84

Felsefi Deneyimler

تجارب فلسفية

Türler

ويستطرد جوته في ذكرياته، فيقول: وعندما تفكرت في هذه الموهبة الفطرية ووجدت أنها شيء يخصني أنا وحدي، وأن ليس ثمة شيء غريب عني يمكنه أن يؤيدها أو يعطلها، آثرت أن أبني عليها وجودي الفكري كله. وتحول هذا التصور عندي، فتمثل في شخصية البطل الأسطوري القديم بروميثيوس الذي خطر عندئذ على بالي، والذي اعتزل الآلهة وراح من معمله يزحم العالم بمخلوقات من إبداعه . أحسست أنني لن أنتج شيئا له قيمة حتى أعتزل تمام الاعتزال، وأن أعمالي السابقة التي قوبلت بالترحيب والاستحسان كانت هي أبناء وحدتي، ومنذ أن توسعت علاقتي بالعالم المحيط بي، لم تنقصني القوة ولا متعة الابتكار، ولكن البناء المفصل كان يتعثر في يدي؛ لأنني لم أكن قد تمكنت بعد من العثور على الأسلوب الخاص بي، لا في النثر ولا في الشعر، بحيث كنت أبدأ مع كل عمل جديد، أيا كان موضوعه، في تحسس طريقي ومعاودة التجربة والمحاولة من البداية. ولما كانت في تلك الفترة قد عودت نفسي على رفض أي مساعدة من أي إنسان آخر، بل أستبعدها تماما من ذهني، فقد فضلت الاعتزال على طريقة بروميثيوس؛ لكي أكون أكثر استجابة لطبيعتي وطبعي ومنحاي الفكري الذي يقصر نفسه على إحساس، أو تمثل واحد يبتلع ويستبعد كل ما عداه. وهكذا عاشت حكاية بروميثيوس، وصارت في وجداني تجربة حية، وشرعت دون تردد في كتابة مسرحية تصور سوء العلاقة التي نشأت بين بروميثيوس وبين زيوس وبقية الآلهة عندما أخذ يخلق بشرا يسويهم بيده، ويؤسس بذلك دولة أخرى تقع بين الآلهة والعمالقة.

ويختم جوته هذه الذكريات بأن موضوع بروميثيوس قدم له مادة شعرية ملائمة، ولكنه لم يشأ أن يعالجه في صورة ثورية عنيفة وفجة، تصور هجوم العمالقة واقتحامهم العاصف للسماء، وإنما وجد من الأليق أن يصور عناد البطل ومقاومته بصورة سلمية مرنة وصابرة؛ حتى لا تتحول نيرانها التي ظلت مشتعلة تحت رمادها الشعري منذ كتابتها قبل خمسين سنة، كما قال لصديقه تسلتر في شهر مايو سنة 1820م، وهو يتذكر أنها لم تر النور منذ كتابتها إلى إنجيل ثوري للشباب الثائر بطبعه، فيؤلب عليه غضب المسئولين الكبار. ولعل هذا هو السبب في نسيانه لهذه القطعة المسرحية، التي كان من المفروض أن يبدأ الفصل الثالث فيها بالمونولوج المتفجر بالغضب والتحدي كما رأينا في تحليلنا لبعض مقاطعه، وكانت نتيجة ذلك عدوله عن إكمالها، بل عدم تحمسه لنشرها حتى بعد مرور ذلك الوقت الطويل.

3

لم تصل المخطوطة المنسية لهذه الشذرة المسرحية إلا في سنة 1811م، ثم تم نشرها في المجلد الثالث والثلاثين من أعماله الكاملة التي ظهرت سنة 1830م ؛ أي قبل رحيله بسنتين.

لنقف الآن وقفة قصيرة أمام هذه الشذرة قبل أن نستخلص منها المعنى الرمزي أو الحكمة الخفية التي يبدو لي أنها قصدت إليه، ولا بأس قبل ذلك من حديث مختصر بقدر الإمكان عن بعض مزاياها وعيوبها الفنية، التي ربما كانت هي السبب في تكاسل جوته عن إتمامها، بل نسيانها والتحرج من ذكرها طوال ما يقرب من خمسين سنة متصلة: (أ)

يكاد النقاد يجمعون على أن هذه الشذرة تتفرد بين كتابات جوته المسرحية المبكرة بتكاملها ووحدتها الشعرية والروحية واللغوية؛ فنحن نجد أنفسنا في جو أسطوري خالص - في سفح جبلي القوقاز والأوليمب - وتذهب وتجيء أمامنا شخوص عديدة نحس كأنها تنتمي لمجتمع بدائي أو يوتوبي، تشبع فيه البساطة والنقاء والحنان والبهجة التي تعبر عنها مخلوقات تشعر بأنفاس الحياة التي دبت فيها قبل قليل بالرقص والغناء وتسلق الأشجار وقطف الزهور، والرجوع في كل شيء إلى «الخالق» الذي سواها، وبدأ يأخذ بيدها ويربيها على الحياة في ظل القانون الأخلاقي والشريعة الإنسانية. غير أن معظم هذه الشخوص التي تتنفس هذا الجو الأسطوري الحميم تتسم بالسطحية، وتفتقر إلى التفرد والذاتية التي نتوقعها من شاعر لم يكتب شيئا في حياته إلا عن تجربة باطنة وحميمة، ومعاناة عميقة وأليمة. أما عن الحدث الدرامي فهو شبه غائب عن خشبة المسرح، وما يمكن أن يوصف بأنه حدث - مثل غضب مركور من رفض بروميثيوس لعرض الآلهة، أو بث أنفاس الحياة في التماثيل والصور التي صارت بشرا، وتجربة باندورا ... إلخ - إنما تروى سردا ولا تحدث؛ ولذلك بدت المشاهد المختلفة مفككة ومنفصلة ومفتقرة إلى الفعل الدرامي الذي يربط بينها؛ وبذلك يصعب علينا أن نصدق ما سبق أن نقلناه من سيرة حياته الدافع الذي ألح عليه لكتابة هذه الشذرة، وهو التعبير عن ذاتيته المستقلة كما سبق أن فعل في أعمال سابقة كآلام فرتر على سبيل المثال.

ولعله قد تصور خطأ أن ثورة بروميثيوس وغضبه على المسرح يمكن أن يكفي للتعبير عن ذاتيته المستقلة، وحماية وعيه الذي لا يريد له أن يمس بإعفائه من أحكام الترابط الدرامي بين المشاهد التي تتوالى دون جديد يذكر. (ب)

وتفاجئنا صورة بروميثيوس في حديثه مع مينرفا أنه هنا لا يتمسك بفرديته واستقلاله اللذين طالما دافع عنهما، ورفض أي مساس بهما، واعتبر أن معنى الوجود كله متطور فيهما. فنحن نحس في حديثه باحترامه لألوهيتها، وارتباطه العميق بها إلى حد تصوره أنه كثيرا ما يتحدث بينه وبين نفسه بحديثها، وأنها كانت دائما ملهمته بحكمتها وسموها وجلالها الإلهي. غير أنه يقع في التناقض أو في الضلال عندما يكرر في نفس الوقت رفضه للآلهة ككائنات غريبة عنه، وتأكيده استقلال عالمهم عن عالمه الذي يرفض كذلك أن يعترف بأن يكون لهم أي حق فيه. وعندما تدعوه برفق أن يتذكر قدرتهم وحكمتهم يعود لغضبه، ويؤكد أنه يساويهم ولا يقل عنهم، بل ويرفض عرض جوبيتر الذي جاءت تقدمه له بأن يقوم بنفسه ببث أنفاس الحياة في صوره وتماثيله التي أبدعها، ولكنه لا ينثني عن موقفه المتصلب حتى تعرض عليه أن تهديه إلى نبع الحياة الذي لا سلطان لأحد عليه إلا أمويرا؛ أي للقدر الأعلى الذي تخضع له آلهة الأوليمب نفسها. بهذا تكفكف من غلوائه، وتخيل له أيضا أن مخلوقاته التي ستنعم بالحياة لن تقل عن «خالقها» اعتزازا باستقلالها وحريتها، وربما لن تقل ألوهية عن الآلهة نفسها التي ما زال صانعها ومبدعها على موقفه المعاند والمؤكد لاستقلاله عنها. وأخيرا تأتي موافقة كبير الآلهة على لسان شقيقه إبيميثيوس الذي يبلغه مباركتها لبث الحياة في تلك المخلوقات، التي ستزيد من عدد عبيدها ومن عدد الأضحيات التي سوف يقدمونها لها. ولا شك أن القارئ أو المتلقي للعرض الدرامي سيفتقد هنا فعل الأحياء ل «مخلوقات بروميثيوس»؛ إذ كان يمكن أن يستغله الشاعر ويبرزه كموقف درامي هام، بدلا من إخفائه أو مجرد الاكتفاء بتقريره بصورة لغوية وحسب. (ج)

لم تخرج من الفصل الأول بأكثر من التعرف على بناء شخصية بروميثيوس الذي بقي على عناده ومساواة نفسه بالآلهة، ولم يدرك التناقض الذي وقع فيه عندما شعر، ولو بشكل غير مباشر ولا واضح، أن الألوهية تسري فيه هو نفسه وفي الطبيعة والوجود المحيط به، وتشمل الجميع بقوتها وحبها وحكمتها. ويأتي الفصل الثاني فنرى مخلوقاته تلتف حوله، وترجع إليه في كل شيء؛ ليوجهها ويبصرها بالمبادئ الأولى للحياة في مجتمع إنساني حقيقي، مجتمع يحيا كما نقول اليوم في ظل الحرية والقانون، ولا ينحرف أفراده إلى الفساد والاستبداد والسقوط ضحية شريعة الغاب. ويتردد في أنفسنا هذا السؤال مع بداية الفصل الثاني:

هل ستبقى مخلوقات بروميثيوس ملتفة حوله، أم ستتمرد عليه وتنفض عنه؟ هل هي حقا جزء من نفسه، أم إن هذا مجرد وهم يغشي عينيه؟ هل سينجح كما يبدو من تصرفاته في هذ الفصل في أن يؤسس اليوتوبيا أو المدينة الفاضلة الأولى في تاريخ البشرية ويظلها برعايته، أم ستبقى هذه المدينة حلما مثلها مثل غيرها من الأحلام التي طالما داعبت خيال الأدباء والشعراء والفلاسفة؟

Bilinmeyen sayfa