ثم قال سحبانه على طريق النهي عموما: { ما كان } أي: ما صح وجاز { للنبي } الأمي الهاشمي { والذين آمنوا } معه، وأخلصوا فيه { أن يستغفروا } ويشفعوا { للمشركين } بتخفيف العذاب ودخول الجنة { ولو كانوا أولي قربى } من النسب؛ إذ لا عبرة لقرابة النسب، بل القرابة المعتبرة هي قرابة الحسب والإيمان، سيما { من بعد ما تبين لهم } موتهم على الكفر والجاهلية { أنهم أصحاب الجحيم } [التوبة: 113] أي: ملازموها وملاصقوها، لا نجاة لهم منها؛ لإصرارهم على موجبها.
{ و } لا يرد على هذا استغفار إبراهيم لأبيه؛ إذ { ما كان استغفار إبراهيم لأبيه } على سبيل الشفاعة والشفقة، والعطف الموجب لها، بل ما هو { إلا عن موعدة } وعهد { وعدهآ إياه } حين أراد أن يخرجه من الكفر والشرك، بأن يستغفر له ما تقدم من ذنبه إن آمن فاستغفر قبل الإيمان إنجازا لوعده ليلين قلبه { فلما تبين له } ظهر عنده { أنه عدو لله } مصر على كفره، مطبوع على قبله { تبرأ منه } واسترجع إلى الله منيبا؛ لاجترائه واستغفاره في حق أبيه، مع عدم العلم باستعداده وتوفيق الله إياه { إن إبراهيم } مع كونه متحققا بمقام الخلة مع الله { لأواه } كثير التأوه والتحزن عن أمثال هذه الجرأة { حليم } [التوبة: 114] كثير الشفقة والمرحمة على أهل الغفلة؛ لظهوره على مقتضى اللطف والجمال.
{ و } اعلموا أيها المؤمنون { ما كان الله } المصلح لأحوال عباده { ليضل قوما } ويسميهم ضلالا وفساقا { بعد إذ هداهم } للإيمان والإسلام { حتى يبين لهم } وينبه عليهم { ما يتقون } ويحذرون من المحارم والمعاصي؛ لامتناع تكليف الغافل، ثم بعد ارتكاب المحذور به يسميهم ما يسميهم، ويأخذهم منتقما عليه { إن الله } المدبر لأمور عباده { بكل شيء } مما يتعلق بصلاحهم وإصلاحهم { عليم } [التوبة: 115] لا يعزب عن علمه شيء، فعليكم أيها المؤمنون أن تفوضوا أموركم كلها إلى الله.
[9.116-118]
{ إن الله } المستقل بالألوهية والوجود { له ملك السموت } وما فيها من الكواكب والنجوم { والأرض } وما عليها، وكذا ما بينهما { يحيي } ويظهر بلطفه متى تعلق إرادته { ويميت } يعدم ويخفي بقهره متى شاء { وما لكم } أيها المؤمنون الموقنون بتوحيد الله { من دون الله } الواحد، الأحد، الصمد الذي ليس معه شيء، ولا دونه حي { من ولي } يولي أموركم { ولا نصير } [التوبة: 116] ينصركم عليها.
{ لقد تاب الله على النبي } أي: وفقه على التوبة بعدما صار عنه إذن المخالفين، المستأذنين المعتذرين بالأعذار الكاذبة؛ تعزيرا له وتلبيسا عليه، مع عدم علمه بحالهم { و } تاب أيضا على { المهاجرين والأنصار الذين اتبعوه } نحو تبوك حين خرج إليها { في ساعة العسرة } وأيام القحط؛ إذ ليس لهم في تلك السفر زاد ولا راحلة ولا ماء، حيث يتعاقب عشرة على بعير، وقسيم تمر بين اثنين في يوم، وشرب الفظ والفرث من شدة العطش، لذلك تمايل على المخالفة { من بعد ما كاد } وقرب { يزيغ } ويميل عن المتابعة { قلوب فريق منهم } من قلة البصر، وكثرة المقاساة والأحزان { ثم تاب } الله { عليهم } ووفقهم على التوبة مما أخطروا ببالهم، وتخيلوا في خيالهم { إنه } سبحانه { بهم } بعدما علم استعدادهم وقابليتهم { رءوف } عطوف، يعفو عما صدر عنهم وقت الاضطرار { رحيم } [التوبة: 117] يقبل عنهم ما جاءوا به من الإنابة والاستغفار.
{ و } أيضا تاب سبحانه { على الثلاثة الذين خلفوا } عن عزوة تبوك بلا عذر، هو كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وصاروا من عدم التفات رسول الله والمؤمنين إليهم بعدما أمرهم الرسول ألا يتكلموا معهم خمسين ليلة { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت } أي: مع وسعتها وفسحتها { و } صاروا من الأعراف إلى أن { ضاقت عليهم أنفسهم } واشتد عليهم الأمر، وانسد أبواب التدابير مطلقا، فاضطروا في أمرهم، والتجأوا نحو الحق مخلصين { وظنوا } بل كوشفوا { أن لا ملجأ } ولا مفر { من الله } أي: غضبه وسخطه { إلا إليه } إذ ليس بغيره وجود حتىى يلجأ إليه، لذلك قال صلى الله عليه وسلم في أمثال هذه المضائق:
" أعوذ بك منك ".
{ ثم } بعدما أخلصوا في الإنابة الرجوع وفوضوا أمروهم إليه سبحانه { تاب } الله { عليهم } أي: أقدرهم ووفقهم على التوبة { ليتوبوا } ويرجعوا إلى الله نادمين على ما صدر عنهم من المخالفة، فيغفر لهم ويعفو عن زلاتهم { إن الله } المصلح الموفق { هو التواب } الرجاع لعباده نحو جنابه حين صدر عنهم المعاصي { الرحيم } [التوبة: 118] لهم يرحمهم، ويقبل توبتهم عند رجوعهم متضرعين مخلصين.
[9.119-121]
Bilinmeyen sayfa