وخامسها:
أن أدهن نفسي بنخاع الثور، فإذا دنا كوكب «فيبيه» أي القمر، من الأرض - وهو كما تعلم مولع بامتصاص هذا الدهن - امتصني معه.
وسادسها:
أن أركب لوحا من الحديد وأمسك بيدي قطعة من المغناطيس وأقذفها في الهواء، والمغناطيس كما تعلم يجذب الحديد، فإذا سقطت تلقفتها وقذفتها مرة أخرى، وهكذا حتى أصل إلى غايتي!
فأعجب الكونت بذكائه وفطنته، وقال له: حسبك ذلك، وائذن لي بالذهاب، وتأهب للقيام، فانزعج سيرانو وتشبث بردائه، وقال له: ولكن فاتك يا سيدي أن تسألني عن الطريقة التي اخترتها من بين تلك الطرق، واعتمدت عليها في هذه الرحلة القمرية؟ قال: قل لي وأسرع، قال: لم أختر واحدة منها، بل اخترت طريقة سابعة هي أغرب الجميع وأعجبها! قال: قل ما هي وعجل؟ قال: أراهن أنك لا تعرفها، ولو فكرت فيها ثلاثة أيام! فضاق صدر الكونت وقال: أعترف لك أني عاجز عن معرفتها، فقل لي ما هي فقد ضقت بك ذرعا، وثار من مكانه غاضبا، فوثب سيرانو واعترض سبيله وقال له: ها هي ذي فاستمعها، ثم مد ذراعيه إلى الأمام وظل يلوح بهما في الهواء كما يفعل السابح على سطح الماء ويقول: هو، هو، هو! فدهش الكونت وقال: ما هذا؟ قال: الموج المتلاطم. قال: لا أفهم ما تريده. قال: المد والجزر. قال: لا أفهم شيئا، فقل ماذا تريد؟ قال: بما أني أعلم أن القمر هو السبب في حركة المد والجزر، فقد نمت على ضفة النهر ساعة المد حتى غمرني الماء، وظللت منتظرا ساعة الجزر، وما هي إلا لحظات حتى دنا القمر من اللجة فجذبها وجذبني معها، ولم أزل صاعدا أخترق حجب السماء حجابا حجابا حتى، ومد صوته بها طويلا. فقال له الكونت بضجر شديد: حتى ماذا؟ وكان سيرانو قد سمع جلبة القوم وهم مقبلون من داخل المنزل، فعلم أن الأمر قد انتهى. فقال له: حتى تمت حفلة القران!
وألقى عنه رداءه ورفع قبعته عن رأسه، فظهر وجهه وفي مقدمته ذلك الأنف الضخم العظيم، فانتفض الكونت، وقال: سيرانو! ثم التفت وراءه فرأى العروسين مقبلين في ملابس عرسهما، وأمامهما الشموع، ووراءهما القسيس والخدم، ففهم كل شيء، وصاح: ماذا أرى؟ يخيل إلي أني جننت! وأخذ يدور بعينيه ههنا وههنا كالذاهل المخبول، ثم مشى نحو روكسان فانحنى بين يديها وقال له: لله درك يا سيدتي! إنك من أمهر الماكرات! ثم التفت إلى سيرانو وقال له: أقدم إليك تهنئتني أيها المخترع العظيم على تفوقك ونبوغك، وسيكون مؤلفك الجليل أعظم مؤلف نافع للمجتمع، ولا تنس أن ترصع دفتيه بتلك الشهب الذهبية التي اصطدتها في معطفك من غابات السماء! قال: سأفعل إن شاء الله يا سيدي، وسأقدم الكتاب إليك تذكارا لهذه المهزلة البديعة!
فأعرض عنه والتفت إلى القسيس، وقال له متهكما: لقد أديت الرسالة أيها الشيخ أحسن تأدية فلك الشكر على ذلك! فلم يفهم القسيس غرضه وقال له: لعلك راض عني يا مولاي! قال: نعم كل الرضا! ثم أخذ يخطو في تلك الساحة خطوات واسعة سريعة، ثم وقف ورفع رأسه بعظمة وخيلاء، وقد لبس وجهه تلك السحنة العسكرية القاسية، ونظر إلى روكسان نظرة جامدة مخيفة، وقال لها بصوت قاس شديد: ودعي زوجك يا سيدتي! فذعرت واصفر لونها، وقالت: لماذا؟ قال: لأن فرقة الحرس ستسافر الآن مع بقية فرق الجيش! وأخرج من ثنايا قميصه ذلك الكتاب الذي كان قد فصله عن بقية الكتب منذ ساعة، ونادى كرستيان بصوت هائل رنان، فلباه ووقف بين يديه. فقال له: خذ هذا الكتاب وسلمه بنفسك إلى قائد فرقتك! فقالت روكسان: ولكنك كنت وعدتني أن تتخلف هذه الفرقة! فقاطعها وقال لها: قد غيرت رأيي عندما علمت أنك إنما كنت تكيدين لي لا لابن عمك سيرانو، فصمتت وقد نال من نفسها منالا شديدا، وملأ قلبها حزنا وشجنا أنها لم تكد تلمس بفمها شفة الكأس حتى انتزعت من يدها، ثم ترامت بين ذراعي زوجها، وظلت تقبله وتبكي بكاء مرا، فضمها إلى صدره وظل يبكي لبكائها، فصاح الكونت: حسبكما ذلك فأمامكما ليلة الزفاف، ولعلها قريبة جدا! ثم تركهما وانصرف ليصدر بعض أوامره إلى الجيش، وهو يرمي سيرانو بنظرات هائلة لو رمى بها أحدا غيره لصعق لها، على أن سيرانو كان في شاغل عنه بما كان يعالجه في أعماق نفسه من الألم الممض عند رؤية تلك القبلات الجميلة المتبادلة بين هذين العاشقين الجميلين، وظل يقول في نفسه: يا له من سعيد! ويا لي من شقي! كلانا يحبها، وكلانا يموت وجدا بها؛ ولكنه استطاع - لأنه جميل - أن يلثمها ويقبلها؛ ولم أستطع - لأني دميم - أن أنال منها شيئا في حياتي أكثر من أن أقبل طرف الغصن الذي كانت واضعة يدها على طرفه الآخر من حيث لا تدري، وها هو ذا الآن يضمها إلى صدره ضمة الوداع، ويتزود منها الزاد الذي يعينه على سفره الطويل وشقته البعيدة، أما أنا فكل زادي منها هذه الدمعة التي تترقرق في عيني، ولا أستطيع إرسالها مخافة أن تراها!
وهنا دقت طبول الجيش مؤذنة بالرحيل، فدنا منها سيرانو وقال لكرستيان: حسبك ذلك الآن فهيا بنا، فلم ينتبه كرستيان إليه، واستمر في شأنه، فظل يجذبه من يده ويقول: هيا بنا فقد دقت طبول الرحيل. فقال: أمهلني قليلا يا سيرانو، فإنك لا تعلم ما يصنع الفراق بقلوب العاشقين! قال: أعلم ذلك حق العلم فهيا بنا، فالتفتت إليه روكسان، وقالت له: إني أكل إليك أمره يا سيرانو، فعدني ألا يهدد حياته شيء! قال: سأجتهد إن شاء الله تعالى، قالت: وعدني أن يكون حذرا متيقظا. قال: سأحاول ذلك. قالت: وألا يتألم من البرد والصقيع في تلك الأجواء الثلجية الباردة! قال: سأفعل ما في وسعي. قالت: وأن يكون لي وفيا مخلصا. قال: أظنه لا يستطيع أن يكون غير ذلك. قالت: وأن يكتب لي دائما. قال: أما هذه فأعدك بها!
الفصل الرابع
الميدان
Bilinmeyen sayfa