ومن ظلمك وإعناتك أنك دعوتني إلى تحكيم حكم العامة تضرب المثل بكذبه فتقول: أكذب من فاختة! أفتراني أجعل حكمًا على نفسي من قد شهر بهذه الشيمة؟ ومن استرعى الذئب ظلم، ومن صدق كل بارق أخلف. ولكن أطلب حكمًا سوى هذه فقد اشتهر عنها ما تعلم. ولا تدعني إلى الغراب فإن رسول الله ﷺ سماه فاسقًا. ولست بمحكم أهل الفسق؛ ولا إلى الزرياب، فإن به صرعًا وإن كان عالمًا بالغات منصرفًا في أجناس القول. ولو عدلت عن ذوات الأربع لكنت أقرب إلى النصفة. وهذه الإبل قد جاءت للورد فإن شئت أن تستظهر لعلمك فاجعل الحكم بعضها توفق في ذلك.
فيقد الله الواحد على أن ينطق الصاهل فيقول: إنما اخترت الفاختة إذ كانت شاعرة، فأردت أن أستعين بها على أحكام الشعر. أو ليس قد كان السادات إذا اختلفوا في أمر الشعر سألوا عنه " حسان وجريرًا والفرزدق " وغيرهم من الطبقة الثانية وليس فيهم من يتحرج عن الكذب في المنوم، ويرضى سائلهم في الحكومة بما يقولون؟ أو ليس إلى " حسان " رجع في أمر " الزبرقان والحطيئة " وحسان مجلود في الإفك؟ وأما قول العامة: " أكذب من فاخت " فإنما هو افتراء عليها، ولعلها لم تكذب قط. هم الذين تخرصوا ما حكوه وادعوا أنها في ذلك الصوت الذي يصدر عنها تقول: " قد جاء الرطب " حتى قال قائلهم:
أَكذبُ من فاختةٍ ... تقولُ فوقَ الكَرَب
والطَّلْعُ لم يَبْدُ لها ... هذا أَوانُ الرُّطَبِ
وقد علم الله بعزته أنها لم تفه قط بهذه الكلمة. كما أن الطائر الآخر لم يقل:
سقطْ رِدَاك خُذْهْ
وإنما ذلك تشبيه من العامة، ووضع للشيء على ما قرب منه. وتأمل صوت الفاختة فإنه جنس واحد، وليس ما تدعيه العامة عليها بصحيح وليس الصوت الذي تقول فيه بزعمهم: يا فاخته، مخالفًا للصوت الذي هو عندهم: عبد الصمد، بل هما فن واحد ووزن في الحسن متساو. وقد كنت أحلف المحرجة في معطل الرماح من قبل عاذل في القلتة أو النحيرة وذلك بصلاح في " بكة ": أن العامة كذبت على هذا الطائر كما كذبت على غيره من الطير والبهائم.
وأما قولك في التقاء الساكنين ما قلت، فقد مضى في المحاورة معك ما هو كاف. واليونانية تجمع في أشعارها بين الساكنين في غير آخير البيت وكذلك غيرها من الأمم ما خلا العرب فإن كلامها تهذب ونظامها خلص. على أن شيئًا من ذلك قد جاء عنهم. فأما في أواخر الأبيات فالعرب وغيرهم لا ينفرون من جمع بين ساكنين.
وأما قولك، وقد استمر بك عجبك ومدك في المقال غيك: إن قولها " يا فاختة " سدس الرجز التام، فكيف جعلتها راجزة والرجز إنما تقوله العرب في حداء الإبل ومراس الأعمال من حرب أو جذب غرب أو سرى ليل أو ركوب هاجرة؟ إنما يحضرونه نفوسهم عند الونية ليكون مسكة للمنة وذريعة إلى النشاط. والفاختة إنما تصيح هذه الأصوات في أولى أوقاتها بالمسرة وأجدر زمانها بالدعة. ودليل ذلك تأيدها في الصوت ومجيئها به على رسل، ولا تصيح في الطيران، وإنما تصيح وهي واقعة على غصن أو غيره. ولها إذا رعيت في الوكر أو الهواء صوت مخالف لهذا الصوت. ومن تفقد ذلك عرفه، فكيف حكمت على صوتها أنه رجز ولم تحكم عليه أنه من الكامل المضمر؟ إنك لغبين الرأي فاسد القياس.
وأما دعاؤك إلى تحكيم بعض الإبل فصنف من الجهل مبين: أما الناقة فحسبها من قلة اللب أن ولدها يذبح ويحشي جلده من الثمام فتدر عليه وعندها أنه حوارها! وأما الجمل فأخوها، وهل يكون " ابن دغة " إلا على قدرها، " وابنة جهيزة " إلا من جنسها؟ وحسبك من جهالة الإبل أنها تترك ما لان من المرعى وتختار عليه شوك السعدان وغيره من الشجر والعضاه، فربما نشبت الشوكة منها في بطن البعير فكانت سبب هلاكه.
1 / 26