بدأ الفجر يرسل أشعته الأولى إلى جوانب الميدان، وكانت فرقة الحرس نائمة في سفح تل مرتفع يحميها ويحمي مواقعها؛ وكانت قد مرت على الجنود ثلاثة أيام لم يذوقوا طعاما، ولم يتبلغوا بشيء، حتى ساءت حالهم، وشحبت ألوانهم، وخارت قواهم، فاستيقظ أحدهم وهو يتضور جوعا، ويقول: آه! ما أشد ألمي! فاستيقظ بعض رفاقه على صوت أنينه وظلوا يتضورون مثله، فشعر قائدهم بحركتهم، وكان واقفا على قمة التل ليله كله يتولى حراسة الموقع بنفسه، فانحدر إليهم وقلب نظره في وجوههم، ثم قال لهم: ناموا يا أولادي فالنهار لا يزال بعيدا! فقال له أحدهم: وكيف لنا بالنوم، وقد أقلق الجوع مضاجعنا، وحال بيننا وبين الغمض؟ فنكس رأسه وصمت، وقد أضمر بين جنبيه لوعة لا يعلم إلا الله مكانها من أعماق نفسه.
وإنهم لكذلك إذ سمعوا من ناحية العدو بضع طلقات نارية، فثاروا جميعا وابتدروا سيوفهم فجردوها من أغمادها، فصاح فيهم «لبريه»: هدئوا روعكم يا إخواني والبثوا في أماكنكم، فإن سيرانو قد عاد من رحلته التي اعتاد أن يرحلها سحر كل ليلة، وأظن أن الأعداء قد لمحوا شبحه من بعيد فأطلقوا عليه بعض المقذوفات، وأرجو ألا يكون قد أصابه منها شيء! فسكن جأشهم وعادوا إلى مضاجعهم، وما هي إلا هنيهة حتى ظهر سيرانو على قمة التل، فهرع إليه صديقه لبريه متلهفا وقال له: هل جرحت؟ قال: لا؛ لأنهم يخطئونني دائما! قال: ولكني أخاف عليك إن أخطئوك اليوم أن يصيبوك غدا. قال: وماذا أصنع، وقد وعدتها عنه أن يكتب إليها كثيرا، ولا بد لي من الوفاء بعهدي! قال: إنك لم تخبرني حتى الآن عن الطريقة التي اتخذتها للتنكر والتواري عن عيون الأعداء وأرصادهم قال: لقد اهتديت من زمن إلى مسلك خفي وراء هذا الجبل، لا تناله أنظارهم، ولا تمتد إليه خواطرهم، فأنا أسلكه برفق وحذر حتى أصل إلى الموضع الذي أجد فيه من يتولى توصيل الكتاب إلى روكسان. قال: إذن يمكنك أن تأتينا كل ليلة بشيء من القوت نسد به جوعتنا. قال: ليتني أستطيع ذلك، بل ليتني أستطيع أن أقوت نفسي، إننا جئنا هنا لنحاصر الأعداء في أراس، فأصبحنا محصورين خارجها، وقد أحاط بنا جيش العدو من كل جانب، وأخذ علينا شعاب الأرض، فلا سبيل لنا إلى أي شيء حتى إلى القوت! وأطرق برأسه هنيهة ثم قال: ولقد وقفت الليلة أثناء عودتي على حركة في جيش العدو هائلة جدا، ويخيل إلي أن الغد يحمل في طياته أعظم حادثة مرت بنا في هذا الميدان، فإما نجا الجيش الفرنسي من مخالب الجوع، أو هلك من أوله إلى آخره!
فاصفر وجه لبريه وقال له: قل لي ماذا رأيت؟ قال: لا أستطيع؛ لأني لست على يقين، فدعني وشأني وأستودعك الله. قال: إلي أين؟ قال: إلى خيمتي لأكتب إلى روكسان رسالة الغد، وربما كانت الرسالة الأخيرة!
ثم مشى إلى خيمته ولبريه يتبعه بنظراته الحزينة الدامعة ويقول: وا رحمتاه لك أيها البائس المسكين!
الوطن
نشرت الشمس رايتها البيضاء في آفاق السماء، فاستيقظ الجنود من نومهم يتألمون من الجوع ويترنحون ضعفا وإعياء، فتقدم نحوهم قائدهم، وحاول أن يعزيهم ويهون عليهم آلامهم، وهو إلى التعزية والتهوين أحوج منهم، فلم يأبهوا له، وأخذوا يرمونه بنظرات السخط والغضب، فأمرهم أن يتقلدوا أسلحتهم ويأخذوا أهبتهم، فأعرضوا عنه ولم يحفلوا له، ومشى بعضهم إلى بعض يتهامسون ويتغامزون، ومرت بأفواههم كلمة «الثورة»، وهي الكلمة الهائلة التي تأتي دائما في ترتيب قاموس الحياة بعد كلمة الجوع!
فانتفض القائد واستطير رعبا وفزعا، وهرع إلى خيمة سيرانو فهتف به، فلباه. فقال له: أدرك الجنود يا سيرانو، فقد نال منهم اليأس أو كاد، حتى نطقوا بكلمة الثورة المخيفة! فخرج إليهم سيرانو، وأخذ يخطو بينهم خطوات هادئة مطمئنة، ويسارقهم من حين إلى حين نظرات العتب والتأنيب، حتى سكنوا وهدءوا، وغضوا أبصارهم حياء منه وخجلا، ثم أخذ يمازحهم ويداعبهم ويفتن في مفاكهتهم ومطايبتهم، حتى سرى عنهم بعض ما بهم ، فقال له أحدهم: أما في هموم الحياة وآلامها ما يشغلك عن الفكاهة يا سيرانو؟ قال: لا، ولو أن لامرئ أن يختار لنفسه الميتة التي يريدها لاخترت لنفسي أن أموت في ليلة صافية الأديم متلألئة النجوم تحت قبة السماء، بأجمل سلاح وهو السيف، وفي أجمل بقعة وهي الميدان، وأن يكون آخر ما أنطق به ملحة لطيفة يتحرك بها فمي في الساعة التي يلمس فيها ذباب السيف قلبي.
ثم هتف: يا «برتراندو»، فلباه جندي شيخ قد أوفى على الستين من عمره. فقال له: أخرج نايك من كيسك، وغن لهؤلاء الأطفال الشرهين تلك الأغنية الجاسكونية، التي تذكرهم ببلادهم ومعاهد طفولتهم ومغاني صباهم، فأخذ الرجل يغنيها ويجيد في توقيعها، وسيرانو يغني معه، فأطرق الجنود برءوسهم وقد تمثلت لهم بلادهم كأنها حاضرة بين أيديهم، يرون جبالها ووديانها وغاباتها وأحراشها، ويرون الرعاة السمر بقلانسهم الحمراء يسوقون أمامهم قطعان البقر والأغنام، والفتيات الجميلات في أثوابهن القصيرة حاملات جرارهن على رءوسهن وهن ذاهبات إلى الغدران أو صادرات عنها، فأخذت مدامعهم تتحدر على خدودهم، فيمسحونها بأطراف أرديتهم في صمت وسكون.
فقال القائد لسيرانو: إنك تهيج أشجانهم وتستثير آلامهم بهذه الذكرى. قال: فليبكوا وليتألموا، علهم يتلهون قليلا عن آلام الجوع التي يكابدونها، وليت جميع آلامهم تنتقل من أمعائهم إلى قلوبهم فيستريحوا! قال: إني أخاف على حميتهم أن تفتر وتتضعضع، قال: لا يخفك ذلك يا سيدي، فإن بكاءهم على وطنهم الصغير لا ينسيهم واجبهم لوطنهم الكبير، وإن أردت أن تكون على بينة من ذلك فانظر ماذا أصنع، ثم أشار إشارة خفية إلى حامل الطبل أن يدق طبله دقة الهجوم، ففعل، فانتفض الجنود من أماكنهم وثاروا إلى أسلحتهم يتقلدونها. فقال للقائد: انظر يا سيدي إلى هؤلاء الأطفال الباكين كيف استحالوا في لحظة واحدة إلى ليوث كواسر، عندما سمعوا نداء وطنهم! ثم التفت إليهم فهدأ روعهم وقال: لا عدمتكم فرنسا يا أبناء جاسكونيا!
وإنهم لكذلك إذ هتف الحارس القائم على رأس التل باسم الكونت دي جيش رئيس أركان الحرب، فما سمع الجنود اسمه حتى وجموا وامتعضوا، وانتشر على وجوههم الألم والانقباض، وأخذ بعضهم يقول لبعض: ما أثقل ظله! ما أسمج وجهه! إنه فاسد الذوق، يلبس الشفوف الرقيقة فوق الدرع، ويلبس الحذاء اللامع في ميدان الحرب؛ ما أكثر تملقه! إنه لم ينجح في حياته إلا من طريق المداهنة، حسبه أنه صهر ذلك الرجل الذي يأكل في اليوم أربع أكلات في الوقت الذي لا نكاد نظفر فيه بأكلة واحدة في الأربعة أيام! فانتهرهم قائدهم «كاربون دي كاستل»، وقد سمع حديثهم، وقال لهم: ولكن لا تنسوا أنه جاسكوني مثلكم، فقال له أحدهم: نعم، ولكنه جاسكوني عاقل، وما خلق الجاسكوني إلا ليكون مجنونا! فقال سيرانو: نصيحتي إليكم يا إخواني أن تتجلدوا أمامه، وتكتموا في أعماق نفوسكم همومكم وآلامكم، ولا تسمحوا له بالشماتة بكم، أما أنا فسأجلس هناك قليلا على هذه الصخرة لأقرأ شيئا في كتاب «دي كارت»، حتى ينصرف ذلك الرجل لشأنه، فأسرعوا بمسح آثار الدموع من خدودهم، واستداروا حلقات صغيرة، وأخذوا يلعبون الورق، ويتضاحكون كأنهم لا يشكون هما ولا ألما، فدخل الكونت دي جيش متجهم الوجه مكفهر الجبين، وكان قد سمع آخر حديثهم، وقرأ على وجوههم ما يضمرون له من البغضاء بين جوانحهم، فصاح فيهم: لقد سمعت بأذني بعض ما تقولون أيها الأشقياء، فعلمت أنكم لا تتركون فرصة تمر بكم دون أن تتناولوني بألسنتكم، وتنالوا مني، فتسموني تارة متملقا، وأخرى منافقا، وتعيبوا علي حسن هندامي ونظافة ملبسي، كأنما ترون أن الجاسكوني لا يكون صحيح النسب إلا إذا تصعلك وتشعث، وأصبح من البائسين المفلوكين.
Bilinmeyen sayfa