أن يتمكن من القيام بمعركة فاصلة، فكان يظفر أحيانا ويضايق أحيانا لحد الانحصار لكثرة أعدائه، ويقال إن جيشه قد تولاه الضعف والوهن لتماديه في التمتع باللذات في كابوي؛ فهي كانت مدينة غنية وجميلة للغاية وقد فتح سكانها أبوابها لهنيبال من تلقاء أنفسهم مفضلين، حسبما قالوا، محالفته على محالفة الرومانيين.
فضباط الجيش - كما هي عادة ضباط الجيوش أن يفعلوا دائما - وجدوا أنهم قد استقروا في مدينة ذات ثروة وجمال وما لا يحصى من أسباب اللهو، وبعد أن ذاقوا البلاء المر في حروبهم الماضية انصرفوا إلى الاحتفالات والولائم وتمادوا في كل نوع منها إلى حد التطرف، فكان هذا دأبهم كل يوم، والنفس إن تمادت لا ترعوي فضلا عن أن القعود والراحة يدعوان إلى الفرح والمرح والتمتع بسائر ضروب التسلية.
ومهما تكن البواعث؛ فإنه لم يبق في الأذهان أقل ريب بأنه من يوم استولى هنيبال وجيشه على كابوي، وحصلوا فيها على ما لم يكن تيسر لهم من زمان طويل من الراحة والرفاهية أخذت القوة القرطجنية في الانحطاط، وإذ كان هنيبال قد صمم النية على جعل تلك المدينة عاصمة لإيطاليا بدلا من رومية شعر عندما ألقى عصا الترحال هناك كأنه في وطنه، فقل اهتمامه بابتداع الخطط والتدابير الحربية لمهاجمة العاصمة القديمة والاستيلاء عليها.
ومع ذلك كانت الحرب لا تزال قائمة على ساق وقدم، فشبت نيران معارك عديدة وحوصرت مدن كثيرة، وكان الظفر على الدوام مرافقا للدولة الرومانية، ولكنه لم ينل أحد الفريقين في إحدى المعارك ظفرا نهائيا أو انتصارا فاصلا، وقد نبغ في هذه المعارك قائد روماني جديد اسمه مارسيلوس، وهو إما لأنه أوفر دربة من غيره أو أكثر إقداما وأصلب عودا ، أو لما طرأ من التغيير المهم على قوى العدوين المتحاربين، قد اتبع خطة الهجوم مخالفا بذلك خطة فابيوس المبنية على الإبطاء.
على أن مارسيليوس كان متأنيا كثير الحذر في تدابيره وحملاته، وقد رسم خططه بذكاء وفطنة كفلا له النجاح المستمر تقريبا، فأعجب به الرومانيون وهللوا لنشاطه وما كان يبديه من الحماسة، على أنهم لم ينسوا بذلك ما لفابيوس من الفضل في تأنيه وتحفظه للدفاع، وقالوا إن مارسيليوس سيف الحكومة القاطع، كما أن فابيوس درعها الواقية.
وثابر الرومانيون على هذا الشكل من الحروب، وكان التفوق على أعدائهم مصاحبا لهم كلما طال عهدها، إلى أن أدى بهم الأمر إلى الدنو من أسوار كابوي وهددوها بالحصار، على أن وسائل الدفاع والتحصينات التي أنشأها هنيبال كانت أقوى من هجماتهم ليأخذوا المدينة عنوة، ولم يكن لديهم رجال يتمكنون بكثرتهم من الإحاطة بالمدينة من سائر جهاتها؛ ليحصروا من فيها بالكلية فلا يكون لهم مخرج يستمدون منه حاجياتهم.
فاضطروا بعد ذلك إلى الكف عن الحصار، وعسكروا بجيشهم الجرار على مقربة منها، وتظاهروا باستعدادهم الدائم لمهاجمتها بحيث حملوا رجال هنيبال على السهر والتأهب الدائم ليلا ونهارا وأقلقوا راحتهم، وفضلا عن القلق الدائم الذي أوجدوه لهم؛ فإن القرطجنيين قد أزعجهم ما رأوه من إقدام أعدائهم على عاصمتهم بجرأة وقحة لم تعهدا من قبل في جيش إيطاليا الذي طالما قهروه وبطشوا به قبل ذلك بوقت قصير، فأثر ذلك فيهم وقمع من نخوتهم إلى حد الشعور بالذل.
ولم يكن هنيبال موجودا في كابوي عندما تألب الرومانيون لمهاجمتها، على أنه سار لإنجادها في الحال وهاجم الرومانيين بدوره محاولا بذلك إرغامهم على رفع الحصار عنها والابتعاد عن أرباضها، ولكنهم إذ كانوا قد خندقوا على أنفسهم وتحصنوا لم تؤثر هجماته فيهم ولا أنالته منهم مأربا كالعادة، فكانت حملاته عليهم تذهب ضياعا، فلم يتمكن من زحزحتهم عن مواقفهم، فلما بدا له أنهم ممتنعون غادرهم، وزحف بجيشه متجها نحو رومية.
وقد عسكر في أرباض المدينة مهددا إياها بالهجوم، ولكن أسوارها وقلاعها ووسائل الدفاع فيها كانت منيعة كحصون كابوي فلم يقو على مهاجمتها، أو أنه تظاهر بالهجوم عليها؛ لكي يحمل الرومانيين الملتفين حول كابوي على الإقلاع عما صمموا عليه والمسارعة للدفاع عن عاصمتهم، وفي الواقع أنه بعمله هذا قد أحدث بعض القلق في رومية، فبحث رجال حكومتها طويلا في الأمر وقر رأيهم أخيرا على استدعاء جيشهم من أمام كابوي، على أن هذا القرار لم ينفذ لما لقيه من المقاومة؛ حتى إن فابيوس نفسه كان من أشد معارضيه.
ذلك لأن هنيبال لم يعد في نظرهم هائلا مرهوب الجانب؛ ولهذا استدعوا قسما صغيرا من الجيش الروماني المعسكر عند كابوي، فلما وصل أضافوا إليه قوات أخرى جندوها ممن في داخل المدينة وخرجوا منها بذلك الجيش لمنازلة هنيبال، وكان الاستعداد للمعركة تاما من كل وجه، إلا أن عاصفة شديدة هبت فدحرتهما عن مواقفهما، وأرغمتهما على الرجوع إلى المعسكرات.
ويقول المؤرخ الروماني الكبير: إن ذلك حدث مرات متوالية، وفي كل مرة كانت العاصفة تهدأ والجو يعود إلى إشراقه بعد أن يكون القواد قد أمروا جيوشهم بالكف عن القتال، وقد يكون شيء من مثل هذا قد حدث صدفة إلا أن الحقيقة الأكيدة هي أن كل جيش كان يرتعد خوفا من الآخر، ويتمنى طروء أقل عائق ليتذرع به لتأجيل القتال، فقد حدث أن هنيبال لم يكن ليرتد عن منازلة أعدائه في وجه أشد العواصف هبوبا.
وهكذا مع أن هنيبال قد وصل في آخر الأمر إلى أسوار رومية على أنه لم يأت هناك أمرا سوى ما يمكننا التعبير عنه بكلمة تخويف، ووجوده هناك لم يسبب انزعاجا عظيما أو خوفا للسكان، ذلك لأن الرومانيين كانوا قبل ذلك بكثير قد استخفوا بصولة الجيش القرطجني، فلم يعد يرهبهم كالأول، ولكي يظهروا استخفافهم بهنيبال كانوا يبيعون بالمزاد العمومي الأراضي التي كان جيشه معسكرا عليها، بينما كان هو يتظاهر بمحاصرة المدينة وقد بيعت بأثمان عادية.
وقد كان إقدام المشترين على شراء الأرض ناجما من بعض الوجوه عن حميتهم الوطنية، وعن رغبتهم في إبداء الاحتقار لهنيبال، وأن وجوده هناك في رأيهم ليس إلا لوقت محدود يضطر بعده إلى الانصراف، وأراد هنيبال عندما بلغه ذلك أن يثأر لنفسه منهم من وجه المقابلة، فباع بالمزاد العمومي - وهو في معسكره - دكاكين أحد شوارع رومية، فاشتراها كثيرون من ضباط جيشه بابتهاج ومسرة.
فظهر من هذا أن تغييرا مدهشا قد طرأ على العراك القائم بين قرطجنة ورومية؛ وهو أن تينك الدولتين العظيمتين اللتين كانت إلى ما قبل ذلك بوقت قصير تتطاحنان في معارك دموية هائلة على نهر بو وفي ناحية كانيه؛ تكتفيان الآن من ذلك العراك بمثل هذه الألاعيب الصبيانية على مثل ما يفعل صغار الأولاد.
وعندما خابت آمال هنيبال من الحصول على نجدات عسكرية بعد استفراغ كل الوسائل التي فكر فيها، حاول استجلاب جيش ثان إلى إيطاليا يجتاز جبال الألب بقيادة أخيه أسدروبال، وكان ذلك الجيش لجبا وقد عانى صنوف الأهوال التي صادفها هنيبال تقريبا، إلا أن الطريق التي سار فيها هنيبال ووصفها لأخيه قد خففت عنه وعن جيشه الشيء الكثير من المتاعب. ولكن بالرغم من كل هذا لم يصل من ذلك الجيش العرمرم الذي بدأ المسير من إسبانيا إلى هنيبال سوى رأس أخيه، وكانت الحوادث التي انتهت بها سيرة محاولة أسدروبال إنجاد أخيه كما يأتي:
عندما هبط أسدروبال من جبال الألب مسرورا منشرح الصدر لفوزه في التغلب على ما اعترضه في اجتيازها من العراقيل والأهوال؛ تصور أن كل متاعبه قد انقضت فوجه إلى أخيه رسلا يعلمه باجتيازه جبال الألب وأنه زاحف لنصرته بأسرع ما يمكنه، وكان القنصلان في رومية يومئذ نيرو وليفيوس، وقد عهد إلى كل واحد منهما جريا على عادة الرومان في حماية مقاطعة معلومة، وأعطي جيشا معلوما للذود عن حياضها، وحتم عليهما ألا يترك أحدهما مقاطعته تحت كل الظروف، ما لم تصدر إليهما الأوامر بذلك من المجلس الاشتراعي الروماني.
وكان في هذا الحين أن القسم الشمالي من إيطاليا وضع تحت رعاية ليفيوس والقسم الجنوبي تحت رعاية نيرو، فتعين على ليفيوس إذ ذاك أن يلاقي أسدروبال عند هبوطه من جبال الألب ويكافحه، وأمر نيرو بالبقاء على مقربة من هنيبال؛ لكي يفسد عليه تدابيره ويقف في وجهه أو يبطش به إذا تسنى له ذلك، ويكون القنصل الثاني في نفس الوقت عاملا جهد إمكانه على منع وصول النجدات التي ينتظرها هنيبال من إسبانيا.
وإذ كانت الأحوال على ما ذكرنا كان على رسل أسدروبال الحاملين كتبه إلى أخيه أن يكونوا على حذر كلي من الوقوع في قبضة أحد القنصلين قبل الوصول إلى هنيبال، فنجحوا في التخلص من ليفيوس إلا أنهم وقعوا في أسر نيرو فاستولى على الكتب وفتحها وقرأ ما فيها، فإذا بها تحتوي على كل الخطط والتدابير التي أقر أسدروبال على العمل بها، فأدرك من ذلك أنه إذا زحف شمالا للاتحاد مع القنصل ليفيوس جريا على ما علمه من كتب أسدروبال؛ فإنهما يتمكنان من البطش به، ولكنه إذا ترك ليفيوس وهو جاهل ما عزم عليه أسدروبال فإن هذا يسطو عليه ويفوز باختراق جيشه، والإسراع إلى نجدة هنيبال وبذلك يتم اتحاد القرطجنيين.
وعلى ذلك رغب نيرو كثيرا في الاتجاه شمالا ليساعد ليفيوس؛ لأنه وجد الضرورة تدعو لمناصرته، إلا أن القانون كان يحرم ذلك عليه ويحول دون تركه المقاطعة التي عهد إليه في حمايتها، والذهاب إلى حيث زميله بدون إذن خاص من رومية، وقصر الوقت لا يساعد على استجلاب مثل ذلك الإذن، ومعلوم أن قوانين الطاعة العسكرية شديدة الصرامة، وهي القوانين الوحيدة التي يعمل بموجبها حرفيا.
فالضباط والجنود من كل الرتب والمقامات يجب أن يتلقوا الأوامر من رؤسائهم، ويطيعوها بدون نظر إلى العواقب التي تنجم عنها، وإبداء أي عذر لانحرافهم عن الخطة المرسومة لهم مهما كانت، وفي الواقع أن هذه القاعدة هي أساس القيادة العسكرية وركنها المكين الذي تستند إليه، فهي توجب الطاعة والعمل بلا أقل تردد، فإذا صدر أمر من القيادة العليا؛ فإنه يبطل كل رأي أو حكم أو فكر في شخصية الذي وجه إليه ذلك الأمر.
وأعظم القواد وأفضل الحكومات يفضلون حصول الضرر من طاعة أوامرهم على النفع الذي يجيء من عدم الطاعة لتلك الأوامر ، وهو مبدأ حسن ليس فقط في الحرب، بل في سائر الأحوال الاجتماعية حين يعمل الناس متحدين، ويرغبون في أن يكون العمل جيدا والاتفاق على القيام به تاما، ولكن بالرغم من كل ذلك فقد تختلف الحالة باختلاف الظروف، فالمسائل التي يتساهل فيها بالعدول عن هذه القاعدة هي التي يبدو فيها ضرورة ماسة، أو تكون النتائج المنتظر حصولها عنها عظيمة إلى الغاية، وتكون المخاطرة عندها مهمة جدا، ويكون الفوز من الأمور اليقينية الخالية من شوائب الريب، عندئذ يعقد القائد النية على عصيان الأوامر ويأخذ كل المسئولية على عاتقه.
والمسئولية كما لا يخفى جسيمة والخطر من حملها عظيم للغاية، فالذي يقدم على هذا الأمر يعرض نفسه لأشد العقوبات صرامة، ولا ينجيه من العقاب الأليم إلا الضرورة الكلية وزيادة عليها النجاح الباهر. وفي التاريخ الإنكليزي قصة عن أمير كان في خدمة ملكة إنكليزية عصى أوامر رؤسائه في أحد الأوقات لما بدا له من ضرورة ذلك وهو في البحر، ولكنه تمكن من إحراز نصر باهر كان منه على يقين.
وبعد أن أدرك ذلك الانتصار المهم طلب أن يقبض عليه كمجرم ويؤخذ إلى الميناء سجينا ذليلا، بدلا من قائد أحرز نصرا مبينا، وهناك سلم نفسه لرجال القضاء ليحاكم على مخالفته الأوامر، وبعث من فوره فأخبر الملكة بأنه قد عرف أنه يستحق الإعدام جزاء لما أقدم عليه، ولكنه كيفما كان الحال يرغب في تضحية حياته بأية طريقة لخدمة جلالتها، فأصدرت أمرها بالعفو عنه.
فالقنصل نيرو - بعد التروي الطويل واضطراب الفكر الموجب للقلق في مثل هذه الحالة - رأى أن الظروف التي عرضت له تتطلب منه تحمل المسئولية بكل جيشه والتعرض لعقاب العصيان، على أنه لم يجسر على الذهاب شمالا بكل جيشه؛ لأن انسحاب جيشه بكامله من حيث هو يجعل جنوبي إيطاليا بجملته تحت رحمة هنيبال؛ ولهذا انتخب من جيشه الذي كان عدده أربعين ألف رجل سبعة أو ثمانية آلاف من الأبطال المجربين المعروفين بالحمية والإخلاص، والذين يمكنه الاعتماد عليهم ليس فقط من حيث المقدرة على تجشم الأخطار والأهوال ، بل من حيث شجاعتهم ونشاطهم وما عرفوا به من الإقدام الذي يحملهم على الثبات في معاركة رجال أسدروبال إلى النهاية.
وكان نيرو عند حصوله على كتب أسدروبال إلى أخيه معسكرا في مكان حصين متسع الجوانب، فزاده تحسينا وتحصينا ووسعه على صورة لا يدري بعدها هنيبال بأن نيرو قد أنقص جيشه، كل هذا أتمه بسرعة كلية وفي مدة ساعات معدودة بعد وقوفه على الكتب المذكورة التي حملته على الإسراع لنجدة زميله، وانسل بجيشه من هناك ليلا ولم يدر رجاله إلى أين هو يسير بهم ولا ما الذي عقد النية على القيام به، وسار بأسرع ما في الإمكان نحو الشمال، ولما وصل إلى المقاطعة الشمالية أراد أن يدخل معسكر ليفيوس خفية كما خرج من معسكره، وبهذا حصل أحد الجيشين الرومانيين على الزيادة التي كان في أشد الحاجة إليها من غير أن يشعر بذلك القائدان القرطجنيان، فانشرح صدر القنصل ليفيوس لهذه النجدة التي أتته ساعة الحاجة إليها، وأمر بأن يخلد كل الجيش إلى الهدوء والسكينة؛ لكي يحصل الجنود الذين أقبلوا لنجدته على الراحة الضرورية بعد الذي عانوه من مشاق السير السريع.
إلا أن نيرو خالفه في ذلك وأشار بوجوب الابتداء في المعركة حالا، فهو قد عرف مقدرة الرجال الذين أتى بهم وعظم احتمالهم، وكان في الوقت نفسه غير راغب في أن يوجد خطرا في نفس معسكره في جنوبي إيطاليا بغياب طويل عنه، وهكذا اتفق القائدان على مهاجمة أسدروبال بالأسرع الممكن، وصدرت الأوامر إلى الجيش ليبدأ بالمعركة في الحال.
وليس ببعيد أن يكون القنصل ليفيوس وحده قادرا على قهر أسدروبال، إلا أن النجدة التي أتاه بها نيرو قد جعلت الجيش الروماني قويا عزيز الجانب وأقوى من جيش أسدروبال كثيرا، وفضلا عن ذلك فإن أسدروبال قد رأى وهو في طليعة جيشه أن بعض الجنود في صفوف أعدائه كانت من أهل الجنوب مما دل على صحة فراسته وتوقد ذكائه، واستنتج من ذلك أن أخاه هنيبال قد لقي انكسارا مشئوما، وأن الجيش الروماني برمته قد احتشد ضد جيشه .
ففت ذلك من عضده وخاف كثيرا، فأصدر أمره بالانسحاب وتبعه الجيش الروماني جادا في أثره وأعمل في مؤخرته السيف فأوقع في صفوف الجيش القرطجني المتراجعة التشويش والاختلاط والفوضى، وأصبح القرطجنيون كالسائر على غير هدى بين الأنهر والبحيرات لا يعرفون سبيلا إلى النجاة، وكان أدلاء الجيش قد فروا طالبين النجاة بعد الذي رأوه من تضعضع أحواله، وعندئذ انحصر الجيش القرطجني في مكان غير حصين لا يقوى فيه على الدفاع، ولا يستطيع الإفلات من ذلك المأزق.
واقتتل الفريقان أشد قتال فلم يشفق الرومانيون على أعدائهم ولا أروهم أقل رحمة، بل أعملوا في رقابهم السيوف ذات اليمين وذات الشمال إلى أن أهلكوا الجيش عن آخره تقريبا، وقطعوا رأس أسدروبال فأخذه القنصل نيرو وسار ليلا عائدا إلى معسكره، ورأس أسدروبال معه وهو فرح مفاخر بما أقدم عليه، وحال وصوله أرسل طائفة من الفرسان؛ لكي يلقوا رأس أسدروبال في معسكر هنيبال، كعلامة من أشنع العلامات على أنه قد انتصر عليه.
فلما رأى هنيبال رأس أخيه أصبح كمن أصيب بجنة وانحلت قواه وغلب عليه اليأس والحزن؛ لما علمه من خسارة جيشه - تلك الخسارة التي أنذرته بالفشل وخيبة كل أمل - فصاح عندئذ قائلا: «لقد دنت ساعتي وقضي الأمر وخسرت كل شيء، فلست بمرسل أنباء نصر إلى قرطجنة بعد الآن، فبفقد أسدروبال قد انقطع كل رجاء.»
وفيما كان هنيبال على ما رأيناه في إيطاليا حليف هم وحزن عظيمين، كانت جيوش الرومانيين التي أعدها حلفاء رومية تتفوق على القرطجنيين في كل مكان من العالم بقيادة قواد عهد إليهم مجلس الشيوخ الروماني في محاربة القرطجنيين حيثما وجدت، وكانت أنباء الانتصارات تجيء متتابعة إلى رومية فتزيد الرومانيين شجاعة وتدفعهم إلى الإقدام، وتؤثر عكس ذلك على هنيبال وجيشه وحلفائه الذين أصبحوا مستسلمين لليأس محلولي العزائم.
وكان سيبيو واحدا من أولئك القواد الذين اقتادوا جيوش الرومانيين في البلدان الأجنبية، وقد تولى قتال القرطجنيين في إسبانيا، وكانت الأنباء الواردة من جيشه باعثة على الاستبشار والحماسة المتناهيين في رومية، فهو قد كان ينتقل من نصر إلى نصر، ومن اجتياح مقاطعة إلى التغلب على أخرى حتى أوشكت البلاد الإسبانية بجملتها أن تصير تحت مطلق سيطرته، فقهر جميع القرطجنيين الواحد بعد الآخر وثابر على الزحف إلى أن وصل إلى قرطجنة الجديدة، فحاصرها وافتتحها وبسط سلطة رومية على البلاد كلها.
وعاد سيبيو بعد ذلك إلى رومية فائزا منصورا فتلقاه الأهلون بالتهليل والتبجيل، وفي الانتخابات التي تلت انتخبوه قنصلا، وفي توزيع المقاطعات وقعت سيسيليا تحت قيادته ومنح مطلق الحرية في العبور من هنالك إلى أفريقيا إن أراد، وتعين على القنصل الآخر أن يلاحق العراك في إيطاليا ضد هنيبال، وهكذا حشد سيبيو جيشا جرارا وهيأ أسطوله وأقلع قاصدا سيسيليا.
وكان أول عمل قام به بعد وصوله إلى مقاطعته تدبير حملة عسكرية يسير بها إلى أفريقيا بالذات، فهو لم يتم له ما أراده من مواجهة هنيبال رأسا بأن يزحف بجيشه لمعاركته في جنوب إيطاليا؛ لأن ذلك كان من حق زميله المطالب بتلك الناحية، ولكنه يستطيع شن الغارة على أفريقيا ويهدد قرطجنة نفسها، وهكذا صمم النية على هذا الأمر بكل ما اشتهر عنه من الإقدام والحمية وحسن التدبير.
فنجح أيما نجاح وكان جيشه الممتلئ غيرة والمتشرب روح قائده وحماسته، والذي كان واثقا بالفوز يزحف من معركة إلى أخرى كما فعل في إسبانيا منتقلا من نصر إلى نصر، فقهر مدنا كثيرة واجتاح مقاطعات، وعارك كل الجيوش التي استطاع القرطجنيون توجيهها ضده، ونكل بها أو دحرها بخسائر فادحة، وفي آخر الأمر أحدث في شوارع قرطجنة ومنازلها مثل الخوف والرعب والاضطراب التي أحدثها هنيبال في رومية عندما كان منتصرا.
وهال القرطجنيين ما رأوه من بطش سيبيو وتولاهم اليأس والقنوط، فأرسلو إليه السفراء يلتمسون منه الصلح وإبداء الشروط التي يريدها مقابل ذلك للانسحاب من البلاد، فأجابهم سيبيو بأنه غير قادر على عقد صلح؛ لأن ذلك من شأن مجلس الشيوخ الروماني الذي هو مأموره.
على أنه ذكر لهم بعض الشروط التي يميل إلى رفعها لمجلس الشيوخ في رومية؛ فإذا قبلوا بها منحهم هدنة أو توقفا وقتيا عن القتال إلى أن يرجع جواب المجلس من رومية، فوافقه القرطجنيون على الشروط التي عرضها، وقد كانت ثقيلة جائرة ولكن الرومانيين يدعون أن القرطجنيين لم يرضوا بتلك الشروط في الباطن، وإنما تظاهروا بذلك؛ لكي يتوفر لهم الوقت الكافي لاستدعاء هنيبال الذي كانوا واثقين بأنه لو كان في أفريقيا لأنقذهم من بطش الأعداء.
وهكذا كان فإنهم عندما وجهوا سفراءهم إلى رومية بعثوا رسلا إلى هنيبال أيضا يطلبون منه إنزال جنوده في البحر بالإسراع الممكن، وأن يترك إيطاليا عائدا إلى الوطن؛ ليخلصه وينقذ مدينته التي هي مسقط رأسه من الدمار المحتم، هذا إن لم يفت الوقت على ذلك، فلما وصل الرسل إلى هنيبال وعلم ما جرى تولاه الذهول والحزن الشديد والأسف لانقلاب الحالة على تلك الصورة، فقضى بعد ذلك ساعات طويلة في التألم لما جرى، فكان تارة يئن متوجعا وطورا يسكت كأنه في غيبوبة، وحينا يصيح بأعلى صوته ويقذف من فيه اللعنات محمولا على ذلك كله بعظيم انفعاله.
ولكنه بعد هذا لم يستطع المقاومة وتخييب آمال مواطنيه، فبذل جهده في الرجوع إلى قرطجنة، وكان مجلس الشيوخ الروماني في الوقت نفسه قد رد المسألة التي عرضت عليه إلى سيبيو؛ ليرى رأيه فيها يحملها رسل مع التفويض المطلق لحكمته، فإن رأى أن يتابع الحرب تابعها وإن رأى الصلح عقده، ولكنهم أرادوا العلم بالشروط التي يعقد عليها ذلك الصلح، وكان هنيبال قد وصل إلى قرطجنة، وهناك جند جيشا كبيرا وجمع إليه من كان قد سلم من الجيوش التي قهرها سيبيو، وزحف في طليعة ذلك الجيش لملاقاة العدو.
فسار خمسة أيام وابتعد عن قرطجنة بين الخمسة وسبعين ميلا والمائة ميل، فتدانى من معسكر سيبيو، وعندئذ وجه الجواسيس لاستطلاع طلع عدوه، فأمسك حراس جيش سيبيو أولئك الجواسيس، وساقوهم إلى مضرب القائد لإعدامهم كما توقعوا، ولكن سيبيو بدلا من أن ينزل بهم العقاب الأليم أمر بأخذهم للتجول في معسكره ورؤية كل شيء هناك، ومن ثم أطلق سراحهم ليرجعوا إلى هنيبال، ويطلعوه على كل ما اختبروه.
وكانت المعلومات التي نقلها الجواسيس إلى هنيبال دالة على قوة جيش سيبيو وعظم معداته، فدهش هنيبال مما سمعه عن عدوه وفضل المفاوضة لعقد صلح بدلا من المخاطرة في معاركته، وبناء على ذلك بعث إلى سيبيو يطلب منه ضرب موعد لمقابلة شخصية، فأجابه سيبيو إلى ذلك، وتعين مكان اللقاء بين المعسكرين، وإلى هذا المكان جاء القائدان في الأجل المضروب باحتفال مهيب وعدد كبير من الحاشية والأتباع.
وكان هنيبال وسيبيو أعظم قواد ذلك الزمان الذي عاشا فيه؛ لأنهما قضيا خمس عشرة سنة أو عشرين سنة في ساحات القتال، وأتيا من معجزات الحروب ما ملأ العالم بشهرتهما، وكانت ساحات حروبهما متباعدة كثيرا بحيث لم ير واحدهما الآخر، أما الآن فقد اجتمعا معا للمرة الأولى، ولما تعارفا وقف كلاهما وقتا طويلا محدقين كل منهما بالآخر بتأمل يدل على أن كل واحد منهما يريد اختبار شخصية الآخر بدون كلام.
أخيرا بدأت المفاوضة؛ وعرض هنيبال على سيبيو أمورا أراد عقد الصلح عليها، وكانت موافقة للرومانيين إلى الدرجة القصوى، على أن سيبيو لم يقتنع بذلك بل طلب الزيادة من التضحيات التي أراد هنيبال التساهل بها، وكانت النتيجة بعد مفاوضات طويلة عديمة الثمرة أن كل واحد منهما رجع إلى معسكره وتأهب للعراك، ومعلوم أن المنتصر في المعارك يسهل عليه متابعة انتصاراته، والنتائج تتوقف في الغالب على ما يتوقعه كل جيش عند نزوله إلى المعترك.
فسيبيو وجنوده كانوا يتوقعون الانتصار، والقرطجنيون كانوا يتوقعون الانكسار، وكانت النتيجة للفريقين حسبما توقعا، ففي ختام اليوم الذي دارت فيه رحى معركة زاما سقط من الجيش القرطجني أربعون ألفا في ساحة الوغى، بعضهم قتلى وبعضهم على وشك الموت، ومثل هذا العدد أو أكثر منه سيقوا أسرى إلى المعسكر الروماني، وما بقي من الجيش أصبح فلولا هائمين على وجوههم في كل صوب، يسوقهم الرعب في كل طريق مؤدية إلى قرطجنة.
ورجع هنيبال إلى قرطجنة، وهناك مثل أمام مجلس الشيوخ، وأعلن انكساره قائلا إنه لم يعد قادرا على القيام بأكثر مما قام به، ثم قال: «إن حسن الطالع الذي كان مصاحبا لي في الماضي قد هجرني إلى الأبد، ولم يبق أمامنا سوى عقد الصلح مع أعدائنا على الشروط التي يطلبونها مهما كانت قاسية.»
الفصل الحادي عشر
هنيبال شريد طريد ومنفي
كانت حياة هنيبال أشبه بأحد أيام شهر نيسان أبهاها وأجملها عند الصباح، فغروب شمسه قد رافقه ظلام الغيوم والأمطار، ومع أن الرومانيين لم يستطيعوا في غضون خمس عشرة سنة العثور على قائد يتمكن من الثبات في وجه هنيبال، فإن سيبيو قهره في آخر الأمر فكان بانتصاره عليه ختام فتوحاته كما تنبأ هانو، وقد انتهت تلك الفتوحات بجعل بلاده في حالة أردأ كثيرا مما كانت عليه قبل ذلك.
وفي الواقع أن القرطجنيين عندما كانوا منصبين بكل قواهم على العمل النافع، ساعين وراء الاتجار والسلام والطمأنينة كانوا في نعيم مقيم، وكانت ثروتهم تتعاظم سنة عن سنة ويتعاظم معها نفوذهم ومجدهم من كل وجه، وقد اتجهت سفنهم في كل صوب وقوبلت بالترحيب حيثما رست، فسعدوا وأثروا وأدركوا أرفع درجات العظمة، وكانوا في الوقت نفسه عاملين بإخلاص على ترقية وإسعاد شعوب أخرى كثيرة.
ولقد كان ذلك الحظ دون ريب يرافقهم أجيالا طوالا، وهم في بحبوحة من العيش ورفاهية واطمئنان لو لم يقم فيهم أبطال حروب يسعون لإدراك العلا، ويتسابقون لنيل الأمجاد العسكرية الباطلة. وكان والد هنيبال من كبار أولئك الأبطال، فبدأ بتدويخ إسبانيا والاعتداء على السلطة الرومانية، وقد أوجد مثل روحه الحربية في صدر ابنه هنيبال، وزرع الطموح إلى المعالي وأضرم في صدره كرها مضطرما للرومانيين.
وقد رافقهما الجد وصاحبهما الفوز في سائر التدابير التي اقتادا أبناء وطنهما لإتمامها أعواما عديدة، فكان نجاحهما في ذلك باهرا، وهكذا فبعد أن كانوا من القوم الذين يرحب بهم العالم؛ لما يتأتى لهم منهم من الفوائد الجمة أصبحوا السادة لقسم منه واللعنة الكبرى عليه، فكان هنيبال طيلة الأيام التي كان فيها متفوقا على كل قائد روماني يؤتى به لمعاركته مثابرا على الفتح والتدويخ.
ولكن قام بعدئذ سيبيو الذي كان أعظم من هنيبال، وعندئذ انقلبت الحالة بطنا لظهر ، وكل الفتوحات التي قضى القرطجنيون في إدراكها نحو نصف جيل استرجعت منهم بنفس الاعتساف والشدة، وسفك الدماء والتعاسة التي أخذت بها.
وقد وصفنا أعمال هنيبال الشهيرة في فتوحاته هذه، وما أتاه من الدهاء والدربة والإقدام على جلائل الأمور، أما مآتي سيبيو في استرجاع ما غنمه هنيبال فلم نأت على ذكرها إلا عرضا وبكل اختصار؛ وذلك لأن الغرض من هذا الكتاب هو إيراد سيرة حياة هنيبال لا سيرة حياة سيبيو، ومع هذا فإن فتوحات سيبيو قد تمت ببطء وبالتدريج، فاستغرقت زمنا طويلا.
فهو كان في سن الثامنة عشرة في معركة كانيه وذلك عندما اقتاد الجيش، وعندما أقيم قنصلا كان في الثلاثين من عمره، وذلك قبل ذهابه إلى أفريقيا بزمن يسير، وعلى هذا يكون قد قضى خمس عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة في هدم بناء المجد المشمخر الذرى الذي شيده هنيبال محاربا في أقاليم بعيدة عن قرطجنة وبطلها كل هذا الوقت، كأنه قد أبقى القائد العظيم والمدينة العظيمة إلى النهاية.
ولكنه قد كان ناجحا في كل الذي أجراه، حتى إنه عندما تقدم لمهاجمة قرطجنة كان كل شيء قد اضمحل، فكانت قوة قرطجنة كالصدفة المجوفة فارغة وعديمة النوى، فلم تتطلب سوى ضربة واحدة شديدة لتسحق سحقا، وفي الواقع أن قوة قرطجنة كانت متلاشية وفي حالة الانحلال النهائي، وأسباب دفاعها قد نفدت بحيث إن تلك المدينة العظيمة المرهوبة الجانب اضطرت إلى استدعاء، قائدها العظيم لإغاثتها حال دنو الخطر منها فسحق سيبيو الاثنين.
ومع ذلك فإن سيبيو لم يتطوح مثلهم ليسحقهم إلى النهاية، فقد أبقى على حياة هنيبال ولم يؤذ المدينة، إلا أن شروط الصلح التي تقاضاها كانت ثقيلة بهذا المقدار حتى قضت على سيطرة قرطجنة بالزوال إلى الأبد، فبهذه الشروط أتيح للقرطجنيين أن يظلو أحرارا مستقلين، وأن تستمر سيادتهم على مالهم من المقاطعات في أفريقيا التي كانت لهم قبل الحرب، وإنما انتزع سيبيو منهم أملاكهم الأجنبية، حتى إن ملكهم في أفريقيا كان محدودا وسيطرتهم مقيدة.
وأخذ الرومانيون منهم الأسطول بجملته ما عدا عشرة مراكب صغيرة ذات ثلاثة صفوف من المجاذيف؛ ذلك لأن سيبيو وجدها ضرورية لحكومة قرطجنة لكي تستعين بها على الإدارة المدنية، فهذه المراكب فقط بقيت لهم، ولم يقل سيبيو ما الذي سيفعله بالأسطول بل كل ما صرح به هو أن يسلم إليه بلا شروط، ثم إنه أخذ الأفيال التي عند القرطجنيين جملة، واشترط عليهم ألا يمرنوا غيرها فيما بعد في أية ناحية من العالم خلا أفريقيا.
حتى إنه إذا اضطرتها الظروف إلى شهر حرب في أفريقيا، فلا يجوز لها الإقدام على ذلك قبل إشعار الشعب الروماني مقدما والحصول على إذن منه بذلك، وكان على قرطجنة أن تدفع جزية سنوية باهظة لمدة خمسين سنة، فأحدثت هذه الشروط القاسية ضوضاء عظيمة واستياء شديدا في مجالس قرطجنة وطال الجدال في أمرها أياما، وكان هنيبال ميالا إلى القبول بها فعارضه في ذلك آخرون مفضلين المثابرة على الحرب، ولو كان الخذلان فيها من نصيبهم على الرضوخ لمثل هذه الشروط المهينة المؤدية إلى الخراب والشقاء والذل.
وكان هنيبال حاضرا في مفاوضات المجلس كلها، ولكنه وجد نفسه هذه المرة في موقف يختلف كثيرا عن المواقف التي كانت له في غضون ثلاثين سنة انقضت أيام كان قائدا منتصرا يركب في جيش عرمرم، وله إذ ذاك القول الفصل يشير ويسيطر ويدبر كل أمر، ففي مجالسه الحربية الماضية لم يكن أحد يجرؤ على الكلام بدون إذنه، ولا يوضح أحد عن رأيه في أمر إذا أبى هنيبال سماعه.
على أنه في مجلس الشيوخ القرطجني قد كان الأمر بالعكس، فآراء الشيوخ كانت تلفظ بكل وضوح كما يحدث بين الأكفاء، ويكون هنيبال في جملتهم له رأي واحد لا سوى؛ فإما يقبل أو يرفض كغيره من الآراء، إلا أن روح السلطة التي كانت لا تزال تتردد في صدره وما اعتاد في الأيام الماضية من النهي والأمر قد جعله عديم الاحتمال قليل الصبر عندما يعارضه أحد، حتى إنه إذ كان أحد الشيوخ يخطب مرة مفندا آراء هنيبال مقاوما ما أشار به لم يصبر هنيبال عليه، بل أمسكه بتلابيبه وأجلسه في مكانه بالقوة.
فحمل عمله هذه أعضاء المجلس على الاستنكاف من أثرته وتصلبه وعتوه، وصرحوا له باستيائهم من هذا السلوك القبيح قائلين إن أيام سيطرته قد ذهبت، فكان هو والحالة هذه يرجع عن غيه في الحال ويندم على عمله متأسفا؛ لأنه قد نسي واجبات وظيفته الجديدة ويعتذر لتطرفه الذي لا داعي له، أخيرا أقر رأي القرطجنيين على القبول بشروط السلم التي طلبها سيبيو، وهكذا دفعوا إليه أول قسط من الجزية، وسلموا إليه السفن والأفيال بأجمعها مستسلمين على الكره منهم.
ولكن سيبيو أعلن بعد أيام قلائل أنه غير فكره عن أخذ السفن معه، وقال بوجوب تحطيمها هناك، وقد يكون تصميمه على هذا ناتجا عن حسبانه إياها عديمة الفائدة للرومانيين بالنظر إلى صعوبة تجهيزها بالرجال، ومن المعلوم أن السفن بدون رجال لا فائدة منها، وتوجد دول كثيرة في هذا العصر قادرة على ابتناء أساطيل كبيرة، لولا ما يحول دون قيامها بذلك من قلة الرجال الذين يتجردون لهذه الخدمة.
فلعل هذا هو أحد الأسباب الذي حمل سيبيو على عدم أخذ السفن القرطجنية إلى بلاده، وربما أراد أيضا بذلك أن يظهر لقرطجنة وللعالم بأسره أن تصميمه على أن أخذ سفن العدو لم يكن الغرض منه تقوية دولته بما سلبه من قوى العدو المغلوب؛ بل إنه أراد به حرمان المحاربين الطامحين إلى نيل القوة والمجد والوسيلة التي تساعدهم على تعكير مياه السلام، وإقلاق راحة الجنس البشري ببعثات فتوحاتهم وعوامل صولتهم من حين إلى آخر.
وكيفما كان الحال فإن سيبيو صمم النية على تحطيم السفن وعدم تسييرها معه إلى بلاده، ففي ذات يوم ضربه موعدا لذلك أصدر أمره بجمع السفن في البوغاز قبالة قرطجنة وأحرقها هناك، وكان عددها خمسمائة سفينة وعلى هذا ألفت أسطولا ضخما وغطت من البحر مسافة غير يسيرة، وفي اليوم المعين احتشدت جماهير الناس على الشاطئ؛ ليشاهدوا ذاك اللهيب الهائل.
وكان التأثير المحزن الذي سببه ذلك المشهد المؤلم قد تفاقم كثيرا بما كان يغلي في صدور أهل قرطجنة من مراجل البغضاء والحقد على أعدائهم، حتى إن الرومانيين أنفسهم الذين شاهدوا ذلك المنظر المهيب من معسكراتهم على الشاطئ شعروا بتأثير حرك فيهم العواطف، ولكن على صورة تختلف كثيرا عما كان القرطجنيون يشعرون به؛ فإن وجوههم كانت مشرقة بالجذل والابتهاج الناجمين عن فوزهم على أعدائهم، عندما أبصروا ألسنة اللهيب المخيف مندلعة من هاتيك السفن العديدة وأعمدة الدخان تستر صفحات الجو، وتغطي مياه البحر مذيعة للعالم تدمير قرطجنة وتذليل كبريائها بحيث لا تقوم لها بعده قائمة، وبعد أن أنجز سيبيو عمله هذا كما أراد أقلع قاصدا رومية، وكانت إيطاليا بأسرها قد امتلأت بأخبار مآتيه وأنباء انتصاراته وتمكنه من سحق قوة هنيبال؛ لأن رومية لم تعد بعد الآن تخشى صولة ذلك القائد العظيم وترتعد لذكر حروبه، ذلك لأنه قد ترك في وطنه مغلول الأيدي معدوم القوة ذليلا بحيث إن الخوف من وجوده مرة أخرى في إيطاليا يهددها بفتوحاته قد انتفى إلى الأبد، وعلى هذا كان الشعب الروماني الذي ذاق البلاء المر من هنيبال وصولته والذي عادت إليه الآن ذكرى الدواهي الكبار التي رماه بها القائد القرطجني أيام وجوده في إيطاليا يهلل لسيبيو ويلقبه بمنقذ البلاد العظيم، وهكذا كان الرومانيون ينتظرون وصول سيبيو بفارغ الصبر؛ لكي يرحبوا به ويحتفلوا بمقدمه، فلما دنا الوقت واقترب من رومية خرجت جماهير غفيرة للقائه، ونظم رجال الحكومة مواكب مهيبة للترحيب به، وجلبوا معهم تيجان وأكاليل من غار وأزهار مختلفة، وقابلوه بالتهليل وهتاف الفرح والانتصار الباهر، ومنحوه لقب أفريقانوس كذكرى شرف لانتصاراته - وكان هذا شرف جديد - بإعطاء الفاتح اسم البلاد التي دوخها، وقد ابتدع ذلك اللقب خصيصا ليكون جزاء لسيبيو المخلص الكبير الذي أنقذ المملكة من أعظم الأخطار وأروعها، وأراحها من أكبر الأعداء الذي كانت ترتعد فرقا لذكر اسمه. أما هنيبال فمع أنه سقط فهو لم يعدم نصيبا ولو يسيرا مما كان له من القوة والمهابة في قرطجنة، فإن أمجاد مآتيه الحربية ما برحت تزين سجاياه بهالة من الشرف جعلته موضوع الإجلال والاحترام وأبقت له عددا كبيرا من الأصدقاء والمريدين ، وأعطي وظيفة سامية في البلاد فبذل جهده في تنظيم الشئون الداخلية وتحسين الإدارة من كل وجه، على أنه لم يبلغ من ذلك المراد الذي رامه.
ويقول المؤرخون إن المقاصد التي رام إتمامها حسنة، والطرق التي اتخذها لبلوغ الغاية منها حكيمة في ذاتها، إلا أنه لما كان لا يزال متعودا الأمر المطلق والسيطرة التي لا تعرف قيدا ولا حدا، شأن القائد العسكري وجد من الصعب عليه كثيرا استعمال الرفق والتؤدة والتساهل واحترام السوى، الأمور التي لا يستغنى عنها في التأثير على الناس واكتساب مناصرتهم في إدارة القضايا المدنية.
فهنيبال الذي جرى على طبيعته العسكرية المتصلبة لم يجار القوم كما تقضي بذلك الضرورة؛ ولهذا أوجد لنفسه عددا كبيرا من الأعداء الذين بذلوا ما وسعهم بالمكائد والدسائس وبالمقاومة الظاهرة أيضا لإسقاطه وإذلاله، فخفضوا من كبريائه وحقروه، فآلمه ذلك كثيرا وكان هذا دأبهم معه في كل حادثة توقعت لهم معه رجوع سيبيو إلى رومية، وفي غضون ذلك طرأت أسباب حملت قرطجنة على محاربة قبيلة أفريقية مجاورة لها، فاقتاد هنيبال حملة عسكرية جندها من سكان المدينة لمحاربة تلك القبيلة.
واتصل ذلك بالرومانيين الذين أقامو الجواسيس في قرطجنة؛ ليطلعوهم على كل ما يجري فيها، فحذروا أهل قرطجنة من الإقدام على الحرب، قائلين إن ذلك مخالف للمعاهدة المسطرة بين البلادين؛ ولهذا فإن رومية لا تسمح لهم بذلك، ولما كانت حكومة قرطجنة تكره المخاطرة في إغاظة رومية وتتحاشى جهد الإمكان الدخول معها في حرب يقتاد فيها سيبيو جيوش الرومانيين، أرسلت من فورها الأوامر إلى هنيبال بالعدول عن الحرب والرجوع إلى المدينة.
فأرغم هنيبال على الإذعان والطاعة، ولكنه إذ كان متعودا عدم المبالاة بجيوش رومية وأساطيلها مهما بلغ من عددها وعدتها، فلا نرتاب في أن روحه العالية قد استكبرت الأمر وتألمت كثيرا إذ رأت أنها قد قهرت وقمع من نخوتها بكلمة واحدة؛ فإن كل ما كان الرومانيون يستطيعون حشده من القوات ضده حتى عندما كان على أبواب رومية لم يكن ليعبأ به، والآن بكلمة تهديد واحدة آتية من عبر البحار ومرسلة إليه وهو في جوف صحارى أفريقيا القاصية تجرده في دقيقة واحدة من كل قوته.
ومرت السنون وهنيبال قلق منزعج لا يهدأ له روع بالنظر إلى اضطراره لاحتمال الذل والاستكانة والقهر الذي حكم عليه به القضاء والقدر، فكانت نفسه العالية التي لم تصبر على ضيم من قبل عاملة على التفكير الدائم وتدبير الخطط التي تمكنه من اكتشاف وسيلة يتوصل بها إلى تجديد العراك مع عدوته القديمة، والنيل منها مدفوعا إلى ذلك بعامل الغيظ والطموح واستعادة المجد القديم.
يذكر دارسو التاريخ أن قرطجنة كانت في الأصل مستعمرة تجارية تابعة لصور، وهي مدينة على الشاطئ الشرقي من بحر الروم، وكانت سوريا وفينيقية مجاورتين لصور، وكانت هذه البلدان على درجة عظيمة من المقدرة التجارية وعلائقها مع قرطجنة ولائية إلى الغاية، بحيث إن سفنهما التجارية جميعا كانت تمخر البحر ذهابا وإيابا بينهما، فإذا ما نابت إحداها نائبة أو حلت بها نكبة كانت بالطبع تتوقع من البلدان الأخرى المساعدة والحماية، فإن قرطجنة كانت تعد فينيقية بمثابة أم لها، وفينيقية تحسب قرطجنة بنتها.
وكان في هذا الحين ملك قدير على عرش سوريا وفينيقية اسمه أنتيوخوس، وكانت عاصمة ملكه دمشق، وقد عرف بالصولة والغنى الوفير، وصدف في ذلك الوقت اشتباكه بمشاكل كثيرة مع الدولة الرومانية التي توسعت في فتوحاتها حتى بلغت تخوم مملكته من ناحية الشرق، وكاد الأمر بينهما يؤدي إلى حرب طاحنة بسبب ذلك، فاهتبل أعداء هنيبال في قرطجنة فرصة وجود هذه المشاكل بينهما، وأخبروا المجلس الروماني بأن هنيبال يدبر المكائد مع أنتيوخوس بقصد توحيد جيوش سوريا وقرطجنة ضد الجيش الروماني، وإضرام نيران تندلع ألسنة لهيبها في العالم مرة أخرى.
فعول مجلس رومية عندما اتصلت به هذه الأنباء على إرسال بعثة إلى الحكومة القرطجنية تطالبها باسم رومية بوجوب عزل هنيبال من وظيفته، وتسليمه أسيرا للرومانيين؛ لكي يحاكموه على هذه التهمة، ووصلت تلك البعثة إلى قرطجنة، ولكنها كتمت الأمر الذي قدمت من أجله احتسابا لما يقدم عليه هنيبال من ترك المدينة، والفرار إلى حيث يكون في مأمن من شرهم إذا هو درى بما هم آتون لأجله، فينجو بنفسه قبل أن يقر رأي المجلس القرطجني على تسليم هنيبال إلى الرومانيين.
على أن هنيبال كان أوفر منهم فطنة وأكثر حذرا واحتسابا، فهو قد سعى بكل وسيلة لديه للاطلاع على غرضهم من المجيء إلى قرطجنة، وعزم في الحال على النجاة بنفسه علما منه بأن أعداءه في قرطجنة كثار العدد، وأن كرههم له يتفاقم يوما عن يوم؛ ولهذا لم يجسر على ترك المسألة للأقدار، وانتظار نتيجة قرار مجلس وطنه في شأنه، بل صمم على الفرار بلا أقل تردد.
وكانت له قلعة أو برج صغير على الشاطئ يبعد عن قرطجنة مائة وخمسين ميلا إلى الجنوب، فوجه على الفور رسولا أمينا إلى هناك؛ لكي يهيئ له سفينة تكون على استعداد لركوبه البحر، ودبر جماعة من الفرسان تقف على بوابات المدينة عند حلول الظلام، وفي سحابة ذلك اليوم ظهر هنيبال في الشوارع العمومية بكل حرية وبقلة مبالاة؛ كأنه غير عالم بشيء يزعجه قاصدا بذلك إقناع سفراء رومية الذين كانوا يراقبونه بأنه غير مفكر في الهرب.
وعند المساء اتجه متمهلا في سيره نحو منزله، وهناك شرع في إعداد كل ما يلزم لسفره، ولما خيم الظلام ذهب إلى بوابة المدينة راكبا الجواد الذي أعد له، وأسرع في الفرار قاطعا الوهاد والبطاح يريد قلعته، وهناك وجد السفينة التي أمر بإعدادها له، فركبها في الحال وأطلق شراعها للريح فأبعدته عن الشاطئ مسافة غير يسيرة.
ويوجد على مسافة من الشاطئ جزيرة صغيرة اسمها سرسينيا، فوصلها هنيبال في ذات اليوم الذي غادر فيه قلعته، وكان لتلك الجزيرة مرفأ تأوي إليه السفن التجارية، فبحث بين السفن ووجد عددا بينها من السفن الفينيقية، وكان البعض منها ذاهبا إلى قرطجنة، فأحدث وصول هنيبال إلى تلك الجزيرة ضجة كبرى واستغرب القوم أمر مجيئه إلى هناك؛ فلكي يزيل انذهالهم قال لهم إنه موفد من الحكومة القرطجنية إلى حكومة صور.
وخشي هنيبال أن بعض تلك السفن التي كانت موشكة أن تمخر البحر إلى قرطجنة تحمل إلى حكومتها خبر وجوده في جزيرة سرسينيا؛ فلكي يحول دون ذلك دبر بدهائه الخارق الخطة التالية؛ وهي أنه أرسل إلى ربابنة تلك السفن دعوة رسمية إلى حفلة يريد القيام بها، وسألهم في الوقت نفسه أن يعيره كل واحد منهم شراع سفينته الأكبر؛ لكي يؤلف منها جميعها خيمة تسع الضيوف، وتقيهم البلل من ندى الليل.
فقبل الربابنة دعوة هنيبال فرحين تائقين إلى رؤية ما أعده لهم وأمروا رجالهم بإنزال الشرع الكبرى، ومعلوم أن نزع تلك الشرع عن السفن جعلها غير قادرة على الحراك، وهكذا اجتمع جمهور المدعوين تحت تلك الخيمة العظيمة المركبة من شرع السفن والمضروبة على شاطئ البحر، فلقيهم هنيبال مرحبا وبقي معهم ردحا من الوقت، ثم انسل في غضون الليل عندما كان المدعوين متمتعين بما أعده لهم لاهين بمعاقرة الخمرة، وركب سفينته وأقلع مبحرا.
ولم يستيقظ ربابنة السفن من نومهم الثقيل المتسبب عن تماديهم في شرب الخمور، ولا تمكنوا من إعادة شرع سفنهم إلى الأدقال إلا بعد أن كان هنيبال على بعد شاسع عنهم على طريقه إلى سوريا، وفي ذلك اليوم نفسه اضطربت أرجاء قرطجنة واشتد تحمس الناس فيها واستغرابهم عندما انتشرت الأخبار في سائر أنحائها عن اختفاء هنيبال، وازدحم الناس أمام منزله سائلين مستفهمين، ولكن بدون جدوى، وتواترت الإشاعات وتعددت الأقاويل وتضاربت الآراء في أمر اختفائه، ولكنها كانت متناقضة ومما لا يقبله العقل، فزادت في تعجب الناس واستنكارهم الأمر.
واستمرت هذه الضجة في قرطجنة إلى يوم وصلتها السفن من جزيرة سرسينيا، فوقف الأهلون منها على الحقيقة، ولكن هنيبال كان عندئذ قد بعد كثيرا وأصبح في حرز حريز عن أن تصل إليه أيدي أعدائه، ومع أنه كان فرحا بخلاصه وفوزه على الكائدين فإن قلبه كان غاصا بالغصات الناجمة عن الحالة التي وصلته إليها صروف الزمن، ووصل صور فنزل إلى البر سالما وقوبل بمزيد التجلة، وبعد أيام معدودة أخذ يتجول في الداخلية ذاهبا في وهادها وبطاحها على غير هدى إلى أن وصل إلى أفسس، حيث وجد أنتيوخوس ملك سوريا.
وحالما عرف أهل قرطجنة بفرار هنيبال أخذوا يحسبون الحساب الكبير لنتيجته، وأن الرومانيين سوف يجعلونهم مسئولين عنه، فيؤدي الأمر إلى تجديد حرب بين البلادين، ولكي يتقوا هذا الخطر بادروا في الحال إلى إرسال وفد إلى رومية؛ لكي يطلع الحكومة فيها على فرار هنيبال ويبدي أسف قرطجنة الشديد واستياء أهلها من هذا الحادث الذي لم يخطر لهم ببال، وهم يتوقعون من وراء ذلك تلطيف غضب أعدائهم مما جرى.
ويلوح للقارئ عند تأمله هذه الحادثة أن أهل قرطجنة قد تصرفوا بلؤم وخساسة، وأنكروا جميل قائدهم بهذه الصورة الشائنة فخذلوه وانحازوا إلى الأعداء؛ ليناصروهم عليه وهو الذي أغضب أولئك الأعداء وألهب صدورهم غيظا منه في خدمة قومه ووطنه، وأن قلبهم له ظهر المجن في ساعة ضيقه وشدته ليس من الشهامة والشرف في شيء، وفي الواقع أن تصرف القرطجنيين كان يعد لؤما فظيعا للغاية، ولا يتفق مع مبادئ الوطنية الصادقة، لو كان الأشخاص الذي لقي منهم هذه المعاملة السيئة هم ذاتهم في الحالتين.
ولكنهم لم يكونوا كذلك، فالأشخاص وأهل النفوذ من القرطجنيين الذين يقاومون هنيبال ومساعيه في هذا الحين كانوا يقاومونه على الدوام من أول عهده بالقيادة، إلا أنهم في وقت انتصاراته وعندما كان الجد خادما له كانوا يخلدون إلى السكينة ويقل عديدهم، ويكون أصدقاء هنيبال ومريدوه مسيطرين على كل أعمال المدينة، ولهم القول الفصل في كل أمر.
أما الآن وقد شعر الناس بمرارة ثمرات مساعيه وطموحه ونتائج اعتدائه الذي لا موجب له على أملاك الرومانيين وحقوقهم؛ فإنهم أسقطوا أصدقاءه من وظائفهم وأحلوا أعداءه محلهم، فتولى مقاوموه زمام الأمور وبذلوا كل ما في وسعهم لإبقاء هنيبال ذليلا مهانا وشريدا طريدا ما دام قد سقط، وعملهم هذا سواء كان من الوجه السياسي خطأ أو صوابا، فهو مناسب في ذاته ولا يجوز حسبانه من الأعمال التي تجعلهم جديرين بتهمة نكران الجميل أو الخيانة.
وقد يحمل المرء على الظن أن كل آمال هنيبال وما يصبو إليه من العودة إلى مكافحة عدوه الروماني العظيم قد خابت، والآن أصبح يائسا من ذلك منقطع الرجاء، وأنه قد عول على ترك الخلاف والإعراض عن كل ما يجدد الحروب واستسلم للأقدار، مكتفيا باتخاذ مقر يلتجئ إليه ويقضي فيه بقية أيامه بسلام، قانعا بإنقاذ نفسه من شفار السيوف بعد تلك الأخطار التي تعرض لها، وأفلت منها وحماية شخصه من انتقام أعدائه.
ولكن من الصعب قمع تلك النفس الكبيرة وإخضاع تلك الشخصية التي لا تحتمل الضيم، ولا تصبر على الأذى، وإخماد جمرة ذلك النشاط العجيب والهمة التي لا تثبطها الأهوال، فهو كان غير ميال إلى السكون والرضا بما قسم له، وهكذا فإنه حالما وجد نفسه في دار الملك أنتيوخوس بدأ بإعداد خطط جديدة ليشهر الحرب على رومية، وعرض على الملك السوري إنشاء قوة بحرية، وتقليده زمام قيادتها.
وقال للملك أنتيوخوس: إنه إذا أعطاه مائة سفينة وعشرة آلاف أو اثني عشر ألف رجل، فإنه يقود تلك الحملة بنفسه، ولا يشك مطلقا في اقتداره على استعادة المكانة التي خسرها وعلى إذلال عدوه القوي القديم مرة أخرى، وقال إنه يذهب بذلك الجيش والأسطول إلى قرطجنة أولا؛ لكي يحصل على مناصرة بني قومه في مسعاه الجديد، ثم يزحف على إيطاليا حيث يسترجع فيها دون أقل ريب ما كان له من التفوق في الماضي.
وكانت غاية هنيبال هذه من الذهاب إلى قرطجنة بجيشه السوري أولا مقصودا بها البطش بأعدائه هناك، وإعادة مريديه إلى تسلم أزمة الحكومة، ولكي يمهد السبيل لذلك مقدما ويكون على يقين من الفوز بما صمم عليه، وجه إلى قرطجنة رسولا في السر، بينما كان يفاوض أنتيوخوس في أمر الحملة على رومية؛ لكي يطلع أنصاره على الخطة الجديدة التي يفكر فيها، وعلى عظيم رجائه بحصوله على ما يريده من هذا القبيل.
وأدرك هنيبال أن خصومه في قرطجنة سوف يتوقعون مثل هذه الحركة الجديدة منه ويعدون له الأرصاد؛ ولهذا لم يكتب رسائل ولا سطر شيئا مما أراد إبلاغه على الورق لعلمه أن ذلك يفضح سره، ويعلن تدابيره للملأ فيفسد أمره عليه وتروح مساعيه ضياعا، وعلى هذا أوضح للرسول كل شيء وأطلعه على مراميه وخطته بالتفصيل الوافي، وأفهمه بكل دقة كيف يبلغ ذلك إلى الأنصار.
ولا يخفى أن حكومة قرطجنة كانت تراقب ساهرة لتقف على حركات هنيبال، وقد بثت الجواسيس في كل مكان؛ لكي يستطلعوا طلع أخباره وما يعول عليه، وكان أن أولئك أعلموا الحكومة بوصول ذلك الشخص الغريب فسارعت لفورها إلى اتخاذ الوسائل الفعالة للقبض عليه، وكان هو أوفر منها حيطة وأكثر حذرا فدرى من تجواله في المدينة بما تعده له من المهالك، وصمم النية على إطلاق ساقيه للريح.
وقبل الإقدام على ذلك أعد إعلانات مختلفة ألصقها خفية في الساحات العمومية، قال فيها إن هنيبال بعيد عن التسليم بأنه قد غلب على أمره وقهر نهائيا، وهو على العكس من ذلك يعد الخطط الجديدة للبطش بأعدائه في قرطجنة واستعادة ما كان له من المكانة فيها، والزحف بعد ذلك على بلاد الرومانيين بالسيف والنار، وختم هاتيك الإعلانات بحث أصدقاء هنيبال في قرطجنة على الثبات معه والإخلاص له ومناصرة مساعيه.
وبعد أن ألصق الرسول هذه الإعلانات فر من المدينة تحت جنح الظلام ورجع إلى هنيبال، وفي ثاني الأيام ضج الأهلون كما لا يخفى لما قرءوه، وثار ثائر أعداء هنيبال عليه وهالهم أمره، كما أن هذه الأخبار شجعت أصدقاءه وأحيت في قلوبهم ميت الرجاء، وعند هذا الحد من الحدة والضجة وقفت الحالة هناك إلى أجل معلوم، وكانت قوة الحزب المقاوم لهنيبال قد رسخت في قرطجنة إلى حد يصعب معه التغلب عليها بسهولة، وفي ذلك الحين أرسل أعداء هنيبال بالخبر اليقين إلى رومية، فأطلعوا الحكومة فيها على حكاية مجيء رسول هنيبال إلى قرطجنة وما كان من نتائج قدومه، وانتهى الأمر عند هذا الحد وعادت الأمور إلى ما كانت عليه.
وعندما علمت حكومة رومية بمكان هنيبال أرسلت وفدا من قبلها لمفاوضة الحكومة السورية في شأن نياتها وخططها؛ ولكي تراقب حركات هنيبال أيضا، وقيل إن سيبيو نفسه كان من جملة أعضاء ذلك الوفد وأنه التقى هنيبال بالفعل في أفسس وتحدث معه هناك مليا مرات عديدة، وقد أورد أحد قدماء المؤرخين تفصيلا خاصا لحديث واحد دار بينهما، تكلما فيه - كما يحدث طبعا بين قائدين عظيمين - عن الأمجاد العسكرية وعظمتها.
فسأل سيبيو هنيبال عمن يظنه أعظم أبطال الحروب في التاريخ كله، فأجاب هنيبال مانحا إكليل الغار لإسكندر المكدوني؛ وذلك لأنه قد توغل بجيش صغير من المكدونيين في أقاليم سحيقة، وقهر جيوشا جرارة وأنشأ مملكة لا مثيل لها كانت تأتمر بأمره من أقصاها إلى أقصاها، فسأله سيبيو عندئذ عن الثاني للإسكندر في العظمة الحربية - فقال بيرهوس.
وكان بيرهوس إغريقيا اجتاز بحر أدريا وشهر حربا على الرومانيين، كان النصر فيها مرافقا لأعلامه، وقال هنيبال إنه منح بيرهوس المحل الثاني بعد الإسكندر؛ لأنه نظم فن الحرب وأبلغه درجة الإتقان الكامل، ولأنه كان ذا قوة على إيقاظ شعور قوي في جنوده يحملهم على التعلق به، ويحمل مثل ذلك سكان البلدان التي يجتاحها ويقهرها، الأمر الذي لم يستطعه قائد آخر سواه في التاريخ.
وسأل سيبيو هنيبال أيضا عن ثالث ذينك القائدين، فأجاب هنيبال قائلا إنه يحل نفسه في المحل الثالث، ثم زاد على هذا قوله: «لو أني تمكنت من قهر سيبيو؛ لكنت أعد نفسي فوق الإسكندر وبيرهوس وسائر القواد الذين نبغوا في العالم بأسره.» وهناك طرائف لأخبار متنوعة متعلقة بهنيبال في غضون أول ظهوره في سوريا تدل على واسع شهرته، وعلى إعجاب الناس الشديد به، وما يحدثه وجوده في صدورهم حيثما اتجه من المهابة والخشية، وترك كل عمل للتفرج عليه.
ومما يذكر من هذا القبيل أن خطيبا كثير الدعوى والعجب لم يكن يعرف عن فنون الحرب شيئا إلا ما توهم أنه يحسنه فكريا، كان يخطب في حفل من الناس وجد بينهم هنيبال بالصدفة، ولما درى بوجود هنيبال بين سامعيه ازدادت رغبته في إبداء مواهبه، وما يعتقد أنه يعرفه من شئون الحروب على مسمع من هذا الضيف الطائر الشهرة، وبعد انتهائه من الخطابة سأل القوم هنيبال رأيه في الذي أورده الخطيب، فأجابهم هنيبال: «إني قد سمعت من قبل كثيرين من أهل الهذر والهذيان، ولكني بالحق أقول لكم: إن هذا المهذار أعظمهم جميعا.»
وفشل هنيبال فيما سعى إليه للحصول على حملة عسكرية يهاجم بها الرومانيين، بالرغم من بذل أقصى جهوده في سبيل ذلك، وكان لا يمل من الطلب ولا يكل عن محاولة إقناع ملك سوريا بما هو قادر على إتمامه، ومع أن الملك كان يعده بإجابة ملتمسة حينا بعد آخر فإنه لم يبر بوعده، وبقي هنيبال في ذلك الجانب من العالم عشر سنوات محاولا جهد إمكانه التوصل إلى ما يريده، ولكنه كان في كل سنة يرى نفسه أبعد عن غرضه منه في السنة التي قبلها.
فكأن ساعة حسن طالعه ومجده قد ذهبت حسب الظاهر؛ لأن كل تدابيره أدت إلى فشل وخيبة وتلاشي نفوذه، وماتت شهرته تدريجا مع الأيام فلم يعد يذكره أحد، أما الملك أنتيوخوس فإنه بعد عراك عديم الثمرة مع الرومانيين عقد معهم صلحا، وكان من جملة شروط ذلك الصلح أن يسلم إليهم هنيبال، فصمم على الفرار ووقع اختياره على الالتجاء إلى جزيرة كريت.
ولما وصل إلى تلك الجزيرة وجد أنه غير قادر على البقاء فيها، وكان قد احتمل معه شيئا كثيرا من الذهب، فعندما عزم على مغادرة كريت قلق قلقا شديدا على الذهب الذي معه؛ إذ خشي أن يغتصبه الكريتيون منه؛ ولهذا رأى أن يبتدع طريقة أو حيلة تمكنه من نقل الكنوز معه، فكان ما فكر فيه كما يأتي:
ملأ عددا من الأوعية الفخارية بالرصاص وستر أعاليها فوق الرصاص بقليل من الذهب والفضة، وحمل هذه الأوعية متظاهرا بالخوف والخشية عليها إلى هيكل ديانا، وهو أقدس معابدهم قائلا إنه يأتمنهم عليها وأنها كل ثروته التي لا يملك من حطام الدنيا سواها، فوعدوه خيرا وأكدوا له أنهم سيحتفظون بها بحيث لا تمتد إليها يد، وعندئذ غادرهم هنيبال ومعظم ما كان لديه من الذهب الحقيقي موجود معه، وقد صبه في أجواف عدة تماثيل من النحاس كان يحملها معه متظاهرا بأنها تحف لا قيمة لها.
وفر هنيبال من مملكة إلى مملكة ومن مقاطعة إلى أخرى، إلى أن صارت حياته شقاء ومرارة ووجوده عبئا ثقيلا، وكان الرومانيون يلاحقونه حيثما ذهب ويزعجونه ويعملون بكل الوسائل الممكنة على إقلاق راحته، وقطع كل رجاء له من العود إلى سابق عزه، فكان فكره معذبا بذكرى الماضي والخوف من المستقبل، وبالتأسف على أمور كان من حقه القيام بها وتهامل في ذلك.
فهو قد قضى فجر حياته مجاهدا ضد قوم لم يمسوه بأذى باذلا قواه في إنزال أشد الضربات على عدو لم يبادئه بعدوان ولا تعرض له في أمر، والآن في مساء ذلك العمر قد أصبح هو نفسه معرضا لما رام إلحاقه بأعدائه من الذل والشقاء والحياة المرة، وكأن أعداءه قد صمموا النية على الانتقام منه مضاعفا؛ لما صبه عليهم من الويلات، وأن يجعلوا ختام حياته ذلا وعذابا لا نهاية لهما إلا بالموت.
ولما رأى هنيبال أن أعداءه يضيقون عليه المسالك ويسدون في وجهه السبل، وأن الخطر يزداد دنوا منه كل يوم؛ استحضر شيئا من السم كان أعده لحين الحاجة؛ إذ رأى الأفضل له أن ينتحر بتلك الطريقة من أن يقع في قبضة الأعداء، فيذيقوه العذاب والذل أشكالا وألوانا. وفي ذات يوم وجد أن ساعة تناول ذلك السم قد جاءت، وكان يومئذ شريدا منفردا في بثيسينيا؛ وهي مملكة في آسيا الصغرى قبله ملكها وحماه إلى حين، ولكنه ارتأى بعد ذلك أن يسلمه إلى الرومانيين.
ولما درى هنيبال بما عول الملك عليه تأهب للفرار؛ إلا أنه وجد السبل مسدودة، فلما أراد الانسلال من القصر لم يجد منفذا من المنافذ التي فكر في الفرار منها مفتوحا، ورأى أن كل مخرج من القصر الذي هو فيه محاط بالحراس، فلم يعد الفرار ممكنا بعد هذا، وهكذا ذهب هنيبال إلى غرفته وأتى بالسم، وكان قد صار شيخا هرما بالغا من العمر السبعين سنة، وقد هدت قواه الحروب وأنهكه الفرار من مكان إلى آخر، وأتعبه الخوف من أعدائه وقلق الليالي المتسبب عنه؛ ولهذا سر أن يموت، وبعد ساعات قلائل كان جثة هامدة.
الفصل الثاني عشر
تدمير قرطجنة
إن نتائج طموح هنيبال المتناهي في التهور واعتدائه بلا موجب على حقوق الرومانيين؛ لإشباع مطامعه لم ينته بانسحاقه شخصيا فقط، فإن اللهيب الذي أشعله قد استمر على الاندلاع تدريجا مع الأيام إلى أن تناول قرطجنة بالذات، فأحرقها ودمرها إلى الحد الذي لم تقم لها بعده قائمة.
تم هذا في حرب ثالثة نهائية بين القرطجنيين والرومانيين معروفة في التاريخ بالحرب القرطجنية الثالثة، ونحن نختم سيرة هنيبال بتفصيل حوادث هذه الحرب التي أدت إلى خراب تلك المدينة الزاهرة النهائي ومحوها من الوجود، ويذكر القراء أن الحرب التي شهرها هنيبال نفسه على رومية كانت ثانية الحروب بين الأمتين، وأن العراك الذي حارب فيه روغلوس نفسه كان أول المعارك، والعراك الذي سنتكلم عنه الآن هو ثالثهما، وسندرج لهذه الحروب جدولا فيما يلي يسهل على القارئ معرفة العلاقة التاريخية الكائنة بين هاتيك الحروب.
فهذه الحروب القرطجنية الثلاث كما يرى القارئ في الجدول التالي قد شملت مدة من الزمن تزيد على المائة سنة، وكانت كل حرب منها أقصر من التي تقدمتها، ولكنها أكثر هولا وأعظم ويلا منها، أما فترة السلام والمهادنة فقد كانت أطول بين كل حرب وأخرى، وهكذا فإن الحرب القرطجنية الأولى قد استمرت أربعا وعشرين، والحرب الثانية دامت نحو سبع عشرة سنة، والثالثة نحوا من أربع سنوات.
وكانت فترة السلام بين الحرب الأولى والثانية أربعة وعشرين عاما، وبين الثانية والثالثة كانت مدة المهادنة نحو خمسين عاما، وهذه الفروقات في مدة السلم قد تسببت إلى درجة معلومة عن الظروف العرضية التي نشأت عنها عوامل الخلاف المتتالية، فكلما طالت مدة عراكهما طال بسببها زمان تحاجزهما؛ وذلك بالنظر إلى نتائجهما الساحقة للقوى وعظيم خسائرها اللاحقة بالجانبين. وبعبارة أوضح إن كل حرب طال أمدها كثرت بالطبع خسائرها وعظمت ويلاتها، وكان ذلك حاملا للفريقين على ترك القتال وتطلب الراحة مدة طويلة بعدها. ثم إن طول زمان الراحة والسلام كان كما لا يخفى مساعدا لكليهما على استجماع القوى، والتأهب لحرب أخرى طاحنة تتفاقم فيها الشحناء وتقوى البغضاء، وهكذا كانت تلك الحروب تتلو الواحدة منها الأخرى بعد فترات طويلة، وكان العراك عند احتدام نيرانه قصير المدة عظيم الهول وشديد الوطأة من كل وجه.
الجدول.
التاريخ ق.م.
الحوادث
الحرب الأولى: 24 سنة
264
ابتداء الحرب في سييليا
262
معارك بحرية في بحر الروم
249
روغولوس يرسل أسيرا إلى رومية
241
عقد الصلح
سلام لمدة 24 سنة
الحرب الثانية: 17 سنة
219
هنيبال يهاجم ساغونتوم
218
يجتاز جبال الألب
216
معركة كانيه
205
سيبيو يتغلب على هنيبال
202
عقد الصلح
سلام لمدة 52 سنة
الحرب الثالثة: 3 سنين
148
إعلان الحرب
145
تدمير قرطجنة
قلنا إنه بعد انتهاء الحرب القرطجنية الثانية عقد نوع من الصلح بين البلادين دام نحو خمسين عاما، ومن المعلوم أنه في غضون هذا الزمن قام في رومية وفي قرطجنة نوابغ من الرجال كانوا منذ الصغر قد تشربوا الكره الشديد الذي شعر به أهل كل بلاد نحو الأخرى متوارثينه خلفا عن سلف، وغني عن البيان أن هنيبال طيلة عمره وفي كل ما كان يدبره من المكايد في سوريا ضد رومية كان العامل الأكبر على إبقاء نار الحقد مستعرة في رومية على الاسم القرطجني.
أجل، إن حكومة قرطجنة قد تبرأت من أعماله وتدابيره، وأعلنت مقاومتها لكل مؤامراته، إلا أن رومية كانت تدرك أن عمل قرطجنة هذا ناتج عن عدم اعتقادها بمقدرة هنيبال على إبراز تلك المكايد والمؤامرات من حيز الفكر إلى دائرة الفعل؛ ولهذا لم تكن للرومانيين ثقة بإخلاص القرطجنيين وأمانتهم، ومن أجل هذا لم يكن بين الشعبين وفاق حقيقي أو صلح ثابت أكيد.
زد على هذا ما كان يبدو بين الفريقين من حين إلى آخر من الخلاف المؤدي إلى زيادة النزاع والشقاق، فإذا ألقى القارئ نظرة على الخارطة يرى بلادا غربي قرطجنة اسمها نوميديا، ومساحة هذه البلاد مائة ميل عرضا ويمتد طولها في الداخلية بضع مئات من الأميال، وهي إقليم كثير الخصب والثروة وفيها مدن عرفت بغناها المفرط وقوتها، وكان سكانها ميالين إلى الحروب ومشهورين بما عندهم من الفرسان البارعين.
وقد قال عنهم المؤرخون إنهم كانوا يمتطون صهوات جيادهم إلى حومة الوغى بلا سروج، وأحيانا بدون لجم فيديرونها بأصواتهم فقط، فإذا جرت بهم ثبتوا على متونها كأنهم ولدوا هناك بالنظر إلى ما كانوا عليه من الدربة والتمرن، وقد ورد ذكر هؤلاء النوماديين في روايات هنيبال عن حملاته، وفي كتب المؤرخين الحربيين من سائر العصور.
وكان في جملة ملوك نوميديا ملك انحاز إلى جانب الرومانيين في الحرب القرطجنية الثانية، وكان اسمه مسانيا، جرت بينه وبين ملك المقاطعة المجاورة لنوميديا منازعات وحروب، واسم الملك هذا سيفاكس، ومع أن الملك مسانيا كان مواليا للرومانيين؛ فإن سيفاكس كان مناصرا للقرطجنيين، وكل واحد من الملكين كان في انحيازه إلى أحد الفريقين يتوقع من فريقه مناصرته على قهر الملك الآخر.
وظهر أن حلفاء مسانيا قد برهنوا على أنهم الحزب الأقوى، ففي نهاية الحرب القرطجنية الثانية عندما عقد الصلح وسطرت شروطه، نتج عن تلك الشروط اتساع مملكة مسانيا، وأيد الرومانيون ما زيد على أملاكه، واشترطوا على أهل قرطجنة ألا يمسوه بسوء بوجه من الوجوه، ومن المعلوم أن الحكومات التي على شكل حكومتي رومية وقرطجنة كثيرا ما يكون فيها حزبان قويان يجاهد واحدهما ضد الآخر لإحراز القوة والسيادة، وكان في رومية حزبان فاختلفا في شأن الخطة التي يجب الجري عليها فيما يتعلق بقرطجنة - أحدهما كان ميالا إلى السلم كيفما حصل، والآخر يدعو إلى الحرب على الدوام، وعلى مثل ذلك كانت الحال في قرطجنة، فإن أحد حزبيها كان يشير بمسالمة رومية وإرضائها في كل أمر وتحاشي إغضابها، والحزب الآخر الذي كان يشعر بثقل وطأة الرومانيين يدعو دائما أبدا إلى خلق الأسباب المؤدية إلى النزاع، ومقاومة عدوتهم اللدودة كأنهم يتمنون شبوب نار الحرب بين المدينتين مرة أخرى.
وانقضت خمسون سنة - كما تقدم البيان - على ختام حرب هنيبال، ففي غضون هذه المدة كان سيبيو - وهو الذي قهر هنيبال - قد اختفى من مسرح السياسة، وكان مسانيا ملك نوميديا نفسه قد شاخ وتقدم في الأيام فأصبح عمره فوق الثمانين سنة، إلا أنه احتفظ بالقوة والنشاط اللتين اتصف بهما في ريعان شبابه، فجمع هذا جيشا جرارا وامتطى جواده - كما كان يفعل جنوده - بدون سرج، وجال من مكان إلى آخر بين الصفوف يأمر وينهى ويتم تدابير المعركة.
وكان اسم القائد القرطجني في هذه الحروب أسدروبال، والاسم هذا كان كثير الاستعمال في قرطجنة ولا سيما عند أصدقاء هنيبال وأسرته وأقاربه، وقد يكون الذي سمي به قد ناله من والديه لإحياء ذكر شقيق هنيبال الذي قتل بعد اجتيازه جبال الألب؛ لأنه في غضون الخمسين سنة التي ساد فيها السلام بين الشعبين قد توفر الوقت لمولود جديد لكي يبلغ سن المراهقة، وفي كل حال فقد علمنا أن أسدروبال الجديد قد ورث كل ما عرف عن سميه من الكره الشديد لرومية.
وعلى هذا كان هو وحزبه يتحينون الفرص؛ لكي يتفوقوا على خصومهم في قرطجنة، فأدركوا ذلك، وفي الحال استغنموا وقت انتقال السلطة إليهم؛ ليجددوا ولو عرضا وباستتار العراك مع رومية، فنفوا الزعماء المعارضين وحشدوا جيشا اقتاده أسدروبال بالذات وزحفوا به لمحاربة الملك مسانيا. ومن غرائب المفارقات أن هنيبال نفسه أوقد نيران الحرب مع رومية بمثل هذه الطريقة وذلك بالسعي إلى محاربة حليف رومية.
نعم إن هنيبال بدأ هجماته في ساغونتوم من إسبانيا وأسدروبال في نوميديا بأفريقيا، ولكن الظروف متماثلة بقطع النظر عن التحديات الجغرافية، وقد ظن أسدروبال أنه سوف يوجد لنفسه تاريخ حرب مجيدا يماثل ذلك الذي خلد ذكر سميه العظيم، وقد وجدت بين حالتي الاثنين مشابهة أخرى؛ وهي أن هنيبال وأسدروبال قد تصدت لهما أحزاب مقاومة في قرطجنة في بدء ما صمما على الشروع فيه.
ولكن مقاومي أسدروبال هذا قد أرسلوا إلى المنفى، وتشتت شمل حزبهم وجرى على الميالين إليهم تضييق شديد، إلا أن العناصر بقيت والأذناب المختلفة استكانت، فأقامت تتحين الفرص حتى إذا نابت جيش أسدروبال نائبة هبوا من مكانهم، وأنزلوا به الويلات وأسقطوه من شاهق مجده؛ ولهذا كان لأسدروبال عدو مزدوج؛ أحدهما أمامه في حومة الوغى، والآخر وهو أعظم قوة باق وراءه في المدينة.
والمقابلة بينهما والحالة هذه تنتهي هنا، فإن هنيبال قد انتصر في ساغونتوم، وأما أسدروبال فاندحر اندحارا مشئوما في نوميديا، فكان العراك هنا طويلا تهالك فيه الجانبان، ولكن القرطجنيين أرغموا في النهاية على ترك مواقفهم، وتراجعوا بغير انتظام ملتجئين إلى معسكرهم، وشاهد المعركة ضابط روماني كان واقفا على رابية مجاورة وهو ينظر إلى ذلك العراك الهائل النهار بطوله، وكان ذلك الضابط سيبيو - سيبيو الفتى الذي صار بعدئذ الممثل الأكبر في أدوار الحرب الهائلة التي تلت.
كان هذا يومئذ من رجال الجيش الروماني المعروفين، وقد أرسل إلى إسبانيا عاملا في الجيش، فأرسله قائده فيها إلى أفريقيا؛ لكي يجلب له عددا من الأفيال من الملك مسانيا ليستخدمها في الجيش الروماني، فأتى نوميديا لهذه الغاية، وإذ وجد نار القتال مشبوبة هناك بين مسانيا وأسدروبال بقي ليشاهدها، ولم يكن لسيبيو الثاني علاقة نسب بسيبيو الآخر، ولكن تبناه ابن سيبيو الأكبر، وهكذا حصل على هذا الاسم بحيث أصبح حفيدا بالتبني.
وكان هو في ذلك الحين رجلا جليل القدر محترما من كل الذين عرفوه؛ لما اتصف به من الإقدام والنشاط والصفات الطيبة والرأي والتدبير، وكان موقفه بإزاء هذه المعركة من المواقف الخصوصية التي لم يوجد غيره من القواد العظام في مثلها؛ لأنه كان رسولا عسكريا إلى نوميديا، ووجب عليه أن يكون متحايدا فلا ينحاز إلى جانب ضد الآخر؛ ولهذا اتخذ له موقفا على الرابية ونظر من هناك ذلك المشهد المخيف الذي كان كأنه قد أقيم خصوصا؛ لكي يمتع النفس بالتفرج عليه.
وقد تكلم عن المعركة وعن ظهور الملك مسانيا فيها شيخا في الرابعة والثمانين من عمره قد حنكته المعارك التي خاض غمراتها فيما سلف من زمانه، وهو ممتط جواده يجول به من صف إلى صف بدون سرج يأمر وينهى ويحرض رجاله على القتال، ويشجعهم بنشاطه وأقواله مثابرا على ذلك من أول المعركة إلى آخرها لا تكل له عزيمة ولا تبرد همة.
وتراجع أسدروبال إلى معسكره حال انتهاء المعركة وتحصن هناك وخندق على نفسه، أما مسانيا فلم يقعد عن اللحاق به، بل تبعه إلى هناك وأحاط به من كل جانب، بحيث أصبح القائد القرطجني وجيشه المحلول العزائم كالأسرى محصورين لا يستطيعون حراكا، عندئذ راسل أسدروبال الملك مسانيا بشأن الصلح؛ إذ رأى ألا مناص له من ذلك المركز الحرج، واقترح عليه إقامة سيبيو حكما بين الفريقين يرتئي الشروط ويسطرها حسب وحي ضميره.
وكان أسدروبال عالما بأن سيبيو لا يمكن أن يكون خالي الغرض في الذي يحكم به، إلا أنه باقتراحه أن يكون سيبيو حكما قد اختار أهون الشرين، ظنا منه أن سيبيو يكون أقرب إلى الرفق به وأميل إلى التساهل من عدوه المنتصر، على أن هذا التدبير لم ينجح، حتى إن الشروط التي أشار بها سيبيو كانت في نظر أسدروبال غير محتملة، فهو قد قضى على القرطجنيين بالتخلي عن مقاطعة معلومة من بلادهم للملك مسانيا.
وكان أسدروبال ميالا إلى القبول بهذه الشروط، وكان على القرطجنيين أن يدفعوا إلى مسانيا مبلغا من المال، ورضي أسدروبال بهذه الشروط أيضا، ومن الشروط التي ارتأوها على أسدروبال أن يعيد إلى قرطجنة كل مقاوميه الذين نفاهم منها. ولما كان هذا الشرط يفيد إرجاع أعداء أسدروبال إلى منصة القوة وتولي زمام الأحكام فيجلب عليه الوبال أبى القبول به، وهكذا بقي محصورا في معسكره، ولما رأى سيبيو أن توسطه لم يقبل أخذ الأفيال التي جاء لأجلها، وركب البحر عائدا إلى إسبانيا.
ولم يطل الوقت على جيش أسدروبال كثيرا حتى مل البقاء محصورا، ولا سيما أن الجوع كان قد أنهك قوى الجنود وزاد بلة في طين شقائهم، فاضطرته هذه الحال إلى التسليم للملك مسانيا على الشروط التي يريدها، فأطلق مسانيا سراح الرجال جميعا، ولكن كثيرين منهم هلكوا في طريقهم إلى قرطجنة، وتمكن أسدروبال من الوصول إلى مكان اتخذ لنفسه فيه أسباب الحيطة؛ لاتقاء شر أعدائه الذين كانوا قد عادوا إلى قرطجنة من منفاهم عملا بشروط الصلح، وكان حزب أسدروبال قد خسر كل نفوذ، وطرد من الوظائف بسبب الفشل الذي لقيه ذلك القائد في حروبه.
ولما تقلد هنيبال زمام الأمور فكر القرطجنيون أول كل شيء في محاكمة القائد بتهمة خيانة الوطن؛ لأنه قد أوقع بلاده في هذه المتاعب ، وأجمع رأيهم أيضا على إرسال وفد إلى رومية لكي يعترف لحكومتها شفاها بالذنب الي ارتكبته الأمة القرطجنية، وليعرض عليها تسليم القائد أسدروبال إليها بكونه مرتكب الذنب الأكبر، وليسأل الرومانيين أيضا عما يريدونه بعد هذا للتكفير عن ذلك الذنب.
وكان الرومانيون في ذلك الوقت، وقبل وصول الوفد القرطجني يفكرون فيما يفعلونه مع قرطجنة، فكان الحزب الأقوى في البلاد يشير بالخلاف مع قرطجنة، وإعلان الحرب في الحال، ولم يصلوا إلى نتيجة من أبحاثهم إلا أنهم استقبلوا وفد قرطجنة ببرودة متناهية، ولم يعطوهم جوابا نهائيا شافيا، أما الترضية التي يجب على أهل قرطجنة القيام بها تكفيرا عما أتوه من مخالفة شروط الصلح بشهرهم الحرب على حليفة رومية، فقال الرومانيون إن تعيينها من واجبات قرطجنة، وأما هم فلا قول لهم في المسألة في الوقت الحاضر.
فعاد الوفد إلى قرطجنة بهذا الجواب المبهم الذي أقلق القرطجنيين، وحملهم على الاحتساب وزادهم رغبة في القيام بكل ما في وسعهم؛ لاتقاء غضب الرومانيين وتحاشي الانغماس معهم في حرب، فأرسلوا وفدا جديدا إلى رومية يحمل إليها استعداد قرطجنة للقيام بكل ما يطلبه الرومانيون كائنا ما كان، على أن هذا الوفد لم يكن واثقا من مقدرته على إتمام ما أرسل لأجله بالرغم من أنه قد عوض بعرض ترضيات غير محدودة، والإذعان لأعظم الشروط جورا تحاشيا لنكبة حربية أخرى.
ولكن الرومانيين الذين توفر لهم العذر الواضح بما جرى لتجديد الحرب مع القرطجنيين قد وجدوا الفرصة سانحة لضرب قرطجنة الضربة القاضية والتخلص من متاعبها، ولا سيما أن أكبر أحزابهم كان لا يمل من التحريض على الحرب والدعوة إلى سحق الدولة القرطجنية. وهكذا شهر مجلس الشيوخ الروماني الحرب على قرطجنة بعد رجوع الوفد القرطجني الأول بقليل، فحشد الرومانيون جيشا كثيفا وأركبوه أسطولا ضخما، وسيروهما إلى حيث يبطشان بالعدوة القديمة.
وهكذا فإنه حين وصول الوفد الثاني إلى رومية وجد أن الحرب التي جاء ليتقيها قد أعلنت، على أن الرومانيين استقبلوه وسمعوا ما أراد عرضه عليهم، فأبدى رجال الوفد استعداد قرطجنة للقبول بكل ما تطلبه رومية منها، والإذعان لكل شرط للتخلص من شرور الحروب، فأجاب مجلس الشيوخ بأنه ميال لتسطير معاهدة مع القرطجنيين يوجب عليهم أن يسلموا أنفسهم نهائيا، ومن كل وجه للدولة الرومانية، وأن يتعهدوا بموجبها بالإذعان لأوامر القنصلين الرومانيين حال وصولهما بالجيش الروماني إلى أفريقيا مهما كانت تلك الأوامر، وأن الرومانيين بدورهم يضمنون لأهل قرطجنة حريتهم وأملاكهم وشرائعهم.
ولكي يكون الرومانيون على ثقة من أن أهل قرطجنة مخلصون في تسطير تلك المعاهدة، وأنهم يسيرون بحسب بنودها في مقبل الأيام، طلبوا منهم ثلاثمائة فتى يأخذونهم رهائن من أبناء أشرف الأسر القرطجنية، فيكون احتباسهم في رومية ذا تأثير على القرطجنيين، وإرغامهم على التقيد بشروط المعاهدة.
فوجد الوفد القرطجني هذه الشروط جائرة للغاية، وهو في الوقت نفسه لم يكن عالما بماهية الأوامر التي يصدرها قنصلا الرومانيين عند وصولهما إلى أفريقيا، ذلك فضلا عن أن رومية تطلب جعل قرطجنة بجملتها رهن إشارتها، وأنها تضمن لها حريتها وأملاكها وشرائعها، إلا أن الرومانيين لم يذكروا شيئا عن مدن القرطجنيين وسفنهم وأسلحتهم وذخائرهم الحربية، ورأى الوفد القرطجني أن رضاه بهذه الشروط يضع قرطجنة تحت قدمي رومية، ويجعل قوام تجارتها وعوامل قوتها رهن إشارة الرومانيين.
على أنه كان مأمورا بقبول كل شرط لاتقاء الوقوع في حرب، وأن يعقد صلحا مع الرومانيين كيفما اتفق، فلم ير له بدا من الإذعان لمطاليب الرومانيين، ولكنه فعل ذلك مرغما وبشيء من التردد، وأعظم ما كرهه من تلك الشروط ضمان الفتيان الذين طلبت رومية ارتاهنهم، فهذه الطريقة التي جرت عليها حكومات الأزمنة الماضية من رهان أبناء أشرف أسر الأمة المغلوبة كضمان لقيامها بما اشترط عليها في معاهدة الصلح، كان من القساوة على جانب عظيم ومن موجبات الألم للمنفصلين عن أبنائهم، ولكن عدم وجود رابطة غير هذه تتقيد بها الحكومة المغلوبة بما اشترط عليها؛ حتى لا تخلف وعودها قد حمل حكومات تلك الأيام العرفية على اتخاذ هذه الطريقة.
ومع أن رجال هاتيك الأزمنة كانوا على جانب كبير من القساوة والخشونة وتصلب القلوب، فإن نساءهم لم يكن يختلفن عن نساء هذا الزمن الذي نحن فيه؛ ولهذا كن يقاسين الآلام الشديدة عندما يساق أولادهن أسارى إلى بلاد العدو يحبسون فيها السنين الطوال، ويكونون معرضين لصنوف الذل والمهانة ولخطر الإعدام أيضا، إذا ما ظن العدو أن حكومة بلادهم قد خالفت شرطا أو ارتكبت ذنبا.
وأدرك الوفد عند رجوعه إلى قرطجنة حاملا هذه الشروط أنه يجلب لقومه أخبارا محزنة، وفي الواقع أنه عندما أطلع أهل قرطجنة على الشروط تولاهم اليأس، وتملكهم القنوط وامتلأت المدينة صياحا ونواحا، وقرعت الأمهات اللواتي شعرن بقرب مفارقة أولادهن الصدور، وقصصن شعورهن وأكثرن من البكاء والنحيب صائحات مولولات متضرعات إلى أزواجهن وآبائهم بألا يسلموا بتلك الشروط الجائرة، وقائلات إنهن يرفضن تسليم أبنائهن للأعداء.
على أن الأزواج والآباء قد شعروا بوجوب مقاومة تلك التضرعات؛ لأنهم وجدوا أنفسهم في حالة لا تساعدهم على مقاومة مشيئة الرومانيين، فجيشهم قد تبدد في عراكه مع الملك مسانيا، ومدينتهم قد أصبحت مجردة من وسائل الدفاع، وقد تدانى الأسطول الروماني من مينائهم، وأخذت الجنود الرومانية في النزول إلى البر؛ ولهذا فإنهم لم يجدوا لهم مناصا من القبول بكل الشروط القاسية التي قضى بها عليهم عدوهم القاهر، إذا هم أرادوا إنقاذ أنفسهم ومدينتهم من الهلاك الذي لا بد منه.
وطلب الرومانيون إرسال الفتيان القرطجنيين كرهائن في غضون ثلاثين يوما إلى جزيرة سيسيليا إلى ميناء في غربيها اسمه لليبوم، وكان ذلك الميناء في سيسيليا قريبا من قرطجنة يبعد عنها عبر بحر الروم نحو مئة ميل، وعند وصولهم إلى هناك يستقبلهم حرس روماني ويقتادهم إلى رومية. ومع أن الرومانيين قد أمهلوا القرطجنيين ثلاثين يوما في إرسال أولادهم؛ فإن أهل قرطجنة صمموا على القيام بذلك في الحال ليبرهنوا لرومية بهذه السرعة على إخلاصهم، ورغبتهم الشديدة في الحصول على مرضاتهم من كل وجه.
وهكذا انتخب الأولاد واحدا واحدا من كل أسرة شريفة في المدينة، إلى أن اكتمل عدد الثلاثمائة، وهنا يجب أن يتصور القارئ لذاته ما حصل من المشاهد التي يرق لها الجلمود في منازل الثلاثمائة أسرة عندما أدركت كل واحدة منها أن القضاء قد حل، وأنها مرغمة على تسليم ابنها ووحيدها للرومانيين، وعندما تم الاختيار واصطف أولئك الفتيان على الرصيف بقصد ركوب السفن إلى المنفى حدث هناك ما يفتت الأكباد.
فوقف أولئك الفتيان منذهلين مذعورين وقد تولاهم الخوف والحزن أنهم سيفارقون أعز ما لديهم في الوجود - آبائهم وأخواتهم ووطنهم - ويذهبون إلى حيث لا يعلمون بحراسة جنود حديدية القلوب، لا تشعر بأقل تأثر لحالتهم وحالة ذويهم، وبكت الأمهات وأكثرن من العويل وضممن أولئك الأولاد إلى صدورهن للمرة الأخيرة، وقد علت صيحاتهم حتى امتلأ بها الفضاء.
وكان الأخوة والأخوات وقوفا هناك - بعضهم قد أبكمه هول المشهد والبعض الآخر يصيح كالجريح المتألم، ومنهم من أصيب بالوجوم، فأجرى الدموع مدرارا بدون بكاء، وفي هذا منتهى الألم للمتأمل في مشهد لا قوة له على الإغاثة فيه، وكان الوالدون سكوتا يروحون ويجيئون كمن أصيب بجنة من هول الموقف، يكلم أحدهم الآخر همسا ويتلفظ بكلمات غير مفهومة، وأخيرا أخذوا الأولاد من أحضان أمهاتهم بطريقة اختلط فيها اللطف والعنف، وساروا بهم إلى السفن لركوبهم.
وشقت تلك السفن عباب البحر مبتعدة عن الشاطئ شيئا فشيئا، فرافقتها عيون الأمهات إلى أن غابت عن الأبصار، ومن ثم رجعن إلى بيوتهن يبكين ويأبين العزاء، وتلا هذا المشهد المحزن احتساب لما سيجد على المدينة وأهلها من جانب الجيش الروماني الذي كان زاحفا بخيله ورجله عليها، وما يفرضه من الشروط الجائرة المهينة على سكانها. فهو قد نزل إلى البر في يوتيكا وهي مدينة عظيمة شمالي قرطجنة، لا تبعد عنها كثيرا وعلى ذات الخليج.
ولما رأى أهل يوتيكا الجيش الروماني مقبلا أدركوا أن العراك واقع لا محالة، واستيقنوا من أن النتيجة ستكون وبالا على قرطجنة ودمارا لا نهوض لها بعده، فلكي ينجوا هم من هذا القضاء المبرم فكروا في الخلاص ورأوا أن أفضل وسيلة لذلك هي أن يعقدوا محالفة مع الرومانيين ويتخلوا عن قرطجنة بالكلية، وكانوا قد سبقوا فأرسلوا وفدا إلى رومية يعرضون عليها تسليم يوتيكا، فلم يتردد الرومانيون في إجابة سؤلهم، وهكذا جعلوا هذه المدينة ميناء لنزول جيشهم هناك للمسير إلى قرطجنة.
وحالما درى القرطجنيون بوصول جيش رومية إلى يوتيكا، أرسلوا يستفهمون عما يطلبه القنصلان منهم، ذلك لما علموه من أنهم مقيدون بشروط المعاهدة بالإذعان لكل إشارة تصدر من القنصلين، فلما وصل وفد قرطجنة إلى يوتيكا وجد مياهها غاصة بسفن الرومانيين؛ فكان هناك خمسون سفينة حربية لكل منها ثلاثة أجواق من المجذفين، وحولها عدد كبير من النقالات، ورأوا على البر معسكرا رومانيا فيه ثمانون ألفا من المشاة، وأربعة آلاف من الفرسان بالعدة التامة والسلاح الكامل.
فلما رأى الوفد ذلك أدرك لفوره أن القرطجنيين يعجزون عن مقاومة مثل تلك القوة الطامة، وهكذا سألوا والرعب يرجف منهم الأجسام ما هي أوامر القنصلين، فقال القنصلان إن مجلس الشيوخ الروماني يطلب من قرطجنة تقديم مقدار من الذرة لإطعام الجيش الروماني أول كل شيء، فعاد الوفد إلى قرطجنة يحمل إلى أهلها هذا الطلب، فلم ير القرطجنيون بدا من تلبية طلب الرومانيين؛ لأنهم مقيدون بمعاهدة وبأولادهم المرتهنين، وبما رأوه من حول الجيش القريب منهم وطوله، فأرسلوا الذرة في الحال.
وعلى أثر ذلك وجه القنصلان إلى القرطجنيين طلبا آخر، وهو أن يسلم أهل قرطجنة إلى الرومانيين كل سفنهم الحربية، فصعب هذا الطلب على القرطجنيين أكثر من الذي سبقه، وترددوا في الأمر كثيرا إلا أنهم لم يجدوا محيصا عنه فرضوا به بعدئذ مرغمين، وقد أملوا أن يكون ذلك آخر ما يطلبه الرومانيون، وأنهم عندما يرون أنهم قد أضعفوهم إلى هذا الحد يتركونهم ويعودون إلى بلادهم، حتى إذا ساعدت الأيام قرطجنة تعود وتبني أسطولا جديدا.
ولكن الرومانيين لم يقنعوا بذلك بل أرسلوا أمرا ثالثا طلبوا به من القرطجنيين أن يعطوهم كل ما لديهم من الأسلحة والمعدات الحربية المختلفة والمجانيق، ويرسلوها جميعا إلى المعسكر الروماني، فوقع هذا الطلب عند القرطجنيين وقوع الصاعقة، وصمم كثيرون على رفضه والمقاومة حتى الموت ولو مهما كانت النتيجة، وحالفهم آخرون في ذلك علما منهم باستحالة المقاومة مع ذلك الضعف الذي وصلوا إليه وأنهم خسروا كل شيء، فضلا عن أن أمهات الثلاثمائة ولد الذين أخذهم الرومانيون رهائن كن مشددات في إجابة مطاليب الرومانيين؛ محافظة على حياة أولادهن.
وفي النهاية غلب المقاومون على أمرهم، واضطروا إلى التسليم مع القائلين بإجابة الطلب، فجمعت الأسلحة وحملت على مركبات كبيرة إلى المعسكر الروماني، وكان في جملتها مائتا لباس مدرع وما لا يحصى من الدروع والمزاريق وألفا آلة حربية أو هي المنجنيق ترمي الأحجار والأخشاب الثقيلة على الأعداء - وهكذا جردوا قرطجنة من سلاحها.
إلا أن كل هذه المطاليب على ما فيها من الجور والحيف الذي ليس بعده، والتي استكبرها أهل قرطجنة كثيرا لم تكن سوى تمهيدة لما سيجيء بعدها من المطاليب التي أبقاها القنصلان كخاتمة لهذه المأساة، إذ عندما صارت الأسلحة والمعدات الحربية في معسكر الرومانيين، وأصبح القرطجنيون عزلا من أدوات القتال، أعلن القنصلان لهم أن إدارة مجلس الشيوخ الروماني تقضي بتدمير قرطجنة، وهكذا صدرت الأوامر إلى السكان بمغادرة المدينة التي حالما تصبح خالية من أهلها تضرم فيها النيران لإحراقها.
وأتاح الرومانيون للقرطجنيين احتمال ما يستطيعون أخذه معهم من الأثاث والريش والأمتعة، وسمحوا لهم أيضا بابتناء مدينة جديدة بدلا من مدينتهم هذه المحصنة القريبة من الشاطئ في داخلية البلاد، بحيث لا تكون أقل من عشرة أميال بعدا عن البحر، وألا تكون محصنة ولا يبنى حولها سور أو وسائل دفاع من أي نوع، وقال القنصلان إنه حالما تخلو المدينة من سكانها يجب أن تدمر بحيث لا يبقى فيها حجر على حجر.
فهال القرطجنيين هذا الطلب الذي لم يخطر لهم ببال، وأصبحت المدينة بمن فيها من الناس الذين تولتهم الحيرة واليأس والرعب كمأوى المجانين، ووجد القوم أنهم بإزاء هذا الطلب الجائر المتناهي في العتو وفقدان الشعور الإنساني غير قادرين على الانصياع والسكوت، فأسكتوا صيحات الأسر التي أخذ أبناؤها وشتموا كل من أشار بالإذعان، وثار ثائر الغضب في صدور السكان من أقصى المدينة إلى أقصاها.
وأغلقت البوابات واقتلع بلاط الشوارع وهدمت بعض المنازل، واحتملت الأحجار التي توفرت من ذلك التخريب إلى شرفات الأسوار؛ لتستعمل بدلا من السلاح ، وأطلق الأرقاء وأوقفوا على الأسوار ليساعدوا في الدفاع، وأرغم كل شخص ممن لهم إلمام بصنع السلاح على صنع السيوف والخناجر، وغير ذلك من أنواع الأسلحة التي يسهل اصطناعها بسرعة، فاستعملوا كل الحديد والنحاس الذي وجدوه، ولم يكتفوا بذلك، بل أذابوا كل الأواني والأنصاب والتماثيل الذهبية والفضية وحلوا بذائبها رءوس حرابهم.
ولما نفدت خيطان القنب التي كانوا يصنعون منها أوتارا لقسيهم، أقدمت الأمهات والزوجات والأخوات الحسان على جز شعورهن وبرمه أوتارا؛ ليقوم مقام الخيطان في إكمال الأقواس التي اصطنعها القوم لرمي السهام. وجملة القول أن القرطجنيين قد استفرغوا كل قواهم، وبلغوا من ذلك أقصى ما يستطيعه الاحتمال البشري، وعولوا بكل ما لديهم من قوة وعدة على مقاومة لا أمل لهم ببلوغ المآرب فيها مدفوعين إلى ذلك بجنون تولد عن جور أعدائهم المنقطع النظير.
ويذكر القارئ أن القائد أسدروبال بعد انكساره في محاربة مسانيا قد أضاع ما بقي له من النفوذ في قرطجنة، وأصبح حسب الظاهر مقهورا مهانا لا يجرؤ على الحراك، ولكن الأمر مع هذا الرجل كان على العكس من ذلك؛ فهو لم يكن خائر القوى ولا من المستسلمين الخانعين، بل جمع جيشه على مقربة من قرطجنة، وكان عدد جيشه يزداد على التوالي في غضون هاتيك الحوادث المؤلمة بمن ينضم إليه من مقاومي المسلطين في قرطجنة.
وكان يومئذ في معسكره غير البعيد عن المدينة يقود عشرين ألف رجل، فلما وجد القرطجنيون أنهم في ضيق شديد وفي حاجة ماسة إلى من يناصرهم أرسلوا إليه يستنجدونه، فلبى صوت الاستغاثة وبعث من فوره فجند رجال كل الأنحاء الخاضعة لقرطجنة، وجمع الأقوات والأسلحة من كل مكان وزحف بذلك الجيش لإنقاذ قرطجنة، وعندئذ اضطر الرومانيون بما لقوه من شدة مقاومة المعتصمين داخل الأسوار، وبطش المدافعين عنها من الخارج على التراجع مسافة قصيرة عن المدينة، واحتفار الخنادق والتحصن في معسكرهم محافظة على سلامتهم.
وأرسل أسدروبال الأقوات إلى المدينة وبعث سرا من ألقى في الميناء سفنا صغيرة مدهونة بالزيت، وأشعلها وسيرها طافية على وجه الماء بين سفن الرومانيين الطافية هنالك، فنجحت تدابيره إلى حد أن سفن الرومانيين أوشكت أن تحترق عن آخرها، وهكذا انقلبت الحالة بطنا لظهر ووجد الرومانيون أن آمالهم بفريستهم قد خابت في الوقت الحاضر، فانحصروا في معسكرهم وبعثوا الرسل إلى رومية يطلبون من مجلس الشيوخ النجدات والأقوات والمعدات.
واتضح للرومانيين أنهم بدلا من اقتدارهم على تدمير قرطجنة بسهولة وبدون مقاومة، قد أصبحوا الآن في مأزق حرج، وأن عهد الحرب سيطول وأن الخطر بعد أن كان محيقا بأعدائهم قد أحاط بهم الآن، وقد صدق حدسهم فإن هذه الحرب التي أوقدوها بجورهم وتصلفهم قد طالت نحو السنتين أو الثلاث سنوات، وكانت حربا ضروسا كثيرة الهول عظيمة الويل على الجانبين، وأقبل بعدئذ سيبيو بجيش روماني جديد فكان بادئ ذي بدء قائدا من الدرجة الثانية، ولكن شجاعته وإقدامه وتدابيره المنقطعة النظير والأعمال الباهرة التي قام بها قد جعلته طائر الشهرة، محبوبا من الجنود والشعب الروماني.
ويقال إنه ذات يوم تمكن بشجاعته ودربته من إنقاذ فرقة علقت بأشراك العدو؛ بحيث تعذر عليها الإفلات، فلما نجت حملها عظيم امتنانه له على صنع إكليل من العشب وتتويج رأس سيبيو به، بين أصوات التهليل التي ضج بها الفضاء، وقام القرطجنيون في هذا العراك بأكثر مما تستطيعه قوات البشر للذود عن حياضهم، ولكن قلة عددهم ومعداتهم وحذق سيبيو وعظيم تأنيه والخطط التي رسمها للقتال بالتروي الذي عرف به قد ضيقت عليهم واسعات المذاهب تدريجا مع الأيام، وحصرتهم في مكان معلوم يضيق بضغط الرومانيين يوما عن يوم إلى أن أصبح الإفلات متعذرا عليهم بالكلية.
وكان سيبيو قد ابتنى رصيفا على الماء قريبا من المدينة، وأقام عليه المجانيق الهائلة لكي يضرب بها الأسوار، ففي ذات ليلة انسلت جماعة من القرطجنيين ومعهم مشاعل بأيديهم غير مشتعلة وأدوات لقدح النار عند الحاجة إلى ذلك، وقد وصلوا إلى الرصيف بالسباحة تارة وبالخوض طورا، وهكذا تمكنوا من الصعود إلى تلك الآلات أو المجانيق، فلما تدانوا منها على مسافة معلومة، قدحوا الزناد وأشعلوا ما كان معهم من المشاعل.
فهال ذلك جنود الرومانيين الذين كانوا يحرسون المجانيق، وفروا مذعورين لا يلوون على شيء عندما أبصروا تموجات النيران متدافعة على وجه الماء، وتركوا المجانيق، فأتاها القرطجنيون وألهبوا فيها النيران وتركوا مشاعلهم، وانقلبوا إلى البحر سابحين إلى حيث أتوا بدون أن يمسهم أذى، ولكن كل هذه الشجاعة التي أبدوها لم تفدهم شيئا؛ لأن سيبيو عاد فأصلح المجانيق في الحال، وثابر على الحصار كالأول.
على أننا نعجز عن وصف هذا العراك الطويل الهائل بتفاصيله كلها؛ ولهذا ننتقل دفعة واحدة إلى الدور النهائي الذي كان حسبما قال عنه المؤرخون فصولا من الرعب، لا يمكن وصفها كما هي في الحقيقة ولا تصديقها، فبعد أن قتل عدد كبير من المحاربين في الهجمات التي قاموا بها لدخول المدينة فضلا عن الألوف العديدة التي هلكت جوعا، والذين شربوا كئوس الردى من التعرض للبرد وغيره من الأخطار الملازمة لمثل ذلك الحصار - بعد كل هذه الغوائل والضربات المتلاحقة، تمكن جيش سيبيو من شق صفوف المدافعين والدخول إلى المدينة.
وكان بعض السكان عندئذ قد خاموا وعدلوا عن متابعة الجهاد، وأقروا على التسليم لرحمة الفاتح، وبعضهم كانوا كمن أصيب بجنون فثابروا على القتال مصممين إلى آخر دقيقة من حياتهم على عدم التسليم، وعلى الفتك بمن قدروا على قتله من أعدائهم المكروهين، وهكذا كانوا يحاربون متراجعين من شارع إلى شارع ومن زقاق إلى آخر أمام الرومانيين الهاجمين، إلى أن وصلوا إلى صرح المدينة وتهيئوا للحصار فيه.
وصعدت فرقة من جيش سيبيو إلى سطوح البيوت التي كانت مستوية كما هي اليوم في الشرق، وقاتلوا من وجدوه من رجال قرطجنة الذين كانوا يرمون الرومانيين بما اقتلعوه من الأحجار، وقسم من الجيش الروماني كان يسير في الشوارع مقابل من كان منه فوق السطوح، ويعجز كل تصور عن إدراك الصياح الشديد وضجة السلاح، وقرعة أدوات القتال الأخرى التي كانت تتصاعد من سائر أنحاء المدينة المأهولة بالناس، تتخلل ذلك أوامر الضباط الصادرة إلى جنودهم تحثهم وتستزيدهم إقداما، وأصوات الظفر المرتفعة من جماهير الفاتحين، فضلا عن صيحات الذعر والرعب الخارجة من أفواه النساء والأولاد وأنات الرجال المشرفين على الموت، وقد غاظهم دنوهم من المنية قبل إرواء الغليل من أعدائهم، فكانوا يعضون التراب من الألم وغيظ النفس التي لم تشتف بإدراك الثأر.
وبلغ المكان المعروف بحصن المدينة أشد المجاهدين شجاعة وإقداما، وفي طليعتهم القائد أسدروبال فاستولوا عليه، وقد كان ذلك الصرح قسما من المدينة على رابية وفي غاية التحصين، فزحف سيبيو إلى أن وقف أمام أسوار ذلك المكان، وأوقد النيران في منازل المدينة القريبة منه، فظلت النار تشتعل ستة أيام متوالية، ففتحت من الأسوار مكانا رحيبا دخلت منه عساكر الرومانيين لمكافحة القرطجنيين الذين في داخل الأسوار.
فلما رأى القرطجنيون ذلك علت صيحتهم؛ مما دل على أنهم يستثيرون شجاعة بعضهم بعضا للقيام بهجمة شديدة على الأعداء، وهكذا جرت معركة هائلة بين الفريقين وراء الأسوار تهالك فيها المتطاحنون إلى حد ما تستطيعه القوى البشرية، وكان هناك نحو ستة آلاف نفس من النساء والأولاد قد صمموا على الذهاب إلى سيبيو واسترحامه عنهم، فلما رأتهم زوجة أسدروبال سألته السماح لها بالذهاب معهم، فأنكر ذلك عليها.
وكان في ذلك الحصن جماعة من الرومانيين الذين أبقوا من المعسكر الروماني قبل ذلك بأيام، وقد أدركوا مما رأوه أنهم هالكون لا محالة إلا إذا جاهدوا مستميتين، فإلى هؤلاء الرومانيين الهاربين من جيشهم عهد أسدروبال في المحافظة على زوجته وأولاده، فاتخذوا لهم ملجأ في الهيكل الكبير الذي كان في وسط دائرة الحصن، وأخذوا معهم زوجة أسدروبال لينالها ما ينالهم.
أما أسدروبال الذي صمم على مقاومة الرومانيين إلى النهاية، فإنه خام في آخر الأمر، وأشرف على النهك لطول الجهاد ومال إلى التسليم، وقد اتهم بأقبح أنواع الخداع والمكر في سبيل استحياء نفسه، وذلك بعد أن وضع زوجته وأولاده في مأزق يستحيل عليهم منه النجاة من الهلاك، ولكن المباغتات التي ترافق مثل هذه المعارك الشديدة، والسرعة المدهشة التي بها تتغير الحوادث متعاقبة في مثل هذه الظروف، وما ينشأ عن ذلك من الاضطرابات العقلية؛ كل هذه الأمور الهائلة تجرد الشخص المدعو إلى العمل فيها من كل تعقل وتؤدة وروية، وتبرره من كل مسئولية أدبية عما يقدم عليه كما لو كان مجنونا.
وكيفما كان الحال فإن أسدروبال بعد أن حصر زوجته وأولاده مع جماعة من المتهورين الذين لا يخشون المنية، والذين لا يعبئون بالتسليم توسلا به إلى الخلاص، ذهب نفسه وسلم ذاته، قد يكون فعل ذلك على أمل أن يتاح له بعدئذ إنقاذهم جميعا، وحذا الجنود القرطجنيون حذو أسدروبال ففتحوا بوابات الحصن وأدخلوا الفاتح، وكان من أمر الجماعة الفارين من جيش الرومانيين والذين جعلت معهم زوجة أسدروبال وأولاده، أنهم عندما وجدوا الخطر متدانيا منهم، فضلوا الموت بأيديهم على أن يمنحوا أعداءهم المسرة بقتلهم، فأشعلوا النيران في تلك البناية.
فلما اندلعت ألسنة اللهيب وتصاعد الدخان في جوانب البناء، تراكض المحصورون هناك في كل الجهات، وهم لا يدرون إلى أين يفرون، وقد خنقهم الدخان المتلبد ولسعتهم ألسنة النيران، وكان البعض منهم قد وصلوا إلى السطح في فرارهم، وكانت زوجة أسدروبال وأولاده في جملتهم، فنظرت من ذلك العلو الشاهق وهي محاطة بالدخان واللهيب من كل جانب، وأبصرت زوجها واقفا قريبا من القائد الروماني في الدار، وربما كان أسدروبال عندئذ مفكرا في حالة زوجته وأولاده، وكيف يتمكن من إنقاذهم، وهم في ذلك المكان الشاهق تحتاطهم النيران الآكلة، فوجود زوجها ووالد أولادها في مكان بعيد عن الخطر جعل الزوجة والأم كالمجنونة من شدة الغضب، فصاحت بأعلى صوتها من حيث هي واقفة وحولها أولادها، وقالت مخاطبة زوجها: «هكذا قضيت بهلاكنا يا دنيء، يا خائن لكي تخلص نفسك، إني غير قادرة على الوصول إليك شخصيا؛ لأنتقم منك ولهذا أقتلك في شخصية أولادك.» قالت هذا وطعنت أولادها بخنجر كان معها، ودهورتهم من هناك إلى أسفل، فسقطوا في وسط اللهيب، ورمت هي بنفسها فوقهم لتشاركهم في هلاكهم المخيف، ولما استولى الرومانيون على المدينة اتخذوا أفعل التدابير لجعل تدميرها تاما من كل وجه، وكان الأهلون قد فروا منها وتفرقوا بددا في البلاد المجاورة لها، وهكذا أصبحت كل تلك المقاطعة تحت سيطرة الرومانيين.
وقد حاول الناس بعدئذ إعادة بناء قرطجنة؛ إلا أنهم لم يخرجوا فكرتهم إلى دائرة العمل، فصار مكانها على ممر الأيام أشبه بمتنزه على نوع ما وكان بين خرباتها أكواخ معدودة لأناس أحبوا السكنى في وسط تذكارات المجد الزائل والعظمة الهاوية إلى الحضيض، ولكنها على تمادي الأيام اندثرت بالكلية فهجرها سكان الأكواخ، ونما العشب فوقها وغطتها سوافي الرمال، بحيث أصبحت معرفة مكانها الآن من الأمور المتعذرة؛ إذ لا توجد علامة أو نصب يدل على موقعها.
ومعلوم أن الحرب والتجارة هما المبدآن العظيمان المتضادان اللذان يجاهدان في سبيل إحراز السيطرة على الجنس البشري، ووظيفة أحدهما البنيان كما أن وظيفة الآخر الهدم، فالتجارة تعمل على ابتناء المدن وحراثة الحقول وإتقان الزراعة، فتتولد عنها الخيرات والرفاهية وكل بركات العمل والسلام والطمأنينة، فهي تحمل التنظيم والترتيب إلى كل مكان وتحتفظ بالأملاك والأرواح، وتجرد الأوبئة من عواملها القتالة، وتقطع دابر المجاعات.
والحرب من الجهة الأخرى تدمر وتخرب أنظمة الحياة الاجتماعية وتفسدها، وتهدم المدن وتعطل المزارع وتصير بالناس إلى حالة الفاقة والعوز والبطالة والكسل الوبيل، والعلاج الوحيد الذي تعرفه لمداواة ما تنزله ببني الإنسان من الشرور هو أن تقصر زمن تعاسة ضحاياها بإفلات الأوبئة والمجاعات عليهم؛ لتقصف منهم الأعمار.
وعلى هذا تكون الحرب العدو الأكبر للجنس البشري، والتجارة الصديق الأكبر له، فهما مبدآن متضادان يتعاركان على الدوام للسيطرة على كل أنظمة الناس، ولما ظهر هنيبال على المسرح وجد بلاده عاملة بسلام وهناء على استبدال ما يوفر الرفاهية والغبطة للجنس البشري، فآلى على نفسه أن يحول كل ذلك النشاط وتلك العوامل إلى المجرى الجديد المؤدي إلى الاعتداء والحروب والفتوحات، فنجح في هذا المسعى أيما نجاح.
وإن لنا في الواقع من شخصيته وسيرة حياته ما يثبت لنا دون أقل ارتياب سمات وسجايا البطل الحربي العظيم، فهو قد انتصر في معارك عديدة هائلة، ودمر بلدانا كثيرة وعرقل مجرى التجارة وأوقفها في آخر الأمر بالكلية، وهي التي كانت سبب إسعاد العدد الكبير من الناس، ومصدر هناء الألوف من البيوت في سائر البلدان، وأوجد بدلا منها في كل مكان أشد أنواع الحاجة والمتربة والرعب والهول المستمر الذي كان يجر وراءه الأوبئة والمجاعات.
وعمل على إبقاء بلاد أعدائه في أردأ حالات القلق والبلبال الدائم والألم والرعب والاحتساب أعواما طوالا، وأفلت على بلاده في النهاية تيار الخراب الذي دكها دكا، وصيرها أطلالا بالية وعمرانها يبابا ينعق فوقه بوم الخراب إلى هذا اليوم.
وجملة القول أن هنيبال كان أعظم أبطال الحروب التي عرفها العالم في كل تاريخه.
Bilinmeyen sayfa