{ وآخرون } من المتخلفين بعدما تبهوا بقبح صينعهم { مرجون } مؤخرون، منتظرون { لأمر الله } وحكمه، وصاروا مترددين بين الخوف والرجاء فيما فعل الله معهم { إما يعذبهم } أخذا على ما صدر عنهم بمقتضى عدله { وإما يتوب عليهم } ويوفقهم على التوبة يمقتضى فضله وسعة رحمته، وجوده { والله } المطلع لخفيات صدورهم { عليم } بإخلاصهم ونياتهم { حكيم } [التوبة: 106] في فعله بهم بعد علمه بحالهم.
{ و } من أشدهم كفرا ونافقا، وأغلظهم بغضا وشقاقا، هم { الذين اتخذوا } تلبيسا وتغريرا { مسجدا } قاصدين في بنائه { ضرارا } مضرة وسوءا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين { وكفرا } أي: اشتدادا وزيادة فيه؛ لأنهم يقصدون بإنشائه وبنائه قتل رسول الله والمؤمنين فيه { و } قصدوا أيضا { تفريقا } وتشتيتا { بين المؤمنين } المجتمعين في مسجد قباء { و } بالجملة: إنما يبنونه { إرصادا } أي: ترقبا وانتظارا { لمن حارب الله ورسوله } وهو أبو عامر، الراهب الذي حارب مع المؤمنين { من قبل } يوم حنين فانهزم، فهرب إلى الشام؛ ليذهب إلى قيصر، فيأتي بجنوده، وهم منتظرون لمجيئه.
{ و } بعدما ظهر نفاقهم وخداعهم بوحي الله وإلهامه على رسوله { ليحلفن } وليقسمن بالأيمان الغليظة { إن أردنا } أي: ما قصدنا ببنائه { إلا الحسنى } والخير، وهي الصلاة المقربة نحو الحق والذكر والتسبيح والتوسعة على المؤمنين، وازدياد شعائر الإسلام { والله } المطلع لضمائرهم ومحايلهم { يشهد إنهم لكاذبون } [التوبة: 107] في حلفهم.
وإذا عرفت يا أكمل الرسل حالهم، وحلفهم، وسوء قصدهم وفعالهم { لا تقم فيه أبدا } للتوجه والصلاة؛ لكونه مبنيا على الخداع والتزوير { لمسجد أسس } وبني { على التقوى } عن محارم الله وخالصا لرضاه { من أول يوم } بني، وهو مسجد قباء { أحق } أي: أليق وأولى { أن تقوم فيه } للصلاة والميل نحو الحق؛ إذ { فيه رجال } مؤمنون كاملون في الإيمان { يحبون } دائما { أن يتطهروا } عن المعاصي والآثام، ويتوجهوا نحو الحق برفض الشواغل ونقض العوائق العلائق { والله } المطلع بنياتهم { يحب المطهرين } [التوبة: 108] القاصدين تظهير ذواتهم عن التوجه إلى ما سوى الحق المطلق، بل عن هوياتهم وتعيناتهم الباطلة.
[9.109-111]
{ أفمن أسس } ووضع { بنيانه على } قاعدة محكمة وركن شديد، هي { تقوى } أي: تحفظ وتحصن { من الله } أي: غضبه وسخطه { و } طلب { رضوان } ومثوبة عظيمة، ومنزلة رفيعة منه { خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار } أي: على طرف واد جوفه السيول والأمطار فسقط البعض، وأشرف على السقوط والانهدام البعض الآخر، فوضع عليه بناءه { فانهار به } وسقط معه { في نار جهنم } أي: الوادي الغائر، الهائر، المملوءة من نار الحرمان والخذلان { والله } الهادي لخلص عباده { لا يهدي القوم الظالمين } [التوبة: 109] الخارجين عن مقتضى أوامره ونواهيه.
ومن شدة غيظهم وخبث باطنهم { لا يزال بنيانهم الذي بنوا } يورث ويزيد { ريبة } شكا وريبا متزايدا { في قلوبهم } مترشحا فيها { إلا أن تقطع قلوبهم } بنيران الحسرة، وتفتتت وتلاشت بأهوال العذاب إلى حيث لا يتأتى منها الإدراك { والله عليم } بمخايلهم الكامنة في صدورهم { حكيم } [التوبة: 110] في جزائها وانتقامها.
ثم قال سبحانه تبشيرا للمؤمنين الباذلين مهجهم في سبيل الله: { إن الله } المتفضل بالفضل العظيم واللطف الجسيم { اشترى } استبدل { من المؤمنين أنفسهم } الفانية في أنفسها، المعدومة المبذولة في سبيله سبحانه في النشأة الأولى { وأموالهم } المصروفة فيه أيضا { بأن لهم الجنة } الباقية واللذة المستمرة الدائمة، بدلها لذلك { يقاتلون في سبيل الله } أولئك المتمثلون بحكم الله، المصدقون لوعده { فيقتلون } أعداءه، فيستحقون المثوبة التي وعد الغزاة المجاهدين { ويقتلون } ويصلون إلى درجة الشهداء الذين هم أحياء عند الله يرزقون من موائد أفضاله، فرحون يوعدون من عنده سبحانه { وعدا عليه } بلا خلف فيه { حقا } ثابتا مثبتا { في التوراة والإنجيل والقرآن } المنزلة من عنده { ومن أوفى بعهده } ووفى العهود استحق { من الله } الوعد الموعود { فاستبشروا } أي: افرحوا واربحوا أيها المؤمنون { ببيعكم الذي بايعتم به } مع ربكم، بأن استبدلتم الفاني الزائل بالباقي المستمر الدائم { وذلك } الموعود لكم { هو الفوز العظيم } [التوبة: 111] المعد لأرباب العناية.
[9.112-115]
وهم { التائبون } النادمون على ما جرى عليهم من المعاصي، المحافظون عليها بلا مراجعة أصلا { العابدون } بالعزائم الصحيحة والإخلاص التام { الحامدون } الشاكرون، الصارفون ما أعطاهم الحق من النعم إلى ما أمرهم من المصارف { السائحون } السائرون، السالكون في سبيل الحق؛ لازدياد المعارف والحقائق { الراكعون } المتوضعون، المنكسرون لجميع مظاهر الحق؛ تعظيما لشأنه { الساجدون } المتذللون، الواضعون جباههم على تراب المذلة؛ خضوعا وانقيادا، ميلا ودعاء { الآمرون بالمعروف } المستحسن عقلا وشرعا واللسان، وجميع الجوارح { والناهون عن المنكر } المستقبح عقلا وشرعا لجميع ما ورد النهي به { و } بالجملة: هم { الحافظون لحدود الله } الموضوعة بين أرباب التكليف القابلين، المستعدين لسلوك طريق التوحيد { وبشر } يا أكمل الرسل { المؤمنين } [التوبة: 112] الموصوفين بهذه الصفات الجميلة باللذات التي لا يمكن وصفها بلسان التعبير من لدن حكيم خبير.
Bilinmeyen sayfa