وأحسبك عدلت عن ذوات الأجنحة وهي ألطف أجرامًا وأحسن أصواتًا وأذكى قلوبًا وأبعد في بلاد الله سفرًا، لترد الحكومة إلى ذوات الحافر، وتخص البناية فيها بعض أعمامك الذين هم كما شاء الله. ومن يؤمن حكمًا يحكم عليك أن تدعي عليه التخرص والجنف؟ وقد بان فيك بعض الفهم، وجائز أن يوفق لك من يجوز تمويهك عليه، فإن زماننا مذ كان، للكذب فيه سوق ليست للصدق، والباطل عنده مسالك زويت عن الحق. وإنما ادعيت أنك تحمل إلى السيد " عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - بيتين أو ثلاثة، فلو أنك تنظمتهما بدر ما وقعا من إرادتك بقر. والشاعر قد ينظم الكلمة بعد الكلمة فيطيل فيها ويجيد، ثم لا يظفر من الملك بطائل.
ومن يحمل قريضك، على سوء ظنك وسراسة خلقك؟ لو تحمله عنك متحمل لما أمن مع رديء شيمك أن تتهمه بخيانتك وحسدك وأن تطالبه بالجائزة وهو لم يعطها، وتدعى في كلامك الفضيلة ولم ترزقها. وكأني بك لو نظمت بيتًا أو بيتين لجعلت الروى حاء أو هاء لأنهما من شكل صوتك. ولو أنشدتني ما قلت لوقفتك من عيوبه والغلط فيه، على ما يوجب تسليمها إلي.
ويقدر الله سبحانه على أن ينطق الشاحج فيقول: إن أسأت الظن بك، فمن بعد إخلاف مخيلتك، لأني بدأت برجائك ومسألتك، فلقيتني بحذ الأمل وإخلاف الرجاء. ومن استكثر قليل الأشياء فلا طمع في جزيلها من قبله. ولو تحمل ما أقول متحمل لجزاه الله على ذلك بأجر وجزيته بالثناء والشكر. ولست ممن يطلب جائزة على قول الحق، وإنما الغرض أن يخف الأوق ويزول بعض الأثقال.
وأما قولك: لو أنشدتني لفعلت - ووصفت صنيعك - فلست بأهل للإنشاد. لأنك مثل ما جاء في الكتاب الأعز: " قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ".
ولو كنت مريت ما عنيد باللطف واستخرجت سرائري بحسن الوعد، لأنشدتك إنشاد الفحول وغنيتك غناء الحكماء بأي الألحان الثمانية شئت، أو نصبت لك نصب العرب على مذهب " أبي أسامة الهمذاني " وهو أول من غني النصب بالعراق.
وأما إنكارك أني جعلت الفاختة راجزة وأخرجت الرجز عما وضع له، فقد وجدنا المتحققين بهذا الشأن في قديم الزمان والحديث، أخرجوا الجز عما ذكرت من الحداء ومراس الأعمال، إلى أصناف المدح وطبقات النسيب، وصرفوه مختارين في أنحاء كثيرة، وافتنوا في ذلك مثل ما فاتنوا في القصيد.
وأما زعمك أني أريد أن أجر الحكومة إلى بعض الأعمام، فليس الأمر كما ظننت؛ على أنهم أجدر بالخير وأولى بالحلم وأبعد من العبية.
وقد مضت الدهور السالفة وأنا لا أعرفك، ولعل ما غبر من العمر ينقرض ولم ألقك:
كِلانا غنِيٌّ عن أَخيه حياتَه ... ونحن إِذا مُتْنَا أَشدُّ تَغانِيَا
وكيف آمنك على الإنشاد وأنت لم تثبت نفسك على ادعاء المعرفة، فكيف ثباتها على إظهار الفضيلة؟ فلعن الله سرًا عند المعيدي، وأمرًا يشهده دون الملإ جار السوء. وكيف آمن أن تدعى على الخطأ أو الكسر والإحالة في المعنى، ولا تسمح لي بالضرورات التي اصطلح عليها أهل النظام؟ كحذف التنوين والتقديم والتأخير وتذكير المؤنث وتأنيث المذكر والقلب الذي هو متعارف في المعتل كما قال " الهمداني ":
وكأَن أَعظُمَها كِعابُ مُعافرٍ ... ضُرِبَت على شُزُنٍ فهن شَواعِ
أي شوائع، كما قال " خفاف ":
فإِمَّا تَرَيْني غيَّر الدهرُ لِمَّتِي ... ولاحت لَوَاحِي الشيبِ في كلِّ مَفْرِقِ
إنما هو: لوائح، في قول " أبي عبيدة ".
أو عيبني إذا قصرت الممدود الذي قصرته الفصحاء، وتحظر على أن أغير الاسم الموضوع عن حاله، وذلك كله مطلق " للشعراء " كما علمت؟ ولعلي لو أنشدتك لزعمت أني قد كسرت، ولم تتغاض عن خلل إن كان مثل ما تغاضى " عنه " من تقدم ل: " عبيد بن الأبرص " في قصيدته، فرويت في جملة المنظوم إلى اليوم؟ وكما ترك " الأعشى " وما صنع في قوله:
أَلم تروا إِرمًا وعادًا ... أَوْدضى بها الليلُ والنهارُ
وقد حملت الرواة كلمة " الطرماح " وهي وزنان مختلفان، أعني قوله:
طال في رسمِ مَهدَدٍ أَبَدُهْ ... وعَقبى واستوى به بلده
ومَحَاه هَطَّالُ أَسْمِيَةٍ ... كلَّ يومٍ وليلةٍ تردُه
لم يَبْقَ مِن مَرْسِ كفِّ صاحبِه ... أَخلاقُ سِرْبالِهِ ولا جُرُدُه
1 / 27