وأما من قال منهم أنه يعلم الأمور على وجه كلي لا يتطرق إليه التغير فنقول كل موجود شخصي في هذا العالم يستدعي كليا خاصا بذلك الشخص فإن كلية الشخص الإنساني وهو كونه إنسانا ليس بكون كلية شخص حيوان آخر بل الكليات تتكثر بحسب تكثر الشخصيات فإذا كان لا يعلم الشخصي إلا من نحو كليته حتى لا يتغير العلم بالكلية ويتغير العلم بالجزية فيلزم أن يتكثر العلم بكليته كما يتكثر بشخصيته وإن اجتمعت الكليات كلها في كل واحد فيلزم أن لا يكون المعلوم إلا ذلك الكلي الواحد ثم ذلك الكلي الواحد لازم له في وجوده فيكون العلم به لازما للعلم بذاته فهو رجوع إلى محض مذهب من قال أنه لا يعلم إلا ذاته فما زاد هذا القائل على مذهبه إلا إطلاق لفظ الكلية وهي معلومة لزوما كما كانت الجزئيات معلومة لزوما فلم يستفد من هذه الزيادة شيئا ومن عرف مبادئ الموجودات عرف ما يتأدى منها وما يحصل بها نظرا من العلة إلى المعلول ومن عرف أخص أوصاف الموجودات عرف الأعم نظرا من الملزوم إلى اللازم وبين البابين بون عظيم بعيد.
وما تمثل به ابن سينا من حديث خسوف القمر فهو دليل عليه فإن من علم مثل ذلك العلم أعني إذا كان كذا يكون كذا فيكون علمه مشروطا وهي قضية شرطية فلا يكون علمه علما محققا حتى يقول إن كان الأمر كذا فهو كذا فصار الأمر جزئا بعد ما كان كليا ويتعالى علم الباري تعالى عن القضايا الشرطية بل عمله أعلى من أن يكون كليا أو جزئيا أو متغيرا بتغير الزمان أو متكثرا بتكثر المعلومات انظروا كيف عاد تنزيه القوم تشبيها وكيف صار تحقيق القوم تمويها.
قالت الصفاتية إن الإشكال في هذه المسئلة على جميع المذاهب من جهة أنهم تصوروا تعلق العلم بالمعلوم على وجه يتطرق إليه الزمان الماضي والمستقبل والحال حتى يقال علم ويعلم وهو عالم وسيعلم فظنوا أن العلم زماني يتغير بتغير الحوادث ومن تحقق أن العلم من حيث هو علم لا يستدعي زمانا بل هو في نفسه تبين وانكشاف وذلك إذا كان صفة للحادث وإحاطة وإدراكا إذا كان صفة للقديم فهو مع وحدته محيط بكل الأشياء ومع إحاطته واحد ومن تحقق كونه واحدا سهل عليه الإشكال.
فالبرهان على أن علمه شيء واحد أنه لو كان كثيرا لم يخل إما أن يتعدد بتعدد المعلومات كلها والمعلومات من حيث أن لها صلاحية المعلومية من الواجب والجائز والمستحيل لا تتناهى على التقدير فيلزم أن تكون العلوم المتعلقة بها لا تتناهى على التحقيق وقد قام الدليل على أن أعدادا في الوجود المحقق بالفعل لا تتناهى مستحيل وإنما حصره الوجود فهو متناه بالضرورة وإما أن يتعدد بعدد مخصوص فيستدعي مخصصا خاصا والقديم لا مخصص فإذا علمه تعالى واحد فهو متعلق بجميع المعلومات والمعلومات لا تتناهى فعلمه متعلق بما لا يتناهى ولا يفرض اختصاصه بمعلوم معين كالعلم الحادث فإن الاختصاص والانحصار نقص وقصور من حيث أنه لا يختص إلا بمخصص والدليل على ذلك أن ما من علم يفرض إلا ويصح تعلق علم واحد منا به ثم لا يثبت لنا العلم بالمعلوم إلا ضروريا أو كسبيا وعلى أي الوجهين فرض ثبوته فالله تعالى موجده ومبدعه فإذا وجد كان عالما به وإذا وجب كونه عالما بالعلم فهو عالم بالمعلوم إذ يستحيل أن يعلم العلم ولا يعلم المعلوم فلزم أن يكون العلم القديم متعلقا بكل معلوم وإنما اقتصر العلم الحادث على بعض المعلومات لجواز طريان الضد عليه وإلا فالعلم من حيث هو علم لم يمتنع عليه التعلق بكل معلوم وكذلك كل صفة قديمة فإن متعلقاتها لا تتناهى فقد أطلقت الأشعرية بأن معلومات الله تعالى في كل معلوم لا تتناهى وأشاروا بذلك إلى التقديرات الجائزة في حق كل معلوم إذ ما من وقت من الأوقات وحين من الأحيان إلا ويجوز وقوع الحادثة فيه على البدل وكذلك ما من عرض إلا ويجوز اختصاصه بكل جوهر على البدل.
Sayfa 79