وكان يتكلم والجنود مقبلون على ألعابهم يتشاغلون بها كأنهم لا يسمعون ما يقول. فقال لهم وهو يشير إلى قائدهم: ولقد كنت أريد أن آمر قائدكم بمعاقبتكم، ولكنني ...
فقاطعه القائد وقال له: لو أنك فعلت ذلك يا سيدي لما أذعنت لأمرك!
فاصفر وجه الكونت وقال: ولماذا؟ قال: لأنني دفعت للقيادة العامة ضريبة الرئاسة، وهي تجعلني صاحب السلطان المطلق على فرقتي، لا ينازعني فيها منازع ولا أخضع في أمرها لإرادة غير إرادتي، وبعد، فليس من الرأي أن يحاسب القائد جنوده على الحب والبغض والرضا والسخط، أو أن يطلب إليهم شيئا سوى الطاعة والإذعان لأوامره ونواهيه!
فوجم الكونت ولم يستطع أن يقول شيئا، ولكنه التفت إلى الجنود وقال لهم: إني أحتقركم جميعا أيها السفهاء الثرثارون، وأحتقر مطاعنكم ومغامزكم؛ لأنني أعرف مكانة نفسي، كما أن الناس جميعا يعرفونها، وأعلم أنني جندي شريف مقدام لا أبالي بالمخاطر التي تعترضني في طريقي، وقد رأيتم جميعا موقفي العظيم في «بابوم» الليلة الماضية، وهجومي بنفسي ثلاث مرات على رجال الكونت «دي بكوا»، حتى ألجأتهم إلى الهزيمة التي تعرفونها.
وكان سيرانو لا يزال مكبا على كتابه يقرأ فيه؛ فقال له وهو مطرق برأسه لا يرفعه: وما رأيك في وشاحك الأبيض يا سيدي؟ فدهش الكونت واصفر وجهه وقال له: ومن أين لك علم ذلك؟ نعم، وقع لي ليلة أمس أنني بينما كنت أجول في أنحاء الميدان لأجمع رجالي استعدادا للهجوم الثالث، إذ لمحت فصيلة صغيرة من فصائل جيش العدو تتقهقر على مقربة مني، فطمعت فيها واندفعت وراءها اندفاع اليائس المستقتل لا ألوي على شيء مما ورائي، فما هو إلا أن أدركتها وأعملت سيفي في ساقتها، حتى رأيتني بعد قليل وسط خطوط جيش العدو الأكبر، وإذا الخطر محدق بي من كل جانب فخفت الأسر، لا من أجل نفسي بل من أجل الجيش الذي أقوده وأدير حركاته، وكان الظلام حالكا جدا فلا ينم علي شيء سوى ردائي الأبيض، فأسرعت بإلقائه إلى الأرض لأستطيع أن أتوارى عن عيون الأعداء، فيخفى عليهم مكاني، ثم انسللت من بينهم، وغادرت صفوفهم آمنا مطمئنا، وما هو إلا أن بلغت مأمني حتى جمعت رجالي وكررت عليهم كرة هائلة، فكانت الواقعة الثالثة التي أحرزنا فيها ذلك النصر العظيم، فماذا تقولون في هذه الحيلة الغريبة؟ وكان الجنود لا يزالون مكبين على ألعابهم لا يرفعون إليه أنظارهم، يستمعون القصة وكأنهم لا يسمعونها، حتى انتهى منها، فأمسكوا عن اللعب وشخصوا بأبصارهم إلى سيرانو ليروا ماذا يقول. فقال له: إن هنري الرابع يا سيدي ما كان يرضى لنفسه - مهما كان الخطر المحدق به عظيما - أن يتنازل عن ريشته البيضاء لأعدائه! فتهلل الجنود فرحا وانبسطت أساريرهم وعادوا إلى جلبتهم وضوضائهم. فقال له الكونت: ذلك لا يعنيني، إنما الذي يعنيني أنني قد حقنت دمي، واستبقيت حياتي لوطني، وسلبت العدو يوما كان يريد أن يعده من أيام مجده وفخاره. قال: أما الفكرة فبديعة جدا لا أرتاب فيها، ولكن الذي أعلمه أن الجندي ما خلق إلا ليموت، فمن العار أن يخسر هذا الشرف بأي ثمن كان، وأقسم لك يا سيدي أنني لو كنت حاضرا معك في تلك الساعة ما هان علي أن أرى وشاحك العظيم في يد أعدائك دون أن أقاتل عنه حتى أفتديه ولو بحياتي. قال: قسم ضائع لا قيمة له؛ لأنك لم تكن معي! قال: بل كنت معك يا سيدي، وقاتلت عن وشاحك حتى استنقذته من يد أعدائك، وها هو ذا.
ومد يده إلى جيبه فاستخرج منه الوشاح وألقى به بين يديه، فاربد وجه الكونت وانتفض غيظا، وألقى على سيرانو وعلى الجنود نظرة شزراء ملتهبة، وقال لهم: أتدرون ماذا أصنع الآن بهذا الوشاح؟ قالوا: لا. قال: سألوح به في الجو تلويحا لا يسركم ولا يهنؤكم، وصعد إلى التل ولوح به ثلاث مرات في الهواء، والجنود يعجبون لأمره ولا يدرون ماذا يريد، ثم نزل وهو يقول: أما وقد انقضى كل شيء، فسأفضي إليكم بسر من أسرار الحرب ما زلت أكتمه في صدري حتى حان وقته، فاستمعوه: لقد اتفقت منذ أيام مع جاسوس من جواسيس العدو على أن يكون عونا لي على قومه فيما أريد، وأن يكون مخلصا لي مؤتمرا بأمري ... فقاطعه سيرانو وقال له: ولكنك تصطنع رجلا خائنا يا مولاي. قال: ومن أصطنع إن لم أصطنع الخائنين؟ فهو يدلني على مقاتل قومه وعوراتهم ومكامن أسرارهم، من حيث لا يدلهم على شيء إلا على ما أريد أن يدلهم عليه، أي إنه يخدعهم ويضللهم من حيث يظنون أنه ينصحهم ويصدقهم، وقد جمع قائدنا العام مجلسه الحربي صباح أمس، ونظر في كارثة الجوع التي نزلت بنا، فاستقر الرأي على أن يسافر هو بنفسه خلسة على رأس فرقتين من فرق الجيش إلى «أورلنس»؛ ليجلب منها المئونة والذخيرة، فسافر من حيث لا يشعر العدو بمكانه، وترك بقية الجيش هدفا للهجوم العام. فقال له كاربون: أخاف أن يعلم العدو بذلك فيكون الخطب عظيما، قال: قد علم فعلا وهو يتأهب منذ الأمس لمهاجمتنا! فهمس سيرانو في أذن لبريه: ذلك ما حدثتك عنه صباح اليوم، واستمر الكونت يقول: وقد بعثوا جاسوسهم هذا ليتفقد لهم خطوط جيشنا، ويدلهم على أضعف نقطة فيها ليهاجموها، فاتفقت معه على أن يدلهم على النقطة التي أريدها وأعطيه الإشارة منها، مضمرا في نفسي أن أغريهم بالهجوم على أقوى فرقة في الجيش؛ لتستطيع مشاغلتهم ومطاولتهم زمنا طويلا حتى يتمكن قائدنا من العودة بجيشه إلى مركزه آمنا سالما، ولما كانت فرقتكم هي أقوى فرق الجيش وأمضاها عزما، وأصلبها عودا، فقد رأيت أن أجعلها هدف ذلك الهجوم، وإن كنت أعلم أنها ستموت عن آخرها، وقد كنت أمرت ذلك الجاسوس أن يقف وراء هذا التل؛ لينتظر إشارتي فيذهب بها، وهأنتم أولاء ترون أنني قد أعطيته إياها بخفقة ذلك الوشاح، فاستعدوا للموت، فقد انقضى كل شيء.
فقال له سيرانو: أهذا كل انتقامك يا سيدي؟ إنك قد أحسنت إلينا من حيث أردت إساءتنا، فالجاسكوني لا يخاف الموت، بل يخاف الحياة مع الذل والعار! قال: ما شككت في شجاعتك قط يا سيرانو، فإن من يقاتل مائة رجل وحده فيغلبهم لا يبالي بخطر مهما عظم شأنه! ثم التفت إلى الجنود وقال لهم: لا أكتمكم أنني كنت أستطيع أن أختار لاستقبال هذه النازلة فرقة أقل شجاعة من فرقتكم، لو أنني أحببتكم ورضيت عنكم وحمدت عشرتكم وسيرتكم، أما الآن فقد استطعت بعمل واحد أن أؤدي واجبي وأشفي غليلي! فقال له سيرانو: وشيء آخر يا سيدي. قال: وما هو؟ فمشى نحوه خطوة وأسر في أذنه: أن تترمل روكسان!
فارتعد الكونت ونكس رأسه وتسلل من مكانه دون أن يقول شيئا.
فالتفت سيرانو إلى الجنود وقال لهم: لقد آن أيها الأصدقاء أن نضع على شعار جاسكونيا ذي الألوان الستة، لونا دمويا أحمر كان ينقصه ليكون أجمل شعار في العالم، فكونوا عند ظني وظن فرنسا بكم، واعلموا أنه ما من ميتة في العالم أفخر ولا أمجد من هذه الميتة التي ستموتونها اليوم! فهتفوا جميعا بحياة جاسكونيا وحياة فرنسا، وابتدروا أسلحتهم يشحذونها ويصقلونها.
الدمعة
Bilinmeyen sayfa