83

Felsefi Deneyimler

تجارب فلسفية

Türler

لنبدأ بالقصيدة التي تعد أكثر تكثيفا وجرأة وعنفا في التعبير عن التمرد والتحدي لآلهة الأوليمب وكبيرهم زيوس، وعن المعنى الذي كتبت في سياقه القصيدة والشذرة المسرحية، وهو الإعلان من شأن الأديب والمبدع بوجه عام، وتصوره على صورة البطل الأسطوري بروميثيوس. والقصيدة التي تتضمن - كما سبق - بعض الأبيات من الشذرة تدور على لسان بروميثيوس، وهي من أولها إلى آخرها مونولوج يخاطب به زيوس وآلهة الأوليمب وكأن كلماته صيحات أو اتهامات.

لقد خلق هذا البطل البشر وسواهم من الطين بمساعدة من أثينا أو مينرفا كما سبق القول، وسرق النار التي استأثر زيوس بكنه سرها، وضن به على البشر. وإذا كان قد عاقبه بأن أمر، كما هو معروف، بتقييده إلى جيل القوقاز بحيث ينهش كبده نسر عظيم بالنهار، وبعد أن تلتئم جراحه بالليل يعود فينهشه بالنهار. وإذا كان البطل هرقل قد فك قيده وقتل النسر الهائل بعد أن أذن له زيوس بذلك، بل سمح بحضوره إلى الأوليمب كمستشار للآلهة، فإن القصيدة كلها تضع التمرد في قلب الحدث، وفي صميم التناقض بينه وبين زيوس وبقية الآلهة وأنصاف الآلهة: غط سماءك يا زيوس، ببخار السحب، ومارس ألعابك البارعة، كالصبية الذين يقطفون فروع الأشجار الشوكية، على شجر البلوط وذرى الجبال، لكن دع لي أرضي واترك لي كوخي الذي لم تقم ببنائه، وموقدي الذي تحسدني على توهج نيرانه.

والواقع أن صيحات بروميثيوس ولعناته التي يطلقها على سماء الأوليمب وكبير الآلهة، لا تخلو من الشكوى المرة من تخليه هو وبقية الآلهة عنه، ومن نظرتهم إليه وهو العبقري نظرة السادة للعبيد. «لما أن كنت طفلا، لا أعرف يميني من شمالي ولا رأسي من قدمي، كنت أدير نظرتي الحائرة المضطربة نحو الشمس، متوهجا أن وراءها وفوقها أذنا تصغي إلى شكواي، وقلبا مثل قلبي يشفق على المكروب المنكود الحظ.»

ويواصل البطل المخدوع أو المظلوم تبرير اتهاماته لمن عاملوه معاملة السيد للعبد بتأكيد ذاتيته وشجاعة قلبه الذي تحدى الجميع: من الذي وقف معي ليرد عني غرور العمالقة؟ من أنقذني من الموت والعبودية؟ ألم تنجز كل شيء بمفردك يا قلبي المقدس والمتوهج؟!

وأخيرا يسوغ البطل المتمرد العنيد احتفاءه وعدم اكتراثه بآلهة الأوليمب، الذين لا حق لهم في الوصاية عليه، وأولهم كبيرهم زيوس: «أأنا أجلك وأوقرك؟ لماذا؟ وفي سبيل أي شيء؟ هل فكرت أبدا في تخفيف آلام المرهق من ثقل الأحمال؟ هل حاولت مرة واحدة أن تجفف دموع القلق الخائف؟»

مع ذلك فلم يقطع صلته تماما بالمقدس والإلهي الخالدة، ولم يمنعه تجديفه على زيوس وتحديه له من أن يظهر طاعته للقوتين الإلهيتين العريقتين اللتين تطيعهما آلهة الأوليمب نفسها، وهما «المويرا» (التقدير الأزلي الأبدي) وخرونوس (الزمن القهار الذي يبتلع كل الكائنات والموجودات). وإذا كان يحتفظ بأكثر ملامح وجهه الأسطوري الغاضب العنيد (تبدأ القصيدة بفعل أمر لزيوس: غط سماءك!) بتأكيد الأنا المتمردة الوحيدة العاكفة على خلق البشر؛ أي المعبرة عن صورة العبقري المبدع الذي قال عنه جوته إنه فصل ثوبه على قده، فها هو المقطع الأخير يؤكد عناد المبدع البطل والعبقري الوحيد: «ها أنا أجلس هنا، أسوي بشرا على صورتي، جنسا يشبهني، يتعذب ويبكي مثلي، ويستمتع ويفرح ولا يكترث بك كما أفعل أنا.»

إن بروميثيوس يؤكد ذاتيته الطاغية العنيدة في المقطع السابق والأخير من القصيدة بصورة فظيعة ومستفزة، غير أن تأكيد العبقري لذاته إذا كان يعبر من الناحية الدينية، أو من النظرة الشاملة للوجود، عن أن الخلق كله ليس ولم يكن أبدا غير نوع من السقوط، أو الرجوع إلى الأصل الأول (كما يقول جوته في نهاية الفصل الثامن من سيرة حياته شعر وحقيقة).

2

وكما قالت الشذرة الغامضة التي تركها لنا الفيلسوف أنكسمندروس، فإننا إذا كنا نضطر من ناحية لتأكيد ذواتنا، فنحن لا نتردد في أحيان أخرى، وفي نبضات منتظمة، عن التخلي عن ذواتنا والتجرد منها، في مرحلة متأخرة من حياته وإنتاجه، كما في الديوان الشرقي للشاعر الغربي، سيسمي القطبين المتضادين والمتلازمين لإيقاع الحياة بالقبض والبسط (السيستولي والدياستولي) كما يتضح في عملية الشهيق والزفير، لكن القصيدة كما لاحظنا من الأبيات المقتبسة، تصر حتى النهاية على تصوير الجانب الأول المعبر عن الذات المتضخمة المتمردة، تاركة الجانب الآخر للشذرة التي تضع في المشاهد التي يظهر فيها بروميثيوس الذاتية إلى جواز التخلي عن الذاتية في المشاهد التي تظهر فيها مينرفا في نهاية الفصل الثاني.

هكذا تتبدى صورة العبقري المبدع الذي يرفض أي وصاية عليه من أي نوع كانت، ويصر على العكوف في وحدته على إبداع مخلوقاته التي تنبع من أعماق ذاته الحرة المستقلة، ثم يتولى بعد ذلك رعايتها والأخذ بيدها لتأسيس أول مجتمع إنساني يعيش في ظل الحب والتكافل والقانون الأخلاقي، ويترفع عن ظلم الآخر ونهب ممتلكاته. يتجلى هذا في هذه الشذرة المسرحية المبكرة التي تركها جوته، كما ترك غيرها، قبل أن تكتمل وتتخلص من عيوبها الدرامية والتشكيلية الكثيرة. ويبدو أن همه الأول في تلك الفترة المبكرة التي اندفع فيها بصورة مذهلة إلى تجسيد أفكاره ومشاعره في فيض من الأعمال الدرامية المتوالية، لم يكن هو الكتابة الدرامية في حد ذاتها بقدر ما كان هو إثبات استقلال المبدع، الذي يفور باطنه بالصور والمشاعر والأفكار واستغنائه عن أي عون أو سند من الخارج، واعتماده في النهاية وبشكل مطلق على ذاته وحدها. يؤكد هذا ما يقوله في سيرة حياته بعد ما يقرب من أربعين سنة على اندفاعته الجامحة والمحيرة لتدوين كل تلك الأعمال الدرامية المبكرة: يبدو أن القدر الإنساني العام الذي يتحتم علينا جميعا أن نتحمل عبئه الثقيل، يكون أكثر من يتحمله هو الإنسان الذي تطورت قواه وآفاقه العقلية في مرحلة مبكرة من حياته، بحيث تصبح الغاية النهائية لهذا الإنسان هي الرجوع إلى ذاته والاعتماد عليها اعتمادا مطلقا. وكم جربت في شبابي أن الإنسان في أشد لحظات احتياجه إلى المساعدة كثيرا مما يسمع صوتا يناديه: «أيها الطبيب! ساعد نفسك بنفسك!» وكم تنهدت في ألم وأنا أهمس لنفسي قائلا: لا بد أن أتسلق السلم وحدي؛ ذلك أنني كنت كلما تلفت حولي بحثا عن شيء يؤكد استقلالي، كنت أجد أن الأساس اليقيني الثابت لهذا الاستقلال هو موهبتي المنتجة والمبدعة، التي لم تتخل عني لحظة واحدة منذ سنوات.

Bilinmeyen sayfa