وقد بلغني أن للسيد " عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " مجلسًا يجتمع فيه الفقهاء وأهل الكلام والأدب والشعراء. ولو تحرى في التطوع متحوب فقادني برسني حتى أقف من ذلك المجلس بمرأى ومسمع لألقيت " مسألة " ثم فرعتها فخاض فيها الفقهاء والمتكلمون والشعراء سحابة ليلتهم تلك. وكأني بك قد قلت في نفسك: ليت شعري ما تلك المسألة؟ ثم أدركتك الأنفة أن تسألني عنها. وأنا أبتديء لك بذكرها غير باخل عليك ولا على غيرك بشيء مما أحسنه.
كنت أقول للفقهاء: ماذا تقولون في رجل طاف بالكعبة سبعًا وهو ينشد:
" فقا نبك ".ما توجبون عليه؟
فإذا أجابوا، فرعتها عليهم. وقد علمت أن الضحضاح بعده الغمر وأن الدخان تحته اللهيب الجمر.
وكنت أقول للمتكلمين: أخبروني عمن يقول بقدم العالم: أقفا نبك كانت قبل " امريء القيس " أم بعده؟ وأخبروني عن: قفا نبك، أجوهر هي أم عرض؟ فإن قالوا: جوهر، فقد أحالوا في رأي المتكلمين. وإن قالوا: عرض، قلت: فالأعراض لا قوام لها في أنفسها وإنما تعرف إذا تعلقت بالجواهر.
وقد نجد رجلين يقفان على ضيفي واد وبينهما مدى بعيد فينشد أحدهما: قفا نبك، فيسمعه الآخر. فبم تعلقت حتى وصلت إليه؟ ثم أشجر الكلام وأشجنه.
وكنت أقول للشعراء: أخبروني عن ثلاثة منكم أحضرهم " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - أعز الله نصره - وكان أحدهم يعمل البيت من قرى " قفا نبك " في دقيقة، والآخر في دقيقتين، والثالث في ثلاث دقائق. فأمرهم أن يصنعوا بيتًا على ذلك العراق ويتعاطوا فيه النصفة، أكان هذا يمكن أم يتعذر؟ وهل تجري الأبيات كلها مجرى واحدًا أم تختلف لاختلاف مهيئات الحروف؟ فإن حملهم ادعاء الرتبة والفرار من حياء الغلبة على أن يقولوا: كنا نتناصف ونتماثل ونجيب " السيد عزيز الدولة وتاج الملة أمير الأمراء " - خلد الله أيامه إلى ما أمر؛ قلت لهم: فكم المدة التي ينجز معها فرغ البيت؟ فإن قالوا: لا نعلم، فقد رجعوا عن دعواهم وأقروا بالعجز لمن سألهم.... وإن قالوا: نعمله في ستة أجزاء من أحد عشر من دقيقة يعمل الذي جرت عادته أن يعمل البيت في دقيقة، ستة أجزاء من أحد عشر من البيت. وكان يعمل صاحب الدقيقتين ثلاثة أجزاء من أحد عشر، وكان يعمل صاحب ثلاثة جزءين.
قلت: كيف السبيل إلى تناصفكم في هذه القسمة، وقد علمتم أن أحد عشر عدد أصم؟ وهل في طاقتكم أو طاقة غيركم قسمة الحرف الواحد أو الحركة، على هذه الأجزاء؟ ثم يتنوع الخطاب في ذلك إلى ما شاء الله.
وأما قولك إن صوتي جنسان: حمحمة وشحيج، وأنه لا يبنى منها النظام، فإن الأشياء لها جمل، والجمل لها تفصيل، والتفصيل له تأويل " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ".
قد جعلت صوتي، لأنه جنسان، قريبًا من حد الإبانة. ولعله قد بلغك حديث " أبي مالك الأشجعي " الذي يروي عنه أنه قال: " كنا مع علي ﵇ منصرفه من صفين، فمر بالحيرة وهي كثيرة النصارى فسمع صوت الناقوس فقال: ما يقول الناقوس؟ فقلنا: ما قول يا أمير المؤمنين؟ فقال: يقول:
إِن الدنيا قد أَغوتْنا ... واستغوتنا واستهوتنا
لسنا نَدرِي ما قدَّمنا ... فيها إِلا لو قد مُتنا
تَفنى الدنيا قرنًا قرنًا ... يا ابنَ الدنيا مهلًا مهلًا
زِنْ ما يأتي وزنًا وزنًا ... ما من يومٍ يمضي عنا
إِلاَّ أَوْهى منا رُكْنَا
أفلا ترى إلى أمير المؤمنين كيف صرف صوت الناقوس وهو جنس واحد، لأنه يحدث باصطكاك جسمين جماديين؟ فصوتي أولى بالتفريع من صوت الناقوس، وصوت الناقوس أولى بالتفريع من الصمت الدائم والجمادى.
وقد روى أن " عدي بن زيد " كان مع " النعمان بن المنذر " تحت شجرة كان يشرب عندها ملوك الحيرة. فقال له عدي بن زيد: أيها الملك، أتدري ما تقول هذه الشجرة؟ قال: وما تقول؟ قال: إنها تقول:
رُبَّ شَرب قد أَناخوا حولَنا ... يشرَبون الخَمْرَ بالماءِ الزلال
ثُم أَضحَوا لَعِبَ الدهرُ بهم ... وكذاك الدهرُ حالًا بعد حال
أفلا ترى كيف تأول " عدي " صمت الشجرة؟ وقد قال " الحارثي ":
فأَسْمَعَنا بالصَّمْتِ رجْع كلامِنا ... فأَبْلِغْ به من ناطقٍ لم يُحاوِرِ
1 / 24