أما الاختلافات فلا تنشأ في لغة الحياة اليومية، وإنما تنشأ عندما نتحدث عن معنى أمثال هذه الأحكام. وهذه الاختلافات تهم الفلسفة. أما المنطقي الذي يرى أن الأحكام الاحتمالية تشير إلى تردد
frequency . فإنه يصل إلى تقويم خاص للأحكام الاحتمالية يفرق بينها وبين غيرها من الأحكام. وأود الآن أن أشرح هذا الفارق شرحا أدق.
لنفرض أن شخصا ما ألقى بزهر النرد، وطلب إليك أن تتنبأ إن كان الرقم «ستة» هو الذي سيظهر أم لا. في هذه الحالة تفضل أن تتنبأ بأن الوجه «ستة» لن يظهر، لماذا؟ إنك لست متأكدا من السبب، ولكن احتمال «غير الستة» في نظرك أقوى من احتمال الستة؛ إذ إن نسبة الاحتمال الأول 6/5 وليس في استطاعتك أن تزعم أن تنبؤك سيتحقق، ولكن هذا التنبؤ أكثر فائدة لك من التنبؤ المضاد؛ لأنك ستكون على صواب في العدد الأكبر من الحالات.
مثل هذا الحكم أسميه ترجيحا
. والترجيح حكم ننظر إليه على أنه صحيح وإن لم نكن نعرف أنه كذلك. ونحن نحاول أن نختار ترجيحاتنا على نحو من شأنه أن تتضح صحتها في أكبر عدد ممكن من الحالات. وتمدنا درجة الاحتمال بنسبة معينة للترجيح؛ أي إنها تنبئنا بمدى صلاحيته. وهذه هي الوظيفة الوحيدة للاحتمال. فإذا كان علينا أن نختار بين ترجيح نسبته 6/5 وترجيح نسبته 3 / 2، لفضلنا الأول، لأن هذا الترجيح يكون أصح في حالات أكثر. وهكذا نرى أن درجة الاحتمال لا شأن لها بصحة الحكم المنفرد، وإنما تقوم بمهمة النصح المتعلق بطريقة اختيارنا لترجيحاتنا.
وتستخدم طريقة الترجيح في جميع أنواع الأحكام الاحتمالية. فإذا قيل لنا إن احتمال سقوط المطر في الغد 80٪، رجحنا أن المطر سيسقط، وتصرفنا على هذا الأساس، فننبئ البستاني مثلا بأنه لا داعي لحضوره في الغد لكي يروي حديقتنا. ولو كانت لدينا معلومات بأن أسعار البورصة يحتمل أن تهبط، فإننا نبيع أسهمنا. وإذا أخبرنا الطبيب بأن التدخين يحتمل أن يؤدي إلى تقصير عمرنا، فإننا نكف عن التدخين. وإذا قيل لنا إن من المحتمل أن نحصل على وظيفة بمرتب أعلى إذا تقدمنا بطلب خاص بمركز معين، فإننا نقدم هذا الطلب. وعلى الرغم من أن جميع هذه الأحكام المتعلقة بما سيحدث لا يقال بها إلا على سبيل الاحتمال، فإننا ننظر إليها كما لو كانت صحيحة، ونسلك على هذا الأساس، أي أننا نستخدمها بمعنى أنها ترجيحات.
والواقع أن مفهوم الترجيح
هو مفتاح فهمنا للمعرفة التنبئية ؛ فالحكم المتعلق بالمستقبل لا يمكن أن يصدر مقترنا بادعاء أنه؛ إذ إننا نستطيع أن نتصور دائما أن العكس هو الذي سيحدث، وليس هناك ما يضمن لنا أن التجربة المقبلة لن تحقق ما هو اليوم مجرد خيال. هذه الحقيقة ذاتها هي الصخرة التي تحطم عليها كل تفسير عقلاني للمعرفة. فالتنبؤ بالتجارب المقبلة لا يمكن التعبير عنه إلا بمعنى أنه محاولة، وينبغي أن نعمل حسابا لاحتمال كذبه، فإذا اتضح خطأ التنبؤ، كنا على استعداد لمحاولة أخرى. وهكذا فإن طريقة المحاولة والخطأ هي الأداة الوحيدة الموجودة للتنبؤ. والحكم التنبئي ترجيح، فبدلا من أن نعرف حقيقته، نعرف نسبته فقط، وهي النسبة التي تقاس على أساس احتماله.
والواقع أن تفسير الأحكام التنبئية بأنها ترجيحات يحل آخر مشكلة تظل باقية في وجه الفهم التجريبي للمعرفة: وأعني بها مشكلة الاستقراء. فالتجريبية قد انهارت أمام نقد هيوم للاستقراء؛ لأنها لم تكن قد تحررت من مصادرة أساسية من مصادرات المذهب العقلي، وأعني بها ضرورة البرهنة على صحة كل معرفة. ففي نظر هذا الرأي لا يمكن تبرير المنهج الاستقرائي؛ إذ لا يوجد دليل على أنه سيؤدي إلى نتائج صحيحة. ولكن الأمر يختلف عندما تعد النتيجة التنبئية ترجيحا. ففي ظل هذا التفسير لا تكون في حاجة إلى برهان على صحتها، وكل ما يمكن أن يطلب هو برهان على أنها ترجيح جيد، أو حتى أفضل ترجيح متوافر لدينا. وهذا برهان يمكن الإتيان به، وبذلك يمكن حل المشكلة الاستقرائية.
ويقتضي هذا البرهان مزيدا من البحث، فلا يمكن الاكتفاء في تقديمه بالقول أن النتيجة الاستقرائية لها درجة عالية من الاحتمال. بل إنه يستلزم تحليلا للمناهج الاحتمالية، وينبغي أن يكون مبنيا على أسس هي ذاتها مستقلة عن هذه المناهج. أي أن تبرير الاستقراء ينبغي أن يقدم خارج مجال نظرية الاحتمالات، لأن هذه النظرية الأخيرة تفترض استخدام الاستقراء. وسوف يتضح بعد قليل معنى هذه القاعدة.
Bilinmeyen sayfa