يومئذ مؤنس بن مفلح، فقبض على النوريّ وأشخصه إلى حضرة المعتضد، وكان المعتضد سيفه قبل كلامه، ولم يشك الناس أنه سيقتله، قال أبو الحسين: فأدخلت عليه وهو جالس على كرسي من حديد، وبيده عمود حديد بقلبه، فلما رآني قال: من أنت؟ قلت: محتسب. قال: من ولاك الحسبة؟ قلت: الذي ولاك الإمامة ولاني الحسبة يا أمير المؤمنين. قال: فاطرق إلى الأرض ساعة، ثم رفع رأسه إلي وقال: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قلت: شفقة مني عليك إذا بسطت يدي إلى صرف مكروه عنك فقصرت قال: فأطرق ساعة مفكرًا في كلامي، ثم رفع رأسه وقال: كيف تخلص منك هذا الدن الواحد من جملة الدنان؟ قلت: في تخلصه علة أخبر بها أمير المؤمنين إني قدمت على الدنان بمطالبة الحق ﷾ بذلك وغمر قلبي شاهد الإجلال للحق وخوف المطالب فغابت هيبة الخلق عني فأقدمت عليها بهذه الحال إلى / أن صرت إلى هذا الدن فوجدت في نفس كبرًا على أن قدمت على مثلك فمنعت، ولو أقدمت عليها بالحال الأول وكانت ملء الدنيا دنانًا لكسرتها ولم أبال. فقال المعتضد: اذهب فقد أطلقنا يدك على ما أحببت أن تغيره من المنكر. قال أبو الحسين: فقلت يا أمير المؤمنين بغض إلى التغيير لأني كنت أغير لله وأنا اليوم أغير شرطيًا فقال المعتضد: سل حاجتك. فقلت يا أمير المؤمنين: تأمر بإخراجي من بغداد سالمًا. فأمر له بذلك فخرج إلى البصرة، فكان أكثر أيامه بها خوفًا من أن يسأل حاجة يسألها المعتضد، وأقام البصرة إلى أن توفي المعتضد ثم رجع إلى بغداد.
فانظر - رحمك الله - إلى هذا العارف كيف أقدم على هذا الباب المخوف واستولى عليه شهود جلال الله وعظمته وكبريائه، فغاب بذلك عن شهود هيبة الخلق، وخوف سطوتهم وطغيانهم، ولم يشغله بما هو مهتم به عن ملاحظة الحق ومشاهدة الإخلاص، وتحقق حسن القصد في كل حركة من حركاته، فلما تنكرت له نفسه في أثناء الفعل وتغيرت عليه وتلوتن في قصدها، وعلم ما هجس
1 / 67