ونظائر هذا كثير. فكيف تمنع صوتي وهو يتصرف فيكون الرقيق والغليظ والخوار، ويطول ويقصر وينقطع ويتألف، ويدل على الكراهة والرغبة وطلب الحاجة، من أن يتأوله أهل الفهم على معان مختلفات ويتصرف في ترتيبه أصحاب المعرفة على لطرق يعرفون مجاريها، ويسلك فيها سبيل الهداية من لا يتجاهلها؟ ويقدر الله جل اسمه على أن ينطق الصاهل، فيقول: ما كفاك أنك ادعيت النظم الذي هو طبع في غريزة الآدميين مطلق أن يقوله الصبي منهم والمرأة والشيخ اليفن والعجوز الفانية، وهو في غرائز الأمم كلها حتى إنه يحكم على أنه لا يمتنع أن يخطر الكلام الموزون لمن لم يسمع شعرًا قط.
حتى ادعيت الأشياء التي لا يوصل إليها إلا بالدربة الطويلة والتجربة المكررة، من العلم بالكلام والجدل والنظر في الفقه وأحكام الشعر اللطيفة التي لعله ما ادعى معرفتها جاهلي ولا إسلامي من أهل النظم.
ومتى نتجت؟ لعلك لم تنتج منذ عشرين حجة، فلو أن الله مد في عمرك حتى تكون من مراكب " شريح بن الحارث " فمن بعده من القضاة الراشدين إلى هذا العصر، تسمع كلامهم وتعرف محاورتهم.
لكنت خليقًا ألا يصح هذا من دعواك.
ولقد ادعيت من علم الشعر ما تعلمنا الضرورة اللازمة أن " زهيرًا والنابغة " وغيرهما من الفحول، لم يعرفوه. فليت شعري ما يقول فيك أصحاب التناسخ؟ أفنقلت إليك روح " أفلاطون "؟ ومعاذ الله والعدل الشائع.
أما أنا فأتصورك بصورة الكاذب، وقد رابني ما قلت فاجعل بيني وبينك حكمًا ترضاه. فإن صدقك سلمت لك أني على خطإ. وإن اتهمك مثل ما اتهمتك، علمت أني معذور في الظنة بك.
فأما الضب الذي هو قاضي البهائم، فبعيد المنزل عني وعنك، أقرب دياره إلينا مسيرة ثلاث أو أربع، ولكن هذه الفاختة قد وردت عليك الماء، وهي من شعراء الطير. وإنما ادعيت ذلك لها، إذ كانت حكاية صوتها جنسًا موزونًا، ومن تأمل ذلك وجده كما ذكرت. فاعرض عليها شأنك وانظر ما تقوله، فلو كان موافقًا " لي في صفتك فاعلم أني أردت نصحك، وإن كان موافقًا لك " فاعلم أني داجيتك وأضمرت غشك.
فاختر أينا يكون السائل لها في ذلك. وإن شئت أن نجتمع على سؤالها فإن ذلك يسير قريب.
فيقدر الله جل ثناؤه على أن ينطق الشاحج فيقول: كيف رأيت القاذة في عين أخيك ولم تر الجذع المعترض في عينك؟ ألست قد دفعتني عن دعوى النظم بأنك احتججت أني أجمع بين الساكنين في صوتي من غير وقف يدرك النفس. وهذه الفاختة، بين ابتدائها بصوتها وسكوتها على آخره، ساكنان يلتقيان ليسا في وقف. لأن العامة يقولون في حكاية صوتها:.... يا فاخته. فيكسرون الخاء، وهذه لعمري كلمة موزونة، وهي سدس الرجز التام وربع المجزوء وثلث المشطور ونصف المنهوك. وموازن هذا من صوت الفاختة يلتقي فيه ساكنان وكأنه في التقدير الألف والخاء. ومن تأمل ذلك في أصوات الفواخت وجده.
وكأني بك تحتج علي بهذا البيت الذي ذكره " سيبويه " في الإدغام وهو قول الراجز:
كأَنها بعد كلالِ الزاجِرِ ... ومَسْحِه مَرُّ عُقابٍ كاسِرِ
فهذا بيت قد كثر فيه الكلام. وأكثر الناس لا يثبته لأن صاحب " الكتاب " دل كلامه على أنه أدغم الهاء في الحاء. وهذا ما لا يمكن. وقد حكى عن " الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي النحوي " أنه كان ينشد هذا البيت، فيجمع فيه بين ساكنين، وهو قول الراجز:
يا عجبًا لقد رأَيتُ عَجَبَا ... حِمارَ قَبَّانَ يسوق أرْنَبَا
خاطِمَها زامَّها أَنْ تَذْهَبَا
فيجمع بن ساكنين في: زامها. وإن صحت هذه الحكاية عنه، فإنما يتعلق بالبيت الذي أنشده " سيبويه "، والجماعة على خلافه في: زأمها. لأنهم ينشدون: زأمها، بالهمز، ويحكون أن ذلك لغة العرب.
وزعم " أبو زيد الأنصاري " أنه أدركته صلاة الصبح عند مسجد " يونس بن عبيد " فدخل فصلى خلفه، فسمعه بهمز: " ولا الضألين " ويقال إنها قراءة " أيوب السختياني " وقد زعموا أن " الحسن البصري " كان يقرا: " ما من دأبة إلا هو آخذ بناصيتها ".
ولا أحسب هذا القول المروي عن " الفارسي " إلا وهمًا من راويه، أو يكون قولًا ينفرد به قائله ويخالف إجماع الناس فيه.
1 / 25