إلى القارئ
1 - الحرب القرطجنية الأولى
2 - هنيبال في ساغونتوم
3 - افتتاح الحرب القرطجنية الثانية
4 - عبور نهر الرون
5 - هنيبال يجتاز جبال الألب
6 - هنيبال في شمالي إيطاليا
7 - جبال أبنين
8 - المتسلط المطلق فابيوس
9 - معركة كانيه
Bilinmeyen sayfa
10 - سيبيو
11 - هنيبال شريد طريد ومنفي
12 - تدمير قرطجنة
إلى القارئ
1 - الحرب القرطجنية الأولى
2 - هنيبال في ساغونتوم
3 - افتتاح الحرب القرطجنية الثانية
4 - عبور نهر الرون
5 - هنيبال يجتاز جبال الألب
6 - هنيبال في شمالي إيطاليا
Bilinmeyen sayfa
7 - جبال أبنين
8 - المتسلط المطلق فابيوس
9 - معركة كانيه
10 - سيبيو
11 - هنيبال شريد طريد ومنفي
12 - تدمير قرطجنة
تاريخ هنيبال
تاريخ هنيبال
تعريب
نعوم مكرزل
Bilinmeyen sayfa
إلى القارئ
لا أكون مهديا إلا لأكون هاديا إلى ما أعتقد أن فيه شيئا من الخدمة النصوح العائدة، ولو بالتافه من الفائدة، على أبناء وطني، وفي نشري تاريخ هنيبال على علاته دليل على الغاية التي أرمي إليها.
أصل التاريخ هو لجاكوب أبوت، كتبه بالروح الغربية «القائمة» على الأثرة والتفوق، وقد بذلت بعض المال والعناية لترجمته، ثم أعدت النظر فيه غير متعرض للروايات والآراء التاريخية التي أعلم كما يعلم العالمون أن في الكثير منها شططا وتزييفا، فعلى علماء التاريخ وغواته من أبناء الوطن أن ينشطوا لسد الخلل وإصلاح الخطل، ويجمعوا تواريخ بلادهم وتراجم أبطالهم وغزاتهم ونوابغهم ودهاتهم، كما توجب الحقيقة لا كما يكيفها المكيفون.
أنا مستعيض بالتاريخ عن الأقاصيص والروايات في الهدى، ثم أجمع ما أنشره في كتب مستقلة، أرجو أن يستعين بها قارئوها على حفظ وصون الدروس التي يلقيها الأقدمون عليهم من أصدقاء وأضداد، وليس كالتاريخ أستاذا مهذبا ومرشدا مدربا.
إلى أحفاد أكبر قائد فينيقي، بل أكبر قائد في التاريخ عند المجردين، أهدي هذا السفر الذي أرجو أن يقوم من أبناء أمتي من يقوم منآده، ويزيل فساده، عادلا عن الشكوى وهو قاعد، وناظرا إلى لهب الأفكار وهو جامد.
نعوم مكرزل
الفصل الأول
الحرب القرطجنية الأولى
كان هنيبال قائدا قرطجنيا أحرز شهرته الطائرة كأعظم الكماة بتهالكه في محاربة الرومانيين، ومن المعلوم أن رومية وقرطجنة نشأتا معا على جانبين متقابلين من بحر الروم، وظلت الحروب الطاحنة مستعرة الضرام بينهما مدة مائة سنة. وعدد الحروب التي نشبت بينهما ثلاث، خرجت رومية من ساحاتها ظافرة منتصرة في آخر الأمر، ودكت قرطجنة إلى أساساتها.
ولم يكن ثم من باعث حقيقي على اقتتال تينك الأمتين، فالنزاع بينهما قد تأتى باختيارهما عن المزاحمة والشحناء، فاختلافهما الأصلي نشأ عن تباين في اللغة والأصل، وعن استيطانهما جهتين متقابلتين من البحر الواحد، وبهذا كرهت إحداهما الأخرى وعملت على سحقها وإبادتها.
Bilinmeyen sayfa
والذين قرءوا تاريخ الإسكندر الكبير يذكرون دون ريب الصعوبة الكلية التي عاناها في محاصرة مدينة صور والتغلب عليها، وهي مدينة بحرية يبعد موقعها عن الشاطئ نحو الميلين، قائمة على الجانب الشرقي من بحر الروم، وابتنى قرطجنة جماعة من ماهدي المستعمرين نزحوا عن صور، وبنوا المدينة الجديدة فأصبحت قوة بحرية وتجارية عظيمة كأمها، وابتنى القرطجنيون المراكب العديدة التي مكنتهم من اكتشاف مجاهل بحر الروم، وزاروا على متونها كل الأمم الساكنة على شواطئه، واشتروا منهم كل الحاجيات المختلفة التي كانوا يتجرون بها، ويحملونها إلى الشعوب الأخرى ويبيعونها منها بأرباح وافرة، وبهذا أحرزوا غنى وقوة في مدى قصير.
وكانوا يستأجرون الجنود ليحاربوا حروبهم وليمكنوهم من الاستيلاء على جزائر بحر الروم وعلى بعض الأماكن الداخلية في بعض الأحيان، مثال ذلك: أنهم في إسبانيا التي مخرت إليها مراكبهم وجدوا المقادير الكبيرة من ركاز الفضة والذهب، استخرجوها من معادن بادية على وجه الأرض تقريبا، وقد كان القرطجنيون في بادئ الأمر يحصلون على الذهب والفضة بالمقايضة، فيعطون الوطنيين حاجيات متنوعة كانوا اشتروها من بلادهم بثمن بخس جدا، بالنسبة إلى ما كانوا يتقاضونه الإسبانيين ثمنا عنها.
واستولوا أخيرا على ذلك القسم من إسبانيا الذي توجد فيه تلك المعادن، وصاروا يستخرجون كنوزها بأنفسهم متعمقين في الحفر كثيرا، واستخدموا لذلك الغرض جماعة من المهندسين ابتدعوا المضخات؛ لكي ينظفوا المعادن مما يتسرب إليها من الماء، ولكي تتوفر لهم الوسائل العلمية والآلية التي تمكنهم من التغلب على سائر العوائق، وهناك ابتنوا مدينة أطلقوا عليها اسم قرطجنة الجديدة - نوڨا كرثاجو - وحصنوا هذه المدينة وأقاموا فيها حامية عسكرية، واتخذوها مركزا لأعمالهم في إسبانيا ، ولا يزال اسم تلك المدينة قرطجنة إلى هذا اليوم.
وهكذا كان القرطجنيون يتمون العظائم بقوة المال، فتوسعوا بأعمالهم في سائر أنحاء البلاد، وكانت كل ناحية تدر عليهم كنوزا جديدة، فتوفر لهم الوسائل المساعدة على زيادة التوسع، وكانت لهم، عدا السفن التجارية التي هي ملك أفراد الشعب، بوارج حربية للحكومة، كانت في تلك الأيام تعرف بالسفن الواطئة، وتسير بمئات المجذفين يقيمون فيها صفوفا الواحد بعد الآخر، حتى إنك لتجد في السفينة الواحدة من هؤلاء أربعة أو خمسة صفوف يتناوبون التجذيف.
وكانت لهم جيوش جرارة مجندة بالأجرة من بلدان مختلفة ومنظمة بحسب براعة رجالها في فن معلوم من فنون القتال والتوماديان؛ مثلا: الذين كانوا يقطنون أقطارا متدانية من قرطجنة على الشاطئ الأفريقي كانوا مشهورين بالفروسية؛ لأن بلادهم ذات سهول واسعة خصيبة التربة كثيرة الكلأ، وفي مثل هذه البلاد يكثر كما لا يخفى عدد الذين يربون الخيول الصافنات، ويجيدون ركوبها ويتلقنون فنون الفروسية.
ثم إن سكان جزائر بلياريك - المعروفة اليوم باسم ماجوركا ومينوركا وإيفاكا - اشتهروا بحذقهم في رمي الحجار بالمقلاع، وعلى هذا النمط كان القرطجنيون يجرون في ترتيب جيوشهم، فيأتون بالفرسان من نوميديا وبرماة المقلاع من جزائر بلياريك، وللأسباب نفسها كانوا يستأجرون المشاة المشهورين بالإقدام من إسبانيا.
وكان اتجاه الشعوب المتنوعة إلى استنباط طرق حربية مختلفة وتقليد غيرهم فيها والقيام عليها في الأزمنة الذاهبة أعظم منه في هذا الزمان، فجزائر بلياريك في الواقع قد اتخذت اسمها هذا من الكلمة اليونانية «بليان» التي معناها الرمي بالمقلاع؛ لأن الأحداث فيها كانوا يتمرنون إلى حد الإجادة على إتقان هذا النوع من السلاح من أول عمرهم، حتى قيل: إن الأمهات كن يضعن الخبز لإفطار أولادهن على أغصان الأشجار العالية، ولا يسمحن لهم بتناوله للأكل إلا بعد أن ينزلوه بحجر يرمى بمقلاع.
وعلى هذا النسق من الاختبار والتنظيم امتدت صولة القرطجنيين واتسع مجال سيطرتهم، على أن حكومتهم بجملتها كانت منحصرة بجماعة قليلة العدد من سراة الأسر الغنية «الأرستقراطية» في الوطن، فكانت مماثلة من هذا الوجه للحكومة الإنكليزية في هذا الزمان، إلا أن سراوة «أرستقراطية» إنكلترا مبنية على السلالة العريقة في النسب وعلى ملكية العقار، أما في قرطجنة فقد كانت مستندة إلى العظمة التجارية، متحدة في الواقع مع ميزة الأسر الوراثية.
وكانت سراوة «أرستقراطية» قرطجنة مسيطرة ومسلطة على كل شيء، فلم تكن وظائف القوة تعطى لغير أبنائها إلا فيما ندر؛ ولهذا أصبحت بقية العامة من الأهلين في حالة الاسترقاق والعبودية. جرت قرطجنة على هذا النمط كما جرت عليه إنكلترا في هذا الحين، وهو أمر بعيد عن العدل ومؤلم للمنبوذين، على أن النتيجة كانت يومئذ - كما هي كائنة في إنكلترا اليوم - حسنة جدا، وصالحة من وجه أنها عملت على إيجاد حكومة نشيطة منزهة عن الدنايا ولوثات التلاعب، ومن المعلوم أن حكومة الأعيان تساعد في بعض الأحيان على إيجاد دولة غنية وقوية، ولكنها في الوقت نفسه تجعل بقية الشعب شقيا، وغير قانع بما هو فيه.
فليتحول القارئ الآن إلى الخارطة، ويجد فيها المكان الذي كانت فيه قرطجنة، وليتصور مدينة عظيمة وافرة الثروة هناك بأرصفتها العظيمة ومرافئها، ومخازنها الكبرى الخاصة بالمتاجر الواسعة، وهياكلها وأبنيتها العمومية الجميلة المشيدة لدوائر الحكومة وللمعابد، والقصور الفخمة والدور الشائقة التي كان يسكنها أرباب المال والحسب والنسب، وكذلك الأسوار والأبراج المرتفعة في الجو لأجل الدفاع عن الكل.
Bilinmeyen sayfa
وليتصور بعد ذلك بلادا خلفية تمتد مئات الأميال إلى داخلية أفريقيا المشهورة بخصبها ووفرة خيراتها، وما تنتجه من مقادير الذرة والخمر والثمار اللذيذة المتعددة الأنواع، ولينظر بعد هذا إلى جزائر سيسيليا وكورسيكا وسردينيا والبلياريك، ويدرك بالتصور أنها كانت جميعا بلدانا كبيرة الثروة كثيرة الخصب، وكلها تابع للسيادة القرطجنية.
وانظر أيضا إلى الشاطئ الإسباني - انظر بعين التصور - مدينة قرطجنة هناك بحصونها وجيوشها، ومعادنها الذهبية والفضية التي يشتغل فيها عشرات الألوف من الأرقاء، وتصور أساطيل السفن تمخر على الدوام، من بلاد إلى أخرى على شواطئ بحر الروم ذهابا وإيابا إلى صور فقبرص فمصر فجزيرة سيسيليا فإسبانيا، تحمل الذرة والكتان والصباغ الأرجواني والبهارات والعطورات والأحجار الكريمة والحبال والشرع للمراكب، والذهب والفضة في أشكال مختلفة ، وبعد هذا ترجع بالدور إلى قرطجنة؛ لتفرغ في الخزائن ما احتملته من أنواع الثروة، فتزيد الموجود منه عند القرطجنيين أضعافا. ليتصور القارئ كل هذا والخارطة مفتوحة أمامه؛ لكي يرى جليا العلائق الجغرافية التي تربط تلك الأماكن بعضها ببعض، فترتسم في ذهنه من ذلك صورة إجمالية صحيحة تمثل له القوة القرطجنية، حينما بدأت في حروبها الهائلة مع رومية.
أما رومية فتختلف في موقعها وحالتها عن ذلك، فقد ابتنى رومية أناس من تروادة هاموا على وجوههم في هاتيك الأنحاء، فنمت زمانا طويلا بهدوء وبطء متمشية على مبدأ الحياة والنشاط الداخليين، وكانت الأقاليم المختلفة في شبه الجزيرة الإيطالية تنضم إلى رومية واحدها بعد الآخر، فتألف من عشائرهم شعب كان على الغالب فطريا زراعيا، فحرثوا الحقول واقتنصوا الوحوش الضارية وربوا المواشي على تنوعها، وقد بدا منهم ما دل على أنهم جنس - خليط من الأجناس البشرية - حائز على نظام بديع متفوق، سعى بالتدريج لإيجاد صفات الثبات والنشاط والقوة فيه جسديا وعقليا؛ الأمر الذي استوجب إعجاب الجنس البشري كله به.
خص القرطجنيون بالذكاء - والرومانيون سموه دهاء - وبالنشاط والإقدام على الأعمال الكبرى وبالثروة الطائلة، وكان مزاحموهم من الجهة الأخرى موصوفين بالنبوغ والشجاعة والقوة، يصحبها جميعا تصميم أكيد هادئ راسخ ونشاط غريب أصبح بعد ذلك، في كل جيل وفي أذهان الشعوب، ملازما لكلمة «الرومانيين» عينها، وكان رقي الأمم بطيئا في الأزمنة القديمة أكثر منه الآن، وبقيت هاتان الدولتان المتزاحمتان مثابرتين على النمو المتتابع والتوسع في الملك، كل منهما على جانبها الخاص من ذلك البحر العظيم الذي فصلهما عن بعضهما مدة خمسمائة عام قبل أن تدانتا من الاصطدام. أخيرا حدث التطاحن المنتظر وكان ابتداؤه كما يأتي:
يرى الناظر إلى الخارطة أن جزيرة سيسيليا منفصلة عن جسم البر ببوغاز ضيق يسمى بوغاز مسينا، واسم هذا البوغاز متخذ من بلدة مسينا على الجانب السيسيلي، وقبالة مسينا على الجانب الإيطالي قامت في ذلك الزمن بلدة اسمها راجيوم، وحدث أن جماعات من الجيوش غير المنظمة استولت على كلتا البلدتين، فأتى الرومانيون وأنقذوا بلدة راجيوم ، وأنزلوا بالجنود التي احتلوها عقابا أليما، وأقبلت حكومة سيسيليا لإنقاذ بلدة مسينا، فلما رأت الجنود التي كانت فيها أنها مهددة على تلك الصورة أرسلت إلى الرومانيين، تقول لهم إنهم إذا أتوا لنجدتهم وحمايتهم يسلمونهم مسينا.
فالجواب على هذا السؤال استلزم رفع القضية إلى مجلس الشيوخ الروماني، وسبب لذلك المجلس إشكالا وارتباكا عظيمين؛ إذ بدا لأعضائه أن التحيز لخوارج مسينا ليس من الأمور الملائمة، في حين أنهم هم الرومانيون قد عاقبوا خوارج راجيوم بصرامة، ومع ذلك فإن الرومانيين كانوا مدة الأعوام الطوال ينظرون بعين الغيرة والحسد إلى تعاظم صولة قرطجنة وامتدادها، ورأوا أن الفرصة قد سنحت لهم لملاقاتها ومقاومتها، وكانت حكومة سيسيليا إذ ذاك تراسل قرطجنة طالبة منها النجدة لاسترجاع المدينة.
وكان في تلبية قرطجنة ما طلبته حكومة سيسيليا منها ما يؤدي إلى إقامة جيش قرطجني قبالة الشاطئ الإيطالي؛ وعلى مرأى منه وفي نقطة يسهل عندها على ذلك الجيش أمر القيام بحركات عدائية والاعتداء على البلاد الرومانية، وبالجملة فإن المسألة كانت مما يسمى في لغة السياسة ضرورة سياسة. وبعبارة أخرى: إنها مسألة متعلقة بمصالح أحد الجانبين التي وجد فيها حقها قويا إلى حد يحمل على تضحية كل اعتبارات العدالة واللياقة والشرف في سبيل الاحتفاظ بها، ومن المعلوم أن قضايا عديدة من نوع الضرورة السياسية، كثيرا ما تحدث في إدارة شئون الشعوب في كل أدوار العالم.
فالنزاع من أجل مسينا كان في آخر الأمر معتبرا في نظر الرومانيين مجرد علة أو عذر، أو بالحرى فرصة سانحة للابتداء بالكفاح الذي كانوا منذ زمن طويل راغبين في الإقدام عليه، وقد برهنوا على عظمتهم ونشاطهم الموصوفين بالخطة التي اتخذوها في بدء العراك، فهم كانوا يعرفون جيدا أن قوة قرطجنة قائمة بالأكثر على سيادتها البحرية، وأنه لا رجاء لهم في خوض غمرات الحرب معها على شيء من الأمل بالنجاح، إلا إذا حاربوها وقهروها في ذلك الميدان.
ولم يكن عندهم في ذلك الحين سفينة واحدة أو بحار واحد، في حين أن بحر الروم كان غاصا بسفن القرطجنيين وبحارتهم، على أن ذلك لم يثبط من عزائمهم ولا خاموا لما علموه من الميزة العظمى التي لعدوهم عليهم، فشرع الرومانيون في الحال يبنون قوة بحرية عظيمة تجعل كفتهم البحرية مساوية لكفة قرطجنة.
واستغرق الاستعداد وقتا غير يسير؛ لأنه لم يتعين على الرومانيين أن يبتنوا السفن فقط، بل كان عليهم أن يتعلموا كيف يبنونها، فتلقنوا أمثولتهم الأولى من سفينة قرطجنية كانت قد دفعتها العواصف إلى الشاطئ الإيطالي، فاستولوا عليها وجاءوا بالنجارين لكي يدرسوها وبقطاعي الأشجار ليوجدوا منها خشبا للشروع في بناء مثلها على سبيل التقليد، فدرس النجارون تلك السفينة بتدقيق وقاسوا كل قسم منها، ولاحظوا كيفية بناء الأقسام المختلفة وطريقة ربطها معا جسما واحدا.
Bilinmeyen sayfa
ومن المعلوم أن الصدمات التي تصيب السفن في البحار من الأمواج والتيارات تجعل أمر العناية في بنائها ضروريا لإبلاغها من القوة الدرجة القصوى، ومع أن سفن الأزمنة الماضية كانت صغيرة جدا، وليست على شيء من الإتقان بالمقابلة مع دوارع الوقت الحاضر، فمن المدهش أن ينجح الرومانيون فورا وبسرعة في محاولة ابتنائها على غير سابق استعداد أو عهد لذلك الفن.
وكل ما يقال في هذا الشأن أنهم نجحوا، وبينما كانت السفن تبنى كان الضباط الذين عهد إليهم في تمرين رجال للقيام عليها يدربونهم عند الشاطئ على كيفية تسيير تلك السفن بالتجذيف، فأقاموا مقاعد كالتي يجلس عليها المجذفون في المركب على الأرض، وعلى هذه أجلسوا الرجال المراد تمرينهم وجعلوا في أيديهم أخشابا كالمجاذيف؛ ليتقنوا تحريكها كما لو كانوا في السفن.
وكانت النتيجة الحاصلة مما بذله الرومانيون من الجهد في شهور قليلة: أنهم أكملوا بناء مائة سفينة، في كل واحدة منها خمسة صفوف لرجال التجذيف بمجاذيفها وسائر ما يتعلق بها، وأبقوا هذه السفن في الميناء زمانا معلوما؛ لكي يروا ما إذا كان المجذفون يحسنون القيام على التجذيف في البحر كما أجادوا فيه برا، ولما استيقنوا من ذلك ساروا بتلك السفن في البحر للقاء القرطجنيين.
وكان في جملة تدابير الرومانيين لإعداد أسطولهم قسم واحد دل على غريزتهم التي انفردوا بها عن سائر الناس، من حيث التصميم على الإجادة وبلوغ حد الكمال في سائر أعمالهم، ذلك أنهم ابتنوا آلات محتوية على كلاليب من الحديد نصبوها على مقدم السفينة، فكان من أمر هذه الكلاليب عند التقاء السفينة الرومانية بالسفينة القرطجنية أنها تترامى على ظهر سفينة العدو، فتمسكها بحيث لا تقوى على الإفلات، وتربط السفينتين معا كأنهما واحدة.
وبهذه الطريقة ينزعون كل فكر يخطر للعدو أنهم راغبون في الفرار من المعركة، على أن خوفهم الوطيد كان منحصرا في الاحتساب من أن بحارة القرطجنيين يستخدمون حذقهم ودربتهم البحرية للفرار من المعركة، ولقد عد الناس طرا عمل الرومانيين هذا من أدل البراهين على شجاعتهم البحرية، وتصميمهم النهائي على مجالدة أعدائهم بتلك الصورة التي لا مثيل لها في التاريخ، ذلك بأن يحتاطوا للعدو فلا يفر من بين أيديهم، وينجوا من القضاء المحتوم الذي قرروا في نفوسهم أنه سيكون من نصيبه، إذا هو بقي مقيدا في مكافحتهم، وعلى شجاعة يندر وجود ضريع لها في غير الرومانيين.
وفي الواقع أن إقدام الرومانيين هذا غريب في بابه؛ فليس بالسهل أن ينزل جيشهم البري إلى شاطئ البحر، ومن غير أن يكون قد رأى مركبا في زمانه يبتني أسطولا كبيرا من السفن الحربية، وينازل به دولة ملأت أساطيلها البحار، وتفرد رجالها في خوض غمراتها بحيث أصبحت سيدة البحر بلا منازع.
فهم قد توفقوا إلى إمساك سفينة محطمة من سفن أعدائهم، واتخذوها قالبا يبنون عليه فابتنوا مائة سفينة مثلها، وتمرنوا على حركات الأساطيل الحربية وقتا يسيرا في مينائهم، ثم ذهبوا للقاء أساطيل عدوهم البطاش، ومعهم تلك الكلاليب التي مر وصفها؛ ليقيدوهم بها غير خائفين من شيء سوى إفلات الأعداء من قبضتهم.
وكانت النتيجة حسب المنتظر، فإن الرومانيين أسروا وأغرقوا وحطموا أو مزقوا شمل الأسطول القرطجني الذي أقبل على مساجلتهم، فأخذوا مقدم كل سفينة أسروها وأرسلوها كلها إلى رومية، وهناك شيدوا بها عمودا «منقاريا» كتذكار لانتصارهم، وقد حطمت الصواعق ذلك العمود تقريبا بعد خمسين سنة من نصبه، ولكنهم أصلحوه وأعادوا بناء ما تهدم منه ، فظل قائما في مكانه أجيالا عديدة شاهدا عادلا على انتصارهم البحري الباهر.
وكان القائد البحري في تلك الموقعة القنصل دويليوس وقد شيد العمود المنقاري إكراما له، وعندما احتفروا خربات رومية من مضي ثلاثمائة وخمسين سنة عثروا فيما يقال على بقايا ذلك العمود، وعول الرومانيون بعد ذلك على التوسع في الحرب إلى قلب أفريقيا بالذات، وكان ذلك سهلا عليهم بعد أن حطموا الأسطول القرطجني؛ لأنهم استطاعوا نقل جنودهم إلى الشاطئ القرطجني بلا أقل خوف عليه من سفن الأعداء.
وكانت رومية مسودة بمجلس شيوخ «سناه» ليسن الشرائع، وفوق هذا المجلس مسيطران للتنفيذ باسم قناصل، فهم قد فكروا في أن وجود رئيسين للحكومة أسلم عاقبة من رئيس واحد؛ وذلك لأن كل واحد منهما يكون رقيبا على الآخر وكابحا لجماحه عند الاقتضاء، ولكن النتيجة جاءت على خلاف ما أملوا فتفاقم التحاسد بين الرئيسين، وكان كثيرا ما يؤدي إلى مجادلات عنيفة ونقار كثير، فآل ذلك في العصور الحديثة إلى الاقتصار على رئيس واحد للحكومة، وسن قوانين يتقيد بها وتكون بمثابة رادع له إذا هو أساء استعمال سلطته.
Bilinmeyen sayfa
وكان القناصل الرومانيون يتولون قيادة الجيوش في الحروب، وكان اسم القنصل الذي وقع عليه الاختيار لمتابعة الحرب ضد القرطجنين بعد الانتصار الأول الباهر روغولوس، وقد خلد لاسمه ذكرا في كل جيل بفعاله المجيدة وتدابيره الحكيمة وإقدامه المنقطع النظير في تلك الغارات، وانقطاع حبل حياته قبل أوان الأجل العادي، وحكاية ذلك وما فيها من الصحة هو من الأمور التي يستحيل تحقيقها، ولكن القصة حسبما رواها مؤرخو الرومانيين هي كما يأتي:
كان روغولوس أيام انتخب قنصلا من أواسط الناس يعيش بغاية البساطة، في مزرعة محصلا أوده بعمل يديه وآكلا خبزه بعرق جبينه، وليس في سجاياه للطموح والكبرياء أثر، على أن مواطنيه قد لاحظوا هاته الخلال الكريمة المنطبعة في ذهنه، وقدروها قدرها مجمعين على إجلال الرجل، وقد آل إعجابهم به إلى إقامته قنصلا، فترك المدينة وتولى قيادة الجيش، وجد في تكبير الأسطول، فأصبح عدد سفنه أكثر من ثلاثمائة سفينة، وجند فيها مائة وأربعين ألف رجل ركب البحر قاصدا أفريقيا.
استغرق في التأهب لذلك عامين، كان القرطجنيون فيهما قد توفروا على الوقت لابتناء سفن جديدة، فكان أنه عندما خاض الرومانيون عباب البحر، وهم على شواطئ سيسيليا، إذا بهم يرون الأسطول القرطجني محتشدا للقائهم، فتقدم روغولوس للكفاح وقهر الأسطول القرطجني ودمره كالأول، فالسفن التي لم تؤسر أو تدمر أركنت إلى الفرار في كل ناحية فاتحة السبيل للقائد روغولوس الذي سار بدون معارضة، وأنزل رجاله على الشاطئ القرطجني.
وهناك ضرب خيامه حال نزوله إلى البر، وبعث يستشير مجلس الشيوخ الروماني فيما الذي يجب القيام به بعد هذا. ولما أدرك مجلس الشيوخ أن الصعوبة العظمى والخطر المهدد - ألا وهما دحر الأسطول القرطجني - قد زالا، أمر روغولوس بإرجاع كل السفن تقريبا وقسم كبير من الجيش إلى رومية، والتقدم على قرطجنة بمن يبقى معه من الجند، فأطاع روغولوس ذلك الأمر وأرجع إلى رومية الجنود الذين طلبتهم، وزحف بمن بقي على قرطجنة.
في ذلك الحين وصلته أنباء من الوطن تفيد أن الفلاح الذي عهد إليه في العناية بأملاكه قد مات، وأن المزرعة التي كان عليها معول إعالة عائلته متدانية من الخراب، فطلب إلى مجلس الشيوخ إقالته من القيادة وإرسال من يتولى اقتياد الجيش مكانه؛ لأن في نيته الرجوع إلى حيث يهتم بأمر زوجته وأولاده، فورد عليه الأمر من مجلس الشيوخ بالبقاء حيث هو، وملاحقة حملته واعدا إياه بالاهتمام بعائلته من كل وجه، واستخدام شخص يعتني بأملاكه.
أوردنا هذه القصة لنري ما كان عليه الرومانيون من عيشة البساطة المتناهية والابتعاد عن الفخفخة في العادات، وسائر شئون الحياة في تلك الأيام، وهي في الواقع كذلك بل هي غريبة في بابها؛ ذلك أن يكون هذا الرجل الذي عهد إليه في الذود عن حياض مملكة عظيمة، وولي قيادة أسطول مؤلف من مائة وثلاثين سفينة، وجيش يزيد عدده على مائة وأربعين ألف رجل ذي عائلة معتمد في أمر قوتها على حراثة سبعة أفدنة من الأرض، يقوم بها رجل مأجور؛ ولكن تلك هي القصة رويناها على حقيقتها.
تقدم روغولوس على قرطجنة غازيا منتصرا في زحفه، وكان القرطجنيون يندحرون من أمامه ويخسرون المعركة بعد الأخرى، وقد نقص جيشهم بما قتل وأسر منه، إلى أن كادوا يصلون إلى طرف الجبل لولا انقلاب فجائي طرأ، فعكس ميزان الحرب ورجح كفتهم، وكان ذلك الانقلاب وصول قطعة من الجنود آتية من اليونان يقودهم قائد يوناني، أولئك جنود كان القرطجنيون قد استأجروهم؛ ليحاربوا معهم كما كانت عادتهم في كل حروبهم.
ولكن أولئك الجنود كانوا يونانيين، ومعلوم أن اليونانيين هم من الجنس الروماني حائزون على مثل سجايا الرومانيين، فبحال وصول القائد اليوناني الجديد قلده القرطجنيون زمام القيادة العليا؛ لما أبداه من المهارة الحربية والتفوق في الإدارة، فشرع في تنظيم الجيش وإعداده للعراك، وكان معه مائة فيل ممرنة على النزال، وعلى الهجوم دفعة واحدة، ودوس الأعداء تحت أقدامها، وقد أوقفها في الطليعة.
وكان المشاة الشاكو السلاح من رجاله في القلب، وعددهم بضعة آلاف رجل متماسكين معا وفي أيديهم رماح طويلة مصوبة إلى الأمام، فكانوا في زحفهم دفعة واحدة يجرفون كل ما يعترضهم كما يجرف السيل العرم ما يلقى في مجراه، أما روغولوس فكان على استعداد للقاء القرطجنيين إلا أنه لم يكن متأهبا لمجالدة اليونانيين، ففي المعركة الأولى فر جيشه هاربا ووقع هو أسيرا، وكان ابتهاج القرطجنيين وتهليلهم عظيما جدا، حينما رأوا روغولوس القائد الروماني ونحو خمسمائة من نخبة رجاله أسرى في المدينة، بعد أن كانت قلوبهم تخفق رعبا واحتسابا، قبل ذلك بأيام من دخول ذلك القائد مدينتهم فاتحا منتصرا ومنتقما.
على أن مجلس الشيوخ الروماني لم ييئس من هذه النكبة التي أصيب بها الجيش الروماني، بل كان ذلك مشددا عزيمته ومضاعفا تصميمه على متابعة الجهاد، فحشد جيوشا جديدة ووجهها إلى ميدان الكفاح، أما روغولوس فبقي أسيرا محجورا عليه في قرطجنة، أخيرا فوض القرطجنيون إليه أمر السعي في عرض الصلح على الرومانيين والمفاوضة في مبادلة الأسرى، وأخذوا منه عهدا مؤيدا بيمين غموس، مفادها أنه إن لم ينجح في ذلك يرجع إليهم.
Bilinmeyen sayfa
وكان الرومانيون قد أسروا عددا كبيرا من القرطجنيين في الوقعات البحرية واحتملوهم إلى رومية واعتقلوهم هناك، وقد جرت العادة عند أهل ذلك الزمن أن يتبادلوا الأسرى ويعيدوا المعتقلين في الحرب من الجانبين إلى أهلهم وذويهم في وطنهم؛ تلك كانت مبادلة الأسرى إلى أن عهد القرطجنيون إلى روغولوس في إتمامها، فلما وصل روغولوس إلى رومية أبى دخول المدينة، ولكنه مثل أمام مجلس الشيوخ خارج الأسوار بأثواب بالية وبحالة المسكنة والذل.
فهو قال إنه لم يعد جنديا رومانيا أو وطنيا رومانيا بل أسيرا قرطجنيا، وإنه يأبى ادعاء الحق في إبداء رأي أو مشورة للحكومة الرومانية في شأن الخطة التي يجدر بها اتباعها في تلك الحرب، وإنما له كلمة واحدة يقولها للرومانيين، وهي أن يرفضوا عقد صلح واستبدال الأسرى. وكان هو ورفاقه الأسرى الرومانيون قد بلغوا من العمر عتيا وتملكهم الوهن؛ ولهذا فإنهم لا يستحقون الاستبدال، وفضلا عن ذلك فإنهم ينكرون كل حق وكل دعوى وكل فضل لهم على بلادهم؛ ذلك لأنهم وقعوا أسرى، ولأنه لم تكن لهم شجاعة ووطنية صحيحة تحملانهم على الموت في الدفاع عن بلادهم.
وقال إن القرطجنيين قد تعبوا من الحرب، وملوا طول الجهاد وإن معداتهم قد نفدت، وإن على الرومانيين أن يتابعوا الجهاد بنشاط جديد وهمة قعساء، وأن يتركوه هو ورفاقه الأسرى رهن القضاء والقدر.
فمال مجلس الشيوخ إلى العمل بنصيحته بتؤدة وشيء من التردد، على أنهم بذلوا منتهى جهودهم في إقناع روغولوس بعدم الرجوع إلى قرطجنة، قائلين له إنه ليس ببقائه في بلاده وصمة عار على اسمه؛ ذلك لأن الوعد الذي أعطاه بالرجوع إليها قد أخذ منه بظروف الحالة التي هو فيها مرغما غير مختار، ولهذا فهو غير مرتهن به.
ولكن روغولوس أصر على البر بوعده لأعدائه وأبى أن يرى عائلته، وهكذا ودع مجلس الشيوخ ورجع إلى قرطجنة، ودرى القرطجنيون بأنه هو الذي عمل على فشل إرساليته، وعدم نجاحه في الذي عهدوا إليه في القيام به، فأنزلوا به أشد أنواع التعذيب وأخيرا قتلوه. وقد يقول قائل إنه كان من الواجب عليه أن يشير على قومه بالصلح وبمبادلة الأسرى، وألا يأبى مقابلة زوجته التاعسة وأولاده المساكين، ولكن الحقيقة يجب أن تقال؛ إنه قد تصرف بشرف ونبالة في أنه أبى إخلاف وعده.
واستمرت الحرب زمانا بعد هذا إلى أن أصبح الفريقان في حالة الوهن، وتعبا من الجهاد فرضيا بعقد صلح، وهذه هي معاهدة الصلح التي عقداها، فهي تظهر لنا أن الميزة في الحرب القرطجنية الأولى كانت على جانب الرومانيين:
يجب أن يعقد صلح بين رومية وقرطجنة، وعلى القرطجنيين أن ينجلوا عن سيسيليا، وألا يشهروا حربا على حلفاء الرومانيين، وأن يعيدوا إلى الرومانيين بدون فدية جميع الأسرى الذين اعتقلوهم، ويدفعوا إليهم في غضون عشر سنوات ثلاثة آلاف ومائتي وزنة من الفضة.
ودامت هذه الحرب التي انتهت على تلك الصورة أربعا وعشرين سنة.
الفصل الثاني
هنيبال في ساغونتوم
Bilinmeyen sayfa
كان اسم والد هنيبال هميلقار وهو من مشاهير قواد القرطجنيين، وكان وجيها فيهم لمقامه وثروته، ولما لأسرته من العلائق النسبية في قرطجنة، وما اشتهر به من الدربة الحربية الفائقة التي أبداها في اقتياد الجيوش إلى ساحات الظفر في البلدان الأجنبية، فهو شهر حروب قرطجنة في أفريقيا وإسبانيا، وقام بالأمر خير قيام، وذلك بعد انتهاء حروبها في رومية، وكان تائقا إلى إعادة الكرة على الرومانيين أيضا.
وقد ورد في دائرة المعارف الإنكليزية أن الاسم هنيبال، أو «حني بعل» كان من الأسماء القرطجنية الكثيرة الاستعمال، وهو مأخوذ فيما يقال من اسم البعل، فالقسم الأخير منه «بال» أو «بعل» هو اسم الإله «البعل» الذي كان القرطجنيون يعبدونه، وما قبله يماثل قولنا «عبد» الله؛ فهو إذن يفيد أن حني بعل هو «عبد» البعل، والذي يرضى عنه البعل.
وكان هنيبال المشهور وبطل الحرب القرطجنية الثانية ابن هميلقار برقا ولد في عام 247 قبل المسيح، وهو وأخواه هسدوربال وماغو كانوا معروفين بلقب أعطاهم إياه والدهم، وهو «أشبال الأسد». وعندما بلغ هنيبال التاسعة من عمره كان أبوه يتأهب للحملة على إسبانيا، فتوسل إليه أن يصحبه معه فوعده بذلك، وشرع في إقامة الحفلات الدينية وغيرها إيذانا بدنو سفره؛ إذ كانت العادة في ذلك الزمن أن الشعوب التي تؤذن بعضها بحرب تقيم الاحتفالات؛ لاسترضاء الآلهة وطلب معونة السماء.
والأمم المسيحية في هذا الزمان تفعل الشيء ذاته بإقامة الصلوات في كل بلاد لنجاح جيوشها في المعترك، أما الوثنيون فكانوا يفعلون ذلك بتقديم الضحايا والخمور والتقدمات المختلفة، وكان هميلقار يعد تلك الضحايا المراد تقديمها بواسطة الكهنة وفي حضرة الجيش بكامله، وكان هنيبال حاضرا يومئذ وهو ابن تسع سنين كما تقدم القول، وقد عرف في حداثة سنه بالنشاط والإقدام والروح العالية، فشارك المحتفلين باحتفالاتهم، وصرح بعزمه على الذهاب إلى إسبانيا مع الجيش، وهكذا ألح على والده ليتيح له ذلك.
فلم يشأ والده السماح له بالذهاب؛ لأنه كان حديث السن بحيث لا يقوى على تحمل متاعب تلك السفرة، وما يلقى فيها الجندي من المشاق المتنوعة، على أنه في آخر الأمر أتى به إلى أمام المذبح، وأمره أن يضع يده على الضحية، ويقسم اليمين المعظمة متعهدا بأنه متى بلغ الرشد وتوفرت له المقدرة يتابع محاربة الرومانيين، فأقسم اليمين التي قررت مستقبل حياته، والتي إنما أرغمه عليها والده لتكبير نفسه وتحقيق آماله من حيث الذهاب مع الجيش، وقد هيأ له بذلك عدوا كبيرا يحاربه في مقبل الأيام.
فاحتفظ هنيبال باليمين، وقد كان شديد الشوق للوصول إلى الوقت الذي يتاح له فيه الزحف بجيش لهام لمحاربة الرومانيين. وهكذا فإن هميلقار قضى سنة الوداع وركب البحر يريد إسبانيا، وأطلقت له الحرية أن يتوسع في فتوحاته، ويغزو كل الأنحاء الواقعة غربي نهر إيباروس، وهو نهر يجده القارئ على الخارطة منسابا جنوبا بشرق إلى بحر الروم، وقد تبدل اسمه مع الأيام فأصبح في هذا الحين إبرو.
وكان من جملة مواد المعاهدة التي عقدها أهل قرطجنة مع الرومانيين: أنه لا يحق للقرطجنيين عبور نهر إيباروس، وكانوا أيضا مرتبطين بتعهد في تلك المعاهدة بألا يعتدوا على سكان ساغونتوم، وهي مدينة واقعة بين نهر إيباروس وأملاك قرطجنة، وكانت ساغونتوم حليفة للرومانيين وتحت حمايتهم.
وكان هميلقار قلقا شديد الانزعاج لاضطراره إلى تحاشي مناهضة دولة الرومانيين، فبدأ حال وصوله إلى إسبانيا يرسم الخطط الحربية لتجديد الحرب، وكان معه تحت إمرته شاب بوظيفة ملازم أول في جيشه قد تزوج بابنته اسمه هسدروبال، فاستعان به على التوسع في اجتياح إسبانيا، وتقوية موقفه هناك، واستكمال خططه تدريجا مع الأيام لتجديد الحرب مع الرومانيين، ولكنه قبل أن يبلغ مشتهاه من ذلك أدركته المنية، فخلفه هسدروبال على القيادة.
وكان هنيبال يومئذ، وهو في الحادية والعشرين من عمره أو أكبر من ذلك بسنتين، باقيا في قرطجنة، فبعث أسدروبال إلى حكومة قرطجنة بطلب هنيبال؛ ليكون معه في إسبانيا بوظيفة معلومة في الجيش، ذلك ما ورد عنه في مؤلفات أبوت عن «صانعي التاريخ»، أما دائرة المعارف البريطانية فتقول: إن هنيبال ذهب إلى إسبانيا قبل ذلك، وتمرن على الحركات العسكرية تحت مناظرة والده، وإنه حضر المعركة التي سقط أبوه فيها قتيلا في عام 228 قبل المسيح، وعمره يومئذ تسع عشرة سنة.
وكانت مسألة إرسال هنيبال إلى إسبانيا موضوع جدال عنيف في مجلس الشيوخ القرطجني، وتلك هي الحال في كل الحكومات الانتخابات من أقدم الأزمان إلى الآن، يحتدم الجدال على أمر من الأمور بين حزبين يعارض واحدهما الآخر وتكون الأكثرية هي الفاصلة، كذلك جرى في مسألة إرسالية هنيبال؛ إذ عارض حزب والده في قرطجنة حزب آخر يضارعه في القوة، وزعم الحزب المعارض في مجلس الشيوخ اسمه هنو؛ وكان شديد العارضة في المعارضة قوي الحجة فصيح اللسان، فألقى خطابا في ذلك المجلس يعارض به إرسال هنيبال إلى إسبانيا.
Bilinmeyen sayfa
فقال عنه: إنه لا يزال حديث السن بحيث لا يتوقع منه كبير أمر، فضلا عن أن اختلاطه بالجند قد يفسد منه الأخلاق، ويؤدي إلى خرابه «أدبيا»، وفوق هذا وذاك فإن مسألة قيادة الجيش القرطجني في إسبانيا قد أصبحت من نوع الحق الوراثي فيما يظهر، ولم يكن هميلقار ملكا لكي يرث سلطته صهره أولا، ثم ابنه الذي متى وجد في الجيش يكون وجوده كمقدمة لاستيلائه على أزمة القيادة، عندما يموت هسدروبال أو يستعفي.
ويقول المؤرخ الروماني الذي ننقل عنه تفاصيل هذا الجدال: إن القوة قد انتصرت في آخر الأمر على الحكمة كالمعتاد، وجاءت نتيجة التصويت مؤيدة لمريدي إرسال هنيبال إلى إسبانيا، وهكذا ركب ذلك الفتى البحر بقلب مفعم بالجذل والمسرة، ولما وصل إلى إسبانيا حدثت ضوضاء ابتهاج في الجيش الذي كان تائقا إلى رؤية ذلك الابن؛ لأن الجنود كانوا يحبون والده حبا يقرب من العبادة، وقد صمموا على تحويل تلك المحبة إلى الابن إذا كان جديرا بذلك.
فلم تطأ قدماه المعسكر حتى برهن على أن هذا الشبل من ذلك الأسد، وحال وصوله قصر همه على واجبات وظيفته، وعمد إلى القيام بها بنشاط وصبر وتجرد، مما لفت الأبصار إليه وحمل الجند على التعلق به، فأصبح الرجل الفرد الذي أحرز محبة كل فرق الجيش. كان لباسه بسيطا وسلوكه شريفا بلا صلف ولا عجرفة ولا كبرياء، يأكل أبسط الأطعمة ولا يتطلب رفاهة، ولا يميل إلى البطالة واللذة، ولا يكلف أحد الأنفار ما ليس في طاقته، ولا يميز نفسه عنهم في شيء، ولا يحاول التملص مما يلحق بالجندي من العناء وشظف العيش.
ينام على الثرى بين الجنود ويؤاكلهم ويشاربهم، ويسير عند الهجوم في طليعتهم، ويكون آخر من يغادر أرض المعركة منهم عند الرجوع للاستراحة.
ويقول الرومانيون عنه: إنه فضلا عن هذه الصفات التي كان متحليا بها، قد عرف بالخشونة وغلاظة الكبد وقلة الرحمة في المعارك، وكان في معاملة الأعداء داهية وفي معالجتهم باقعة، وقد يكون الأمر كذلك؛ فمثل هذه الخلال كانت مما يرغب فيه جدا في ذلك الزمان، كما أنها مستحسنة كثيرا في هذا الزمان، على أنها في نظر الأعداء تعد من القبائح.
وكيفما كان الحال؛ فإن هنيبال أصبح محبوبا من الجيش الذي أحله محل الإجلال القريب من العبادة، فثابر على الاستزادة من الاختبار العسكري في السنوات الأولى من وجوده في الجيش، وعلى التوسع في التأثير والنفوذ، إلى أن اغتال أحد الوطنيين هسدروبال بغتة، وقتله انتقاما لوطنه، وحالما سكنت ضجة الحادثة ذهب قواد الجيش في طلب هنيبال، وأتوا به بالإكرام والتهليل إلى خيمة هسدروبال، وسلموا إليه مقاليد القيادة العامة بإجماع الآراء مبتهجين مهللين مستبشرين.
ولما بلغ النبأ قرطجنة أسرعت الحكومة فوافقت على عمل الجيش، وهكذا وجد هنيبال نفسه في أرفع درجات الرتب العسكرية، وبصيرورته قائدا عاما يفعل ما يريد ازدادت رغبته في محاربة الرومانيين، وتعاظم شوقه إلى امتحان قوته ودربته معهم في المعترك، إلا أن البلادين كانتا في سلام، وهما مرتبطتان بمعاهدات رسمية للمحافظة عليه.
وكان النهر إيباروس الحد الفاصل بين أملاك الأمتين في إسبانيا، فكان القسم الواقع شرقيه تحت سيطرة الدولة الرومانية، والقسم الكائن في الغرب منه تابعا لقرطجنة، ما عدا سوغانتوم التي كان موقعها في الغرب وهي حليفة الرومانيين، والقرطجنيون مقيدون بالمعاهدة مع الرومانيين للمحافظة عليها وتركها حرة مستقلة.
ولهذا لم يكن هنيبال قادرا على عبور نهر إيباروس ومهاجمة ساغونتوم من غير أن يعبث بالمعاهدة، وعلى هذا عقد النية على التحرك نحو ساغونتوم والزحف على الأمم القريبة منها ذلك؛ لأنه أدرك أن أفضل الوسائل المؤدية إلى الحرب مع الرومانيين هي الاقتراب من عاصمة محالفيهم، علما منه بأن دنو جيشه منها يبعث على الاحتجاج واللجاج، فيئول ذلك إلى اتقاد لظى الحرب التي يريدها.
ويقول الرومانيون: إن هنيبال كان داهية مكارا وذا دربة فائقة في إصلاء نيران الحروب، وفي الواقع أنه قد أبدى دراية متناهية في حركاته العسكرية، وانتصر بجيش قليل على جيش أكبر منه عددا بطريقة مدهشة وذلك في أول حروبه، فهو إذ كان عائدا من معركة انتصر فيها مثقلا بالغنائم والأسلاب، علم بزحف جيش على مؤخره يبلغ في العدد نحو المائة ألف رجل.
Bilinmeyen sayfa
وكان قدامه نهر على مسافة قريبة من جيشه، فأجهد هنيبال نفسه وجيشه في المسير، وعبر ذلك النهر من مكان ضحضاح لا يزيد عمق الماء فيه على الثلاث أقدام، وأرصد قسما من فرسانه مستترين على محاذاة ضفة النهر، وتقدم ببقية الجيش إلى مسافة معلومة بعيدا عن النهر؛ قصدا منه في خدع الذين يلاحقونه بأنه يسرع الخطى؛ لينجو بجيشه القليل العدد.
وأبصره الأعداء على تلك الحال فاندفعوا بلا إمهال إلى اللحاق به، وخاضوا مياه النهر جماعات جماعات من أنحاء مختلفة، فلما وصلوا إلى منتصف النهر، وهم يجهدون القوى لمغالبة المجرى والماء بالغ من أوساطهم، وقد رفعوا أسلحتهم فوق رءوسهم؛ لكيلا تعيقهم عن الخوض في المياه وتعرقل سرعتهم، أسرع فرسان هنيبال إلى لقائهم ومهاجمتهم، وهم في ذلك المأزق الحرج.
ومعلوم أن الميزة في النهر كانت على جانب الفرسان؛ لأن جيادهم كانت مغمورة بالماء، وأما هم فكانوا فوقه وأيديهم حرة مطلقة، بينما كان أعداؤهم مغمورين إلى مناكبهم مثقلين بما كان معهم من الأسلحة وتماسكهم واحدهم بالآخر بحيث يعجزون عن الدفاع عن أنفسهم فضلا عن القتال، وهكذا وقعوا في ارتباك متناه ففروا من أمام الفرسان وتولاهم الذعر، فلم يهتدوا إلى النجاة واحتمل الماء منهم عددا غفيرا.
ففاز بعضهم في الخروج من النهر على أبعاد مختلفة، ولكن على الجانب الذي كان فيه هنيبال، وقد انقلب هو وجيشه يريدهم فداستهم الفيلة بأرجلها، وهي طريقة عسكرية كانت كثيرا ما تستخدم في حروب تلك الأيام، ولما خلا النهر من العدو عبره هنيبال بجيشه، وأعمل السيف في رقاب من بقي من الأعداء على الجانب الذي كانوا فيه، فانتصر انتصارا مبينا بدد به شمل ذلك الجيش، واستولى على كل البلاد الواقعة غربي نهر إيباروس، ما عدا ساغونتوم التي بدأت تشعر بقلق ورعدة لقدومه.
وأرسل أهل ساغونتوم رسلا إلى رومية؛ لينبئوا الرومانيين بالخطر الذي يهددهم وليطلبوا من رومية حمايتهم من غوائله، فبذل أولئك الرسل جهدهم في الوصول إلى رومية بالأسرع الممكن، ولكنهم بالرغم من جدهم في ذلك بلغوها متأخرين؛ لأن هنيبال كان قد خلق أسبابا أدت إلى خلاف بين ساغونتوم وإحدى القبائل المجاورة لها، ثم انتصر للقبيلة وتقدم زاحفا لمهاجمة المدينة، فتأهب سكان ساغونتوم للدفاع عن أنفسهم، وكانوا في الوقت نفسه معتمدين على وصول النجدات من رومية.
فضاعفوا أسوارهم قوة وزادوها تحصينا، وكان هنيبال إذ ذاك يأتي بأدوات القتال العسكرية الكبرى لتهديم تلك الحصون، وأدرك هنيبال جيدا أنه بإصلائه ساغونتوم نيران القتال كان يكاشف رومية نفسها بالعدوان، وأن رومية لا بد لها من مناصرة ساغونتوم حليفتها، فهو كان في الواقع يدبر لإيقاد جذوة الحروب بين الأمتين من جديد، وقد ابتدأ بساغونتوم لسببين:
الأول:
لأنه لا يكون أمينا على نفسه، إذا هو عبر نهر إيباروس، وتقدم إلى الأرض الرومانية تاركا مثل تلك المدينة الغنية القوية وراء ظهره.
والثاني:
لأنه وجد من السهولة الكلية التذرع بواسطة سواه إلى إيجاد خلاف يؤدي إلى مناهضة ساغونتوم، ملقيا مسئولية إعلان الحرب رسميا على عاتق رومية، بدلا من أن يحاول إقناع القرطجنيين بنقض تعهدهم السلمي والشروع في محاربة الرومانيين، وكان في قرطجنة كما تقدم القول حزب كبير معاكس لهنيبال، وهذا الحزب يعارض كل حركة يقصد بها شهر الحرب على رومية؛ لأن في تلك الحرب حسبما يدركون ما يشبع مطامع هنيبال كقائد.
Bilinmeyen sayfa
فلم يجد هنيبال سوى طريقة واحدة يتذرع بها إلى إيقاد جذوة الشر، ألا وهي التهجم على حلفاء الرومانيين، وهي أفضل الطرق التي عرضت له وعمل بها، وكانت ساغونتوم مدينة غنية وقوية جدا، وهي قائمة على مسافة ميل من شاطئ البحر، وهكذا استمر الهجوم على المدينة ودفاع سكانها عنها وقتا طويلا، بلغ فيه الجهاد منتهى ما في مقدرة البشر، وقد عرض هنيبال نفسه للخطر في ذلك الهجوم مرارا عديدة، فتدانى مرة وهو يدير شئون القتال ويلاحظ أمر تقريب آلات الرماية من السور، فأصابته حربة رمي بها من نوافذ السور في فخذه، فخرقت اللحم وجرحته جرحا بليغا فوقع على الأرض لساعته، واحتمله جنوده إلى مكان بعيد عن ساحة القتال.
وبقي أياما طويلة طريح الفراش يعاني ألم الجرح، وقد انحلت قواه لما فقده من الدم، وكان جنوده في غضون ذلك على أحر من الجمر خوفا عليه، وبلغ منهم انشغال البال والاحتساب حدا حملهم على إبطال الحركات الحربية. على أنهم حالما علموا أن هنيبال قد تعافى، جددوا الهجوم بأوفر شجاعة وبإقدام أعظم مما عرف عنهم قبل ذلك.
وكان سلاح الحروب في تلك الأيام مختلفا عما نعرفه اليوم، ومنه نوع من السلاح يصفه مؤرخ قديم ، وقد رأى أهل ساغونتوم يستخدمونه في هذا الحصار بما يجعله أشبه بأسلحة هذه الأيام النارية، اسمه «فالاريكا»، وهو أشبه بالمزارق مؤلف من عمود خشبي في رأسه حربة حديدية، «ولعله الرمح المعروف عند العرب». وكان طول حربته ثلاث أقدام، فهذا المزراق كان يرمى من يد أحد الجنود، أو بواسطة آلة تدفعه شديدة نحو العدو.
وأهم ما فيه مما يختلف عن الرماح: أنهم يضعون قريبا من رأسه الحديدي حزمة من القنب ملفوفة عليه مشربة بالزفت وغيره من الأشياء القابلة للالتهاب، وكانوا يشعلونها قبل رمي المزراق، فعندما ينطلق نحو العدو تزداد ناره اشتعالا بفعل الريح، فتندلع منه ألسنة اللهيب، فإذا أصاب ترس الجندي المتصدي له انغرز فيه بحيث لا يمكن انتزاعه منه، فيضطر الجندي إلى نزع الترس وتركه على الأرض.
وبينما كان سكان ساغونتوم يدافعون عن أنفسهم جهد إمكانهم، ويتفانون في الذود عن مدينتهم ضد عدوهم القوي المخيف، كان الرسل الذين وجهوهم إلى رومية قد وصلوا، وعرضوا على مجلس الشيوخ الروماني ما يخشونه من هجوم الأعداء على مدينتهم - إذ كانوا غير عالمين بأنها هوجمت - وتضرعوا إليه لاتخاذ أقوى التدابير لمنع ما يتوقعونه من الهجوم.
فقر رأي المجلس الروماني على إرسال سفراء إلى هانيبال؛ ليسألوه عما ينوي القيام به ويحذروه من عواقب مهاجمة ساغونتوم، فلما وصل أولئك السفراء إلى الشاطئ القريب من ساغونتوم، وجدوا الحرب قائمة على ساق وقدم والمدينة في حصار شديد، فحاروا في أمرهم وتشاوروا بينهم في الذي يفعلونه.
ومن المعلوم أن الأفضل للخارجي أو للذي يرتكب مخالفة ألا يسمع أمرا قد صمم قبل سماعه على عدم العمل به، وهكذا أبى هنيبال ببراعته التي يسميها القرطجنيون دهاء، ويسميها الرومانيون خداعا ومكرا أن يقابل سفراء رومية، فوجه إليهم من حذرهم من الدنو إلى معسكره قائلا إن البلاد في حالة اضطراب، بحيث لا تكون سلامتهم مضمونة إذا هم نزلوا إلى البر، فضلا عن أنه لا يستطيع مقابلتهم أو الإصغاء لما يريدون عرضه عليه؛ لأنه في شغل شاغل بالحركات الحربية عن كل مفاوضة أو جدال في أي أمر كان.
وأدرك هنيبال في الوقت نفسه أن السفراء الذين خيب آمالهم وقابلهم بمثل تلك المقابلة الفظة، والذين رأوا أن الحرب قد استعرت وأن ساغونتوم محصورة وفي أشد ما يكون من الضيق، لا بد أن يسرعوا المسير إلى قرطجنة؛ ليطالبوا الحكومة هناك بما قدموا لأجله، وعرف أيضا أن هانو وحزبه المعادي له سوف ينتصرون للرومانيين، ويحاولون إفساد خطته عليه.
فسارع إلى إرسال سفرائه إلى قرطجنة؛ لكي يستميلوا الحكومة إليه في مجلس الشيوخ، ويحرضوهم على رفض مطاليب الرومانيين، ويتيحوا للحرب بين رومية وقرطجنة العود إلى ما كانت عليه، فصح ما خمنه ووصل سفراء رومية إلى قرطجنة، وهناك حظوا بالمثول أمام مجلس الشيوخ، وعرضوا عليه دعواهم قائلين: إن هانيبال قد شهر حربا على ساغونتوم، مخالفا بذلك المعاهدة المنعقدة بين رومية وقرطجنة، وأنه قد أبى مقابلتهم أو الإصغاء لما أراد إبلاغه إياه مجلس الشيوخ الروماني بواسطتهم.
وطلبوا من الحكومة القرطجنية التبرؤ من عمله وتسليمه إليهم؛ لكي ينال الجزاء العادل على مخالفته المعاهدة واعتدائه على حليفة الرومانيين، ومن المعلوم أن ممالئي هنيبال في المجلس كانوا يبذلون جهودهم في حمل الحكومة على رفض طلب الرومانيين باحتقار واستنكاف. أما حزب هانو من أعداء هنيبال، فكانوا يقولون: إن مطالب الرومانيين معقولة وعادلة.
Bilinmeyen sayfa
ووقف هانو الزعيم المعادي لهنيبال وخطب في المجلس بلهجة بليغة شديدة، وذكره بأنه هو قد حذرهم من إرسال هنيبال إلى إسبانيا، علما منه بأن مزاج ذلك القائد الناري يورطهم في متاعب مع الرومانيين لا آخر لها، وقال في خطابه: إن هنيبال قد خالف المعاهدة فهاجم ساغونتوم، وحاصرها وهي المدينة التي تعهدوا هم بشرفهم بألا يمسوها بأذى، فلا يتوقعون مقابلة لهذا الاعتداء سوى مجيء مواكب الرومانيين لمهاجمة قرطجنة ومحاصرتها، وأن البادئ بالشر أظلم.
وقال أيضا: إن الرومانيين كانوا متساهلين صبورين، فلم يتهموا قرطجنة بالأمر، بل وجهوا التهمة إلى هانيبال المذنب الحقيقي الوحيد، فبالتبرؤ من أعمال هنيبال يتخلص القرطجنيون من المسئولية، وأشار على المجلس بوجوب إرسال وفد يعتذر لرومية، وبعزل هنيبال وتسليمه للرومانيين والتعويض على ساغونتوم عما لحقها من الأضرار والخسائر.
وقام أنصار هنيبال في المجلس فدافعوا عنه بكل قواهم، وأوردوا له تاريخ الحوادث المتتالية التي أدت إلى الحرب، وأظهروا أو إنهم حاولوا إظهار ساغونتوم بأنها البادئة بالعدوان، وأنها هي التي أصلت جيش هنيبال حربا لم يجد بعدها بدا من مقاتلة الشر بمثله، وقالوا: إنهم هم - وليس هنيبال - المسئولون عما تلا ذلك من الشر المستطير، وتطرقوا من هذا إلى أنه ليس للرومانيين تحت هذه الظروف أن ينتصروا لساغونتوم، فإذا فعلوا يبرهنون عن كونهم قد فضلوا صداقة ساغونتوم على موالاة قرطجنة، وعلى هذا يكون من الجبن والعار على القرطجنيين أن يسلموا قائدهم الذي قلدوه زمام القيادة، والذي أبدى عظيم استحقاقه للثقة التي وضعها فيه القرطجنيون بشجاعته ودربته إلى أيدي ألد أعدائهم الشديدي الحقد.
ومما ورد في دائرة المعارف الإنكليزية عن ساغونتوم: أنها كانت مستعمرة يونانية مأهولة بأناس أتوها من «زانتي»، فعظمت ونمت وأثرت أيما إثراء وكانت على ولاء مع رومية، وأن هنيبال لم يشأ مهاجمتها فورا؛ لأنه بذلك يكون يبادئ مجلس الشيوخ والشعب الروماني بالعداء؛ ولهذا كتب إلى حكومته في قرطجنة أن ساغونتوم تعتدي على رعايا قرطجنة المجاورين لتخومها، وتسيء معاملتهم، على أنه شرع في محاصرتها قبل انتظار الجواب.
وهكذا كان هنيبال شاهرا حربين في وقت واحد؛ الواحدة في مجلس الشيوخ القرطجني حيث كان السلاح مجادلات وبلاغة، والأخرى تحت أسوار ساغونتوم وسلاحها المنجنيق والسهام النارية، وقد فاز في الحربين إذ قر رأي المجلس في قرطجنة على إعادة سفراء رومية إلى أوطانهم دون أن يقضي لهم وطرا، وفي الوقت نفسه كانت أسوار ساغونتوم قد تداعت أمام آلات هنيبال الحربية المدمرة.
وأبى سكان ساغونتوم كل ما عرض عليهم من آراء التسوية وثابروا على الجهاد إلى النهاية، فدخل جيش هنيبال الظافر المدينة زاحفا فوق أشلاء القتلى، وأعمل السلب والنهب وتهديم كل ما اعترضه في سيره، والإجهاز على من بقي فيها حيا، وعاد السفراء إلى رومية وأخبروا مجلسهم بأن ساغونتوم قد خربت ووقعت في قبضة هنيبال، وأن أهل قرطجنة لم يجيبوا سؤالهم ولا عرضوا تعويضا عن الأذى، بل تحملوا كل مسئولية من هذا الوجه وهم يتأهبون للحرب.
وهكذا أتم هنيبال مقصده في تمهيد السبيل لتجديد الحرب مع الدولة الرومانية، واستعد للنزول إلى ميدانها بنشاط وإقدام عظيمين، ودامت الحرب الضروس التي تلت ذلك سبع عشرة سنة، وهي معروفة في التاريخ بالحرب القرطجنية الثانية، فكانت عراكا مخيفا إلى الغاية بين أمتين متزاحمتين تأصل فيهما العداء، وغلت في صدورهما مراجل الشحناء بما لا يضارعه شيء في تاريخ الإنسان المظلم، والحوادث التي جرتها هذه الحرب سوف نجيء على بيانها في الفصول التالية.
الفصل الثالث
افتتاح الحرب القرطجنية الثانية
عندما تتجه الأميال في أية أمة إلى جهة الحرب؛ فإنها تقدم عليها في الغالب بقوة وإجماع رأي، بحيث لا يقف في وجهها شيء، فتكون كالريح الهوجاء أو السيل الجارف لا يبقي ولا يذر، كذلك كانت الحال في قرطجنة عندما جنح الناس فيها إلى الحرب، فحزب هانو الذي كان يعارض محاربة الرومانيين ألقي في زاوية النسيان وأسكت، وفاز أصدقاء هنيبال وأنصاره بحمل الحكومة على العمل برأيهم، وبإثارة الشعب برمته على التهليل للحرب والمناداة بها، وكان هذا الإجماع متأتيا من بعض الوجوه عن عدوى الروح العسكرية التي هي أشبه بالوباء، تتصل من واحد إلى آخر إلى أن تعم الجميع.
Bilinmeyen sayfa
بل هي كالنار في الهشيم إذا علقت بمكان، وصادفت رياحا امتدت ألسنة لهيبها إلى مكان والتهمت الأخضر واليابس، وفضلا عن ذلك فإنه عندما استولى هنيبال على ساغونتوم وجد هناك أموالا كثيرة لم يأخذها لنفسه، بل وقفها على تقوية جيشه وتأييد قوته العسكرية والمدنية، وقد تهالك أهل ساغونتوم في سبيل منع هنيبال من الوصول إلى هاتيك الكنوز، وقاتلوا قتال المستميتين إلى النهاية وأبوا كل رأي عرض عليهم للتسليم.
ويقول عنهم المؤرخ ليفي: إنهم كانوا في الجلاد كالمجانين، حتى إنهم عندما شاهدوا الأسوار تنهار منقلبة إلى الداخل، وأدركوا أن رجاءهم بالدفاع عن حياضهم قد انقطع أوقدوا نيرانا كبيرة في الشوارع العمومية، وألقوا فيها كل الكنوز والأشياء الثمينة التي وصلت إليها أيديهم ، وليس ذلك فقط بل إن العدد الكبير منهم ألقوا بأنفسهم في تلك النيران؛ لكيلا يقعوا أسرى في قبضة المنتصرين فيخسر هؤلاء الكنوز وأصحابها معا.
ولكن هنيبال بالرغم من ذلك استولى على مقادير غير يسيرة من الذهب والفضة، منها نقود ومنها سبائك وآنية، فضلا عن الأبضعة الثمينة المختلفة التي اختزنها تجار ساغونتوم في قصورهم ومخازنهم، فاستخدمها جميعا في تعزيز مركزه السياسي والعسكري كما تقدم القول، فدفع للجند أرزاقهم المتأخرة بكاملها وقسم بينهم أسلابا كثيرة كانت بمثابة حصتهم من الغنائم، وبعث إلى قرطجنة أسلابا كثيرة وهدايا، بينها نقود وجواهر وأحجار كريمة إلى أصدقائه وإلى غيرهم ممن أراد اكتساب صداقتهم.
فكانت نتيجة هذا السخاء وما اشتهر في الأنحاء عن انتصاراته في إسبانيا أن هنيبال بلغ ذروة المجد والنفوذ والشرف الذي لم يبلغه قائد قبله، وانتخبه القرطجنيون واحدا من السفطاء، وكان السفطاء أسمى موظفي الحكومة القرطجنية المنفذين وأهل الأمر والنهي فيها، فقد كانت الحكومة على نوع ما جمهورية أرستقراطية، والجمهوريات تحذر دائما من إلقاء مقاليد القوة حتى القوة التنفيذية إلى شخص واحد.
وكما كان لرومية قنصلان يملكان معا، ولفرنسا بعد ثورتها الأولى مجلس إداري مؤلف من خمسة مديرين، كذلك كان القرطجنيون ينتخبون اثنين من السفطاء كل سنة، وهكذا كانوا يسمونهم في قرطجنة. على أن كتبة الرومانيين قد أطلقوا عليهم أسماء متعددة كالسفطاء والقناصل والملوك، وعلى هذا فقد أحرز هنيبال هذا المنصب السامي، بالاشتراك مع زميله قابضا على السلطة المدنية العليا في قرطجنة فضلا عن أنه كان قائد الجيش اللهام الظافر في إسبانيا.
وعندما اتصلت أنباء هذه الحوادث برومية، وبلغها خبر حصار ساغونتوم وتدميرها، وما أقدم عليه أهل قرطجنة من رفض مطاليب سفراء الرومانيين، وما هم شارعون فيه من الاستعداد الكبير للحرب تولاها الاستياء والرعب، فعقد مجلس الشيوخ والشعب اجتماعات ساد فيها الهياج والتشويش، ودار فيها البحث عن أعمال القرطجنيين وعن وجوب استعداد الرومانيين للحرب، وطال الجدال في ذلك وسط ضوضاء وحدة عظيمتين، وكان الرومانيون في الواقع متخوفين من القرطجنيين؛ ذلك لأن حملات هنيبال في إسبانيا وما أبداه في جميعها من الدربة والشدة والبطش قد أوقعت الرعب في قلوبهم من مآتي هذا القائد، وأدركوا من ذلك أنه مصمم على تكييف خطته الحربية في صورة تمكنه من الزحف على إيطاليا، وأنه لا يبعد أن يتابع التقدم إلى أبواب المدينة، فينزل بها وبهم ما أنزله بساغونتوم وسكانها، وقد دلت الحوادث التي تلت على إصابة ما حسبوه من هذا القبيل، وعلى إدراكهم مقدرة هذا الرجل.
دام السلم بين الرومانيين والقرطجنيين بعد الحرب القرطجنية الأولى نحو ربع جيل، وفي غضون هذه المدة أدركت الأمتان تقدما عظيما في الثروة والقوة والرقي، على أن القرطجنيين قد فاقوا الرومانيين من هذا الوجه، «ومن المعلوم أن الرومانيين كانوا أوفر نجاحا من أعدائهم في الحرب الأولى، ولكن القرطجنيين قد برهنوا على أنهم أنداد لهم في كل أمر، مما دل على سهرهم واجتهادهم؛ لكيلا تكون للرومانيين عليهم ميزة، ومن أجل هذا بدت على الرومانيين أدلة الخوف من النزول مع عدوهم القوي في ميدان حرب جديدة، يقودهم إلى معاركها مثل ذلك القائد هنيبال.»
فقر رأيهم على توجيه وفد ثان إلى قرطجنة، وبذل الجهد في المحافظة على السلام بين الشعبين قبل الإقدام على العراك، وانتخبوا لذلك الوفد خمسة من أعاظم رجالهم ومن أكبر أهل الوجاهة بينهم سنا، وأمروهم بالسفر إلى قرطجنة، وأوصوهم أن يسألوا مجلس قرطجنة عما إذا كان أقر نهائيا على الرضا عن أعمال هنيبال وتحمل مسئوليتها، فركب الوفد البحر ووصل إلى قرطجنة، ومثل أمام مجلسها، وهناك أوضحوا الغاية التي قدموا لأجلها، ولكنهم كانوا يخاطبون آذانا صماء.
وأجابهم خطباء قرطجنة على كلامهم ورد عليهم أولئك، بحيث كان كل جانب يتبرأ من اللوم في خرق المعاهدة ويلقيه على الآخر، وكانت ساعة هائلة يتوقف على نتيجتها سلام العالم، وحقن دماء مئات الألوف من الرجال وسعادة الشعبين أو تعاستهما وخرابهما، وتدمير عمران البلادين في حرب ضروس، لا يعلم نهايتها إلا الله، فكانت نتيجة الجدال اتساع الخرق لسوء الحظ، وعندها قال رجال الوفد الروماني: «إننا نعرض عليكم السلم أو الحرب فأيهما تختارون؟» فأجاب القرطجنيون قائلين: «اختاروا أنتم»، قال الرومانيون: «نختار الحرب إذن، ما دام لا مفر لنا منها»، وانفض المجلس وعاد الوفد إلى رومية.
على أنهم رجعوا بطريق إسبانيا، وكان غرضهم من اتخاذ تلك الطريق المرور بالممالك والقبائل المختلفة في إسبانيا وفرنسا التي يمر فيها هنيبال، عندما يزحف مريدا اجتياح إيطاليا، ومحاولة حملها على نصرة رومية، على أنهم وصلوا متأخرين؛ لأن هنيبال كان قد أجهد نفسه في مد نفوذه وتأصيل تأثيره في هاتيك الأنحاء، بحيث لا يقوى أحد على أن يفسد ذلك عليه، ومن أجل هذا كانت البلدان التي يجيئها الوفد الروماني طالبا محالفتها ترفضه متعللة معتذرة بمختلف الأعذار.
Bilinmeyen sayfa
من ذلك أن قبيلة ذات صولة وقوة معروفة باسم «فولسياني» قصدها الوفد الروماني، وأعلن لمجلسها العالي احتساب رومية لحرب أصبحت على الأبواب، ودعا الناس إلى محالفة الرومانيين، فقالوا له: «إننا نرى مما حل بساغونتوم، ماذا تكون نتيجة محالفتنا للرومانيين، فأنتم بعد ترككم تلك المدينة، وهي بلا وسائل دفاع، وحيدة في عراكها المر ضد العدو الذي أحدق بها من كل جانب. لا يجوز أن تتوقعوا من الأمم الأخرى الثقة بحمايتكم، فإذا أردتم اكتساب حلفاء جدد ينصرونكم على أعدائكم، فاذهبوا إلى أناس لم تتصل بهم نكبة ساغونتوم.»
فكان لهذا الجواب رنة استحسان في كل ناحية سمع أهلها به، وهكذا يئس الوفد الروماني من إدراك مبتغاه في إسبانيا، وغادرها ذاهبا إلى «غال»، وهو الاسم الذي عرفت به البلاد المعروفة اليوم باسم فرنسا، ولما وصلوا إلى مكان معلوم كان نقطة دائرة النفوذ والقوة في بلاد الغال، عقدوا مجلسا حربيا هناك، وكانت مظاهر المجتمعين فيه وملابسهم باعثة على الحماسة؛ لأن الذين حضروها أتوا بسلاحهم الكامل، حتى كأنهم زاحفون إلى قتال لا إلى عقد مجلس شوروي ومباحثات.
وأمام ذلك المجلس عرض الوفد الروماني الغاية التي قدم لأجلها، وأسهب في إطراء عظمة الرومانيين وما لهم من الحول والطول، وأكد للمجتمعين أن رومية ستكون الظافرة في العراك المقبل، وحث الغاليين على الانحياز إلى جانبها، وإنجادها وعلى امتشاق الحسام والحئول دون مرور هنيبال في وسط بلادهم، هذا إذا خطر له جعل طريقه من تلك الناحية.
وتعذر على الوفد إقناع ذلك المجلس بالتريث إلى أن يفرغ متكلموهم من إيضاح مهمتهم، فكانوا كثيرا ما يقاطعون من تكلم منهم بالاعتراض والصياح، وفي آخر الأمر حدثت في ذلك المجلس ضوضاء وجلبة كلها اشمئزاز واستياء يتخللها أصوات استهزاء، أخيرا استعيد النظام ونجح كبار القوم في إسكات المتذمرين، وعندها أخذ النائبون عن ذلك المجلس يجيبون الرومانيين على ما طلبوه، فقالوا لهم: إن بلاد الغال لم تلق من رومية سوى الاعتداء والأذى، في حين أنها قد لقيت كل عناية ورعاية وموالاة من قرطجنة.
ولهذا فهم لا يريدون ارتكاب مثل هذه الحماقة، باستجلاب عواصف غضب هنيبال على رءوسهم؛ لمجرد طلب أعدائهم الألداء إليهم بالانتصار لهم عليه وإنقاذهم من بطشه، وعلى هذه الصورة فشل الوفد الروماني في مساعيه في كل مكان، ولم يعثروا على روح مسالمة لهم عاطفة عليهم إلا بعد أن عبروا نهر الرون.
وشرع هنيبال عندئذ في رسم خططه الحربية بطريقة مبنية على التأني والحذر والتبصر؛ وذلك للزحف على إيطاليا، فهو قد أدرك أن القتال سيكون سجالا، وأن الحملة ستبلغ درجة من التوسع عظيمة وتستغرق وقتا طويلا؛ ولذلك فهي تدعو إلى التدبير المدقق المبني على مزيد التأني والتؤدة، بحيث يتناول القوات التي تزحف وغيرها التي يجب استبقاؤها خلف الجيش.
وكان فصل الشتاء مقبلا، وأول شيء فعله هو أنه أطلق سراح جانب عظيم من رجاله؛ لكي يزوروا أوطانهم، وقال لهم إن في نيته الإقدام على أمور جسيمة في الربيع المقبل، قد تبعث بهم إلى مسافات بعيدة وتبقيهم وقتا طويلا متغيبين عن إسبانيا؛ ولهذا فقد رأى أن يعطيهم الفرصة المعترضة بين ذلك الوقت وفصل الربيع؛ لكي يزوروا أوطانهم وعيالهم ويدبروا شئونهم حسبما ينبغي.
فلطف هنيبال ورعايته وثقته التي أبداها لجنوده جددت تعلقهم به، فذهبوا وعادوا إلى معسكره في الربيع، وهم متجددو النشاط والقوة والإخلاص لقائدهم، وبشوق متضاعف للقيام بواجباتهم نحوه في العمل العظيم الذي صمم على القيام به، وبعد أن صرف هنيبال جنوده إلى أوطانهم ذهب هو إلى قرطجنة الجديدة الواقعة، كما يفهم من الخارطة إلى الغرب، بعيدا عن ساغونتوم حيث أراد قضاء فصل الشتاء والاشتغال بإكمال الخطط التي رسمها.
وكان عليه، فضلا عن إعداد ما يلزم لزحفه، أن ينظم حكومات صالحة للبلدان التي يغادرها وراءه، وعلى هذا أخذ في إعداد كل ما يكفل له إبقاء تلك البلدان في هدوء، بعيدة عن خطر الخروج والعصيان عليه بعد ارتحاله، فكان في جملة ما دبره تنظيم جيش لإسبانيا من الجنود الذين أخذهم من أفريقيا، وأخذ الجنود التي كان عليها المحافظة على قرطجنة، وحماية حكومتها من إسبانيا.
فهو باستبدال الجنود على تلك الصورة في البلادين، قد ألقى مقاليد السيطرة العسكرية في كل بلاد إلى عهدة جنود أجانب عنها، يكونون أطوع لقوادهم وأعظم إخلاصا وأقل خطرا من الاندغام، والجنوح إلى الأهلين الذين يسيطرون عليهم، مما لو اختارهم من أهل البلاد عينها، وعرف هنيبال جيدا أن البلدان والمقاطعات الإسبانية المختلفة التي أبت محالفة الرومانيين وتركه، قد أرغمت على ذلك بتأثير هداياه أو بالخوف من بطشه، وأنه إذا لقي اندحارا في إيطاليا بعد التوغل فيها، فذلك الفشل يقلل رجاءهم من الانتفاع بهباته أو خوفهم من صولته، فيئول أمرهم إلى شق عصا الطاعة له أو الانتفاض عليه.
Bilinmeyen sayfa
ولكي يكون أمينا إلى الحد المتناهي من هذا القبيل ابتدع هذه الخطة البديعة، وهي أنه جند جيشا من سائر الأمم التي في إسبانيا والموالية له، منتخبا الشبان المتطوعين من أسر ذات وجاهة ونفوذ، وعندما اكتمل عدد هذا الجيش وتنظم بقواده وضباطه وجهه إلى قرطجنة، وغرضه من ذلك أن يفهم تلك الشعوب التي انتخب ذلك الجيش من أبنائها أنه لا يعد تلك الجنود عساكر منخرطة في سلك جيشه فقط، بل يعدها أسرى أو رهائن يمسكها كضمان يكفل له إخلاص هاتين البلدان وطاعتها، وكان عدد ذلك الجيش أربعة آلاف رجل.
وكان لهنيبال أخ اسمه مثل اسم صهره أسدروبال من قبيل التصادف، فعهد إليه في القبض على زمام الحكومة في إسبانيا مدة غيابه عنها، وكانت الجنود التي وضعها تحت إمرته في إسبانيا مأخوذة من أفريقيا كما تقدم القول، ونظم له قطعة من الفرسان زيادة على هذا الجيش، وترك معه أربعة عشر فيلا، وإذ كان على احتساب من إمكان هبوط الرومانيين على شاطئ إسبانيا في غضون غيابه من جانب البحر منتهزين فرصة انشغاله في إيطاليا؛ ابتنى لأخيه نحو ستين سفينة وجهزها بالعدة الكاملة منها خمسون سفينة من الطراز الأول.
ومعلوم أن أهمية البوارج والمستزريات الحربية العصرية تتوقف على عدد المدافع التي تحملها، أما أهمية سفن تلك الأيام الحربية فكانت متوقفة على عدد صفوف المجدفين فيها، ومن أجل هذا ابتنى لأخيه خمسين بارجة خماسية (كونكواريوم كما كانوا يسمونها)، وهي التي كانت ذات خمسة صفوف من المجذفين، ولم يكن الرومانيون متهاملين في أمر الاستعداد، فهم مع كونهم قد ترددوا في أمر الحرب إلا أنهم وجدوا من الضرورة الماسة التأهب لها؛ لكي - إذا فوجئوا بها - يكونوا على أتم الاستعداد لخوض غمراتها بهمة تامة وعدة كاملة، عندما يرون ألا مناص لهم منها.
فقر رأيهم على حشد جيشين عظيمين، كل جيش لقنصل من قنصليهما، ووضعوا لهما خطة حربية مآلها أن أحد الجيشين يتقدم لملاقاة هنيبال بينما الآخر يقصد سيسيليا، ومنها يعبر إلى الشاطئ الأفريقي بقصد أن يهدد عاصمة القرطجنيين، فإذا نجحت هذه الخطة فإنها ترغم القرطجنيين على استدعاء قسم من جيش هنيبال أو الجيش كله من الساحة الإيطالية؛ لكي يدافع عن أوطانهم.
وكان عدد الجيوش التي حشدها الرومانيون نحو سبعين ألف مقاتل؛ ثلثهم جنود رومانيون والبقية مجندة من أجناس الأمم المختلفة القاطنة في إيطاليا، وفي جزائر بحر الروم الموالية للرومانيين. وكان من هذا الجيش نحو ستة آلاف فرسانا، وكان على الرومانيين أن يعدوا أسطولا إذا هم فكروا في اجتياز البحر إلى أفريقيا، فابتنوا أسطولا وجهزوه بكل معدات القتال، وكان عدده مائتين وعشرين سفينة من الطراز الكبير، أي الخماسي، وكان لديهم عدد من السفن الصغيرة للأعمال التي تتطلب سرعة في السير.
وكان لدى أهل تلك الأيام سفن أكبر من السفن الخماسية، فقد ذكر المؤرخون شيئا كثيرا عن سفن ذات ستة وسبعة صفوف أيضا من المجذفين، على أن مثل هذه السفن الضخمة كانت تستخدم بمثابة بوارج لأمراء البحر ولغير ذلك من الاحتفالات والاستعراضات؛ ذلك لأنها كانت ضخمة ثقيلة بحيث لا تصلح للعراك.
وكانت عادة الرومانيين في مثل هذه الظروف إلقاء قرعة لتقليد زمام الجيشين إلى كل واحد من القنصلين، فالجيش الذي كان عليه أن يلقى هنيبال على طريقه من إسبانيا ألقيت مقاليده بحسب القرعة إلى القنصل كرنيليوس سيبيو، واسم القنصل الآخر سمبرونيوس فهذا عهد إليه في اقتياد الجيش الذي يسير إلى سيسيليا ومنها إلى أفريقيا، ولما فرغوا من كل هذا طرحت المسألة نهائيا أمام الشعب الروماني للتصويت والموافقة النهائية عليها بهذه العبارة: «هل يقر رأي الشعب الروماني على شهر الحرب ضد القرطجنيين؟»
فكان الجواب بالإيجاب، وعند ذلك أعلنت الحرب باحتفال رسمي على جاري العادة، وتلت ذلك طقوس وحفلات دينية وتقديم ضحايا لاستجلاب رضا الآلهة والاستعانة بها، ولتحريض الجنود وبث روح البسالة في صدورهم وإيجاد الثقة في نفوسهم بالتقاليد التي تحمل كل واحد منهم مهما كان شريرا على الإقدام، عندما يتصور أنه أصبح تحت حماية السماء، ومتى تمت كل هذه الحفلات والطقوس يكون كل استعداد قد أكمل.
وكان هنيبال في الوقت نفسه يزحف متقدما مع إقبال فصل الربيع نحو ضفاف نهر إيباروس، ذلك المجرى الذي يفصل التخوم، والذي مكنه عبوره في الماضي من اجتياح الأرض التي كانت معدودة أرضا رومانية، فاجتاز النهر بإقدامه المعروف، وزحف إلى جبال البيرنيه التي منها يتألف الحد الفاصل بين فرنسا وإسبانيا.
ولم يكن جنوده عندئذ يعرفون شيئا عن مراميه، فإن القادة في تلك الأيام كانوا - كما هم اليوم - يكتمون مقاصدهم وخططهم الحربية عن الجيوش، ذلك فضلا عن أن جنود تلك الأيام لم تتوفر لهم الوسائل المتوفرة لجنود هذا الزمن، من حيث كثرة الجرائد التي لا تترك خبرا إلا وتنشره أو سرا إلا وتفضحه للناس. وهكذا فإنه إذا كان ضباط الجيش ووجهاء القوم في رومية وقرطجنة عالمين بمقاصد هنيبال وما يرمي إليه، فإن جنوده الجهلاء المستعبدين لم يعرفوا شيئا سوى أنهم مسيرون إلى عمل بعيد كثير المشقة.
Bilinmeyen sayfa
ولهذا كانوا يجهلون ما هي إيطاليا أو رومية وعظمة المملكة الواسعة التي كانوا يسيرون لاجتياحها، وهكذا فإنهم عندما وصلوا إلى جبال البيرنيه، وأدركوا أنهم سوف يرغمون على تسلقها وقطع قممها والهبوط منها بمثل ذلك العناء، قطبوا وجوههم وتولاهم الخور وصار كثيرون منهم يتذمرون علنا، وبلغ منهم التذمر حدا حمل قسما منهم يبلغ عدده ثلاثة آلاف رجل على الانفلات من بقية الجيش، وساروا راجعين نحو أوطانهم.
ولدى البحث علم هنيبال أن عشرة آلاف آخرين من جنوده قد تولاهم الشعور نفسه فصمموا على اللحاق بأولئك، فالآن ما الذي يتصوره القارئ بالذي يفعله هنيبال في مثل ذلك الموقف الحرج؟ هل يلحق الفارين من الجيش الذي لا يزيد عدده على مائة ألف ويبطش بهم تأديبا لهم وعبرة لغيرهم، أو أنه يتركهم وشأنهم ويحاول بالكلام اللطيف والتشجيع إقناع من معه بالبقاء؛ لكي يبقى لديه جيش يحارب به العدو؟
إن هنيبال لم يفعل هذا ولا ذاك، بل دعا العشرة آلاف جندي الذين كانوا لا يزالون في المعسكر وهم على أهبة الرجوع وقال لهم بصريح اللفظ: إنهم ما داموا خائفين من مرافقة جيشه أو غير ميالين إلى اتباعه فليرجعوا؛ فهو لا يريد أن يكون بين رجاله من ليست له الشجاعة الكافية والصبر على الجهاد، واللحاق به حيثما أراد اقتياده؛ فالجبان أو الخائر القوى ليس له محل في جيشه؛ لأنه يكون حملا ثقيلا يهد به قوى بقية الجيش ويفت من صلابتهم.
وإذ قال هذا أمرهم بالرجوع في الحال، واستأنف المسير ببقية الجيش متسلقا الجبال، وقد تصلبت قلوب رجاله مما قد سمعوه، وتضاعفت شجاعتهم من كلمات التوبيخ التي قالها للرجال الذين تولاهم الجبن والخوف. ومن المعلوم أن عمل هنيبال هذا بالسماح لجنوده المتذمرين ليرجعوا كان من الشهامة بمكان، وقد أثر على جنوده الباقين، ونفخ في صدورهم روح الشجاعة والإقدام، على أنه ليس من أصالة الرأي أن يحسب عمله نبالة مقصودة ، بل هي من النوع الذي تجيء به الضرورة عندما يصبح الإنسان بين أمرين شديدين لا بد له من أحدهما، فيختار الأخف.
وهذا ما يقال له سياسة، فهنيبال كما قد عرف عنه كان شديد الوطأة لا يعرف قلبه الرحمة، ولا يلين لأمر إذا كان في اللين ضرر أو خطر؛ ولهذا فالقائد الأريب ذو الحزم يجب أن يعرف متى يعاقب ومتى يغضي ويتسامح. فهنيبال كان كالإسكندر ونابليون توفرت له الحكمة، وهي التي حملته في هذه الحادثة على ما فعل، وهكذا اجتاز هنيبال جبال البيرنيه، وكانت الصعوبة التي اعترضته بعدها في عبور نهر الرون.
الفصل الرابع
عبور نهر الرون
لم يلق هنيبال بعد اجتياز جبال البيرنيه عوائق جديدة حتى انتهى إلى نهر الرون، فهو قد عرف أن النهر عريض وسريع الجري وأن عليه أن يعبره عند مصبه حيث الماء عميق والضفتان منخفضتان، وفضلا عن هذا كله فقد يكون الجيش الروماني الزاحف لملاقاته، بقيادة القنصل كرنيليوس سيبيو، قد بلغ النهر ورصد هناك؛ لكي يمنع جيش هنيبال من العبور.
فأرسل هنيبال كتيبة تتقدمه إلى حيث تستكشف البلاد وتستهدي إلى أفضل الطرق الموصلة إلى ذلك النهر، وبعد الوصول إليه تستمر على المصير إلى جبال الألب؛ لكي تكون على علم بالدروب والمضايق التي سيمر فيها جيشه عندما يقدم على اجتياز تلك الجبال المغطاة بالثلوج، وحدث أنه إذ كان يسير لاجتياز جبال البيرنيه، وهو بعد في أرض إسبانيا على الجانب الآخر منها، أن بعض القبائل التي اضطر إلى المرور في أراضيها تصدت له وأرادت مناوأته.
فتعين عليه أن يهاجمها ويبطش بها، فلما انتهى منها وسار أبقى وراءه قسما من رجاله في تلك الأرض التي قهر أهلها لإرغامهم على السكون، فبلغت أخبار هذه المواقع أرض الغاليين وحملتهم على الاحتساب والتأهب للذود عن سلامتهم، وكانوا قبل وقوفهم على ما أصاب غيرهم يظنون أن هنيبال يبغي المرور ببلادهم للوصول إلى إيطاليا؛ ولهذا لم يفكروا في التعرض له، أما الآن فقد رأوا ما حل بأهل البلدان التي مرت فيها، وأيقنوا أن هنيبال مصمم على تدويخ كل أرض تطؤها أقدام رجاله، فولد لهم ذلك قلقا عظيما.
Bilinmeyen sayfa
ولهذا عمدوا إلى أسلحتهم واجتمعوا في روسينو على عجل، وأخذوا يفكرون في وسائل الدفاع؛ وروسينو هذه هي البلدة التي لقي فيها سفراء رومية مجلس بلاد الغال العالي عند رجوعهم من قرطجنة إلى رومية، وفيما كان المجلس الغالي (أو بالحرى الجيوش المتألبة) تفد إلى روسينو ملتهبة الصدور غيظا وحماسة، كان هنيبال في إيليباريس، وهي بلدة في سفح جبال البيرنيه، ولم يكن هنيبال يتوقع مقاومة من الغاليين ولا يحسب لهم إن قاوموه حسابا، على أنه كان يخشى من أن يعيقوه.
ولم يشأ هنيبال أن ينفق شهور أوائل الصيف الثمينة في مجالدة مثل هؤلاء الأعداء، والطريق إلى إيطاليا مفتوحة أمامه وهي، لا هم، ضالته المنشودة، ذلك فضلا عن أن معابر جبال الألب المشهورة بكونها صعبة الاجتياز إلا في شهري تموز وآب، وهي في كل فصول السنة الباقية تكون، أو إنها كانت، في ذلك الزمن مملوءة بالثلوج التي يتعذر السير فوقها، وفي الأزمنة المتأخرة قد مهدت فيها السبل واحتفرت في صخورها الأروقة والدهاليز وأشباهها، التي تقي السائرين العواصف الثلجية وركامات الجليد التي تنحط عليهم من شواهق القمم؛ بحيث أصبح السفر بين فرنسا وإيطاليا بين تلك الجبال ممكنا في كل فصول السنة إلى درجة معلومة.
أما في أيام هنيبال فلم يكن اجتيازها ممكنا في غير شهور الصيف، ولو لم يكن الإقدام على قطعها ضروريا لعد القيام به من نوع المخاطرة الكلية بل الحماقة المتناهية، ولا سيما مع جيش لهام؛ ولهذا لم يستطع هنيبال إضاعة الوقت، فرأى من الحكمة العمل بالتؤدة والمجاملة ومكارم الأخلاق بدلا من استخدام النكاية والقوة، ومن أجل هذا أنفذ الرسل إلى مجلس روسينو ليقولوا لرجاله بغاية اللطف والملاينة: إن هنيبال يريد الاجتماع بأمرائهم وزعمائهم شخصيا والمفاوضة معهم، وهو إن شاءوا يتقدم إلى روسينو لهذه الغاية، أو يقدمون هم عليه في إيليباريس إن أرادوا حيث يكون في انتظارهم.
ثم دعاهم إلى معسكره مخيرا إياهم بالقدوم، وقال لهم إنه مستعد إذا رغبوا في مقابلته للذهاب إليهم كصديق وحليف، وإنه لا يطمع في شيء سوى المرور ببلادهم، وزاد على هذا قوله إنه قد قطع عهدا على نفسه إذا أتاح له الغاليون إتمامه، لا ينتضى في كل جيشه سيف إلا بعد أن يصل إلى إيطاليا، فانتفى بهذه الرسالة كل ما كان في صدر الغاليين من المخاوف وشعور العداء، وسري عنهم كثيرا، فأعدوا العدد في معسكرهم وساروا قاصدين إيليباريس، ولما وصلوا قصد أمراؤهم وقواد جيشهم معسكر هنيبال، فقوبلوا هناك بمزيد الحفاوة والإكرام على الصورة لم يكونوا يتوقعونها، ورجعوا من عنده مثقلين بالهدايا والتحف، وهم يلهجون بلطفه وكرم أخلاقه وسخائه النادر المثال. وهكذا فبدلا من أن يعملوا على عرقلة مسيره كانوا هم أدلاء الجيش وهداته، فأخذوه أول كل شيء إلى روسينو عاصمتهم، ومن هناك بعد إبطاء يسير زحف الجيش قاصدا نهر الرون.
وكان القنصل الروماني سيبيو في الوقت نفسه قد أعد مراكبه لملاقاة هنيبال، وهي ستون مركبا عبأها بالجنود عند مصب نهر التيبر وأقلع يريد مصب نهر الرون، وكان الجنود في تلك المراكب مكردسين بعضهم فوق بعض، كما تكون الحال على الغالب في الجيش الذي يركب البحار، ولم يستطيعوا التوغل في البحر لعدم وجود الحك (الإبرة المغناطيسية) في تلك الأيام، بحيث يصعب عليهم معرفة الوجهة التي يسيرون فيها إذا كان الجو غائما، أو كانت العواصف تهب إلا بما يرونه من البر.
ومن أجل هذا أقلعت مراكبهم ماخرة ببطء على محاذاة الشاطئ فكانوا يدفعونها أحيانا بالشراع وتارة بالمجاذيف، وبعد معاناة المضني من مشقة السفر والجوع القتال من قلة الزاد والدوار، وما يتسبب من تحرج الصدور عن انحشار ألوف الناس في فسحات ضيقة، الأمر الذي يفرغ معه الصبر وتزهق الأرواح، وصلت المراكب الرومانية إلى مصب نهر الرون، ولم يكن قواد الجيش الروماني يعلمون أن هنيبال قريب من تلك النقطة، بل كل ما اتصل بهم عنه أنه قد اجتاز نهر إيباروس.
ولهذا ظنوا أنه لا يزال خلف جبال البيرنيه، وهكذا دخلوا نهر الرون في أول فرع وصلوا إليه منه - ذلك لأن نهر الرون كنهر النيل يتفرع عند مصبه، وينصب في البحر بمجار عديدة - وثابروا على المسير فيه إلى أن بلغوا مرسيليا؛ ظانين أن عدوهم لا يزال بعيدا عنهم مئات الأميال، وربما كان قد تلبك جيشه في دروب البيرنيه ومضايقه، ومعلوم أن هنيبال على العكس من ذلك كان عندئذ معسكرا على ضفاف نهر الرون فوق المكان الذي وصلوا إليه بمسافة قصيرة، وهو يفكر في إعداد الوسائل لعبوره بصبر وهدوء.
ولما أنزل القنصل كرنيليوس جيشه إلى البر كان جنوده في حالة من التعب والدواخ الكثير، لا يقوون معها على ملاقاة هنيبال إلا بعد أن يأخذوا نصيبا من الاستراحة أياما معدودة، على أن كرنيليوس انتخب من جيشه ثلاثمائة فارس، علم بمقدرتهم على الحركة ووجههم إلى أعالي النهر للاستكشاف، ولكي يعلموا مقر هنيبال ويعودوا ويطلعوه على ذلك في الأسرع الممكن، وبعد إرسالهم عمد إلى تنظيم جيشه والقيام على إتمام صفوفه؛ لكي يكون على أتم الاستعداد حال رجوعهم.
ومع أن هنيبال لم يلق مقاومة شديدة في مسيره ببلاد الغال، فلا يجوز أن نظن أن الناس الذين اجتاز في وسطهم كانوا موالين له أو مسرورين من وجوده بينهم، فالجيش عبء ثقيل على الدوام ولعنة على كل بلاد يدخلها، حتى ولو كان مارا بها غير محارب.
فالغاليون أبدوا كل صداقة لهذا الفاتح الرهيب وجموعه، على اعتقاد منهم أنه سيمر بسرعة ويرتحل عنهم، ولا سيما أنهم كانوا غير متأهبين ولا قوة لهم على محاولة الوقوف في وجهه؛ ولهذا اختاروا أهون الشرين، وقرروا بذل كل خدمة ممكنة له ليسرع في الابتعاد عنهم.
Bilinmeyen sayfa
وظلت تلك خطة القبائل التي اجتاز في وسطها إلى أن بلغ النهر، على أن الناس المقيمين على الجانب الآخر من النهر قد وجدوا أن الأفضل لهم أن يقاوموه، فهم كانوا على مقربة من البلاد الرومانية، ومن المعدودين على نوع ما تحت النفوذ الروماني؛ هؤلاء كانوا يخافون من استياء الرومانيين إذا هم ساعدوا - ولو بالوقوف على الحياد - تقدم هنيبال ووصوله إلى حيث يقصد بدون أقل معارضة . ولما كان النهر عريضا في ناحيتهم معترضا بينهم وبين أعدائهم، فكروا في مركز يمكنهم أنهم بالنظر إلى النهر في مأمن من بطش هنيبال، وفي مركز يمكنهم من صده عن التقدم.
ولما شرع هنيبال في عبور النهر كان السكان من الجانب الواحد ميالين إلى مساعدته، وتسهيل كل صعوبة تقف في سبيله، وكان سكان الضفة الأخرى يبذلون أقصى جهودهم في عرقلة مساعيه ومنعه عن العبور، وكلاهما مدفوع إلى ذلك بالرغبة نفسها، وهي إبعاد العدو المجتاح عن أرضه، والتخلص من ذلك الجيش الماحق الذي يبلغ عدده التسعين ألفا. وهكذا وقف هنيبال بين أمرين متناقضين؛ أناس على جانبه يسهلون له سبيل العبور مقدمين له السفن والقوارب التي يملكونها، وباذلين منتهى الجهد في إبلاغه غايته من العبور، وأناس على الضفة الأخرى واقفين له صفوفا كالجيش الراصد للكفاح بأسلحته البراقة يهددونه بالويل والثبور، إذا هو أقدم على العبور.
ورآهم هنيبال ألوفا مصفوفة بالسيوف والرماح وخيامهم وراءهم تخفق فوقها راياتهم، وكل حركة من حركاتهم تدل على أنهم يبغون به وبجيشه شرا، وفي غضون تلك الفترة كان الثلاثمائة فارس الذين أرسلهم كرنيليوس للاستكشاف يسيرون على مهل قاصدين أعالي النهر ليستطلعوا طلع العدو. وبعد أن تأمل هنيبال مليا في هذه الحالة وهو ساكت شرع في إعداد ما يلزم لعبور النهر، فجمع كل القوارب التي أمكن الحصول عليها من الغاليين القاطنين على ذلك الجانب للقيام بذلك، على أن هذه القوارب لم تكن سوى مقدمة لذلك العمل الكبير، وبما أنها لاتكفي أخذ في جمع الأخشاب والأدوات لابتناء غيرها، وكانت عادة الغاليين في ذلك الإقليم أن يصنعوا القوارب من جذوع الشجر الضخمة، ويحفرونها كقارب فيقطعون الشجرة حسب طول القارب، وينقرون جوفها بالفأس والقدوم، ويصقلون كعبها الخارجي وجوانبها؛ لكي تجري على الماء بسهولة، وهي طريقة سهلة جدا ما برح الناس يعملون بها إلى هذه الأيام في الأماكن التي يوجد فيها شجر كبير.
وكانت في تلك الناحية أشجار ضخمة كثيرة وهي قريبة من ضفة النهر، وكان جنود هنيبال يراقبون الغاليين في اشتغالهم بحفر القوارب فتعلموا منهم ذلك الفن وأتقنوه، وكان الكثيرون منهم يساعدونهم في قطع الشجر والحفر إلى أن صاروا هم أنفسهم يقطعون الشجر ويحتفرون القوارب وحدهم. ومن الجنود من رأوا في ذلك بعض البطء فصاروا يقطعون الأشجار بقياس معلوم، ويرمونها في الماء، ثم يضعونها القطعة بإزاء الأخرى ويربطونها معا على شكل أرماث طافية، قائلين: إن الأمر لا يحتاج إلى قوارب رسمية فكل ما يطوف على الماء يصلح لعبور الجيش؛ لأن العبور وقتي، ويجب أن تكون وسائله وقتية ما دامت تفي بالحاجة من حمل الجنود ومتاعهم.
وكان الأعداء الراصدون على الجانب الآخر ينظرون، ولا يستطيعون حراكا لمنع تأهب هنيبال، فهم لو كانت لهم مدافع زماننا لأطلقوها عبر النهر، وحطموا ما هنالك من القوارب والأرماث بالقنابل بأسرع ما يقوى على بنائها القرطجنيون والغاليون، فضلا عن أن العمال عنذئذ لا يستطيعون بناءها وهم هدف لضرب المدافع، ولكن الأعداء يومئذ لم يكن لهم سوى الحراب والسهام والأحجار ترمى إما باليد أم بالمجانيق، بحيث لا تصل إلى المكان المقصود، وإن وصلت بعد اجتياز مسافة النهر لا تأتي بالفعل المطلوب.
ومن أجل هذا أرغموا على النظر إلى جماعة هنيبال بسكون وصبر، وأتاحوا لهم على غير رضا منهم المثابرة على إعداد تلك التأهبات العظيمة لمهاجمتهم، بدون أن يكون لهم ما يساعدهم على إيقافها. وكان رجاؤهم الوحيد في الانتظار ريثما يسير العدو في القوارب والأرماث على النهر، ويريد النزول إلى البر وعندئذ يضربونه بما عندهم من سهام وحراب وأحجار؛ لكي يمنعوه من الوصول إلى البر.
ولو أراد جيش عبور النهر، ولم يكن ثم جيش آخر على الضفة الأخرى يعارض عبوره، لكفته قوارب قليلة في العدد؛ وذلك لأنه إذ ذاك ينقل من الجانب الواحد إلى الآخر جماعات جماعات على التوالي، فيعيد القوارب نفسها التي حملت فريقا واحدا إلى حيث تجيء بالفريق الآخر، ولكن عندما يرصد له على الجانب الثاني عدو يريد صده، يكون من الضروري عندئذ أن يعد الوسائل التي تمكنه من نقل قوة كبيرة من رجاله كل مرة؛ لأنه لو أرسل قوة صغيرة إلى حيث العدو واقف، فإنه إنما يرسلها إلى الهلاك المحتم، ويوقعها في أيدي الأعداء الذين يتربصون به ريب المنون.
ومن أجل ذلك صبر هنيبال ريثما تتوفر له القوارب والأرماث والدكات الطافية؛ لكي يحمل عليها قطعة كبيرة من الجيش تكون قوية بعددها ومعداتها فتعارك العدو الراصد ولها أمل بالنجاح، والرومانيون، كما قد سبقنا فقلنا، كانوا يقولون إن هنيبال داهية مكار. فهو لم يكن يميل كالإسكندر إلى الاعتماد في معاركه على التفوق في الشجاعة والقوة، بل كان يبتدع الوسائل المختلفة على الدوام، ويعد التدابير التي ترجح كفة ميزان النصر في جانبه، وذلك ما أتاه في هذه المرة.
فثابر أياما عديدة يتأهب ويبني القوارب ويستعرض الجيش ويصف الأرماث بإزاء الشاطئ على مرأى من أعدائه، مظهرا لهم أن جل اعتماده هو على ما لديه من جموع الرجال الذين يقذف بهم عبر النهر دفعة واحدة، وهكذا عمل على حصر اهتمام العدو بتلك الاستعدادات، وكان في غضون ذلك يدير خطة أخرى، وهي أنه وجه قطعة من الجيش خفية إلى أعالي النهر، وأمرهم بالتسلل خفية في الغاب وعبور النهر من مكان يبعد عنه، حيث كان أميالا معدودة.
وكان التدبير أن هذه القطعة المرسلة، لتعبر النهر من مكان آخر، تنقض بعد التمكن من ذلك على الأعداء ملتفة حولهم ومهاجمة إياهم من الوراء، وذلك لكي تعمل فيهم القتل حينما يكون هنيبال عابرا النهر بأهم كتائب جيشه، فإذا نجحت تلك القطعة من الجيش بعبور النهر يجب أن تعلن ذلك بإشعال نار في الغابة على الجانب الآخر، فيعلم هنيبال من دخان النار المتصاعد في الجو أنها قد اجتازت النهر.
Bilinmeyen sayfa