[1 - سورة الفاتحة]
[1.1-7]
{ بسم الله } المعبر بها عن الذات الأحدية، باعتبار تنزيلها عن تلك المرتبة؛ إذ لا يمكن التعبير عنها باعتبار تلك المرتبة أصلا، وباعتبار شمولها وإحاطتها جميع الأسماء والصفات الإلهية المستندة إليها المظاهر كلها المعبر عنها عند أرباب المكاشفة بالأعيان الثابتة، وفي لسان الشرع باللوح المحفوظ والكتاب المبين { الرحمن } المعبر بها عن الذات الأحدية باعتبار تجلياتها على صفحات الأكوان وتطوراتها في ملابس الوجودب والإمكان، وتنزيلها عن المرتبة الأحدية إلى مراتب العددية، وتعيناتها بالتشخيصات العلمية والعينية وانصباغها بالصبغ الكيانية { الرحيم } [الفاتحة: 1] المعبر بها عن الذات الأحدية باعتبار توحيدها بعد تكثيرها، وجمعها بعد تفريقها، وطيها بعد نشرها، ورفعها بعد خفضها، وتجريدها بعد تقييدها.
{ الحمد } والثناء الشامل لجميع المحامد والأثنية الصادرة عن ألسنة ذرائر الكائنات المتوجهة نحو مبدعها طوعا، المعترفة بشكر منعمها حالا ومقالا، أزلا وأبدا، ثابتة مختصة { لله } أي: للذات المستجمع لجميع الأسماء والصفات المظهرة المريبة للعوالم، وما فيها بأسرها لكونه { رب العالمين } [الفاتحة: 2] ولولا تربيته إياها وإمداده لها طرفة لفني العالم دفعة.
{ الرحمن } المبدئ المبدع لها في النشأة الأولى بامتداد ظلال أسمائه الحسنى وصفاته العليا على مرآة العدم المنعكسة منها العالم كله وجزءه، شهادته وغيبه، أولاه وأخراه وأجزاءه بلا تفاوت { الرحيم } [الفاتحة: 3] المعيد للكل في النشأة الأخرى بطي سماه الأسماء وأرض الطبيعة السفلى إلى ما منه الابتداء وإليه الانتهاء لكونه:
{ ملك يوم الدين } [الفاتحة: 4] والجزاء المسمى في الشرع بيوم القيامة، والطامة الكبرى المندكة فيها الأرض والسماء المطويات فيها سجلات الأولى والأخرى في الأرض؛ إذ فيها ارتجت الآراء والأفكار وارتفعت الحجب والأستار، واضمحلت أعيان السوى والأغيار، ولم يبق إلا الله الواحد القهار، ثم لما تحقق العبد في هذا المقام، ووصل إلى هذا المرام، وفوض الأمور كلها إلى الملك العلام القدوس السلام حق له أن يلازم ربه ويخاطب معه بلا ستر ولا حجاب، تتميما لمرتبة العبودية إلى أن يرتفع كاف الخطاب عن البين، وينكشف الغين عن العين، وعند ذلك قال لسان مقالة مطابقا بلسان حاله:
{ إياك } لا إلى غيرك؛ إذ لا غير في الوجود معك { نعبد } نتوجه ونسلك على وجه التذلل والخضوع؛ إذ لا معبود لنا سواك ولا مقصد إلا إياك { وإياك نستعين } [الفاتحة: 5] أي ما نطلب الإعانة والإقدار على العبادة لك إلا منك؛ إذ لا مرجع لنا غيرك.
{ اهدنا } بلطفك { الصراط المستقيم } [الفاتحة: 6] الذي يوصلنا إلى ذروة توحيدك.
{ صراط الذين أنعمت عليهم } من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا { غير المغضوب عليهم } من المرتدين الشاكين، المنصرفين بمتابعة العقل المشوب بالوهم عن الطريق المستبين.
{ ولا الضآلين } [الفاتحة: 7] بتغريرات الدنيا وتسويلات الشياطين عن منهج الحق ومحجة اليقين.
Bilinmeyen sayfa
آمين: إجابة منك يا أرحم الراحمين.
خاتمة السورة
عليك أيها المحمدي المتوجه نحو توحيد الذات - يسر الله أمرك - أن تتأمل في الأبجر السبعة المشتمل بهذا السبع المثاني في القرآن العظيم، المتفرعة على الصفات السبع الذاتية الإلهية، الموافقة للسماوات السبع والكواكب السبعة الكونية، وتدبر فيها حق التدبر، وتتصف بما رمز فيها تتخلص من الأودية السبعة الجهنمية، المانعة من الوصول إلى جنة الذات المستهلكة عندها جميع الإضافات والكثرات ولا يتيسر لك هذا التأمل والتدبر إلا بعد تصفية ظاهرك بالشرائع النبوية والنواميس المصطفوية المستنبطة من الكلم القرآنية، وباطنك بعزائمه وأخلاقه صلى الله عليه وسلم المقتبسة من حكمها المودعة فيها، فيكن القرآن الجامع له خلق النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا، المورث له من ربه المستخلف له.
فالقرآن خلق الله المنزل على نبيه، من تخلق به فاز بما فاز، لذلك قال صلى الله عليه وسلم:
" تخلقوا بأخلاق الله "
وهي التي ذكرت في القرآن، والفاتحة منتخبة من جميع القرآن على أبلغ وجه وأوضح بيان، من تأمل فيها نال ما نال من جميع القرآن، لذلك فرض قراءتها عند الميل والتوجه إلى الذات الأحدية المعبر عنه بلسان الشرع، بالصلاة التي هي معراج أهل الاتجاه، كما قال صلى الله عليه وسلم:
" الصلاة معراج المؤمن "
، وقال أيضا:
لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب
فعليك أيها المصلي المتوجه إلى الكعبة الحقيقة والقبلة الأصلية أن تواظب على الصلوات المفروضة المقربة إليها، وتلازم الحكم والأسرار المودعة في تشريعها ، بحيث إذا أردت الميل إلى جنابه والتوجه نحو بابه لا بد لك أولا من التوضؤ والتطهر عن الخبائث الظاهر والباطنة كلها، والتخلي عن اللذات والشهوات برمتها إلى حيث تيسر لك التحريمة بلا وسوسة شياطين الأهواء المظلة.
Bilinmeyen sayfa
فإذا قلت مكبرا محرما على نفسك جميع حظوظك من دنياك: الله أكبر، لا بد لك أن تلاحظ معناه بأنه: الذات الأعظم الأكبر في ذاته لا بالنسبة إلى الغير؛ إذ لا غير، وافعل هذا للصفة لا للتفضيل وتجعلها نصيب عينيك وعين مطلبك ومقصدك.
وإذا قلت قلت متيمنا متبركا: بسم الله، انبعثت رغبتك إليه ومحبتك له.
وإذا قلت: الرحمن، استنشقته من النفس الرحماني ما يعينك على الترقي نحو جنابه.
وإذا قلت: الرحيم، استروحت بنفحات لطفه ونسمات رحمته، وجئت بمقام الاستئناس معه سبحانه بتعديد نعمه على نفسك.
وإذا قلت شاكرا لنعمه: الحمد لله، توسلت بشكر نعمه إليه.
وإذا قلت: رب العالمين، تحققت بإحاطته وشموله وتربيته على جميع الأكوان.
وإذا: قلت الرحمن، رجوت من سعة رحمته وعموم إشفاقه ومرحمته.
وإذا قلت: الرحيم: نجوت من العذاب الأليم الذي هو الالتفات إلى غير الحق، ووصلت إليه بعدما فصلت عنه بل اتصلت.
وإذا قلت: مالك يوم الدين، قطعت سلسلة الأسباب مطلقا، وتحققت بمقام الكشف الشهود وحين ظهر لك ما ظهر، فلك أن تقول في تلك المقام والحالة بلسان الجمع: إياك نعبد، بك مخاطبين لك وإياك نستعين بإعانتك مستعينين منك.
وإذا قلت: اهدنا الصراط المستقيم، تحققت بمقام العبودية.
Bilinmeyen sayfa
وإذا قلت: صراط الذين أنعمت عليهم، تحققت بمقام الجمع.
وإذا قلت: غير المغضوب عليهم، استوحشت من سطوة سلطنة صفاته الجلالية.
وإذا قلت: ولا الضالين، خفت من الرجوع بعد الوصول.
وإذا قلت: آمين، أمنت من الشيطان الرجيم.
فلك أن تصلي على الوجه الذي تلي، حتى تكون لك صلاتك معراجا إلى ذروة الذات الأحدية ومرقاة إلى السماء السرمدية، ومفتاحا للخزائن الأزلية الأبدية، وذلك لا يتيسر إلا بعد الموت الإرادي من مقتضيات الأوصاف البشرية، والتخلق بالأخلاق المرضية والخصال السنية، ولا يحصل لك هذا الميل إلا بعد العزلة والفرار عن الناس المنهمكين في الغفلة، والانقطاع عنهم وعن وسوستهم وعاداتهم المرة، وإلا فالطبيعة سارقة والأمراض سارية والنفوس آمرة بالهوى، مائلة عن المولى، عصمنا الله من شرورها وخلصنا من غرورها بمنه وجوده.
[2 - سورة البقرة]
[2.1-5]
{ الم } [البقرة: 1] أيها الإنسان الكامل، اللائق لخلافتنا، الملازم لاستشكاف أسرار ربوبيتنا كيفية بركات هويتنا الذاتية السارية على صفائح المكونات، المنتزعة عنها والمأخوذة منها.
{ ذلك الكتاب } الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، المتعبد درجة كماله عن إفهام الجامع مراتب الأسماء والصفات في عالم الغيب والشهادة، المنزل على مرتبتك يا أكمل الرسل، الجامعة لجميع مراتب الكائنات من الأزل إلى الأبد بحيث لا يشذ عنها مرتبة أصلا { لا ريب فيه } بأنه منزل من عندنا لفظا ومعنى:
أما لفظا: فلعجز جماهير البلغاء ومشاهير الفصحاء عن معارضة أقصر آية منه مع وفور دواعيهم.
Bilinmeyen sayfa
وأما معنى: فلا شتماله على جميع أحواله الحقائق العينية والأسرار الغيبية مما كان وسيكون في النشأتين، ولا يتيسر الاطلاع عليها والإتيان بها على هذا النمط البديع إلا لمن هو علام الغيوب.
وإنما أنزلناه إليك أيها اللائق لأمر الرسالة والنيابة، لتهتدي به أنت إلى بحر الحقيقة، وتهدي به أيضا من تبعك من التائهين في بيداء الضلالة؛ إذ فيه { هدى } عظيم { للمتقين } [البقرة: 2] الذين يحفظون بامتثال أوامره واجتناب نواهيه نفوسهم عن خبائث المعاصي المانعة من الطهارة الحقيقية والوصول إلى المرتبة الإصلية.
و { الذين يؤمنون } يوقنون ويذعنون بأسراره ومعارفه { بالغيب } أي: غيب الهوية الذي هو ينبوع بحر الحقيقة وإليه منتهى الكلم، وبعد ذلك يتوجهون بمقتضيات أحكامه نحوه، ويهدون إليه بسببه { ويقيمون } يديمون { الصلوة } الميل بجميع الأعضاء والجوارح على وجه الخضوع والتذلل إلى جنابه؛ إذ هو المقصد للكل إجمالا وتفصيلا، ولكل عضو وجارحة تذلل خاص وله طريق مخصوص يناسبه، يرشدك إلى تفاصيل الطرق، فعله صلى الله عليه وسلم في صلاته على الوجه الذي وصل إلينا من الرواة المجتهدين - رضوان الله عليهم أجمعين - ولما تنبهوا له به بمتابعته ومالوا نحو جنابه بالميل الحقيقي بالكلية لم يبق لهم ميل إلى ما سواه من المزخرفات الفانية لذلك { ومما رزقناهم } سقنا إليهم ليكون بقيا لحياتهم ومقوما لمزاجهم { ينفقون } [البقرة: 3] في سبيلنا طلبا لمرضاتنا وهربا عما يشغلهم عنا، فكيف إنفاق الفواضل؟.
{ والذين يؤمنون } ينقادون ويمتثلون { بمآ أنزل إليك } من الكتاب الجامع أسرار جميع ما أنزل من الكتاب السالفة على الوجه الأحسن الأبلغ، ومن السنن ومن الأخلاق الملهمة إليك { و } مع ذلك صريحا يعتقدون { مآ أنزل من قبلك } من الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين مع الإيمان بجميع الكتب المنزلة، وإن كان كل كتاب متضمنا للإيمان بالنشأة الآخرة بل هو المقصود الأصلي من جميعها { وبالآخرة هم يوقنون } [البقرة: 4] أفردها بالذكر؛ اهتماما بشأنها لكثرة المرتابين فيها.
{ أولئك } أي: جزاء أولئك المؤمنون المتعقدون بجميع الكتب المنزلة على الرسل، والمؤمنون المذعنون بالنشأة الآخرة بل خاصة أنهم { على هدى } عظيم { من ربهم } الذي رباهم بأنواع اللطف والكرم إلى أن يبلغوا إلى هذه المرتبة التي هي الاهتداء إلى جانب قدسه { و } مع ذلك الجزاء العظيم والنفع الجسيم { وأولئك } السعداء { هم المفلحون } [البقرة: 5] الفائزون، الناجون عن مضائق الإمكان الواصلون إلى فضاء الوجوب، رزقنا الله الوصول إليه.
[2.6-10]
ثم قال سبحانه جريا، بل على مقتضى سنته من تعقيب الوعد بالوعيد: { إن الذين كفروا } ستروا الحق وأعرضوا عنه، وأظهروا الباطل وأصروا عليه عنادا واستكبارا، لا ينفعهم إنذارك وعدمه بل { سوآء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } [البقرة: 6] بك وبكتابك؛ لأنهم هم.
{ ختم الله } المحيط بذواتهم وأوصافهم وأفعالهم { على قلوبهم } لئلا يكونوا من أرباب المكاشفات { وعلى سمعهم } لئلا يكونوا من أصحاب المجاهدة { وعلى أبصرهم } لئلا يكونوا من أرباب المشاهدة { غشاوة } ستر عظيم لا يمكنك رفعه بل { ولهم عذاب عظيم } [البقرة: 7] هو عذاب الطرد والبعد؛ إذ لا عذاب أعظم منه، أولئك الأشقياء البعداء عن ساحة الحضور، هم الضالون في تيه الحرمان، الباقون في عظلمة الإمكان، أعاذنا الله من ذلك.
{ ومن الناس } الذين نسوا العهود السابقة التي عهدوا في الفطرة الأصلية { من يقول } قولا لا يوافق اعتقادهم، وهو أنهم يقولون تلبيسا ونفاقا: { آمنا } أذعنا { بالله } أي : الذي أنزل علينا الكتاب وإنك الرسول { و } وأيقنا { باليوم الآخر } الموعود بجزاء الأعمال { و } الحال أنهم { ما هم بمؤمنين } [البقرة: 8] موقنين بهما في بواطنهم، بل غرضهم من هذا التلبيس في زعمهم الفاسد أنهم:
{ يخادعون الله } المحيط بجميع أحوالهم مخادعتهم مع آحاد الناس، تعالى عن ذلك { و } يخادعون الموحدين { الذين آمنوا } بإحاطة الله بتوفيقه وإلهامه؛ حفظا لدمائهم وأموالهم منهم { و } هم { ما يخدعون } بهذا الخداع { إلا أنفسهم } لأن الله ومن هو في حمايته أجل من أن ينخدع منهم، فهم بهذا الخداع ما يخدعون إلا أنفسهم { وما يشعرون } [البقرة: 9] بخداعهم؛ لأن:
Bilinmeyen sayfa
{ في قلوبهم مرض } غطاء مختوم على قلوبهم لا ينكشف إلا بكتاب الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولما لم يؤمنوا به ولم يلتفتوا إليه بل كذبوا رسوله المنزل عليهم { فزادهم الله مرضا } إحكاما لختمه وتأكيدا لحكمه { ولهم } في يوم الجزاء { عذاب } هو إبعادهم وطردهم عن ساحة عز الحضور { أليم } مؤلم بسبب تقريب المؤمنين إلى دار السرور جزاء { بما كانوا يكذبون } [البقرة: 10] ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم خداعا.
[2.11-16]
{ و } مع ظهور حالهم وخداعهم عند الله وعند المؤمنين { إذا قيل لهم } إمحاضا للنصح: { لا تفسدوا في الأرض } بتكذيب كتاب الله ورسوله المنزل عليه حتى لا يخرجوا من مرتبة الخلافة؛ لأن خلافة البشر إنما هي بالتوحيد وإسقاط الإضافات، والتوحيد إنما يحصل بالله وبكتابه ورسوله { قالوا } في الجواب على سبيل الحصر: { إنما نحن مصلحون } [البقرة: 11] لا نتجاوز من الصلاح أصلا تتميما لخداعهم الفاسد، وترويجا له على المؤمنين وتلبيسا.
{ ألا } أيها المؤمنون الموقنون بكتاب الله المصدقون لرسوله { إنهم هم المفسدون } المقصرون على الفساد، لا يرجى صلاحهم أصلا؛ لكونهم مجبولين على الفساد { ولكن لا يشعرون } [البقرة: 12] بمشاعرهم لغشاوة قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم.
{ و } إذا لطف معهم ونصح كما هو دأب الأنبياء والمرسلين و { إذا قيل لهم آمنوا } بالله وبكتابه ورسوله { كمآ آمن الناس } الذين نسوا مزخرفات آبائهم بالإيمان بالله وبكتابه ورسوله، وفازوا في الدارين فوزا عظيما بسبب الإيمان { قالوا } في الجواب توبيخا وتقريعا: { أنؤمن } بهذا الرجل الحقير الساقط، وبهذه الأساطير الكاذبة ونترك دين آبائنا { كمآ آمن السفهآء } التاركون دين آبائهم لغرور هذا المدعي المفتري؟ { ألا } أيها المبعوث لإهداء المضلين المجبولين على الهداية في أصل فطرتهم { إنهم هم السفهآء } المجبولون على الغوية في بدء الفطرة لا يمكنك هدايتهم أصلا؛ لعدم قابليتهم واستعدادهم للإيمان { و } إن ظنوا في زعمهم من العقلاء { لكن لا يعلمون } [البقرة: 13] أصلا لتركب جهلهم المركوز في جبلتهم، فيسلب قابليتهم للإيمان.
{ و } علامة نفاق هؤلاء المضلين وخداعهم أنهم { إذا لقوا الذين آمنوا } بالله وكتابه ورسوله { قالوا } على طريق الإخبار عن الأمور المحققة تروجيا وتغريرا على المؤمنين { آمنا } بالجملة الفعلية الماضية بلا مبالغة وتأكيد لحكمهم سفاهة المؤمنين، بأن السفيه يقبل الأخبار بلا تأكيد؛ لعدم تفطنه على إنكار المتكلم، فنزلوهم - وإن كان من حقهم الإنكار حقيقة - منزلة خالي الذهن؛ لسفاهتهم { وإذا خلوا } نفوا خالين { إلى شياطينهم } أي: مع أصحابهم المستمرين على الكفر، الظاهرين بالمخالفة بلا خداع ولا نفاق كالشيطان المصر على الضلال المستمر على الإضلال { قالوا } على طريق المبالغة والتأكيد قلعا لما اعتقدوا من ظاهر حالهم ومقالهم وموافقتهم مع المؤمنين سرا وجهرا، وتحقيقا لمؤاخذتهم معهم { إنا } وإن كنا في الظاهر مداهنين معهم لمصلحة دنيوية، متفقون { معكم } لفائدة دينية، أتوا بالجملة الاسمية المصدرة بأن؛ تحقيقا واهتماما، وقولنا: آمنا، استهزاء منا إياهم لا تصديق لمدعاهم، وبالجملة ما نحن مؤمنون بمجرد هذا القول بل { إنما نحن مستهزءون } [البقرة: 14] مستخفون تجهيلا وتسفيها واعتذارا على مجرد القول الكاذب الغير المطابق للاعتقاد والواقع. وهم في غاية انهماكهم في الغي والضلال، وهم مقرون جازمون بأنهم يستهزئون، بل هم في الحقيقة مستهزئون إذ: { الله } المحيط بجميع مخايلهم الباطلة وأفكارهم الفاسدة { يستهزئ بهم } في كل لحظة وطرفة آنا فآنا { و } لم يشعرهم باستهزائه بل { يمدهم } يمهلهم ويسوفهم { في طغيانهم } المتجاوز عن الحد في الضلالة بتلبيس الأمر على الله وعلى المؤمنين { يعمهون } [البقرة: 15] يترددون إقداما وإحجاما.
{ أولئك } البعداء عن طريق الهداية هم { الذين اشتروا } استبدلوا واختاروا { الضللة } المعززة في نفوسهم بتقليد آبائهم { بالهدى } المتفرعة على الإيمان بالله وبرسوله { فما ربحت } بهذا الاستبدال والاختيار { تجارتهم } أي: ما يتجرون به { وما كانوا مهتدين } [البقرة: 16] رابحين بسبب الاستبدال، وخاسرين ضالين به. أو يقال: فما يتم الربح { تجارتهم } اتجارهم { وما كانوا مهتدين } بسبب هذا الاتجار.
[2.17-19]
بل { مثلهم } أي: شأنهم وحالهم بهذا الاستبدال، والاختيار في يوم الجزاء { كمثل } كحال الشخص { الذي } طلب شيئا في الظلمة وترقبه، ولم يهتد إليه و { استوقد نارا } ليستضيء بها، وفاز بمبتغاه { فلمآ } استوقده { أضآءت } النار { ما حوله } أي: حول المستوقد، وترقب وجدان مطلوبه { ذهب } ضوؤها، وسكن لهبها فضل عن مطلوبه، وخسر خسرانا عظيما، كما ذهب { الله بنورهم } أطفأ الله نيران المنافقين وسرجهم التي هي كفرهم ونفاقهم على زعمهم، وأفسد إظاءتهم في يوم الجزاء حين ترقبهم بوجدان مطالبهم ولم يهتدوا بها، بل عذبهم الله بسببها { وتركهم } لأجلها { في ظلمت } ظلمة الضلالة المتقررة الراسخة في نفوسهم بتقليد آبائهم، المنتجة للكفر والنفاق، وظلمة فقدان المطلوب المترتب عليها في زعهمم مع ترقبهم، والظلمة العارضة لهم بعد استضاءتهم، وبسبب هذه الظلمات { لا يبصرون } [البقرة: 17] ولا يرجى نجاتهم عن عذاب الله بل يبقون فيه أبدا وهم:
{ صم } لعدم إصغائهم لقول الحق عن ألسنة الرسل صلوات الله عليهم { بكم } لعدم قولهم بالإيمان المقارن بالتصديق { عمي } لعدم التفاتهم إلى الدلائل الظاهرة والمعجزات الباهرة، وبالجملة: { فهم } في هذه الحالة { لا يرجعون } [البقرة: 18] ولا يطمعون الرجوع إلى الهداية لتذكيرهم الإفراط والتفريط الذي صدر عنهم في النشأة الأولى المستتبع لهذا العذاب.
Bilinmeyen sayfa
{ أو } مثلهم في هذا الاستبدال والاتجار { كصيب } نازل { من السمآء فيه ظلمت } متوالية متتالية، بعضها فوق بعض شدة وضعفا بحسب تخلخل السحب وتكاثفها { ورعد وبرق } بسبب الأدخنة والأبخرة المحتسبة فيه، متى أبصرها الناس وسمعوا أصوات بروقه ورعوده { يجعلون أصبعهم } أنامل أصابعهم { في آذانهم } خوفا { من الصوعق } النازلة منها، المهلكة غالبا لمن أصيب بها، وإنما يفعلون ذلك { حذر الموت } أي: حذر أن يموتوا في إصابتها؛ يعني: إنهم لما شبهوا في نفوسهم دين الإسلام بالصيب المذكور في ظهوره من غير ترقب، واشتمال في زعمهم على ظلمات التكاليف المتفاوتة المتنوعة، ورعود الوعيدات الهائلة وبروق الأحكام الخاطفة، وجب عليهم الاحتراز عن غوائله فمالوا عنه وأعرضوا، وجعلوا أصابع عقولهم في آذان قبولهم؛ خوفا من الصواعق النازلة المصفية المفنية ذواتهم في ذات الله حذر الموت الإداري، وهم بسبب هذا الميل والإعراض يعتقدون أنهم خلصوا عن الفناء في ذاته { و } لم يعلموا أنهم مستهلكون فيها إذ { الله } المتجلي في ذاته لذاته { محيط بالكفرين } [البقرة: 19] الساترين بذواتهم في زعمهم الفاسد ذات الله، غافلين عن تجلياته، وكيف يغفلون عنها؟.
[2.20-22]
{ يكاد البرق } أي: برق التجلي اللطفي { يخطف } يعمي { أبصرهم } التي يرون بها أنفسهم ذوات موجودات فاضلات به { كلما أضآء } وأشرق { لهم } التجلي اللطفي { مشوا } ساروا { فيه } باقين ببقائه { وإذآ أظلم عليهم } بالتجلي القهري { قاموا } سكنوا على ما هم عليه من عدم الصرف { ولو شآء الله } التجلي عليهم بالقهر دائما { لذهب بسمعهم وأبصرهم } أي: بتعيناتهم التي ظنوا أنهم موجودات حقيقية بسببها، وصيرهم فانين معدومين لا وجود لهم أصلا، كما هم عليه دائما، قل لهم يا أكمل الرسل بلسان الجمع: { إن الله } المتجلي بالتجلي اللطفي { على } إبقاء { كل شيء قدير } [البقرة: 20] على إفنائه بالتجلي القهري؛ إذ لا يجري في ملكه إلا ما يشاء، ثم نبه تعالى على كيفية رجوعهم إليه وتنبههم على تجلياته، فناداهم إشفاقا لهم وامتنانا عليهم ليقبلوا إليه فقال:
{ يأيها الناس } الذين نسوا حقوق الله بمتابعة آبائكم { اعبدوا } تذللوا وتفزعوا وانقادوا { ربكم الذي خلقكم } أخرجكم وأظهركم من كتم العدم بإشراق تجلياته اللطيفة إلى فضاء الوجود { و } أيضا أخرج آباءكم { الذين } مضوا { من قبلكم } إن عبدتم كما ذكر { لعلكم تتقون } [البقرة: 21] تحذرون من تجلياته القهرية، فهو في بدء الوجود في المعاني اعبدوا ربكم:
{ الذي جعل لكم الأرض فرشا } مبسوطا؛ لتستقروا عليها وتسترزقوا منها { والسماء بنآء } مرفوعا؛ لترتقي الأبخرة والأدخنة والمتصاعدة إليهم وتتراكم السحب فيها { و } بعد وجود هذه الأسباب { أنزل } بمحض فضله وفيضه { من } جانب { السمآء مآء } منبتا لكم الزروع والأثمار المقومة لمزاجكم وإذا أنزل { فأخرج به } سبحانه؛ أي: بسبب الماء { من الثمرت رزقا لكم } أي: أخرج رزقا لكم من الثمرات والطعوم؛ لتعيشوا بها وتقدروا إلى التوجه إلى توحيده وتفريده الذي هو غاية إيجادكم وخلقكم وما يترتب على وجودكم، وإذا كان كذلك { فلا تجعلوا } أيها المنعمون بانتزاع النعم { لله } الواحد القهار لجميع الأغيار { أندادا } أمثالا في استحقاق العبادة والإيجاد والتكوين والترزيق والإنبات والإضاء وغير ذلك مما يتعلق بالألوهية { وأنتم } إن وصلتم إلى مرتبة التوحيد الذي { تعلمون } [البقرة: 22] أن سلسلة الأسباب منتهية إليه سبحانه، ولا موجود إلا هو، بل لا موجود إلا هو
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهآ إلا هو
[الأنعام: 59] والتحقيق بهذا المقام والوصول إلى هذا المرام لا يحصل إلا بعد التخلق بأخلاق الله، والتخلق بأخلاقه لا يتيسر إلا بمتابعة المتخلق الكامل، وأكمل المتخلفين نبينا صلى الله عليه وسلم، والمتخلق بخلقه صلى الله عليه وسلم إنما يكون بالكتاب الجامع لجميع أخلاق الله، المنزل على مرتبته، الجامع جميع مراتب المظان، وفي نسخة أخرى: المظاهر.
[2.23-25]
{ وإن كنتم } أيها المحجوبون بالأديان الباطلة { في ريب } شك وارتياب { مما نزلنا } من مقام كما ترتيبنا وإرشادنا { على عبدنا } الذي هو خليفتنا ومرآنا ومظهر جميع أوصافنا، وحامل وحينا المنزل عليه، المشتمل على جميع الأخلاق الإلهية { فأتوا بسورة } جملة قصيرة { من مثله } إذ من خواص هذا الكتاب أن مجموعة مشتمل على جميع الأخلاق الإلهية، وكل سورة منه تشتمل على ما اشتمل عليه المجموع، تأمل.
{ و } إن عجزتم أنتم عن إتيانه { ادعوا شهدآءكم } حضراءكم الذين أنتم تشهدون بألوهيتهم وترجعون في الخطاب إليهم { من دون الله } المحيط بكم وبهم، فأمروهم بإتيان كل سورة جامعة جميع أوصاف المعبود بالحق { إن كنتم صدقين } [البقرة: 23] أنهم آلهة غير الله، سبحان الله وتعالى عما يقولون.
Bilinmeyen sayfa
{ فإن لم تفعلوا } فإن لم تفعلوا الإتيان أنتم في حين التحدي والمعارضة { ولن تفعلوا } أيضا بعدما رجعتم إليهم، فلا تكابروا ولا تنازعوا، بل انقادوا وامتثلوا بأوامر الكتاب المنزل على عبدنا، واجتنبوا عن نواهيه { فاتقوا النار التي } أخبر فيه بأنه { وقودها } أي: ما يتقد به النار { الناس } الذين يعبدون غير الله { والحجارة } التي هي معبوداتهم التي نحتوها بأيديهم وما { أعدت } هذه النار إلا { للكفرين } [البقرة: 24] الجاهلين طريق توحيد الحق، والمكذبين كتاب الله ورسوله المنزل عليه.
{ وبشر } المؤمنين الموقنين الموحدين { الذين آمنوا } بالكتاب المنزل على عبدنا { وعملوا الصلحت } المؤمنون فيه، واجتنبوا عن الفاسدات المنهي عنها { أن } أي: حق وثبت { لهم } بعد رفع القيود { جنت } متنزهات من العلم والعين والحق التي هي المعارف الكلية المخلصة عن جميع القيود المنافية للتوحيد { تجري من تحتها الأنهر } أنهار المعارف الجزئية المترتبة على تلك المعارف الكلية { كلما رزقوا } حظوا منها؛ أي من تلك المعارف الكلية { منها من ثمرة } حاصلة من شجرة اليقين { رزقا } حظا كاملا يخصلهم من رتبة الإمكان { قالوا } متذكرين العهود السابقة: { هذا الذي رزقنا من قبل } من الأعيان الثابتة، أو في عالم الأسماء والصفات، أو في اللوح المحفوظ، أو في عالم الأرواح إلى غير ذلك من العبارات، ومن غايات التلذاذهم ونهاية شوقهم والتذاذهم بالثمرة المحظوظ بها { وأتوا به } متماثلا { متشبها } متجددا بتجدد الأمثال { ولهم فيهآ } في تلك المرتبة الكلية { أزوج } أعمال صالحة ونيات خالصة { مطهرة } عن شوائب الأغيار المانعة عن الوصول إلى دار القرار { وهم فيها } في تلك المراتب { خلدون } [البقرة: 25] دائمون يداومه، باقون ببقائه، مستغرقون بمشاهدة لقائه سبحانه. أرزقنا بلطفك حلاوة التحقيق وبرد اليقين.
[2.26-28]
ثم لما طعن الكفار في غاية استكبارهم وعتوهم ونهاية استعظامهم نفوسهم، واعتقادهم الأصالة في الوجود، والاستقلال بالآثار المترتبة عليه الصادرة منهم ظاهرا على الكتاب، والرسول المنزل عليه قائلين بأن ما جئت به وسميته وحيا نازلا إليك من عند الله الحكيم لا يدل على كلام من يعتد به ويعتمد عليه، فضلا عن أن يدل على أنه كلام الحكيم المتصف بجميع أوصاف الكمال المستحق للعبادة؛ لأن ما مثل به فيه هي الأشياء الخسيسة الخبيثة والضعيفة الحقيرة، مثل الكلب والحمار والذباب والنمل والنحل والعنكبوت وغيرها، والكلام المشتمل على أمثال هذه الأمثار لا يصدر من الكبير المتعال؟!
رد الله عليهم وروج أمر نبيه - صلوات الله عليه - فقال: { إن الله } المستجمع لجميع الأوصاف والأسماء، المقتضية لظواهر الكائنات، المرتبة لمراتب الموجودات الظاهر على جميع المظاهر بلا تفاوت، كظهور الشمس وإشراقها على جميع الآفاق، وسريان الروح في جميع الأعضاء { لا يستحى } استحياء من في فعله ضعف وعافية وضيعة، بل الله سبحانة { أن يضرب مثلا } بمظهر { ما } من المظاهر غير المتفاوتة في المظهرية؛ إذ له بذاته من جميع أوصافه وأسمائه ظهور في كل ذرة من ذرائر العالم بلا إضافة، فلا تفاوت في المظاهر عنده، وما ترى في خلق الرحمن من تفاوت، وسواء كانت { بعوضة } مستحقرة عندكم أو أحقر منها { فما فوقها } في الحقارة والخساسة كالبق والنمل، فلا يبالي الله في تمثيلها؛ إذ عند الكل على السواء { فأما الذين } صدقوا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم و { آمنوا } بما جاء به من عند ربه { فيعلمون } علما يقينا أن التمثيل بهذه الأمثال { أنه الحق } الثابت الصادر { من ربهم } الذي رباهم بكشف الأمور على ما هي عليه.
{ وأما الذين كفروا } أعرضوا عن تصديق الله ورسوله { فيقولون } مستهزئين متهكمين على سبيل الاستفهام { ماذآ أراد الله } المقدس عن جميع الرذائل المتصف بالأوصاف الحميدة { بهذا } الحقير الخسيس بأن يضرب { مثلا } بهذا تعريض على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبلغ وجه؛ يعني: ما جئت به من عندك كلمات مفتريات بعضها فوق بعض، أسندته إلى الله لتروجها على أولي الأحلام الضعيفة، ومن غاية استكبارهم ونهاية جهلهم المقتضي لعمى القلب لم يروا الحكمة في تمثيله، ولم يعلموا أنه { يضل } الله باسمه المنتقم { به } بسبب إنكار هذا المثال { كثيرا } من المستكبرين المستحقرين بعض المظاهر { ويهدي به كثيرا } من الموحدين الموقنين الذين لا يرون في المظاهر إلا الله، ففي هذا المشهد لا يسع الإضافات المستلزمة للاستعظام والاستحقار، بل سقط هناك جميع الاعتبار، ثم بين سبب إضلاله له فقال: { وما يضل به إلا الفسقين } [البقرة: 26].
{ الذين } يخرجون عن طريق التوحيد باستحقار بعض المظاهر { ينقضون } يفصمون { عهد الله } الذي هو حبله الممدود من أزل الذات إلى أبد الأسماء والصفات سيما { من بعد } توكيده بذكر { ميثقه } الموثق بقوله:
ألست بربكم
[الأعراف: 172]، وقولهم:
بلى
Bilinmeyen sayfa
[الأعراف: 172] وبعدما نقضوا العهد الوثيق الذي من شأنه ألا ينقض لم يفزعوا ولم يتوجهوا إلى جبره ووصله، بل { ويقطعون } التوجه عن امتثال { مآ أمر الله به } في كتابه المنزل { أن يوصل } به ما نقض من عهده، ومع ذلك لا يقنعون بنقض العهد وقطع الوصل المختصين بهم، بل { ويفسدون في الأرض } بأنواع الفسادات السارية من إفساد واعتقاد الضعفاء، والبغض مع العرفاء الأنساء - وفي نسخة أخرى: ا لأمناء - والمخالفة مع الأنبياء والأولياء { أولئك } البعداء عن طريق التوحيد { هم الخسرون } [البقرة: 27] المقصورون على الخسران الكلي الذي لا خسران فوقه، أعاذنا الله من ذلك.
ثم استفهم سبحانه مخاطبا لهم، مستبعدا عما صدر عنهم من الكفر والطغيان على سبيل الكناية تحريكا لحمية الفطرة التي فطر الناس عليها، وتذكيرا لهم بالعهود التي عهدوا مع الله في استعدادتهم الأصلية بقوله:
{ كيف تكفرون } وتشركون { بالله } الذي قدر وجودكم في علمه السابق أراد إيجادكم { وكنتم أموتا فأحيكم } أظهركم من العدم بمد ظله عليكم، وبعدما أظهركم أنعم عليكم ورباكم في النشأة الأولى بأنواع النعم؛ لتعرفوا المنعم وتشكروا له في مقابلتها { ثم } بعد تربيتكم في النعم { يميتكم } يخرجكم من النشأة الأولى إظهارا لقدرته وقهره { ثم يحييكم } أيضا في النشأة الأخرى لتجزى كل نفس بما كسبت في النشأة الأولى { ثم } بعدما قطعتم المنازل وطويتم المراتب والمراحل { إليه } لا إلى غيره من الأظلال { ترجعون } [البقرة: 28] إذ لا وجود للغير ليرجع إليه، فلا مرجع إلا هو ولا مآب بسواه، لا إله إلا هو، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون.
[2.29-32]
{ هو الذي } جعلكم خلائف في الأرض وصوركم على صورته، وصيركم مظاهر جميع أوصافه وأسمائه و { خلق لكم } أي: قدر ودبر لكم { ما في الأرض جميعا } ما في العالم السفلي من آثار الأسماء والصفات تتميما لجسمانيتكم؛ لتتصرفوا فيها وتتنعموا بها متى شئتم { ثم } لما تم تقدير ما في العالم السفلي ترقى عنها و { استوى } توجه { إلى السمآء } إلى تقدير جميع ما في العالم العلوي { فسوهن } فهيأهن { سبع سموت } مطبقات مشتملات على ملائكة ذوي علوم ومعاملات، وعلى كواكب ذوي آثار كثيرة كلها من مقتضيات أسمائه وصفاته { و } لا يخفى عليه شيء مما في العالمين؛ إذ { هو بكل شيء عليم } البقرة: 29] لا يعزب عن عمله مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
ثم لما قدر لنوع الإنسان جميع ما في العالم العلوي والسفلي أشار إلى اصطفاء شخص من هذا النوع وانتخابه من بين الأشخاص؛ ليكون مظهرا جامعا لائقا لأمر الخلافة والنيات، فقال مخاطبا لنبيه، مذكرا له، مستحضرا إياه بقوله: { وإذ قال ربك } أي: استحضر أنت يا أكمل الرسل فذكر ممن تبعك وقت قول ربك { للملئكة } الذين هم مظاهر لطفه ومجالي جماله، لا يظهر عليهم أثر من آثار الجلال والقهر { إني } أريد أن أطالع ذاتي وألاحظ أسمائي وأوصافي على التفصيل، فأنا { جاعل في الأرض } أي: العالم السفلي { خليفة } مرآة مجلوة عن صداء الإمكان ورين التعلق؛ لأتجلى منها بجميع أوصافي وأسمائي حتى تعتدل خليفتي بأسمائي أخلاق من عليها وتصلح أحوالهم، وإذا شاور معهم قالوا في الجواب على مقتضى علمهم { قالوا } في الجواب على مقتضى علمهم من العالم السفلي الذي هو عالم الكون والفساد ومنزل الجدال والعناد: ما نرى في العالم السفلي إلا اللدد والعناد والمخاصمة المستمرة بين العباد والخروج من حدودك من سفك الدماء ونهب الأموال وسبي الذراري { أ } ن سلم ونجوز لك أن { تجعل } بعزتك وكبريائك مع أنا ننزهك عن جميع الرذائل خليفة لك نائبا عنك { فيها } في الأرض { من يفسد فيها } بأنواع الفسادات { و } خصوصا { يسفك الدمآء } المحرمة، وليس في وسعنا هذا التسليم، ولا نرى هذا الأمر لائقا بجلالك وعصمتك، وإن شئت بفضلك وجودك أن تصلح بينهم { و } تدبر أمرهم { نحن } أولى بإصلاحهم وتدبيرهم وحفظ حدودك الموضوعة فيهم؛ إذ { نسبح } نشتغل دائما { بحمدك } وثنائك على آلائك ونعمائك { ونقدس } به { لك } أي: ننزه ذاتك عن جميع ما يشعر بالعلل والأعراض فنحن أولى بأمر الخلافة والنيابة منه { قال } تعالى بلسان الجمع في جوابهم؛ إرشادا لهم وامتنانا لآدم: { إني أعلم } من آدم الذي هو مظهر ذاتي وجميع أسمائي { ما } أي: شيء من الجامعية { لا تعلمون } [البقرة: 30] أنتم لعدم جميعتكم.
ثم لما ادعى سبحانه استحقاقه للنيابة ولياقته للخلافة، وأجاب عن شبههم التي أوردوها إجمالا وأشار إلى تفصيل ما أجمل عليهم إرشادا لهم على مرتبة الجمع، وتنبيها على جلالة قدر المظهر الجامع فقال: { وعلم ءادم } سبحانه؛ أي: ذكره { الأسمآء } التي أودعها في ذاته وأوجد بها ما في العالم من الآثار البديعة { كلها } بحيث لا يبقى من الأوصاف المتقابلة والأسماء المتخالفة المتضادة شيء إلا ما استأثر به في غيبه { ثم عرضهم } الأسماء المودعة باعتبار مسمياتها وآثارها الظاهرة في الآفاق { على الملئكة } الذين يدعون الأولوية في أمر الخلافة { فقال } تعالى لهم مخاطبا على سبيل الإسكات والتبكيت: { أنبئوني } عن روية وبصيرة { بأسمآء هؤلاء } المسميات، وبأسباب هؤلاء الآثار والمسببات { إن كنتم صدقين } [البقرة: 31] في دعوى الأولوية والأحقية للنيابة، محقين في الاعتراض على آدم لا عن علم بحاله.
{ قالوا } مستوحشين من هذه الكلمات، معتذرين متذليين خائفين من عتابه تعالى، متذكرين عن سوء الأدب مع الله، مستحيين عن سؤالهم من فعله الذي لا يسأل عنه قائلين: { سبحنك } ننزهك من أن يعترض عليك ويسأل عن فعلك، ذلك الحكم في ملكوتك والتصرف في مقتضيات أسمائك، وإنما بسطنا معك الكلام لا لانبساطك بنا؛ إذ { لا علم لنآ } منها { إلا ما علمتنآ } بقدر استعداداتنا وقابلياتنا { إنك أنت العليم } بجميع الاستعدادات والقابليات { الحكيم } [البقرة: 32] بإقامته ما ينبغي لمن ينبغي بلا علل واعتراض.
[2.33-37]
ومتى اعترفوا بذنوبهم واعتذروا عن قصورهم وإجرامهم قبل الله عنهم عذرهم وتوبتهم، ثم أظهر عليهم الحكمة المقتضية لخلافة آدم - صلوات الله عليه - جبرا لانكسارهم ورفعا لحجابهم وامتنانا عليهم حيث: { قال يآءادم } المستجمع لجميع الأسماء المتخالفة { أنبئهم } عن خبرة وحضور { بأسمآئهم } المركوزة في هويتك عن هؤلاء المسميات المسببات المعروضة عليك المعبرة عنها بالعالم، ثم لما سمع آدم نداء ربه بادر إلى الجواب بمقتضى الوحي والإلهام الإلهي { فلمآ أنبأهم } بتوفيق الله وإلهامه ووحيه { بأسمآئهم } على التفصيل الذي أودعه الحق في ذاته؛ لأن المرأة تظهر جميع ما في الرائي، فلما سمعوا منه التفصيل واستخرجوا بإنبائه، وندموا عما صدر عنهم في حقه، وزادوا الاستحياء من الله وتوجهوا نحوه ساكتين نادمين حتى لطف معهم وأدركتهم الرحمة الواسعة، تكلم سبحانه معهم وخاطبهم مذكرا لهم عما جرى بينه وبينهم، ومستفهما لهم على وجه التأديب؛ لئلا يصدر عنهم أمثاله ولئلا يغتروا بعلومهم ومعامالاتهم، ولا يستحقروا مظاهر الحق، ولا ينظروا إليها بعين الاحتقار بل بنظر الاعتبار، ولا يتوهم إخفاء شيء من علم الله المحيط بالأشياء إحاطة حضور حيث { قال ألم أقل لكم } إجمالا أولا: { إني أعلم غيب السموت } أي: ما غاب عنهم في علم السماوات التي ادعيتم العلم بتفاصيل أحوالها { و } غيب { الأرض } التي قلتم فيها كلاما على التخمين وبحسب الظاهر { وأعلم } أيضا { ما تبدون وما كنتم تكتمون } [البقرة: 33] تظهرون في حق آدم باللسان ودعوى الاستقلال فيها والانحصار عليها.
Bilinmeyen sayfa
ثم لما اعترفوا بذنوبهم وقصورهم، وتضرعوا إلى الله نادمين تائبين عن اجترائهم ومجادلتهم معه مستحيين عنه وعمن استخلفه لنفسه - يعني آدم - بنسبة المكروهات إليه، خائبين عما نووا في نفوسهم من الأولوية في الاستحقاق، تقبل الله عذرهم وأسقط حقه عنهم، ثم أمر بسجودهم لمن استخلفه؛ استجلالا معه وإيفاء لحقه ليسقط أيضا عن ذمتهم، فقال: { وإذ قلنا } أي: واذكر يا أكمل الرسل وقت قولنا { للملئكة } النادمين عن الجراءة التي صدرت عنهم { اسجدوا لأدم } تذللوا وتواضعوا تكريما لآدم وامتثالا لأمرنا { فسجدوا } مجتمعين متذللين واضعين جباههم على تراب المذلة والندامة { إلا إبليس } منهم { أبى } وامتنع عن السجود { واستكبر } عن الانقياد له، وأصر على ما هو عليه من الجحود { وكان } بعدم ا لامتثال الأمر الوجوبي { من الكفرين } [البقرة: 34] المطرودين عن ساحة عز الحضور.
والسر في استثنائه تعالى عن هذا الحكم وعدم توفيقه إياه وعدم اقتداره على السجود، أن يظهر سر الحضور والإظهار والربوبية والعبودية، وسر الإيمان والكفر والجنة والنار وجميع القيودات الشرعية والتكاليف الإلهية؛ إذ نسبته يظهر الاثنينية ويتعدد الطرق وتتفاوت الآراء والمقالات وتبين المخالفات والمنازعات، ويظهر الباطل ويستر الحق، وهو الرقيب المحافظ لآدابه والحاجب المعتكف ببابه، حتى لا تكون شرعية لكل وارد، أو يتوجه إليه واحد بعد واحد، غيره على الله وحمية لنفسه، ولهذا تمنى كثير من المحققين مرتبته.
ومن غيرته على ربه إلهاؤهم واغترارهم بالمستلذات والمزخرفات التي مالت إليها نفوسهم بطبعها يشغلهم ويلهيهم بها عن التوجيه إلى جنابه والعكوف ببابه، والسر في طرده ولعنه وإبعاده وبكفره تحذيرهم عن الانقياد والاقتداء على أبلغ وجه وآكده، وتمرين لعداوته ورقابته معهم في نفوسهم؛ لئلا يغفلوا عنه، ومع ذلك لم يتركوا متابعته ولم يجتنبوا من إقطاعه الملهية، نعوذ بالله من شرور أنفسنا.
{ و } وبعد ما خلقنا آدم في الأرض خليفة وأنزلنا عنه قوادح القاحدين، وأمرمنا جميع خصمائه بسجوده وتكريمه، وامتثلوا بالمأمور جميعا إلا إبليس، تركه للحكمة المذكورة آنفا ولئلا يتكبر آدم ويتجه بسببه انقياد جميعهم كما تجبر كثير من أبنائه في الأرض بانقياد الشرذمة القليلة { قلنا } له على سبيل الشفقة والنصيحة: { يآءادم } المستخلف المختار، لازم العبودية إنما تحصل بامتثال أوامرنا واجتناب نواهينا، ومتى قبلت بحمل الامتثال والاجتناب { اسكن أنت } أيها الخليفة أصالة { وزوجك } تبعا لك { الجنة } التي هي دار السرور ومنزل الفراغ والحضور، ومقام الأنس من الرب الغفور { و } إذا سكنتما فيها { كلا } تمتعا { منها } من جميع محظوظاتها ومستلذاتها الروحانية والجسمانية { رغدا } واسعا بلا مقدار وعدد { حيث شئتما } بلا مزاحمة أحد { ولا تقربا هذه الشجرة } المخصوصة المعينة حتى لا تخرجا من رق العبودية وإن قربتما { فتكونا من الظلمين } [البقرة: 35] الخارجين عن حدو الله بارتكاب المنهي.
ولما استشعر إبليس التوصية والمعاهدة المذكورة المنبئة عن كمال العناية الإلهية بالنسبة إلى آدم، بادر إلى دفعها ورفضها، فوسوس لهما بأن ألقى في قلبهما الدغدغة في تخصيص هذه الشجرة المعنية بالنهي وأنساهما المعاهدة المذكورة في العبودية، وبالجملة: { فأزلهما } ألجأهما إلى ارتكاب الزلة بوسوسة { الشيطان عنها } العدو لهما والرقيب معهما فتنادوا عنها عن الشجرة المنهية { فأخرجهما مما } أي: من الحضور الذي { كانا فيه } أي: في دار السرور { و } بعدما ظهر زلتهما { قلنا } لهما ولناصحهما: { اهبطوا } من دار السرور إلى دار الغرور، ومن دار الكرامة إلى دار الابتلاء والملائمة، وعيشوا فيها مع النزاع والخصومة؛ إذ { بعضكم لبعض عدو } ينتهز الفرصة لمقته { و } بعد هبوطمم { لكم في الأرض } التي هي محل التفرقة وموطن الفتن والمحن { مستقر } موضع قرار { ومتاع } استمتاع لمزخرفاتها ومستلذاتها الغير القارة التي ألهاكم الشيطان بها عن النعيم الدائم { إلى حين } [البقرة: 36] قيام الساعة التي هي الطامة الكبرى.
ثم لما لم يكن زلة آدم من نفسه ومن مقتضى طبعه بل بسوسوة عدوه، أشفق عليه وتوجه نحوه وتطلف معه { فتلقى } استفاد { ءادم } المذنب العاصي { من ربه } المستخلف المستقبل عليه { كلمت } مشتملات على الرجوع والإنانية عما صدر عنه من زلة هي قوله:
ربنا ظلمنآ أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
[الأعراف: 23] ولما تلقى آدم من ربه هذه الكلمات واستغفر بها، ورجع عما صدر { فتاب } الله { عليه } أي: قبل توبته ورحم عليه { إنه هو التواب } الرجاع للمذنبين المنهمكين في العصيان بالإنابة إليه عن ظهر الجنان { الرحيم } [البقرة: 37] لهم عما صدر عنهم من المعاصي والآثام بلا معاتبة ولا انتقام.
[2.38-42]
ثم لما تلقناه الكلمات التي تاب بها وقبلنا عنه توبته، أخرجناه من اليأس والقنوط وأطمعناه الرجوع إلى الجنة بأن: { قلنا } له ولذريته المتفرعة عليه، منبهين عليهم طريق الرجوع { اهبطوا } الزموا مكان الهبوط، واستقروا عليها حال كونكم خارجين { منها جميعا } ومن الجنة، وترقبوا دخولها بإذن منا { فإما يأتينكم } أيها المترقبون { مني } لا غيري { هدى } من وحي وإلهام، وهو علامة إذني ودليل رضاي برجوعكم { فمن تبع هداي } ومن رجع إلي به { فلا خوف عليهم } في المراجعة إلى المقام الأصلي { ولا هم يحزنون } [البقرة: 38] بعد رجوعهم إليها بل كما بدأكم تعودون.
Bilinmeyen sayfa
{ والذين } لم يرتبقوا الرجوع، ونسوا ما هم عليه في الجنة ولم يلتفتوا إلى الهدى المؤتى، و { كفروا } به وأنكروا له { وكذبوا } رسلنا الذين أتوا إياهم { بآيتنآ } دلائلنا الدالة على صدقهم من المعجزات الظاهرة، والآثار الباهرة { أولئك } الهابطون الناسون والموطن الأصلي والمقام الحقيقي، المستبدلون عن الجنة بعرض هذا الأدنى، والكافرون بطريق الحق، والمكذبون بمن يهديهم { أصحب النار } التي هي معدن البعد والخذلان، ومنزل الطرد والحرمان { هم } بسبب نسيانهم وتكذيبهم { فيها خلدون } [البقرة: 39] إلى ما شاء الله.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.
ثم لما بين سبحانه وتعالى طريق الهداية والضلال، ونبه على جزاء كل منهما إجمالا، أشار إلى تفصيله وتوضيحه من قصص القرون الماضية والأمم السالفة، ليتيقن المؤمنين منها ومن جملتها قصة ندائه تعالى بني إسرائيل أولاد يعقوب إسرائيل الله، مخاطبا لهم أمر تذكرهم بالنعم التي أنعمها عليهم؛ ليكونوا من الشاكرين لنعمه، الموفين بعهده بقوله:
{ يبني إسرائيل } المتنعمين بالنعم الكثيرة { اذكروا } واشكروا { نعمتي التي أنعمت عليكم } وعلى من استخفلكم من أسلافكم { وأوفوا } بعد اعتدادكم النعم على أنفسكم { بعهدي } الذي عاهدتم معي من متابعة الهدى النازل مني على لسان الأنبياء { أوف بعهدكم } من إرجاعهم إلى المقام الأصلي الذي أنتم فيه قبل هبوطكم إلى طار المحن، وبعد رجوعكم إليه في النشأة الأخرى، لا يبقى لكم خوف من الأغيار، بل رهبة من سطوة سلطنتي { و } عند عروجها { إيي } لا إلى غيري { فارهبون } [البقرة: 40] فارجعون؛ لأوانس معكم وأزيل رهبتكم.
{ و } علامة وفائكم بعهدي هي الإيمان { آمنوا } على وجه الإخلاص والإيقان { بمآ أنزلت } من فضلي على كل واحد من رسلي بالقرآن المنزل على الحضرة الختمية الخاتمية، المؤيد بالدلائل القاطعة والحجج الساطعة والمعجزات الباهرة، والآيات الظاهرة مع كونه { مصدقا لما معكم } من الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين، مشتملا على ما فيها من الأحكام والقصص والمواعظ والحقائق مع لطائف أخر خلت عنها جميعها، وبعد ظهور المنزل به وادعاء من أنزل عليه الرسالة والإهداء { ولا تكونوا أول كافر به } أي: لا تكونوا مبادرين على الكفر بالمهدي وما هدى به، بل كونوا أول من آمن به وصدق بما جاء به من عند ربه، فانتهزوا الفرصة للإيمان ولا تغفلوا عنه { و } بعد نزوله وظهوره { لا تشتروا } ولا تستبدلوا { بآيتي } المنزلة على أنبيائي { ثمنا قليلا } من المزخرفات الفانية { و } إن عسر عليكم ترك هذا الاستبدالا لميل نفوسكم إليه بالطبع { إيي } عند عروض ذلك { فاتقون } [البقرة: 41] لأحفظكم عنه وأسهله عليكم.
{ ولا تلبسوا الحق } الظاهر الثابت { بالبطل } الموهوم الزخرف للضعفاء الذين تمييز لهم { و } لا { تكتموا الحق } أيضا في نفوسكم { وأنتم تعلمون } [البقرة: 42] حقيقته عقلا وسمعا.
[2.43-48]
{ و } بعدما آمنتم بالله وكتبه المنزلة على رسله ذهبتم عما نهيتم { أقيموا الصلوة } أديموا الميل والتقرب إلى جنابه، وتوجهوا نحو بابه بجميع الأعضاء والجوارح، قاصدين فيه تخلية الظاهر والباطن عن الشواغل النفسية، والعوائق البدنية المانعة من الميل الحقيقي { وآتوا الزكوة } المطهرة لنفوسهم عن العلائق الخارجية، والعوارض اللاحقة المثمرة لأنواع الأمراض في الباطن في البخل والحسد والحقد و غير ذلك { و } إن قصدتم التقرب والتوجه على الوجه الأتم الأكمل { اركعوا } تذللوا وتضرعوا إليه سبحانه { مع الركعين } [البقرة: 43] الذين خرجوا عن هوياتهم بالموت الإرادي، ووصلوا إلى ما وصلوا بل اتصلوا، لا مع الذين يراءون الناس، ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، لذلك خاطبهم الحق سبحانه على سبيل التوبيخ، فقال:
{ أتأمرون } أيها المراءون المدعون لليقين والعرفان { الناس } على سبيل النص والتذكير { بالبر } المقرب إلى الله { وتنسون } أنتم { أنفسكم } من امتثال ما قلتم { و } الحال أنكم { أنتم تتلون الكتب } المشتمل على الأوامر والنواهي، فحقكم أن تمتثلوا بها أولا { أ } تلتزمون تذكير الغير، وأنتم في الغفلة { فلا تعقلون } [البقرة: 44] ثبيح صنيعكم هذا.
ولما أمرتم بعد الإيحاء بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة المطهرين لنفوسكم ظاهرا وباطنا، فعليكم الإتيان بالمأمور على الوجه الأتم، ولا يتيسر لكم الإتيان بها على الوجه الذي ذكر بإدامة الاستعانة { و } المظاهرة من الخصلتين؛ لذلك أمر سبحانه باستعانتهما { استعينوا } في التوجيه والتقرب إلى الله { بالصبر } عن المستلذات الجسمانية والمشتهيات المزينة { والصلوة } الميل والإعراض عما سوى الحق ولا تسهلوا أمر الاستعانة ولا تخففوها { وإنها لكبيرة } ثقيلة شاقة على كل واحد { إلا على الخشعين } [البقرة: 45] الخاضعين.
Bilinmeyen sayfa
{ الذين } يرفعون رين الغيرية عن العين، ويسقطون شين الاثنينية عن البين { يظنون أنهم ملقوا ربهم } في هذه النشأة؛ لأنهم يعبدون إليه كأنهم يرونه { و } يعلمون يقينا { أنهم إليه } لا إلى غيره؛ إذ لا وجود للغير { رجعون } [البقرة: 46] عائدون صائرون في النشأة الأخرى، اللهم اجعلنا من متبعيهم ومحبيهم.
ثم لما من عليهم بالنعم التي تظهر آثارها وثمراتها في العالم الروحاني بحسب النشأة الأخرى، من عليهم بالنعم التي ظهرت آثارها عليهم في العالم الجسماني بحسب النشأة الأولى، فناداهم أيضا مبتدئا مذكرا بقوله: { يبني إسرائيل اذكروا } ولا تكفروا { نعمتي التي أنعمت عليكم } وعلى أسلافكم { و } اعلموا { أني } بحولي وقوتي { فضلتكم على العلمين } [البقرة: 47] من أبناء نوعكم بفضائل أغنت شهرتها على إحصائها.
وبعدما ذكرتم النعم وعرفتم المنعم المفضمل، لا تغتروا بفضلي ولطفي بل احذروا من انتقامي وقهري { واتقوا يوما } تحشرون إلي للجزاء، وفي ذلك اليوم { لا تجزي } لا تسقط { نفس } مطيعة كانت أو عاصية { عن نفس } عاصية { شيئا } من جزائها وعذابها { و } أيضا { لا يقبل } فيها { منها } من النفس العاصية { شفعة } من شافع صديق حميم { و } كذا { لا يؤخذ منها عدل } لتمهل مدة { ولا هم ينصرون } [البقرة: 48] فيه بالأعوان والأنصار، بل كل نفس رهينة بما كسبت.
[2.49-53]
وبعدما ما أمرهم بتذكير النعم إجمالا، وحذرهم عن جواء الكفران، أشار إلى مقدار النعم العظام التي خصصوا بها امتنانا عليهم، فقال: { وإذ نجينكم } أي: أذكروا وقت إنجائنا إياكم { من آل فرعون } الذين { يسومونكم سوء العذاب } بعلمونكم ويفضحونكم بسوء العذاب الذي لا عذاب أسوأ منه وهو أنهم { يذبحون أبنآءكم } لئلا يبقى ذكركم في الدنيا؛ إذ بالابن يذكر الأب ويحيا اسمه؛ لأنه سره { و } أشنع من ذلك أنهم { يستحيون نسآءكم } بناتكم ليلحق العار عليكم، بتزويجهم إياهن بلا نكاح ولا عار أشنع من ذلك، لذلك عد موت النبات من المكرمات { وفي ذلكم } أي: واعلموا في المحن المشار إليها { بلاء } اختيار لكم { من ربكم عظيم } [البقرة: 49] ليجزيكم بنعمة أعظم منها، وهو إنجاؤكم منهم واستيلاؤكم عليهم.
وبعدما ابتليناكم باحتمال الشدائد والمتاعب، ومقاساة الأحزان أردنا إنجاءكم من عذابهم وإهلاكهم بالمرة، فأمرناكم بالسير والفرار من العدو ففرتم ليلا، فأصبحتم مصادفين البحر والعدو صادفكم.
{ و } اذكروا { إذ فرقنا بكم } أي: وقت تفريقنا بالفرق الكبيرة { البحر } المتصل في بعضه ليسهل عبوركم منه ونجاتكم منه، وبالجملة: { فأنجينكم } فعبرناكم منه سالمين { وأغرقنا آل فرعون } المقتحمين بالفور خلفكم باجتماع تلك الفرق واتصال البحر على ما هو عليه في نفسه { وأنتم } حينئذ { تنظرون } [البقرة: 50] إلى الافتراق والاجتماع المتعاقبة، فكيف لا تذكرونها وتشكرونها.
{ و } بعد إنجائكم من البحر سالمين، وإغراقهم بالمرة وإيراثنا لكم أرضهم وديارهم وأموالهم اذكروا { إذ وعدنا موسى } المتبحر في ضبط المملكة في أول الاستيلاء بأمر، قلنا له: إن أخلصت التوجه والرجوع والميل إلينا مدة { أربعين ليلة } متوالية متتالية - خصصها لخلوها عن الشواغل المانعة من الإخلاص - أنزلنا عليكم كتابا جامعا لمرتبتي الإيمان والعمل، حاويا على جميع التدابير والحكم الظاهرة والباطنة { ثم } لم اشتغل موسى بإنجاز الوعد، وإيفاء العهد فذهب إلى الميقات { اتخذتم العجل } الذي صوغتم بيدكم من حليكم بتعليم السامري، بسبب الخوار الذي ظهر منه ابتلاء لكم وفتنة إلها من دون الله، بل حصرتم الإلهية له بقولكم: هذا إلهكم وإله موسى، فأخلفتم الوعد { من بعده } أي: من بعد ذهاب موسى إلى الميقات، وقيل رجوعه منه { وأنتم } بسبب خلف الوعد والا تخاذ المذكور { ظلمون } [البقرة: 51] خارجون عن الإيمان والتوحيد، والعياذ بالله من ذلك.
{ ثم } لما تبتم ورجعتم إلينا عن صميم القلب { عفونا عنكم } أي: أزلنا عن ذمتكم جزاء ذلك الظلم الذي ظلمتم { من بعد } إنابتكم ورجوعكم { ذلك } وإنما أزلناه عنكم { لعلكم تشكرون } [البقرة: 52] رجاء أن تشكروا، أو تعظموا نعمة العفو الذي هو من آثار اللطف، والجمال المتفرع على الظلم المعفو عنه الذي هو من آثار القهر والجلال، فتكونوا من الشاكرين الذين يشكرون الله في السراء والضراء والخصب والرخاء.
{ وإذ } بعدما أخلفتم الوعد قبل تمامها، وظلمتم باتخاذ العجل لم نهمل أمر موسى، ولم نخلف الوعد الذي وعدنا معه اذكروا { آتينا موسى } إنجازا لوعدنا { الكتاب } الموعود، الجامع لأسرار الربوبية { والفرقان } الفارق بين الحق والباطل، وبين الضلالة والهداية { لعلكم } تقتدرون له { تهتدون } [البقرة: 53] به إلى طريق التوحيد وتجاهدون فيه إلى أن تخلصوا عن الشواغل المانعة عنا.
Bilinmeyen sayfa
[2.54-57]
{ و } ولما أنجزنا وعد موسى ورجع إلى قومه غضبان أسفا اذكروا { إذ قال موسى لقومه } المؤمنين له والمعاهدين من بعد رجوعه عن الميقات والتورية: { يقوم } الناقضون بعهدي ، والمجاوزون لحدود الله { إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل } إلها مستحقا للعبودية { فتوبوا } عن هذا الاعتقاد والاتخاذ، وارجعوا متذللين { إلى بارئكم } الذي برأكم من المعدم ليبرأكم عن هذا الظلم، وإذا تبتم ورجعتم { فاقتلوا أنفسكم } الأمارة بهذا الظلم، بأنوا الرياضات وترك المشتهيات والمستلذات، وقطع المألوفات وترك المستحسنات الملومين عليها بأنواع الملامات، حتى تكون مطمئنة بما فتنتم بها، راضية بجريان حكم القضاء، مرضية بالفناء بل فانية عن الفناء { ذلكم } المشار إليه من الإنابة والرجوع وإبراء الذمة والإذلال بأنواع الرياضات والفناء المطلق أيضا { خير لكم عند بارئكم } خالقكم الذي خلقكم للتوحيد والعرفان، وإذا تحقق إنابتكم وأخلاصكم فيها { فتاب عليكم } قبل توبتكم ورضي عنكم { إنه هو التواب } الرجاع للعباد إلى التوبة والإنابة { الرحيم } [البقرة: 54] لهم بقبول التوبة وإن عظمت زلتهم.
{ و } اذكروا أيضا { إذ قلتم } لموسى عند دعوتكم إلى الإيمان والهداية: { يموسى } المدعي للرسالة، الداعي إلى الله بمجرد الإخبار { لن نؤمن لك } ولما جئت به من عند ربك { حتى نرى الله } المرسل { جهرة } ظاهرا من غير حجاب كما يرى بعضنا بعضا { فأخذتكم الصعقة } النازلة من عين قهرنا وغضنا لإنكاركم ظهورنا الذي هو أظهر من الشمس، بل الشمس إنما هي لمعة من لمعات ذاتنا { وأنتم } حين ترونها { تنظرون } [البقرة: 55] متحيرين والهين بلا تدبير وتصرف، إلى أن صرتم فانين مقهورين تحت قهرنا.
{ ثم بعثنكم } أحييانكم وأنشأناكم بالتجلي اللطفي { من بعد موتكم } وفنائكم بالقهر والغصب امتنانا لكم { لعلكم تشكرون } [البقرة: 56] نعمة الوجود والحياة بد الموت، وتعتقدون الحشر والموعود به يوم الجزاء وتؤمنون بنه.
{ و } اذكروا أيضا إذ { ظللنا عليكم الغمام } يوم لا ظل إلا ظله، وأنتم تائهنن في التيه في الصيف، بأن سار معكم حيث شئتم، ولا يزول ظله عنكم { و } مع ذلك أنعمناكم فيها بأعظم من ذلك بأن { أنزلنا عليكم } من جانب السماء { المن } التي الترنجبين لسكن حرارتكم { و } أنزلنا لغذائكم { السلوى } وهو السماني، أو مثله في النزول من جانب السماء، وأبحنا لكم تناولهما، ولا تكفروا بها بأن قلنا لكم: { كلوا من طيبات ما رزقناكم } من خصائص النعم واشكروا لها { وما ظلمونا } بمنع المنافع ورد الفوائد { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [البقرة: 57] من الفوائد العائدة لنفوسهم من ازدياد النعم في إدامة شكرنا، والتقرب إلينا في إقامة حدودنا.
[2.58-60]
{ و } واذكروا ظلمكم أيضا { إذ قلنا } بعد خروجكم من التيه إشفاقا لكم وامتنانا عليكم { ادخلوا هذه القرية } التي هي من منازل الأنبيا والأولياء وهي بيت المقدس { فكلوا منها } من مأكولاتها ومشروباتها { حيث شئتم } بلا مزاحم ولا مخاصم { رغدا } واسعا بلا خوف من السقم حتى يتقوى مزاجكم ويزول ضعفكم، وبعد تقويتكم المزاج بالنعم ارجعوا إلينا وتوجهوا نحو بيتنا التي فيها { وادخلوا الباب سجدا } مذللين خاضعين، واضعين جباهكم ووجوهكم على الأرض، وعند سجودكم استغفروا ربكم من خطاياكم { وقولوا } رجاؤنا منك يا مولانا { حطة } أي: حط ما صدر عنا وجرى علينا من المعاصي والآثام، وإذا دخلتم كما أمرتم واستغفرتم كما علمتم { نغفر لكم خطيكم } التي جئتم بها واستغفرتم لها { وسنزيد المحسنين } [البقرة: 58] منكم، الذين لم يتجاوزوا الحد ولم يخالفوا الأمر الراضون الذي لا مرتبة أعلى منه.
ولما أمرناهم بالدخل على هذا الوجه، وعلمناهم طريق الدعاء والاستغفار خالف بعضهم المأمول ظلما وتأويلا { فبدل الذين ظلموا } بالخروج عن أمرنا، قولنا لهم لإصلاح حالهم { قولا } آخر لفظا ومعنى { غير الذي قيل لهم } بأن أرادوا من اقول الملقى إليهم لفظا آخر، ومعنى آخر برأيهم الفاسد وطبعهم الكاسد حطا سمتاتا؛ أي: حنطة حمراء، ولما لم يأتوا بالمأمور به ومع ذلك بدلوا إلى ما تهوى أنفسهم أخذناهم بها { فأنزلنا على الذين ظلموا } تنصيصا عليهم وتخصيصا لهم، لتعلم أن سبب أخذهم ظلمهم { رجزا } طاعونا نازلا { من السمآء بما كانوا يفسقون } [البقرة: 59] يخرجون عن حدود الله المنزلة من السماء بأنواع الفسوق والعصيان.
{ و } اذكروا أيضا { إذ استسقى موسى } وطلب السقي بإنزال المطر { لقومه } حيث بثوا شكواهم عنده من شدة العطش في التيه { فقلنا } له مشيرا إلى ما يترقب من مطلوبه بل يستبعده: { اضرب } ولا تستعبد { بعصاك } التي استعنت بها في الأمور والوقائع { الحجر } الذي بين يديك فتفطن موسى بنور النبوة للأمر الوجوبي ، فضربه دفعة { فانفجرت منه } فجأة { اثنتا عشرة عينا } متمايزة منفردة كل منها عن صاحبتها بعدد رءوس الفرق الاثني عشر بحيث { قد علم كل أناس } من كل فرقة { مشربهم } المعينة لهم دفعا للتزاحم والتنازع، ثم أمرناكم بما ينفعكم ظاهرا وباطنا بأن قلنا لكم: { كلوا واشربوا } مترفهين متنعمين { من رزق الله } الذي رزقكم من محض فضله ولطفه من حيث لا تحتسبون ونهيناكم عما يضركم صورة { و } معنى بأن قلنا لكم: { لا تعثوا } أي: لا تظهروا { في الأرض } خيلاء متكبرين { مفسدين } [البقرة: 60] فيها بأنواع الفسادات منتهزين بها، و
الله لا يحب كل مختال فخور
Bilinmeyen sayfa
[لقمان: 18].
[2.61]
{ و } اذكروا أيضا { إذ قلتم } لموسى في التيه بعد إنزال المن والسلوى وانفجار العيون محولا خاليا عن الإخلاص والمحبة، ناشئا عن محض الفساد والغفلة وكفران النعمة: { يموسى } على طريق سوء الأدب معه { لن نصبر } معك في التيه { على طعام واحد } وهذا غير ملائم لمزاجنا وطباعنا { فادع لنا ربك } الذي ادعيت تربيته لنا { يخرج } يظهر ويهيئ { لنا } غذائنا { مما } من جنس ما { تنبت الأرض } التي هي معظم عنصرنا سواء كان { من بقلها } خضرواتها التي يأكلها الناس للتفكه والتلذذ بحرافتها وحموضتها ومرارتها الملائمة لمزاجه { وقثآئها } التي يتفكه بها لتبريد المزاج { وفومها } حنطتها التي يتقوت بها لشدة ملاءمتها مزاجه، لذلك ما أزل الشيطان أبانا آدم إلا بتناولها { وعدسها } المعد لهضم الغذاء { وبصلها } التي تشتهيها النفوس المنتفرة عن الحلاوة والدسومة.
فلما سمع موسى منهم ما قالوا آيس وقنط من صلاحهم وإصلاحهم { قال } في جوابهم موبخا لهم ومقرعا: { أتستبدلون } أيها الناكبون عن طريق الحق، المائلون إلى الهوى { الذي هو أدنى } المخرج من الأدنى { بالذي هو خير } وأعلى، المنزل من الأعلى، وأنا أستحي من الله سؤال ما سألتم { اهبطوا } انزلوا { مصرا } أرض العمالقة وديار الفراعنة { فإن لكم } فيه { ما سألتم } بالكد والفلاحة { و } بعدما ذلوا نفوسهم بطلب الأشياء الدنية الخسيسة { ضربت عليهم } أعلمت وختمت عليهم { الذلة } لخباثة نفوسهم وقساوة قلوبهم وتمكن النفاق في جبلتهم؛ لذلك ما ترى يهوديا إلا ذليلا في نفسه خبيثا في معاشه { و } ضربت عليهم أيضا { المسكنة } المذمومة المتفرعة على الذلة المتفرعة على الدناءة والخباثة { و } بعما ضربت عليهم الذلة { بآءو } صاروا مقارنين { بغضب } نازل { من الله } المطلع على ضمائرهم وسرائرهم { ذلك } السبب الموجب لنزول الغضب { بأنهم كانوا } لخبث طبيعتهم وشدة نفاقهم وضغينتهم { يكفرون بآيات الله } النازلة عليهم عطاء وامتنان { و } مع ذلك لا يقنعون بكفران النعم بل { يقتلون النبيين } المنبئين لهم عن قبح صنيعهم { بغير الحق } الذي ظهر عندهم من الخبائث الموجبة للقتل بل { ذلك بما عصوا } عصيانا فاحشا { وكانوا } في ذلك العصيان { يعتدون } [البقرة: 61] يتجاوزون حدود الله عنادا واستكبارا.
ولما بالغوا في الإعراض عن الله والتجاوز عن حدوده وكفران نعمه، وصاروا من إفراطهم مظنة ألا يرجى منهم الفلاح والفوز بالنجاح، تقاعد موسى - صلوات الله عليه - عن تبليغهم، وآيس عن اهتدائهم بالمرة.
[2.62-64]
ثم أشار سبحانه إلى أن منهم ومن أمثالهم من ذوي الأديان والملل من يهدي إلى الحق، ويتوجه إلى طريق مستقيم، فقال: { إن الذين آمنوا } بدين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم { والذين هادوا } انقادوا بدين موسى عليه السلام { والنصارى } الذين آمنوا بدين عيسى عليه السلام { والصابئين } الذين تدينوا بدين نوح عليه السلام { من آمن بالله واليوم الآخر } أي: أيقن بوحدانية الله، وأقر بربويته، واعترف بأن لا موجد إلا الله الواحد الأحد، ومع ذلك صدق واعترف بيوم الجزاء { وعمل } عملا { صالحا } موافقا لما أمر، خالصا لوجه الله مخلصا فيه { فلهم أجرهم عند ربهم } الذي يوفقهم على التوحيد والإخلاص { ولا خوف عليهم } من العقاب والعذاب { ولا هم يحزنون } [البقرة: 62] عن سوء المنقلب والمآب.
{ و } اذكروا أيضا { إذ أخذنا ميثاقكم } أي: طلبنا منكم العهد الوثيق بأن تتبعوا موسى وتمتثلوا بأوامر كتابه وتجتنبوا عن نواهيه، فامتنعتم عن متابعته واستثقلتم ما في كتابه، فأنجيناكم إليه بأن أمرنا جبريل عليه السلام بقلع الجبل من مكانه { و } بعد قلعه { رفعنا } بتوفيقنا أياه { فوقكم الطور } معلقا عليكم وقلنا لكم في تلك الحالة: { خذوا مآ ءاتينكم } من الدين والكتاب { بقوة } بجد واجتهاد { واذكروا } جميع { ما فيه } على التفصيل لنفوسكم، وإن لم تأخذوا وتذكروا، سقط عليكم الجبل فنستأصلكم فعهدتم خوفا من سقوطه، وإنما فعلنا ذلك بكم { لعلكم تتقون } [البقرة: 63] لكي تحذوا عن قهرنا وانتقامنا.
{ ثم } لما أمهلناكم زمانا { توليتم } أعرضتم عن العهد { من بعد } ما أزلنا عنكم { ذلك } الخوف وأنتم في جبلتكم ظالمون، مجاوزون عن الحدود والعهود { فلولا فضل الله } المحيط { عليكم } بإرادة إيمانكم وإصلاحكم { ورحمته } الواسعة الشاملة لكم بإرسال الرسل وإنزال الكتب { لكنتم } في أنفسكم { من الخاسرين } [البقرة: 64] الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة،
ألا ذلك هو الخسران المبين
Bilinmeyen sayfa
[الزمر: 15].
[2.65-71]
وكيف لا تكونون من الخاسرين الناقضين للعهود، وأنتم قوم شأنكم هذا { و } الله { لقد علمتم } وخفظتم قصة { منكم في } تجاوزوا عن العهد { الذين اعتدوا } زمن داود عليه السلام واصطياد يوم { السبت } ذلك أنهم سكنوا على شاطئ البحر بقرية، يقال لها: أيلة، وكان معاشهم من صيد البحر فأرسل الله عليهم داود عليه السلام، فدعاهم فآمنوا له، وعهد الله معهم على لسان داود بألا يصطادوا في يوم السبت، بل تعينوها وتخصصوها للتوجه والتعبد، فقبلوا العهد وكانت حيتان البحر بعد العهد يحضرون في يوم السبت على شاطئ البحر ويخرجن خراطيمهن من الماء، ولما مضى عليها زمان احتالوا لصيدها بأن حفروا حياضا وأخاديد على شاطئ البحر وأحدثوا جداول منه إليها، فلما كان يوم السبت يفتحون الجداول ويرسلون الماء في الحياض واجتمعت الحيتان فيها، وفي يوم الأحدا يصطادونها منها، ونقضوا عهد الله بهذه الحيلة، قال الله تعالى: لما أمهلناهم زمانا ظنوا أنهم خادعوا ثم انتقمنا منهم { فقلنا لهم } إذا أفسدتم لوازم الإنسانية؛ أي: العهود والتكاليف أفسدنا أيضا إنسانيتكم { كونوا } صيروا في الساعة { قردة خاسئين } [البقرة: 65] مهانين مبتذلين، فسمخوا عن لوازم الإنسانية من العلم والإرادة والمعرفة والإيمان، ولحقوا بالبهائم بل صاروا أسوأ حالا منها.
{ فجعلناها } أي: قصة مسخهم وشأنهم { نكالا } عبرة { لما بين يديها } من الحاضرين المشاهدين حالهم وقصتهم { وما خلفها } ممن يوجد بعد من المذكرين السامعين قصتهم وتاريخهم { وموعظة } وتذكيرا { للمتقين } [البقرة: 66] الذين يحفظون نفوسهم دائما عن أمثالها.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من المؤمنين من سوء معاملة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام وقبح صنيعهم معه، ومجادلتهم بما جاء به من عند الله جهلا وعنادا ليتنبهوا ويتفطنوا على أن الإيمان بنبي يوجب الانقياد والإطاعة له، وترك المراء والمجدالة معه والمحبة والإخلاص معه، وتفويض الأمور إليه وهو إلى الله؛ ليتم سر الربوبية والعبودية والنبوة والرسالة والتشريع والتكاليف والتوسل والتقرب والوصول، وذلك { إذ قال موسى لقومه } حين حدثت الفتنة العظيمة بينهم وهي: إنه كان فيهم رجل من صناديدهم له أموال وضياع وعقار كثيرة، وله ابن واحد وبنوا أعمام كثيرة، فطمعوا في أمواله فقتلوا ابنه ليرثوه، وطرحوه على الباب، فأصبحوا صائحين فزعين يطالبون القاتل، فأراد الله تفضيحهم وتشهيرهم، فأمر موسى بأن قال لهم: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } فلما سمعوا قوله استبعدوه وتحيروا في أمرهم ومن غاية استبعادهم { قالوا } على طريق المعاتبة: { أ } تعتقد أنت يا موسى الداعي للخلق إلى الحق { تتخذنا هزوا } أي: تأخذنا باستهزاء وسخرية ونحن محل استهزائك مع أنه لا يلي بك وبنا { قال } موسى مستبعدا ومستعيذا: { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } [البقرة: 67] المستهزئين بالناس، بل ما أتبع إلا ما يوحى إلي.
فلما سمعوا استبراءه واستعاذته خافوا من الابتلاء فأوجس كلامهم خيفة في نفسه، لكونهم خائنين، واشتغلوا بتدبير الدفع، وشاوروا وأقر رأيهم على أن نووا في نفوسهم تلك البقرة المخصوصة المعلمة المعلومة عندهم بالشخص، وبعد ذلك سألوه عن تعيينه بأن { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } أكبير أم صغير؟ { قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض } كبير في السن { ولا بكر } صغير فيه بل { عوان } متوسط { بين ذلك } الصغر والكبر استكمل النمو ولا تميل إلى الذبول، وإذا تحققتم { فافعلوا ما تؤمرون } [البقرة: 68].
ثم لما ازداد خوفهم من الفضيحة بنزول الوحي متعاقبة زادوا في الاستفسار عن التعيين مكابرة وعنادا وتسويفا حيث { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها } من الألوان المتعارفة المشهورة حتى نذبحها { قال إنه يقول إنها بقرة صفرآء فاقع } أصيل في الصفرة كأنه وضع اسم الصفرة بإزائها أولا { لونها } كلون ذهب { تسر الناظرين } [البقرة: 69] والسرور عبارة عن الانبساط والانتعاش الحاصل للقلب عند الفراعنة عن جميع الشواغل، وفي تلك الحالة يتعجب عن كل ذرة بل عن نفسه، ويؤدي تعجبه إلى التحير، فإذا تحير غرق في بحر لا ساحل له ولا قعر، أدركنا يا دليل المتحيرين.
ثم لما جزموا الإلجاء وقطعوا النظر عن الخلاص، كابروا وعنادوا أيضا مبالغين فيها حيث { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } أي: ما هويتها وهيئتها الشخصية المعينة، وقل: { إن البقر } المأمور به { تشابه علينا } واستوصفناه منك وصفتها بالصفات المشتركة العامة { وإنآ إن شآء الله } تعيينه وتشخيصه لنا { لمهتدون } [البقرة: 70] بذبحها.
{ قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول } عجف مهزول بسبب أنها { تثير الأرض } تقلبها للزراعة { ولا } ذلول بسبب ذلتها إنها { تسقي الحرث } بالدلو والسقاية بل { مسلمة } من صغرها عن أمثال هذه المذلات { لا شية فيها } لا علامة في أعضائها من ضرب العود والسوط وغيرها، بل تأكل وتمشي هونا بلا مصرف ومراع، ولما بالغوا في الاستفسار إلى أن بلغوا ما نووا في نفوسهم ألزموا وأفحموا و { قالوا الآن جئت بالحق } الثابت الكائن في الواقع وفي نيتنا واعتقادنا.
حكي أن شيخا صالحا من صلحائهم كانت له هذه العجلة المتصفة بهذه الصفات، فذهب بها إلى " أيلة " فأودعها عند الله وقال: اللهم إني استودعتها عندك لولدي حتى يكبر، ثم مات الشيخ وكانت تلك البقرة في حمى الله وحفظه حتى كبر الولد وحدثت تلك الفتنة فيما بينهم، فأمر الله بذبح تلك البقرة على سبيل الإلجاء، فاشتروها بملء مسكها ذهبا { فذبحوها } ملجئين مكرهين { و } لولا إلجاؤها إياهم وإكراهنا لهم { ما كادوا يفعلون } [البقرة: 71] لخوف الفضيحة وغلاء الثمن.
Bilinmeyen sayfa
[2.72-74]
{ و } كيف تفعلونه وأنتم تعلمون أن سبب نزوله تفضيحكم وإظهار ما كتمتم في نفوسكم { إذ قتلتم نفسا } بغير حق { فادارأتم } وتدافعتم { فيها } أي: في شأنها بأن أسقط كل منكم قتلها عن ذمته وسترتم أمرها وهدرتم دمه { والله } المحيط بسرائركم وضمائركم { مخرج } مظهر { ما كنتم تكتمون } [البقرة: 72] في نفوسكم.
{ فقلنا } لكم بعد تدارئكم وتدافعكم وذبحكم البقرة المأمورة { اضربوه } أي: المقتول { ببعضها } أي: ببعض البقرة أي بعض كان، فضربوه فحيي بإذن الله، فأخبر بقاتله، ففضحوا وارتفعت المدارأة { كذلك } أي: مثل إحياء هذه المقتول بلا سبب تقتضيه عقولكم وترتضيه نفوسكم { يحيي الله } القادر على ما يشاء جميع { الموتى } في يوم الحشر والجزاء بلا أسباب ووسائل اقتضتها عقول العقلاء؛ إذ عنده الإبداء عين الإعادة والإعادة عين الإبداء، بل الكل في مشيئته على السواء { ويريكم } ظهوره من { آياته } الدالة على تحقيق وقوعه { لعلكم تعقلون } [البقرة: 73] رجاء أن تتفكروا ووتفطنوا منها إليه وتؤمنوا بجميع المعتقدات الشرعية الدنيوية والأخروية.
وصدقوها على وجه التعبد والانقياد وبلا مراء ومجادلة مع من أوتي بها من الرسل والأنبياء، ولا يتيسر لكم هذه المرتبة إلا بعد ذبحكم بقرة النفس الأمارة المسلطة بالوقة التامة عليكم، المتلونة بالألوان المسرة لنفوسكم وطباعكم، المسلمة الممتنعة من التكاليف الشرعية من الأوامر والنواهي، وضربكم بها على النفس المطمئنة المقهورة المقتولة ظلما لتصير حية بالحياة الأبدية، باقية بالبقاء السرمدي، فتخبركم وتذكركم عن صنائع أمارتكم الظالمة المتجاوزة عن الحدود، خلصنا الله من شرورها.
{ ثم قست } بالقساوة الأصلية { قلوبكم } المتكبرة المتحجرة الصلبة البليدة { من بعد ذلك } الإحياء الملين للقلوب الخائفة الوجلة عن خشية الله، وإذا لم تلن قلوبكم ولم يؤثر فيها { فهي } في الصلابة والقساوة { كالحجارة } التي لا تقبل النقر والأثر أصلا { أو أشد قسوة } أي: بل قلوبكم أشد صلابة من الحجارة، فإن من الحجارة ما يتأثر بالخير وقلوبك لا تتأثر أصلا { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } ويتأثر منها، وقلوبكم لا تتأثر بأنهار المعارف المتشعبة عن بحر الذات الجارية على جداول ألسنة الأنبياء صلوات الله عليهم { وإن منها لما يشقق } يتأثر بالشقوق في نفسها بتخليل بحر الدهور ومن مؤثر خارجي وإذا تشقق { فيخرج منه المآء } ويدخل فيه الماء، وقلوبكم لا تتأثر لا بنفسها ولا بالمؤثر الخارجي { وإن منها لما يهبط } ينزل من أعلى الجبل { من خشية الله } الناشئة عن ظهور الآيات مثل المطر الهاطل والريح العاصف والزلزلة القالعة وغير ذلك من الآيات الظاهرة في الآفاق، لا تتأثر بالآيات الباهرة النازلة عليكم ترغيبا وترهيبا.
هذا تقريع وتوبيخ لهم على أبلغ وجه وآكده، وحث على المؤمنين وتحذير لهم من ربكم أمثالها بأنهم مع قابليتهم على التأثر لا يقبلون الأثر النافع لهم في الدارين، والحجارة مع صلابتها وعدم قابليتها تتأثر فهم أسوأ حالا وأشد قساوة وصلابة منها، ومع ذلك يخادعون الله في الأمر بالستر والإخفاء، ويظنون غفلته { وما الله } المظهر لهم، المحيط بجميع مخايلهم وحيلهم { بغافل عما تعملون } [البقرة: 74] ولو طرفة ولمحة وخطرة.
ثم لما ذكر سبحانه امتنانه على بني إسرائيل وإنعامه إياهم بأنواع النعم، وذكر أيضا ظلمهم وعداونهم وكفرانهم نعمه، أراد أن ينبه على المؤمنين المحمديين المتمنين إيمان اليهود وانقيادهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤاخاتهم مع المؤمنين بأن متمناكم وملتمسكم محال.
[2.75-77]
{ أ } لم تسعموا قصتهم، ولم تعرفوا خيانتهم ودناءتهم وزلتهم المضروبة عليهم وسوء معاملتهم مع نبيهم المبعوث عليهم { فتطمعون } وترجون { أن يؤمنوا لكم } أي: بنبيكم، ويصادقوا ويحاقوا ويتلوا معكم كلام الله مع علمكم بحالهم { و } لم تسعموا أنه { قد كان فريق منهم } من أسلافهم قوم { يسمعون كلام الله } النازل لهم، وفيه وصف نبينا صلى الله عليه وسلم فيضطربون ويستقلون بعثته { ثم } لما قرب عهده صلى الله عليه وسلم وظهر أمره، واستشعروا من أمارته أنه هو النبي الموعود في كتابهم { يحرفونه } أي: الكتاب، حسدا وعنادا ويغيرونه مكابرة { من بعد ما عقلوه } جزموه وحققوه أنه هو { وهم } أيضا { يعلمون } [البقرة: 75] مكابرتهم ومعاندتهم ويجزمونه في نفوسهم بحقيته، ويقولون في خلواتهم: إنا وإن كان النبي الموعود لكن لا نؤمن له؛ لأنه من العرب لا منا.
{ و } منهم من آمن وصدق ظاهرا لمصلحة دنيوية وهو على خباثته الأصلية ودنائته الجبلية، بل أخبث منها بحيث { إذا لقوا الذين آمنوا } وأخلصوا في إيمانهم { قالوا آمنا } برسولكم الذي هو الرسول الموعود في التوراة يقينا، وصدقنا جمع ما جاء به من عند ربه { وإذا خلا بعضهم إلى بعض } أي: المنافقين مع المصرين { قالوا } أي : كل من الفريقين للآخر عند المشاورة وبث الشكوى: أترون أمر هذا الرجل كيف يعلو ويرتقي وما هو إلا النبي المؤيد الموعود في كتابنا؟ أي شيء تعلمون يا معاشر اليهود؟ { أتحدثونهم بما فتح الله عليكم } في كتابكم من وصفه { ليحآجوكم به } ويغلبوا عليكم ويتقربوا { عند ربكم } فالعار كل العار، أم تحرفون الكتاب ولا تسلمونه غيرة وحمية؟ { أفلا تعقلون } [البقرة: 76] تتفكرون وتتأملون أيها المتيدنون بدين الآباء في أمر هذا الرجل؟ هكذا جرى حالتهم دائما بأن قالوا بأمثال هذه الهذيانات إلى أن تتفرقوا.
Bilinmeyen sayfa
قال لهم يا أكمل الرسل: { أولا يعلمون أن الله } المحيط بظواهركم وبواطنكم { يعلم } بالعلم الحضوري { ما يسرون } من الكفر والتكذيب عنادا ومكابرة { وما يعلنون } [البقرة: 77] من القول الغير المطابق للاعتقاد.
[2.78-81]
هذا حال علمائهم وأحبارهم { ومنهم أميون لا يعلمون } لا يعقلون ولا يفهمون { الكتاب } والإنزال والإرسال والدين والإيمان وجميع التكاليف الشرعية؛ لعدم ذكائهم وتفظنهم في الأمور الدينية الاعتقادية، بل ما يأخذونه { إلا أماني } كسائر الأماني الدنيوية؛ تقليدا لرؤسائهم ورهبانهم { وإن هم } ما هم في أنفسهم من الممترين في المعتقدات { إلا } أنهم { يظنون } [البقرة: 78] ظنا بليغا في تمييز علمائهم المحرفين للكتاب، وبسبب هذا الظن لم يؤمنوا نبينا صلى الله عليه وسلم، ولما صار المحرفون ضالين في أنفسهم مضلين لغيرهم، استحقوا أشد العذاب.
{ فويل } حرمان عن لذة الوصول بعدما قرب الحصول أو طرد، وتبعيد عن ذروة الوجوب إلى حضيض الإنكار، أو عود وترجيع لهم في الحرية إلى الرقية الأبدية في النشأة الأخرى { للذين يكتبون الكتاب بأيديهم } بعد تحريفهم بآرائهم السخيفة { ثم يقولون } لسلفتهم وجهلتهم ترويجا للمحرف { هذا } ما نزل { من عند الله } وإنما قالوا ذلك { ليشتروا به } نبسبته إلى { ثمنا قليلا } على وجه التحف والهدايا من الضعفاء الذين يظنونهم عقلاء أمناء في أمور الدين كما يفعل مشايخ زماننا، أنصفهم الله مع من يتردد إليهم من عوام المؤمنين.
ثم لما كانت الويل عبارة عن نهاية مراتب القهر والجلال، وغاية البعد عن مراتب اللطف والجمال كرره مرارا وفصله تحذيرا للخائنين المستوحشين عن طرده وإبعاده فقال : { فويل لهم مما كتبت أيديهم } من المحرفات الباطلة { وويل لهم مما يكسبون } [البقرة: 79] من القبوحات والمعاملات الخبيثة.
ومن جملة هذياناتهم مع ضعفائهم أنهم لما ظهر فيما بينهم واشتهر ما نزل في التوراة: إن الذين اتخذوا العجل ألها يدخلون النار، اضطرب الضعفاء من هذا الكلام، وضاق المحرفون من اضطرابهم أن يميلوا إلى الإسلام.
{ وقالوا } لهم تسكينا وتسلية: لا تخافوا ولا تضطربوا { لن تمسنا النار إلا أياما } قلائل { معدودة } أربعين يوما مقدار زمان عبادة العجل وأقل من ذلك { قل } لهم يا أكمل الرسل توبيخا وتقريعا: أأنتم { أتخذتم } وأخذتم { عند الله عهدا } بألا يمسكم النار إلا أياما معدودة { فلن يخلف الله عهده } إن ثبت، فنحن أيضا من المصدقين المؤمنين { أم تقولون على الله } افتراء { ما لا تعلمون } [البقرة: 80] ثبوته عنده فيجازيكم بما افتريتم.
{ بلى } أي: بلى الأمر الحق المحقق الكلي الثابت عهده وجرى عليه سنته أن { من كسب سيئة } مشغلة مبعدة عن الحق { و } مع ذلك { أحاطت } شملت واحتوت { به خطيئته } خطاياه كلها إلى سيئة مبعدة { فأولئك } البعداء عن طريق الحق { أصحاب النار } نار البعد والخذلان لا ينجون ولا يخرجون منها أصلا بل { هم فيها خالدون } [البقرة: 81] دائمون لها ما شاء الله.
[2.82-85]
{ والذين آمنوا } واعتقدوا بوحدانية الله، وأيقنوا بألا وجود لغير الله { و } مع الإيمان والإيقان { عملوا } بالجوارح { الصالحات } المترتبة على هذا الاعتقاد المستلزمة إياه { أولئك } المقربون الواصلون إلى ما يصلون { أصحاب الجنة } القرب والوصول { هم فيها خالدون } [البقرة: 82] متمكنون ما شاء الله، ولا مرمى وراء الله، ولا مقصد سوى: لا إله إلا الله، لا حول ولا قوة إلا بالله.
Bilinmeyen sayfa
{ و } اذكر يا أكمل الرسل للمؤمنين أيضا قصة { إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل } أي: العهد الوثيق من بني إسرائيل المفرطين في بعض العهود والمواثيق، بأن قلنا لهم: { لا تعبدون } أي: لا تتوجهون ولا تتقربون { إلا الله } الذي أظهركم من العدم ورتبكم ورباكم بأنواع اللطف والكرم، لكي تعرفون { و } لا تفعلون ولا تعاملون { بالوالدين } المربيين لكم باستخلاف الله إياهما إلا { إحسانا } محسنين معهما بخفض جناح الذل وبذل المال وخدمة البدن { و } مع ذلك كذا مع { ذي القربى } المنتمين إليهما بواسطتهما { و } لا يقهرون { اليتامى } الأطفال الذي لا متعهد لهم من الوالدين، بل تحسنون لهم وتتعطفون معهم { و } كذا مع { المساكين } الذين لا يمكنهم الكسب لعدم مساعدة إلا أنهم بالجملة { وقولوا للناس } أي: لجميع الأجانب المستغنين عن جميع الأمداد { حسنا } قولا حسنا هينا لينا مبينا عن المحبة والوداد.
{ و } لما أمرناهم ونهيناهم بما يتعلق بمبدئهم ومعاشهم أمرناهم أيضا بما يتعلق بمعادهم ورجوعهم إلينا، فقلنا لهم { أقيموا } أديموا { الصلاة } التي هي معراجكم الحقيقي إلى ذروة التوحيد { و } العروج إليها لا يتحقق إلا بترك العلائق وطرح الشواغل لذلك { آتوا الزكاة } المطهرة المزيلة عن نفوسكم محبة الغير والسوى، بل محبة نفوسكم الشاغلة عن الوصول إلى شرف اللقاء { ثم } لما اشتغلتم بالأمر والنواهي نقضتم العهود بأن { توليتم } أعرضتم عنها، ونبذتموها وراء ظهوركم { إلا قليلا منكم } وهم الذين ذكرهم الله في قوله:
إن الذين آمنوا والذين هادوا
[البقرة: 62] { وأنتم } قوم { معرضون } [البقرة: 83] شأنكم الإعراض عن الحق مستمرمين عليه.
{ و } كيف لا تكونون معرضين، اذكروا قبح صنيعكم وقت { إذ أخذنا ميثاقكم } بأن { لا تسفكون دمآءكم } أي: لا يسفك بعضكم دم بعض بلا موجب شرعي { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } أي: لا يخرج بعضكم بعضا من دياره تعديا وظلما { ثم أقررتم } طوعا، واعترفتم رغبة بهذا العهد { وأنتم } بأجمعكم { تشهدون } [البقرة: 84] تحضرون، وكلكم متفقون عليه.
{ ثم أنتم هؤلاء } الخبيثون الدنيئون، نقضتم العهد بعد توكيده بأن { تقتلون أنفسكم } بعضكم نفس بعض بغير حق { وتخرجون } أي: يخرج بعضكم { فريقا } بعضا { منكم من ديارهم } المألوفة إجلاء وظلما وأنتم بأجمعكم { تظاهرون } تعينون { عليهم } على المخرجين الظالمين { بالإثم } أي: الخصلة الفاحشة { والعدوان } أي: الظلم المتجاوز عن الحد { و } من جملة عهودكم أيضا: { إن يأتوكم } أي: يأتي بعضكم بعضا { أسارى } موثقين في يد العدو { تفادوهم } تعطوهم فديتهم وتنقذوهم من عدوهم تبرعا، فلا ينقضون هذا العهد مع أنه غير محرم عليك ترك فدائهم وينقضون العهد الوثيق المتعلق بالقتل والإخراج { و } الحال أنه { هو محرم عليكم إخراجهم } وقتلهم.
{ أفتؤمنون ببعض الكتاب } وتوفون بعض العهد الثابت في الكتاب، وهو عهد الفدية { وتكفرون ببعض } وهو عهد عدم القتل والإجلاء مع أنه لا تفاوت بين العهود المنزلة من عند الله { فما جزآء من يفعل ذلك منكم } التفرقة بين عهود الله المنزلة في كتابه عتوا واستكبارا { إلا خزي } ذل يستكره جميع الناس { في الحياة الدنيا ويوم القيامة } القائمة للعدل والجزاء { يردون } هؤلاء الناقضون لعهد الله { إلى أشد العذاب } وهو قعر بحر الإمكان الذي لا نجاة لأحد منه { وما الله } المستوي على عروش الذرات الكائنة في العالم رطبها ويابسها، شهادتها وغيبها { بغافل } مشغول بشيء يشغله { عما تعملون } [البقرة: 85] أنتم بل شأنكم وحالكم وأعمالكم كلها عنده مكشوف معلوم له سبحانه بالعلم الحضوري، بحيث لا يشذ عن حيطة علمه شيء فيها أصلا.
[2.86-88]
ولما ذكر سبحانه قبح معاشهم ومعادهم أراد أن ينبه على المؤمنين بأسباب مقابحهم وإعراضهم ليحذروا منها ويحترزوا عنها فقال مشيرا لهم: { أولئك } البعداء عن منهج الصدق والصواب هم { الذين اشتروا } استبدلوا واختاروا { الحياة الدنيا بالآخرة } الفانية غير القارة، بل اللاشيء المحض بالآخرة التي هي النعيم الدائم واللذة المستمرة والحياة الأزلية السرمدية { فلا يخفف عنهم العذاب } أي: عذاب الإمكان والافتقار لذلك { ولا هم ينصرون } [البقرة: 86] فيما هو متمناهم من الحوائج، بل دائما مفترضون محتاجون، مسودة الوجوه في النشأتين.
واذكر يا أكمل الرسل للمؤمنين أيضا من قبح صنائعهم ليعتبروا: { ولقد آتينا موسى } المبعوث إليهم { الكتاب } أي: التوراة المشتملة على مصالحهم الدنيوية والأخروية فكذبوه، ولم يلتفتوا إلى كتابه { و } بعدما قضى وانقرض موسى { قفينا } أي: عقبناه { من بعده بالرسل } المرسلة إليهم، أولي الدعوات والآيات والمعجزات، فكذبوهم أيضا ولم يلتفتوا بما جاءوا به { و } بعد ذلك بزمان { آتينا } أيضا { عيسى } المبعوث إليهم { ابن مريم البينات } الواضحات المبينات لأمر معاشهم ومعادهم { و } مع ذلك { أيدناه } أي: خصصناه وقويناه { بروح القدس } بالروح المقدس عن رذائل الإمكان، فكذبوه أيضا، فأرادوا قتله ولم يظفروا عليه، ألم تكونوا أنتم أيها الناقضون للعهود والمواثيق { أفكلما جآءكم رسول } من الرسل من عند ربكم لإصلاح حالكم { بما لا تهوى } تحب وترضى { أنفسكم } اشتغلتم بما جاءوا به بل { استكبرتم } عليهم واستحقرتموهم { ففريقا كذبتم } كموسى وعيسى عليهما السلام { وفريقا تقتلون } [البقرة: 87] كزكريا ويحيى - عليهما السلام - والقوم الذين شأنهم هذا كيف يرجى منهم الفلاح والفوز بالنجاح.
Bilinmeyen sayfa
{ و } من غاية عداوتهم معك يا أكمل الرسل ومع من بايعك من المؤمنين أنهم { قالوا } حين دعوتكم إياهم إلى الإيمان والتصديق بالإسلام: لا نفقة حديثكم ولا نفهم كلامكم؛ إذ { قلوبنا } التي هي وعاء الإيمان والإذعان { غلف } مغلوف مغشاة بالأغطية الكثيفة لا يصل إليها دعوتكم وإخباركم قل لهم يا أكمل الرسل: لا غطاء ولا غشاوة إلا عنادكم وحديثكم وحسدكم على ظهور دين الإسلام وبغيكم عليه مع جزمكم بحقيته عقلا ونقلا { بل } قل لهم نيابة عنا: { لعنهم الله } أي: طردهم وبعدهم باسمه المنتقم { بكفرهم } أي: بسبب كفرهم المذكور في جبلتهم، لكونهم مقهروين تحت اسم المضل المذل، وإذا كانوا من مقتضيات اسم المضل { فقليلا ما } نزرا يسيرا منهم { يؤمنون } [البقرة: 88] يهتدون بطريق التوحيد إيفاء لحق الفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها، وهم الذين ذكرهم سبحانه في قوله:
إن الذين آمنوا والذين هادوا
[البقرة: 62] وبالجملة فلا يجرى منهم الإيمان.
[2.89-91]
{ و } أيضا من غاية عداوتهم وعتوهم وعنادهم وحسدهم على ظهرو دين الإسلام { لما جآءهم كتاب } مشتمل على الأحكام والمعتقدات والحقائق والمعارف جزموا أنه نازل { من عند الله } لتوافقه على ما في كتابهم وإعجازه عموم من تحدى معه ومع ذلك { مصدق لما معهم } من الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين { و } الحال أنهم { كانوا من قبل } ظهوره ونزوله { يستفتحون } يستنصرون بهذا النبي ودينه وكتابه { على الذين كفروا } بكتابهم ونبيهم ويقولون: سينصر ديننا بالنبي الموعود والدين الموعود { فلما جآءهم ما عرفوا } في كتابهم ونبيهم انتظروا له قبل مجيئه وافتخروا به على معاصريهم { كفروا به } حين مجيئه عنادا ومكابرة فاستحقوا بهذا الكفر والعناد طرد الله ومقمته وتبعيده عن طريق التوحيد وتخليده إياهم في جنهم الإمكان، نعوذ بالله من غضب الله { فلعنة الله } الهادي للكل إلى سواء السبيل نازلة دائما { على الكافرين } [البقرة: 89] المصرين على العناد، المستكبرين على العباد.
ثم لما ذكر سبحانه ذمائم أخلاقهم وقبائح أفعالهم، أراد أن يذكر كلاما مطلقا على وجه العظة والنصيحة في ضمن تعبيره وتقريعهم، ليتذكر به المؤمنون فقال: { بئسما اشتروا به أنفسهم } بما باعوا واستبدلوا به أنفسهم معارف نفوسهم أو شهدوها أو وصولها { أن يكفروا } أن يكذبوا من غاية خبائثهم وعنادهم { بمآ أنزل الله } على من هو أهل وقابل له؛ ليهدي به من ضل عن طريق الحق مع جزمهم أيضا بحقيته بلا شبهة ظهرت لهم، بل إنما يكفرون { بغيا } وحسدا على { أن ينزل الله } المستجمع المستحصر للقابليات والاستعدادات { من } محض { فضله } ولطفه بلا علة وغرض { على من يشآء من عباده } يختار ويريد من عباده الخلص، وهم الذين ارتفعت هوياتهم وتلاشت ماهياتهم واضمحلت وفنيت تعيناتهم، وصاروا ما صاروا لا إله إلا هو، ولما كفروا بالله وحدسوا لأنبيائه وبخلوا عن خزائن فضله { فبآءو } رجعوا مقاربين { بغضب } عظيم من الله المنتقم عن جريمتهم { على غضب } عظيم إلى ما شاء الله الظهور باسم المنتقم، وقل يا أكمل الرسل للمؤمنين: { وللكافرين } المستهينين بكتاب الله ودينه ونبيه { عذاب مهين } [البقرة: 90] لهم في الدنيا والآخرة، إهانتهم في الدنيا ضرب الذلة والمسكنة والجزية والصغار، وفي الآخرة حرمانهم عن الكمال الإنساني الذي يتوقع منهم، ولا عذاب أشد من ذلك.
ربنا اصرف عنا عذابك وقنا من سخطك.
{ و } من غاية استنكافهم واستكبارهم { إذا قيل لهم } كلاما صادقا يقبله كل العقول { آمنوا بما أنزل الله } في الواقع مطلقا { قالوا } في الجواب حاصرين: بل { نؤمن بمآ أنزل علينا } فقط، ولا تم الإنزال لغيرنا { و } لا يقتصرون عليه بل { يكفرون بما ورآءه و } إن كان { هو الحق } المطابق للواقع في نفسه وهم يعلمون حقيته، وإن كان { مصدقا لما معهم } من الكتاب، والحسد والعناد الراسخين في نفوسهم وطباعهم ومبالغتهم في العناد والإصرار على تكذيب هذا الكتاب مع أن الإيمان بأحد المتصدقين المتوافقين يوجب الإيمان بالآخر، يدل على ألا إيمان لهم بالتوارة أيضا، بل هم كافرون بها لدلالة أفعالهم وأعمالهم على الكفر بها وإن أنكروه { قل } لهم إلزاما يا أكمل الرسل: { فلم تقتلون } أيها المدينون بدين اليهود المؤمنون المصدقون بالتوراة { أنبيآء الله } الحاملين لها العاملين بها { من قبل إن كنتم } صادقين في أنكم { مؤمنين } [البقرة: 91] بها فثبت أنكم لستم مؤمنين بها حينئذ لتخلفكم عن مقتضاه وتكذيبكم من أنزل عليه، وإن أنكروه اذكر له:
[2.92-100]
{ ولقد جآءكم موسى بالبينات } الواضحات المبينات في التوراة المبينات لطريق التوحيد والإيمان، فكذبتم موسى عليه السلام على جميع بيناته بالمرة { ثم اتخذتم العجل } ألها { من بعده } أي من بعد ما ذهب موسى إلى الطور للفوائد الأخر المتعلقة لتكميلكم { وأنتم } قوم { ظالمون } [البقرة: 92] شأنكم العدول عن طريق الحق ومنهج الصواب.
Bilinmeyen sayfa
{ و } إن أردت يا أكمل الرسل زيادة إلزامهم وإسكاتهم، اذكر لهم نيابة عنا وقت { إذ أخذنا } منكم أيها الناقضون لعهودنا والمنكرون لكتابنا { ميثاقكم } الذي واثقكم معنا ثم استثقلتموه وتركتموه { و } ألجأناكم على إيفائه بأن { رفعنا فوقكم الطور } معلقا وقلنا لكم استعلاء وتجبرا { خذوا } وامتثلوا { مآ ءاتينكم } على نبيكم من الأوامر والنواهي { بقوة } جد واجتهاد { واسمعوا } من المعارف والحقائق بسمع الرضا ونية الكشف { قالوا } ظاهرا: { سمعنا } ما أمرتنا به { و } قالوا خفية: { عصينا } عن الامتثال بها { و } سبب عصيانهم أنهم لدناءتهم وسخافة طبعهم { أشربوا } تداخلوا وتجبلوا وتطيبوا { في قلوبهم } التي هي محل الإيمان والتوحيد منازل العرفان واليقين { العجل } أي: محبة العجل المسترذل والمستقبح المستحدث من حليهم ما هي إلا { بكفرهم } بالله وبكتبه ورسله وحصرهم ظهرو الحق في مظهر مخصوص، ومع ذلك يدعون الإيمان بموسى { قل } لهم يا أكمل الرسل تقريعا لهم على وجه التعريض: { بئسما يأمركم به إيمانكم } من إنكار كتب الله وتكذيب رسلهم وقتلهم بغير حق واعتقادهم الشريك لله { إن كنتم } صادقين في كونكم { مؤمنين } [البقرة: 93].
ثم لما اشتهر بين الناس قولهم: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وامتنع كثير من الناس القاصدين دين الإسلام وتغمم ضعفاء المسلمين أيضا من هذا الكلام، أشار سبحانه إلى دفعه مخاطبا لرسوله معكم: { قل } لهم نيابة عنا يا أكمل الرسل: { إن كانت } محصورة مسلمة { لكم الدار الآخرة عند الله } التي هي منازل الشهداء والسعداء ومقام العرفاء والأمناء { خالصة } خاصة مخصوصة { من دون } شركة { الناس } المنسوبين إلى الأديان الأخر { فتمنوا } عن صميم القلب ومحض الرغبة { الموت } المقرب لكم إليها والموصل إلى لذائذها، كما ينتمناه خلص المؤمنين بوحدانية الله في أكثر أوقاتهم.
قال المرتضى كرم الله وجهه: " لابن أبي طالب أشوق إلى الموت من الطفل بثدي أمه " ، وقال أيضا: " لا أبالي سقطت على الموت أو سقط الموت علي " ، وقال أيضا:
أبربنا من كل خير وأرأف
جزى الله الموت عنا خيرا فإنه
ويداني إلى الدار التي هي أشرف
يعجل تخليص النفوس من الأذى
وقال عمار رضي الله عنه حين استشهد: " الآن ألقى الأحبة محمدا وصحبه " وأنتم أيضا تمنون الموت المقرب { إن كنتم صادقين } [البقرة: 94] في دعواكم.
{ و } الله { لن يتمنوه أبدا بما قدمت } كسبت { أيديهم } أنفسهم من الحرص وطول الأمل والاستلذاذ باللذات الحسية والوهمية من الجاه والمنزل والمكانة بين الناس، والاستكبار عليهم، ألا تراهم يتوجهون ويرجعون إلى الله عند نزول البلاء المشعر بتعجيل الموت المقرب استكشافا، وإذا كشف ولو على ما هم عليه مدبرين؟! { والله } المحيط بسرائرهم وضمائرهم { عليم بالظالمين } [البقرة: 95] القائلين بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
{ و } الله يا أكمل الرسل، إن فتشت عن أحوالهم واستكشفت عن ضمائرهم { لتجدنهم } أي: اليهود وجدانا صادقا { أحرص الناس على حياة } دائمة مستمرة من نوع الإنسان عموما وخصوصا { ومن الذين أشركوا } واعتقدوا ألا حياة إلا في دار الدنيا، بل { يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } ليزيد عليه ألفا آخر، وهكذا { و } الحال أنه بهذه المحبة { ما هو بمزحزحه } بمبعد نفسه { من العذاب أن يعمر } إلى غاية ما يتمناه ويحب، بل ما زاد إلا عذابا فوق العذاب { والله } المجازي لهم أعمالهم { بصير بما يعملون } [البقرة: 96] أي: بجميع أعمالهم في جميع أعمارهم بحيث لا يعزب عن علمه شيء منها.
Bilinmeyen sayfa