مقدمة المترجم
تصدير
الباب الأول: جذور الفلسفة التأملية
1 - السؤال
2 - البحث عن العمومية والتفسير الوهمي
3 - البحث عن اليقين والفهم العقلي للمعرفة
4 - البحث عن التوجيهات الأخلاقية والتوازي بين مجالي الأخلاق والمعرفة
5 - النظرة التجريبية
6 - الطبيعة المزدوجة للفيزياء الكلاسيكية
الباب الثاني: نتائج الفلسفة العلمية
7 - أصل الفلسفة الجديدة
8 - طبيعة الهندسة
9 - ما الزمان؟
10 - قوانين الطبيعة
11 - هل توجد ذرات؟
12 - التطور
13 - المنطق الحديث
14 - المعرفة التنبئية
15 - فاصل: هملت يناجي نفسه
16 - الفهم الوظيفي للمعرفة
17 - طبيعة علم الأخلاق
18 - مقارنة بين الفلسفة القديمة والجديدة
مقدمة المترجم
تصدير
الباب الأول: جذور الفلسفة التأملية
1 - السؤال
2 - البحث عن العمومية والتفسير الوهمي
3 - البحث عن اليقين والفهم العقلي للمعرفة
4 - البحث عن التوجيهات الأخلاقية والتوازي بين مجالي الأخلاق والمعرفة
5 - النظرة التجريبية
6 - الطبيعة المزدوجة للفيزياء الكلاسيكية
الباب الثاني: نتائج الفلسفة العلمية
7 - أصل الفلسفة الجديدة
8 - طبيعة الهندسة
9 - ما الزمان؟
10 - قوانين الطبيعة
11 - هل توجد ذرات؟
12 - التطور
13 - المنطق الحديث
14 - المعرفة التنبئية
15 - فاصل: هملت يناجي نفسه
16 - الفهم الوظيفي للمعرفة
17 - طبيعة علم الأخلاق
18 - مقارنة بين الفلسفة القديمة والجديدة
نشأة الفلسفة العلمية
نشأة الفلسفة العلمية
تأليف
هانز ريشنباخ
ترجمة
فؤاد زكريا
مقدمة المترجم
أستطيع أن أعد ترجمتي لهذا الكتاب عملا صحيح التوقيت؛ فالكتاب يعرض وجهة نظر فيلسوف من أكبر ممثلي المذهب الوضعي المنطقي (أو التجريبي المنطقي، كما يفضل هو ذاته أن يسميه)، وذلك في وقت شغلت فيه المعركة الدائرة بين أنصار هذا المذهب وخصومه صفحات غير قليلة من مجلاتنا الثقافية، بل من جرائدنا اليومية أحيانا. ولا أستطيع أن أزعم أنني كنت طرفا في هذه المعركة، غير أنني عندما أحسست أنها اتخذت أبعادا أضخم مما ينبغي، وشابها كثير من سوء الفهم والتواء التفسير، حاولت أن أعبر عن شعوري إزاءها في مقال وصفتها فيه بأنها «معركة الملل» (جريدة الجمهورية 24 نوفمبر 1966م)، وقوبل هذا المقال - شأنه شأن كثير من محاولات تبديد سوء التفاهم - بشيء من الغضب من طرفي النزاع معا!
ولقد تبين لي أن الأمر يحتاج إلى أكثر من مجرد مقال، وأنه لا بد من تقديم وجهة النظر موضوع النزاع على نحو أوسع وأكثر شمولا، لعل الاطلاع عليها أن يفيد جمهرة المثقفين في تبين بعض معالم المذهب الذي يتحدثون عنه. وعلى الرغم من أنني لم أكن في وقت من الأوقات من أنصار هذا المذهب، فإني لست، في الوقت ذاته، من أنصار مناقشة المسائل الفلسفية دون إلمام كاف بأبعادها الحقيقية؛ لذلك فقد وجدت الفرصة سانحة لإنجاز ترجمة هذا الكتاب أملا في أن يسهم في إلقاء الضوء على هذا المذهب، بحيث يتعرف عليه القارئ العربي من خلال كلمات واحد من أكبر ممثليه الأصليين، ويستطيع أن يصدر عليه حكما موضوعيا، بعيدا عن تلك الحساسيات التي تثور بين مفكرينا المحليين لأسباب قد لا تكون كلها علمية!
إن بلادنا تشهد اهتماما غير مألوف بالمشكلات الفلسفية، تعدى نطاق المتخصصين وشمل عددا غير قليل من أصحاب الثقافات المتباينة التي قد لا يكون لها اتصال مباشر بميدان الفلسفة. وهذا الاهتمام، في واقع الأمر، سلاح ذو حدين؛ فهو من جهة يفيد الفلسفة فائدة لا شك فيها، من حيث إنه يوسع قاعدة قرائها ودارسيها، ويجلب لها جمهورا لم يكن أحد يتصور أن الفلسفة ستجتذبه يوما ما. ولعل هذا هو القصد الحقيقي من الدراسة الفلسفية؛ إذ لا ينبغي أن تكون الفلسفة مبحثا يقتصر الاهتمام به على المتخصصين، وإنما يجب أن تتغلغل في الحياة العقلية للمثقفين بوجه عام، وتساعد كلا منهم على تكوين فهم أعمق للعالم الذي يعيش فيه. ومن المؤكد أن اقتصار الاهتمام بالفلسفة على مجموعة من المحترفين الذين لا يفهم أسرارها ولا يحل شفراتها سواهم، هو مظهر تدهور لا مظهر تقدم للفكر الفلسفي، غير أن لاتساع قاعدة الاهتمام بالفلسفة على هذا النحو وجها آخر، نستطيع أن نصفه بأنه وجه سلبي؛ إذ إن المناقشة والمجادلة الفلسفية يمكن أن تهبط إلى مستوى يشوبه قدر غير قليل من المغالطة؛ إذ كان أحد طرفيها أو كلاهما من الهواة الذين يخوضون ميدان الجدل وكأنهم متخصصون. ولقد كان واضحا، في المعركة الفكرية المتعلقة بالوضعية المنطقية، أن قدرا كبيرا من الخلاف يرجع إلى التسرع في فهم الآراء موضوع البحث، أو تحميلها من المعاني فوق ما تحتمل ، أو الانتقال بها من مجال إلى مجال آخر على نحو غير مشروع؛ وهذه كلها أمور يمكن معالجتها بالرجوع إلى المصادر الأصلية، ودراستها بأناة وروية.
ولو اتخذنا الكتاب الذي أقدم ها هنا ترجمته مثلا، لوجدنا أن الدراسة المتمعنة لما ورد فيه من الآراء كفيلة بأن تقنع الباحث بأن قدرا كبيرا من الخلاف بين أنصار الوضعية المنطقية وبين خصومها، ممن ينتقدونها على أساس أنها ليست علمية كما ينبغي، أو ليست علمية على الإطلاق، هو في واقع الأمر خلاف وهمي؛ لأن بين الطرفين نقاط التقاء تزيد بكثير على ما يظن كل منهما للوهلة الأولى. ولنضرب بعض الأمثلة لنقاط الالتقاء هذه، مستمدة من الآراء الفعلية التي وردت في هذا الكتاب: (1)
إن الحملة على التفكير الميتافيزيقي سمة مشتركة واضحة بين هذا الكتاب وبين الخصوم العلميين للوضعية المنطقية. وسوف يتضح للقارئ أن مؤلف هذا الكتاب قد كرس جزءا كبيرا منه لبيان الأخطار الناجمة عن الاستخدام الخالص للعقل، والاعتقاد بأن في استطاعة الذهن البشري أن يستخلص من ذاته، ودون رجوع إلى المصادر الفعلية للمعرفة، علما كاملا بالكون وبالإنسان. وهذا اتجاه لا أظن أن أية فلسفة علمية تنكره. (2)
ويرتبط بالحملة السلبية السابقة اتجاه إيجابي إلى الدفاع عن العلم، من حيث إنه أفضل ما في متناول أيدينا من وسائل اكتساب المعرفة؛ فالفكرة العامة التي يدافع عنها مؤلف الكتاب، هي أن الإجابات التأملية عن الأسئلة الفلسفية قد أخفقت طوال ما يزيد عن ألفي عام، على حين أن العلم قد بدأ، منذ القرن التاسع عشر بوجه خاص، يقدم إجابات حقيقية مقنعة على كثير من الأسئلة التي طالما تخبط فيها الميتافيزيقيون، بل إن المؤلف يسعى إلى توسيع نطاق العلم حتى في المجالات التي يظن أنها لا تخضع للقوانين العلمية؛ فهو يقدم في فصول كثيرة، ولا سيما في الفصل الأخير، دفاعا حارا عن خضوع دراسة المجتمع لقوانين علمية مشابهة لتلك التي تخضع لها دراسة الطبيعة، ويرد على الاعتراضات التي توجه إلى هذا الرأي، ولا سيما القول بأن الظاهرة الاجتماعية فردية لا تتكرر ، وهذا بدوره رأي تدافع عنه كل فلسفة علمية. (3)
ويحرص المؤلف في شتى المواقف على إنكار التفسير الغائي للظواهر، وتأكيد التفسير السببي لها، وقد أكد موقفه هذا بوجه خاص في الفصل الثاني عشر (الخاص بالتطور)، وهاجم الغائية بشدة في ميدان يعد من أقوى معاقلها، وهو ميدان البيولوجيا. (4)
ويؤكد المؤلف أهمية العمل الجماعي، لا الفردي، في الفلسفة والعلم الحديث، ابتداء من القرن التاسع عشر، ويرى أن أية محاولة لفهم الفترة العلمية الحديثة على أساس أنها نتاج عبقرية فردية لا بد أن يكون مآلها إلى الإخفاق، بل إنه يرد القدرة على التجريد الفلسفي، الذي يسود الاعتقاد بأنه فردي بطبيعته، إلى أصول اجتماعية، فيقول: «إن نمو القدرة على التجريد ظاهرة تلازم الحضارة الصناعية بالضرورة» (الفصل السابع). (5)
هناك اتجاه واضح إلى الحملة على المثالية في جميع صفحات الكتاب، ولا سيما بعض الاتجاهات المثالية المعاصرة التي تستغل نتائج الكشوف الفيزيائية في القرن العشرين من أجل دعم موقفها، وهو يحرص على الفصل بوضوح قاطع بين نتائج تلك الكشوف وبين الموقف المثالي الفلسفي، ولا يرى أي مبرر لاستناد المثالية على العلم المعاصر، بل إنه في تفسيره العام للمثالية، يحاول أن يصل إلى التركيب الأعلى
infrastructure
الذي يجعل الفيلسوف مثاليا. وصحيح أن نوع التركيب الأدنى الذي يقول به قد لا يلقى موافقة من الجميع، ولكن المهم في الأمر هو أنه يحاول الإتيان بتعليل للتفكير الميتافيزيقي المثالي، ويرده إلى أصل ذي طابع عملي، بل إن هذا الطابع العملي يتخذ في بعض الأحيان صبغة اجتماعية طبقية، كما هي الحال في تعليله للمذهب الأخلاقي عند «كانت» (الفصل الرابع؛ وانظر أيضا الفصل السابع عشر).
على أن في الكتاب، دون شك، عناصر أخرى سلبية لا يمكن أن تقرها الفلسفات العلمية التي تسير في اتجاه مستقل عن الوضعية المنطقية. ومن هذه العناصر: (1)
تأكيده المفرط للتفسير النفسي للفلسفة، ولا سيما في الفصول الأولى من الكتاب؛ فهو يجعل للنظرة النفسية أهمية كبرى في تفسير أخطاء المذاهب الميتافيزيقية، ويذهب إلى أن هذه الأخطاء ترد كلها إلى عناصر نفسية معينة ، مثل سعي الفلاسفة إلى اليقين، وهو نوع من التماس «الأمان» في الحقائق اليقينية، وغير ذلك من العناصر النفسية التي عددها المؤلف في الفصلين الثاني والثالث من كتابه.
ومع اعترافنا بأن لهذا التفسير النفسي للأخطاء الفلسفية أهميته (وقد سبق أن أبدى به فيلسوف مثل نيتشه اهتماما كبيرا، وجعله محورا لكثير من آرائه في تاريخ الفلسفة وطبيعة مشكلاتها)، فمن الواجب أن نتذكر أن هناك عناصر أخرى ينبغي أن تضاف إليه، قد يكون من أهمها العنصر التاريخي والاجتماعي، الذي لم يبد المؤلف به إلا اهتماما ضئيلا. ونستطيع أن نضرب مثلا واحدا لقصور هذا التعليل بما حاول المؤلف أن يفسر به أخطاء ديكارت الميتافيزيقية؛ فهو في الفصل الثالث يبدي دهشته من وقوع رياضي كبير مثل ديكارت في أخطاء استدلالية واضحة، مثل «أنا أفكر إذن أنا موجود»، ومثل الاستدلال على وجود العالم من كون الله صادقا. ويعلل ذلك بأن البحث عن اليقين النفسي يعمي بصيرة المفكر، ولكن مثل هذا التعليل، حتى لو صح، ناقص، ولا بد أن تكمله تعليلات تاريخية توضح موقف ديكارت في عصر لم تكن آثار العصور الوسطى قد زالت فيها بعد، وبقاء كثير من الرواسب اللاهوتية في أذهان مفكري ذلك العصر، وكيف أن ديكارت عرف المصير الذي لقيه عالم مثل جاليليو على أيدي رجال اللاهوت واتعظ به ... إلخ. وبالاختصار، فالتعليل النفسي للأخطاء الفلسفية لا يمثل إلا عنصرا واحدا ينبغي أن يكتمل بعناصر أخرى، ومن المؤكد أن المؤلف كان مبالغا حين قال: «إن دراسته (أي العامل النفسي) خليقة بأن تلقي على معنى المذاهب الفلسفية ضوءا أعظم مما تلقيه عليها كل محاولات التحليل المنطقي لهذه المذاهب.» (2)
يتحمس مؤلف الكتاب لرأيه في الطبيعة الاحتمالية للمعرفة، وفي أن قضايانا المعرفية كلها «ترجيحات»، فيذهب إلى حد تطبيق هذا الرأي على مشكلة وجود العالم الفيزيائي، ويؤكد أن هذا الوجود أمر مرجح فحسب، وأنه ناتج عن استقراء، وأن احتمال تحول الواقع إلى حلم قائم على الدوام، ويحول بيننا وبين تأكيد ذلك الواقع على نحو مطلق. ولست أود أن أدخل في نقاش حول هذا الرأي، الذي أعتقد أنني قدمت له تفنيدا مفصلا في موضع آخر.
1
ويكفي أن أشير إلى نتيجة هذا التفنيد، وهي أن الاعتقاد بأن الحلم أو الوهم أو خداع المعرفة شامل، هو اعتقاد متناقض مع نفسه، وهو مستحيل فلسفيا؛ لأن الحلم لا يعرف بوصفه حلما إلا لوجود واقع في مقابله، ولأن الخداع لا يكون خداعا إلا لأننا نقيسه على أساس معرفة صحيحة لا بد أن تكون موجودة إلى جانبه. والحقيقة التي أود أن أسجلها في هذا الصدد هي أن رأي المؤلف القائل إن وجود العالم الفيزيائي أمر مرجح، أو له درجة كبيرة من الاحتمال، ينطوي ضمنا على عناصر مثالية لا تقل قوة عن تلك التي كرس معظم الكتاب لمحاربتها. (3)
وأخيرا، فأخشى أن أقول إن الهدف العام للمؤلف، وهو أن تسترشد الفلسفة على الدوام بنتائج العلم، يؤدي إلى القضاء على الفلسفة، على الرغم من أن الغرض منه هو إرساؤها على دعائم أمتن من تلك التي ارتكزت عليها المذاهب التأملية التقليدية؛ فهذا الهدف يؤدي إلى وقوف الفلسفة موقف الانتظار أمام العلم؛ إذ تتلقى ما يقدمه لها العلم من حلول، وتكتفي بتسجيلها بأسلوبها الخاص فحسب. وما دام العلم في تطور ونمو مستمر، فإن نفس النتائج العلمية التي اعتقد المؤلف أنها تكون حلولا إيجابية لأقدم المشكلات الفلسفية، سوف تصبح عتيقة يوما ما، ويتعين على الفلسفة أن تنتظر في مذلة ما يقدمه إليها العلم من حلول جديدة.
وقد يكون هذا الموقف أفضل من مكابرة بعض الاتجاهات الفلسفية التقليدية وتعديها على ميادين ينبغي أن تترك فيها الكلمة الأخيرة للعلم، ولكن من المؤكد أن ما ستأتي به الفلسفة لو طبق البرنامج الذي يقترحه المؤلف لن يكون «حلولا» لمشكلاتها، بل سيكون تفنينا وصياغة فلسفية لبعض النتائج العلمية، وهي مهمة تترك الفلسفة في مركز ثانوي على الدوام، ولا تدع لها أية فرصة للمبادرة الخلاقة.
وإذن، ففي الكتاب جوانب إيجابية وأخرى سلبية. ولست أزعم أنني أحطت في هذا العرض السريع بكل هذه الجوانب، ولكن كل ما أردته هو أن أشير إلى نماذج منها؛ لكي أستخلص النتيجة التي أود أن أصل إليها بالنسبة إلى المعركة الفكرية التي أشرت إليها في مستهل هذه المقدمة؛ فلنقرأ كتابا كهذا، بوصفه تعبيرا عن وجهة نظر واحد من الممثلين الأصليين للمذهب الذي نود أن ننقده، ولنتأمل بإمعان ما فيه من أفكار، وليكن حكمنا عليه موضوعيا، بعيدا عن الحساسيات والتعبيرات الانفعالية المتطرفة؛ حتى ترتسم في أذهاننا، بعد مطالعته، صورة مكتملة عن العناصر الإيجابية والسلبية فيه، وفي المذهب الذي يمثله، ونستطيع آخر الأمر أن نخرج منه برأي علمي هادئ في مشكلة الخلاف بين الوضعية المنطقية وبين خصومها.
بقيت كلمة أخيرة عن مؤلف الكتاب، وهو هانز ريشنباخ
Hans Reichenbach ، وعن أهم مؤلفاته؛ فقد ولد ريشنباخ في هامبورج عام 1891م، وشغل منذ عام 1926م حتى عام 1933م منصب أستاذ بجامعة برلين، ثم انتقل إلى جامعة إسطنبول في عام 1933م (سنة الحكم النازي). وفي عام 1938م (قبل الحرب العالمية الثانية مباشرة) رحل إلى الولايات المتحدة، حيث شغل منصب أستاذ الفلسفة بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجليس حتى وفاته في عام 1953م.
ويعد ريشنباخ من المؤسسين الأوائل لحلقة (أو جماعة) فيينا؛ وبالتالي فهو من أكبر ممثلي النزعة الوضعية الجديدة. وأهم مؤلفاته التي كتبها بالألمانية: (1)
نسق البديهيات في النظرية النسبية في المكان-الزمان (1920م)
Axiomatik der relativistischen Raum-Zeit Lehre . (2)
أهداف فلسفة الطبيعة الحالية واتجاهاتها (1931م)
Ziele und Wege der heutigen Naturphilosophie . (3)
نظرية الاحتمالات (1935م)
Wahrscheinlichtkeitslehre .
أما مؤلفاته بالإنجليزية فأهمها: (4)
التجربة والتنبؤ (1938م)
Experience and
. (5)
من كوبرنيكوس إلى أينشتين (1942م)
From Copernicus to Einstein . (6)
الأسس الفلسفية لميكانيكا الكوانتم (1944م)
Mechanics . (7)
نشأة الفلسفة العلمية (1951م)
The Rise of Scientific
.
وله أخيرا كتاب نشر بعد وفاته من أوراقه المخلفة هو: (8)
الفلسفة العلمية الحديثة (1959م)
Modern Philosophy of Science .
القاهرة
يناير 1967م
فؤاد زكريا
تصدير
يرى الكثيرون أن الفلسفة لا تنفصل عن التأمل النظري، ويعتقدون أن الفيلسوف لا يستطيع استخدام مناهج تتيح البرهنة على المعرفة، سواء أكانت معرفة وقائع أم علاقات منطقية، وأن عليه أن يتحدث بلغة لا تقبل التحقيق؛ أي إن الفلسفة، بالاختصار، ليست علما. وهدف الكتاب الذي نقدمه ها هنا هو إثبات الرأي العكسي؛ فهذا الكتاب يرتكز على الفكرة القائلة إن التأمل النظري الفلسفي مرحلة عابرة، تحدث عندما تثار المشكلات الفلسفية في وقت لا تتوافر فيه الوسائل المنطقية لحلها. وهو يذهب إلى أن هناك، على الدوام، نظرة علمية إلى الفلسفة، ويود هذا الكتاب أن يثبت أنه قد انبثقت من هذا الأصل فلسفة علمية، وجدت في علوم عصرنا أداة لحل تلك المشكلات التي لم تكن في العهود الماضية إلا موضوعا للتخمين. وبعبارة مختصرة: فهذا الكتاب قد ألف بقصد إثبات أن الفلسفة قد انتقلت من مرحلة التأمل النظري إلى مرحلة العلم.
ومن الضروري أن يكون مثل هذا العرض نقديا في تحليله للمراحل الأقدم عهدا في التفكير الفلسفي؛ لذلك أخذ هذا الكتاب على عاتقه، في الباب الأول منه، اختبار نواحي النقص في الفلسفة التقليدية. ويهدف هذا الجزء من بحثنا إلى إيضاح الجذور النفسية التي نما التأمل الفلسفي منها، ومن هنا فهو يتخذ صورة هجوم على ما أطلق عليه فرانسس بيكن اسم «أوهام المسرح». والواقع أن هذه الأوهام، المتعلقة بالمذاهب الفلسفية الماضية، ما زال لها من القوة ما يكفيها لكي تظل تتحدى النقد بعد ثلاثة قرون من وفاة بيكن. أما الباب الثاني من هذا الكتاب فينتقل إلى عرض للفلسفة العلمية، ويحاول جمع النتائج الفلسفية التي ظهرت نتيجة لتحليل العلم الحديث واستخدام المنطق الرمزي.
وعلى الرغم من أن هذا الكتاب يتناول المذاهب الفلسفية والتفكير العلمي، فإن مؤلفه لم يفترض في القارئ معرفة بالاصطلاحات الفنية للموضوع الذي يعالجه؛ فهو يتضمن على الدوام شرحا للمفاهيم والنظريات الفلسفية، يسير جنبا إلى جنب مع ما يوجه إليها من نقد. ومع أن الكتاب يبحث في التحليل المنطقي للرياضة والفيزياء الحديثتين، فإنه لا يفترض في القارئ أن يكون رياضيا أو فيزيائيا، فإن كان لدى القارئ من الحس السليم ما يكفي لكي يبعث فيه الرغبة في أن يعرف أكثر مما يمكن أن يعرفه بالحس السليم وحده، فإنه يكون قادرا على تتبع مناقشات هذا الكتاب.
وإذن فمن الممكن استخدام هذا الكتاب مقدمة للفلسفة، وللفلسفة العلمية بوجه خاص. ومع ذلك فليس الهدف منه تقديم ما يسمى بالعرض «الموضوعي » للمعلومات الفلسفية التقليدية؛ إذ إنه لا يحاول عرض المذاهب الفلسفية بطريقة الشارح الذي يود الاهتداء إلى قدر من الحقيقة في كل فلسفة، ويأمل أن يقنع قراءه بأن من الممكن فهم كل مذهب فلسفي؛ ذلك لأن هذه الطريقة في تعليم الفلسفة ليست ناجحة كل النجاح؛ فقد وجد الكثيرون، ممن أرادوا دراسة الفلسفة من خلال كتب تزعم أنها تقدم لها عرضا موضوعيا، أن النظريات الفلسفية قد ظلت مستغلقة على أفهامهم، وحاول غير هؤلاء أن يفهموا المذاهب الفلسفية على قدر استطاعتهم، وأن يجمعوا بين نتائج الفلسفة ونتائج العلم، ولكن تبين لهم أنهم لا يستطيعون الجمع بين العلم والفلسفة، ولكن، إذا كانت الفلسفة تبدو غير مفهومة بالنسبة إلى الفكر غير المتحيز، أو تبدو متعارضة مع العلم الحديث، فلا بد أن يكون الذنب في ذلك ذنب الفيلسوف؛ فلكم ضحى بالحقيقة في سبيل رغبته في تقديم الإجابات، وبالوضوح استجابة لإغراء الكلام المجازي، فضلا عن أن لغته كانت تفتقر إلى الدقة التي هي منقذ العالم من مزالق الخطأ. وعلى ذلك، فإن شاء العرض الفلسفي أن يكون موضوعيا، فعليه أن يكون موضوعيا في معايير نقده، لا بمعنى النسبية الفلسفية.
1
وإذن فالمقصود من أبحاث هذا الكتاب أن تكون موضوعية بهذا المعنى؛ فهذا العرض موجه إلى الكثيرين الذين قرءوا كتبا في الفلسفة والعلم ولم يجدوا فيها رضاءهم، والذين حاولوا الاهتداء إلى معان، ولكنهم وجدوا أنفسهم غارقين في دوامة من الألفاظ، ومع ذلك فإنهم لم يفقدوا الأمل في أن تصل الفلسفة، يوما ما، إلى ما وصل إليه العلم من دقة وإحكام.
على أن الناس لم يدركوا بعد، بما فيه الكفاية، أن مثل هذه الفلسفة العلمية موجودة بالفعل، فما زالت هناك غشاوة عن الغموض، متخلفة عن عهود الفلسفة التأملية، تحجب كل معرفة فلسفية عن أعين أولئك الذين لم يتدربوا على أساليب التحليل المنطقي. ولقد أخذت على عاتقي كتابة هذه الدراسة أملا في تبديد هذه الغشاوة بالهواء المنعش للمعاني الواضحة؛ أي إن هدف هذا الكتاب هو البحث في جذور الخطأ الفلسفي، وتقديم الأدلة التي تثبت أن الفلسفة قد ارتفعت من الخطأ إلى الصواب.
هانز ريشنباخ
جامعة كاليفورنيا، لوس أنجليس
الباب الأول
جذور الفلسفة التأملية
الفصل الأول
السؤال
فيما يلي فقرة مأخوذة من كتابات فيلسوف مشهور: «العقل هو الجوهر، فضلا عن كونه قوة لا متناهية؛ إذ إن مادته اللامتناهية الخاصة تكمن من وراء الحياة الطبيعية والروحية كلها، فضلا عن الصورة اللامتناهية التي تبعث الحركة في تلك المادة؛ فالعقل هو الجوهر الذي تستمد منه كل الأشياء وجودها.»
إن قراء كثيرين لا يطيقون صبرا على هذا النوع من النواتج اللغوية، وحين يخفقون في إدراك أي معنى لها، فقد يشعرون بالميل إلى الإلقاء بالكتاب في النار، ولكنا ندعو مثل هذا القارئ، لكي يتجاوز مرحلة الاستجابة الانفعالية هذه إلى مرحلة النقد المنطقي، إلى دراسة ما يسمى باللغة الفلسفية من وجهة نظر الملاحظ المحايد، مثلما يدرس عالم التاريخ الطبيعي عينة نادرة من الحشرات؛ فتحليل الخطأ يبدأ بتحليل اللغة.
على أن دارس الفلسفة لا يثور عادة من جراء الصيغ الغامضة، بل إنه يقتنع على الأرجح، مند قراءة النص السابق، بأن الخطأ في عدم فهمه إياه إنما هو خطؤه؛ لذا تراه يقرؤه مرة تلو المرة، وقد يصل بمضي الوقت إلى مرحلة يعتقد فيها أنه قد فهمه، عند هذه النقطة يبدو من الواضح تماما في نظره أن العقل يتألف من مادة لا متناهية تكمن من وراء كل حياة طبيعية وروحية؛ وبالتالي فهو جوهر الأشياء جميعا. وهو يتكيف نفسيا مع هذه الطريقة في الكلام إلى حد أنه ينسى كل الانتقادات التي قد يوجهها شخص أقل «ثقافة».
ولكن، لنتأمل العالم المدرب على استخدام ألفاظه بطريقة يكون لكل جملة فيها معنى. إن عباراته تصاغ بحيث يكون في وسعه دائما أن يثبت صوابها، ولا يضيره أن يكون البرهان منطويا على سلاسل فكرية طويلة، فهو لا يخشى التفكير المجرد، ولكنه يشترط أن يرتبط التفكير المجرد، على نحو ما، بما تراه عينه وتسمعه أذنه وتلمسه أصابعه. فماذا يقول شخص كهذا إذا قرأ الفقرة التي اقتبسناها من قبل؟
إن كلمتي «مادة
material » و«جوهر أو عنصر
substance »
1
ليستا غريبتين بالنسبة إليه، فهو قد طبقهما في وصفه لكثير من التجارب؛ إذ إنه قد تعلم أن يقيس وزن المادة أو الجوهر وصلابته، وهو يعلم أن المادة قد تتألف من عناصر (أو جواهر) متعددة، قد يبدو كل منهما مختلفا كل الاختلاف عن المادة؛ وإذن فهاتان الكلمتان لا تثيران بذاتهما أية صعوبة.
ولكن أي نوع من المادة ذلك الذي يكمن من وراء الحياة؟ قد يتصور المرء أنها العنصر (أو الجوهر) الذي تتألف منه الأجسام. فكيف إذن يكون ذلك هو العقل نفسه؟ إن العقل قدرة مجردة للبشر، تتبدى في سلوكهم، أو في جوانب معينة من سلوكهم، إذا آثرنا التواضع. فهل يود الفيلسوف الذي اقتبسنا منه هذا الكلام أن يقول إن أجسامنا تتألف من إحدى قدراتها المجردة؟
إن الفيلسوف ذاته لا يمكن أن يعني مثل هذا الرأي الممتنع. فما الذي يعنيه إذن؟ أغلب الظن أنه يعني أن أحداث الكون جميعها منظمة بحيث تخدم هدفا عقليا. وهذا افتراض مشكوك فيه، ولكنه مفهوم على الأقل. ومع ذلك، فإن كان هذا ما يريد الفيلسوف أن يقوله، فلم كان يتعين عليه أن يقوله على طريقة الألغاز؟
هذا هو السؤال الذي أود أن أجيب عنه قبل أن يتسنى لي أن أحدد ما هي الفلسفة، وما ينبغي أن تكون.
الفصل الثاني
البحث عن العمومية والتفسير الوهمي
البحث عن المعرفة قديم قدم التاريخ البشري؛ فمع بداية التجمع الاجتماعي، واستخدام الأدوات من أجل مزيد من الإرضاء للحاجات اليومية نشأت الرغبة في المعرفة، ما دامت المعرفة لا تنفصل عن السيطرة على موضوعات بيئتنا من أجل تسخيرها لخدمتنا.
وأساس المعرفة هو التعميم؛ فإدراك أن النار تنتج بقدح الخشب على نحو معين، هو معرفة مستخلصة بالتعميم من تجارب فردية؛ إذ إن هذا القول يعني أن قدح الخشب بهذه الطريقة يؤدي دائما إلى ظهور النار؛ وعلى ذلك فإن فن الكشف هو فن التعميم الصحيح. ولا بد من أن نستبعد من التعميم ما لا يرتبط بالموضوع، كالشكل أو الحجم الخاص لقطعة الخشب المستخدمة، وأن ندرج فيه ما يرتبط به، مثل جفاف الخشب؛ وإذن فمن الممكن تعريف لفظ «الارتباط» على النحو الآتي: يكون العامل مرتبطا بالموضوع إذا كان ذكره ضروريا لكي يكون التعميم صحيحا. وهكذا فإن التفرقة بين العوامل المرتبطة بالموضوع والعوامل غير المرتبطة به هي بداية المعرفة.
فالتعميم إذن هو أصل العلم. ولقد تبدى على الأقدمين في مختلف فنون الحضارة التي كانوا يحذقونها، كبناء المساكن، ونسج المنسوجات، وصنع الأسلحة، وقيادة السفن الشراعية، وزراعة الأرض. وهو يتجلى بصورة أوضح في علومهم الفيزيائية، والفلكية، والرياضية. والأمر الذي يبيح لنا الحديث عن علم قديم هو أن القدماء قد نجحوا في وضع عدد لا بأس به من التعميمات التي تتصف بالصبغة الشاملة إلى حد ما؛ فهم قد عرفوا قوانين الهندسة، التي تسري على جميع أجزاء المكان بلا استثناء، وقوانين الفلك، التي تسري على الزمان، وعددا من القوانين الفيزيائية والكيميائية، كقوانين الروافع والقوانين التي تربط الحرارة بالانصهار، كل هذه القوانين تعميمات، فهي تقول: إن نتيجة معينة تسري على جميع الأشياء التي هي من نوع محدد. وبعبارة أخرى، فهي عبارات تتخذ صيغة «إذا كان كذا، حدث كذا دائما
if ... then always .» ومن أمثلة ذلك عبارة «إذا سخن الحديد بالقدر الكافي، فإنه ينصهر دائما.»
وفضلا عن ذلك فإن التعميم هو قوام التفسير ذاته؛ فما نعنيه بتفسير واقعة ملاحظة هو إدراج هذه الواقعة في قانون عام. فنحمن نلاحظ مثلا أنه كلما تقدم النهار هبت رياح من البحر إلى اليابس، ونفسر هذه الواقعة بإدراجها في القانون العام القائل إن الأجسام تتمدد بالحرارة؛ وتغدو بالتالي أخف في حالة تساوي حجومها، ثم ندرك كيف ينطبق هذا القانون على المثل الذي نحن بصدد بحثه؛ إذ إن الشمس تسخن الأرض إلى حد أقوى من تسخينها للماء، بحيث يصبح الهواء فوق الأرض دافئا، فيرتفع إلى أعلى، ويخلي مكانه لتيار هوائي آت من البحر. كذلك فإننا نلاحظ أن الكائنات العضوية الحية تحتاج إلى الغذاء لكي تعيش، وتفسر هذه الواقعة بإدراجها ضمن قانون عام، هو قانون «بقاء الطاقة»؛ فالطاقة التي تبذلها الكائنات العضوية في أوجه نشاطها، لا بد أن تعوض بالسعرات الحرارية للغذاء. كما أننا نلاحظ أن الأجسام تسقط إذا لم ترتكز على شيء، ونفسر هذه الواقعة بإدراجها في القانون العام القائل إن الكتل يجذب بعضها بعضا؛ أي إن الكتلة الهائلة للأرض تشد الكتل الصغيرة نحو سطحها.
على أن كلمتي «تجذب» و«تشد» اللتين استخدمناهما في المثال الأخير كلمتان محفوفتان بالخطر؛ فهما تنطويان على تشبيه بتجارب نفسية معينة؛ ذلك لأن الأشياء التي نرغب فيها، كالطعام أو السيارات الحديثة الطراز، تجذبنا، فنتجه إلى تصور جذب الأرض للأجسام كما لو كان إرضاء لرغبة معينة، من جانب الأرض على الأقل، غير أن مثل هذا التفسير إنما هو من قبيل ما يسميه المنطقي ب «التشبيه بالإنسان
anthropomorphism »؛ أي نسبة صفات بشرية إلى الموضوعات الطبيعية. ومن الواضح أن التوازي بين الحوادث الطبيعية والاهتمامات البشرية لا يقدم أي تفسير، فعندما نقول إن قانون الجاذبية عند نيوتن يفسر سقوط الأجسام، فإننا نعني أن حركة الأجسام نحو الأرض تندرج ضمن قانون عام تتحرك بمقتضاه كل الأجسام بعضها نحو البعض، وكلمة «الجاذبية» كما استخدمها نيوتن لا تعني أكثر من حركة الأجسام هذه بعضها نحو البعض؛ أي إن القوة التفسيرية لقانون نيوتن لا تستمد إلا من عموميته، لا من تشبيهه السطحي بالتجارب النفسية؛ وإذن فالتفسير تعميم.
وقد يتم التوصل إلى التفسير أحيانا عن طريق افتراض واقعة لم تلاحظ أو لا يمكن ملاحظتها. مثال ذلك أن نباح الكلب يمكن تفسيره بافتراض أن شخصا غريبا يقترب من البيت، ووجود الحفريات البحرية في الجبال يمكن تفسيره بافتراض أن الأرض كانت في وقت من الأوقات في مستوى أكثر هبوطا، وكان المحيط يغطيها، غير أن الواقعة غير الملاحظة لا تكون تفسيرية إلا لأنها تبين أن الواقعة الملاحظة مظهر لقانون عام، هي أن الكلاب تنبح عند اقتراب شخص غريب، أو أن الحيوانات البحرية لا تعيش في اليابس؛ وعلى ذلك فالقوانين العامة يمكن أن تستخدم في الاستدلالات التي تكشف وقائع جديدة، ويصبح التفسير أداة لتكملة عالم التجربة المباشرة بموضوعات وحوادث مستخلصة بالاستدلال.
فلا عجب إذن إن أدى التفسير الناجح لكثير من الظواهر الطبيعية إلى تكوين ميل إلى زيادة التعميم في الذهن البشري؛ ذلك لأن الوقائع الملاحظة، على كثرتها، لم تكن ترضي رغبتنا في المعرفة، وإنما كان السعي إلى المعرفة يتجاوز نطاق الملاحظة ويحتاج إلى تعميم. ومع ذلك فإن الأمر الواقع المؤسف هو أن الناس يميلون إلى تقديم إجابات حتى عندما تعوزهم وسائل الاهتداء إلى إجابات صحيحة؛ فالتفسير العلمي يقتضي ملاحظة واسعة النطاق، وتفكيرا نقديا فاحصا، وكلما كان التعميم الذي نسعى إليه أعظم، كانت كمية المادة الملاحظة التي يحتاج إليها أكبر، وكان التفكير النقدي الذي يقتضيه أدق. أما في الحالات التي كان التفسير العلمي يخفق فيها نظرا إلى قصور المعرفة المتوافرة في ذلك الوقت عن تقديم التعميم الصحيح، فقد كان الخيال يحل محله، ويقدم نوعا من التفسير يشبع النزوع إلى العمومية عن طريق إرضائه بمشابهات ساذجة؛ وعندئذ كان يشيع الخلط بين التشبيهات السطحية، ولا سيما التشبيهات بالتجارب البشرية، وبين التعميمات، وكانت الأولى تؤخذ على إنها تعميمات، وهكذا تتم تهدئة الرغبة في الوصول إلى العمومية، عن طريق تفسيرات وهمية؛ وعلى هذا الأساس نبتت الفلسفة.
مثل هذا الأصل لا يبدو مشرفا، غير أنني لست بسبيل كتابة خطاب توصية وتقريظ للفلسفة، وإنما أود أن أفسر وجودها وطبيعتها. ومن الحقائق التي ينبغي الاعتراف بها أن ما في الفلسفة من نواحي الضعف والقوة معا، يمكن تفسيره عن طريق إرجاعها إلى مثل هذا الأصل المتواضع.
فلأضرب مثلا لما أعنيه بالتفسير الوهمي. إن الرغبة في فهم العالم الفيزيائي قد أدت في كل العصور إلى إثارة السؤال عن كيفية بدء العالم، وفي أساطير الشعوب جميعا تفسيرات بدائية لأصل الكون، وأشهر قصة للخلق، وهي تلك التي أنتجتها الروح العبرانية الخيالية، متضمنة في العهد القديم، وهي ترجع إلى حوالي القرن التاسع ق.م، وهي تفسر العالم على أساس أنه من خلق «ياهوا». هذا التفسير من النوع الساذج الذي يرضي ذهنا بدائيا، أو ذهنا شبيها بأذهان الأطفال؛ إذ يستعين بتشبيهات بشرية؛ فكما يصنع البشر بيوتا وأدوات وحدائق، فكذلك صنع «ياهوا» العالم. وهكذا فإن السؤال عن منشأ العالم المادي، وهو من أهم الأسئلة وأكثرها أهمية، يجاب عليه عن طريق التشبيه بتجارب من البيئة اليومية. ولقد لاحظ الكثيرون، عن حق، أن هذا النوع من الصور لا يشكل تفسيرا، وأنها لو صحت لزادت من صعوبة حل مشكلة التفسير، فقصة الخلق تفسير وهمي.
ومع ذلك، فما أعظم القوة الإيحائية الكامنة فيها! لقد قدم بنو إسرائيل إلى العالم، وهم لا يزالون في مرحلة بدائية، قصة تبلغ من الحيوية حدا جعلها تخلب ألباب القراء جميعا حتى يومنا هذا؛ فخيالنا يفتتن بالصورة الوقور لإله قديم تحركت روحه فوق صفحة المياه، وأوجد العالم كله بقليل من الأوامر، كذلك فإن هذه القصة القديمة الرائعة ترضي رغباتنا العميقة الكامنة في أن يكون لنا أب قوي، غير أن إرضاء الرغبات النفسية ليس تفسيرا. والواقع أن الفلسفة ظلت على الدوام تتعرض لخطر الخلط بين المنطق والشعر، وبين التفسير العقلي والخيال، وبين العمومية والتشبيه. وكم من المذاهب الفلسفية يشبه العهد القديم في كونه عملا شعريا رائعا، يزخر بالصورة التي تثير خيالنا، ولكنه يفتقر إلى القدرة على الإيضاح، وهي القدرة المنبعثة من التفسير العلمي.
وهناك بعض التفسيرات اليونانية لأصل الكون، تختلف عن قصة أصل العالم عند بني إسرائيل في كونها تفترض تطورا، لا خلقا. وهي في هذه الناحية أقرب إلى الطابع العلمي، غير أنها لا تقدم تفسيرا علميا بالمعنى الحديث؛ لأنها بدورها مبنية على تعميمات بدائية من التجربة اليومية؛ فقد كان أنكسمندر الذي عاش حوالي عام 600ق.م يعتقد أن العالم قد تطور من جوهر لا محدود، أطلق عليه اسم «الأبيرون
apeiron »؛ ففي البدء انفصل الحار عن البارد، الذي أصبح هو الأرض أو التراب، ثم أحاطت النار الحارة بالأرض الباردة، فغلفتها حلقات من الهواء أسطوانية الشكل، وما زالت النار على هذا الوضع، فهي ترى من خلال ثقوب الاسطوانات، التي تبدو لنا في صورة الشمس والقمر والنجوم. أما الكائنات الحية فقد تطورت من الرطوبة المحيطة بالأرض، وبدأت بأشكال دنيا، بل إن البشر أنفسهم بدءوا أسماكا. وهكذا فإن الفيلسوف الذي قدم إلينا هذه الصورة الخيالية لأصل العالم قد نظر إلى التشبيه على أنه تفسير، ومع ذلك فإن تفسيره الوهمي ليس عقيما كل العقم، وإذا استخدمت مرشدا لمزيد من الملاحظة والتحليل، فقد تؤدي بمضي الوقت إلى تفسيرات أفضل. مثال ذلك أن أشكال أنكسمندر الأسطوانية الشبيهة بالعجلات إنما هي محاولات لتفسير المسارات الدائرية للنجوم.
إن هناك نوعين من التعميم الزائف، يمكن تقسيمها إلى ضربين من الخطأ، أحدهما لا يجلب ضررا، والآخر ضار. أما أخطاء النوع الأول، التي نصادفها في كثير من الأحيان لدى فلاسفة ذوي أذهان تجريبية، فمن السهل تصحيحها وتقويمها في ضوء المزيد من التجربة؛ وأما أخطاء النوع الثاني، التي تتألف من تشبيهات وتفسيرات وهمية، فتؤدي إلى المجادلات اللفظية الفارغة، وإلى النزعة القطعية الخطيرة. ويبدو أن هذا النوع من التعميمات يسود أعمال الفلاسفة التأمليين.
فلنضرب مثلا للتعميم الضار، الذي يستخدم تشبيها زائفا بقصد تكوين قانون شامل، بالفقرة الفلسفية التي اقتبسناها في المقدمة. إن الملاحظة التي ترتكز عليها هذه العبارة هي أن العقل يتحكم إلى حد بعيد في الأفعال البشرية؛ وبالتالي يحدد التطورات الاجتماعية تحديدا جزئيا على الأقل. ولما كان الفيلسوف يبحث عن تفسير، فإنه ينظر إلى العقل على أنه يشبه جوهرا يتحكم في خصائص الموضوعات التي تتألف منه. مثال ذلك أن جوهر الحديد يتحكم في خصائص الجسر الذي يبنى به، ولكن من الواضح أن التشبيه سيئ إلى حد بعيد؛ ذلك لأن الحديد من نفس نوع المادة التي صنع منها الجسر، أما العقل فليس مادة كالأجسام البشرية، ولا يمكن أن يكون هو الحامل المادي للأفعال البشرية. وعندما أتى طاليس، الذي اشتهر في حوالي عام 600ق.م بوصفه «حكيم مليتوس» (ملطية)، بنظريته القائلة إن الماء جوهر الأشياء جميعا، كان في ذلك يقوم بتعميم زائف؛ إذ إن ملاحظة وجود الماء في كثير من المواد، كالتربة أو الكائنات العضوية الحية، قد وسعت بحيث أصبحت تقول إن الماء متضمن في كل موضوع . ومع ذلك فإن نظرية طاليس معقولة من حيث إنها تتخذ من جوهر مادي حجر البناء لكل المواد الأخرى ؛ فهي على الأقل تعميم - وإن يكن زائفا - وليست تشبيها. فما أرفع لغة طاليس بالقياس إلى الفقرة المقتبسة!
إن عيب اللغة الفضفاضة هو أنها تخلق أفكارا باطلة، وتظهر هذه الحقيقة بوضوح في تشبيه العقل بالجوهر، ولا شك أن الفيلسوف الذي كتب هذه الفقرة خليق بأن يعترض بشدة على تفسير عبارته بأنها مجرد تشبيه، وإنما هو يدعي أنه قد اهتدى إلى الجوهر الحقيقي للأشياء جميعا، ويسخر من أي تأكيد لمعنى الجوهر المادي؛ فهو يذهب إلى أن للجوهر معنى «أعمق»، لا يكون الجوهر المادي بالنسبة إليه سوى حالة خاصة. ولو ترجمنا رأيه هذا إلى لغة مفهومة، لكان معناه أن العلاقة بين حوادث الكون وبين العقل هي نفس العلاقة الموجودة بين الجسر وبين الحديد الذي صنع منه، ولكن من الواضح أن هذه المقارنة غير مقبولة، والمقارنة تثبت أن أي تفسير جاد للتشبيه يؤدي إلى خطأ منطقي؛ فقد يؤدي إطلاق اسم الجوهر على العقل إلى إثارة صور لدى السامع، غير أن الاستمرار في استخدام هذه المجموعة من الألفاظ يضلل الفيلسوف، فيجعله يقفز إلى نتائج لا يقرها المنطق. والواقع أن الأخطاء الخطيرة التي تتولد عن التشبيهات الفاسدة كانت، ولا تزال، الآفة التي يعاني منها الفيلسوف طوال العصور.
إن المغالطة التي ترتكب في هذا التشبيه إنما هي مثال نوع من الخطأ يطلق عليه اسم صبغ المجردات بصبغة جوهرية
Substantialization of abstracta
أو تجسيم المجردات؛ فالاسم المجرد، مثل «العقل»، يعامل كما لو كان يشير إلى كيان شبيه بالشيء. وتنطوي فلسفة أرسطو (384-322ق.م) على مثل كلاسيكي لهذا النوع من المغالطة، حين يعالج موضوع الصورة والمادة.
فالموضوعات الهندسية تتبدى على هيئة صورة متميزة عن المادة التي تتكون، بحيث يمكن أن تتغير الصورة مع بقاء المادة على حالها، ولكن هذه التجربة اليومية البسيطة أصبحت هي المرجع الذي كتب على أساسه فصل في الفلسفة لم يكن غموضه بأقل من انتشاره وقوة تأثيره، وما كان ليظهر إلا نتيجة لإساءة استخدام تشبيه؛ فأرسطو يقول إن صورة التمثال المقبل ينبغي أن تكون في كتلة الخشب قبل أن تنحت ، وإلا لما ظهرت فيها فيما بعد، وبالمثل يكون قوام كل صيرورة هو عملية تشكل المادة في صورة؛ وإذن فلا بد أن تكون الصورة شيئا. وواضح أن هذا الاستدلال لا يمكن أن يتم إلا عن طريق استخدام غامض للألفاظ؛ فالقول إن صورة التمثال موجودة في الخشب قبل أن يشكله النحات، يعني أن في استطاعتنا أن نحدد في داخل كتلة الخشب، أو أن «نرى» فيها سطحا مماثلا للسطح الذي ظهر في التمثال فيما بعد. وحين يقرأ المرء كتابات أرسطو، يشعر أحيانا بأنه لا يعني بالفعل إلا هذه الحقيقة الضئيلة الشأن، غير أن الفقرات الواضحة المعقولة في كتاباته تعقبها لغة غامضة، فهو يقول أشياء مثل: المرء يصنع كرة من النحاس بواسطة البرونز والكرة، عن طريق وضع الصورة في هذه المادة، ويصل إلى حد النظر إلى الصورة على أنها جوهر يوجد على الدوام بلا تغير.
وهكذا أصبحت استعارة لفظية أصلا لمبحث فلسفي يسمى بالأنطولوجيا، ويفترض أنه يبحث في الأسس النهائية للوجود. والواقع أن عبارة «الأسس النهائية للوجود» هي ذاتها استعارة لفظية. وليغتفر لي القارئ لو استخدمت اللغة الميتافيزيقية دون مزيد من التفسير، واكتفيت بأن أضيف القول بأن الصورة والمادة عند أرسطو أساسان نهائيان للوجود، من هذا النوع؛ فالصورة في نظره وجود بالفعل، والمادة وجود بالقوة؛ لأن المادة تقبل اتخاذ صور كثيرة متباينة. وفضلا عن ذلك فإنه يرى أن العلاقة بين الصورة والمادة كامنة من وراء كثير من العلاقات الأخرى؛ فالفلك الأعلى والأدنى، والعناصر الرفيعة والدنيا، في نظام الكون، وكذلك النفس والجسم، والذكر والأنثى، يرتبطون فيما بينهم بعلاقة الصورة والمادة. ومن الواضح أن أرسطو يعتقد أن هذه العلاقات الأخرى يمكن تفسيرها عن طريق مقارنتها، على نحو متعسف، بالعلاقة الأساسية بين الصورة والمادة. وهكذا فإن التفسير الحرفي للتشبيه يقدم تفسيرا وهميا، يؤدي عن طريق الاستخدام غير النقدي لصورة لفظية، إلى إدراج عدة ظواهر مختلفة تحت فئة واحدة .
وإني لعلى استعداد للاعتراف بأنه لا ينبغي الحكم على أهمية أرسطو التاريخية بمقياس نقدي هو نتاج للتفكير العلمي الحديث ، ولكننا لو قسنا ميتافيزيقاه، حتى بالمعايير العلمية لعصره، أو على أساس ما أنجزه في ميادين علم الحياة والمنطق، لما بدت لنا معرفة ولا تفسيرا، بل لكانت ذات طابع تشبيهي؛ أعني هروبا إلى اللغة المجازية. وهكذا فإن النزوع إلى كشف التعميمات يؤدي بالفيلسوف إلى نسيان نفس المبادئ التي يطبقها بنجاح في ميادين للبحث أضيق حدودا، ويجعله ينقاد للألفاظ حيث لا تكون المعرفة قد توافرت بعد. وهنا نجد الأساس النفسي لذلك المزيج العجيب من الملاحظة والميتافيزيقا، الذي جعل من هذا الباحث البارز في ميدان جمع المواد التجريبية، مفكرا ذا نزعة نظرية قطعية، يرضي رغبته في التفسير بنحت ألفاظ وإقامة مبادئ لا يمكن ترجمتها إلى تجارب قابلة للتحقيق.
والواقع أن معلومات أرسطو عن تركيب الكون، أو عن الوظيفة البيولوجية للذكر والأنثى، لم تكن تكفي لإقامة تعميم؛ فقد كانت معارفه الفلكية مرتبطة بالنظام الذي يتخذ من الأرض مركزا للكون، كما أن معرفته لعملية التناسل لم تكن تشمل ما يعد حقيقة أولية بالنسبة إلى علم البيولوجيا الحديث؛ فهو لم يعرف أن الحيوان المنوي للذكر وبويضة الأنثى يتحدان لتكوين فرد جديد. وإذا لم يكن من حق أحد أن يلومه على عدم معرفة نتائج لم يكن من الممكن كشفيا بدون التلسكوب أو الميكروسكوب، فإن مما يعاب عليه أنه قد تصور، دون أن تتوافر لديه معلومات كافية، أن التشبيهات الهزيلة تكون تفسيرا؛ فهو في حديثه عن التناسل مثلا يقول: إن الذكر يقتصر على طبع صورة على الجوهر البيولوجي للأنثى. غير أن هذا التعبير الغامض، الذي هو مضلل حتى بوصفه مجازا، لا يمكن أن يعد الخطوة الأولى في الطريق المؤدي إلى طرق أسلم في التفكير. ولقد كانت بالفعل عائقا في وجه نمو الفلسفة العلمية، بدلا من أن تمهد لها الطريق بالتدريج؛ فميتافيزيقا أرسطو كان لها تأثيرها في الفكر طوال ألفي عام، وما زالت تلقى إعجاب كثير من الفلاسفة حتى اليوم .
ومن الصحيح أن مؤرخي الفلسفة المحدثين يستبيحون لأنفسهم من آن لآخر توجيه انتقادات في سياق التبجيل المعتاد لأرسطو، زاعمين أنهم يميزون بين استبصاراته الفلسفية وبين تلك الأجزاء التي يعدونها - داخل مذهبه - ناتجة عن قصور المعرفة في عصره، غير أن ما يقدم إلينا على أنه استبصار فلسفي هو في أغلب الأحيان ثرثرة لفظية فارغة تملأ بمعان لم تخطر للمفكر نفسه على بال؛ فالعلاقة بين المادة والصورة يمكن التعبير عنها في تشبيهات متعددة، ولكنها لا تقدم تفسيرا. ومن هنا فإن تأويل آراء الفيلسوف بطريقة الدفاع والتبرير ليس هو وسيلة التغلب على الأخطاء المتأصلة فيه، وليس مما يساعد على تقدم البحث الفلسفي أن نضفي على أخطاء كبار المفكرين معاني تبلغ من التحريف حدا تغدو معه هذه الأخطاء تخمينات تنبئية، بآراء لم تتوافر للناس المواد والوسائل التي تعين على إثباتها، إلا في عصور متأخرة. ولقد كان تاريخ الفلسفة خليقا بأن يحرز تقدما أعظم بكثير لو لم يكن أولئك الذين يتخذون منه موضوعا لأبحاثهم قد أخروا مساره إلى هذا الحد.
لقد اتخذت من نظرية المادة والصورة عند أرسطو مثالا لما أسميته بالتفسير الوهمي، ولدينا في الفلسفة القديمة مثل آخر لهذه الطريقة المؤسفة في الاستدلال، وأعني به فلسفة أفلاطون. ولما كان أرسطو قد تتلمذ في وقت ما على أفلاطون، فإن المرء قد يذهب إلى حد الاعتقاد بأن إغراق أستاذه في الالتجاء إلى اللغة المجازية والنزعة التشبيهية هو الذي عوده على هذه الطريقة في التفكير، ولكنى أوثر أن أختبر فلسفة أفلاطون دون إشارة إلى تأثيرها في أرسطو، وهو التأثير الذي حلله الكثيرون؛ فمن الممكن تتبع تأثيرها في عدد كبير من المذاهب الفلسفية المتباينة، وهذا وحده سبب كاف لدراسة أصلها المنطقي بمزيد من التفصيل.
إن فلسفة أفلاطون (427-347ق.م) مبنية على نظرية من أغرب النظريات الفلسفية، وأقواها تأثيرا مع ذلك، وأعني بها نظرية المثل. هذه النظرية، التي لقيت إعجابا لا حد له، والتي هي لا منطقية في صميمها، قد نشأت من محاولة إيجاد تفسير لإمكان المعرفة الرياضية، وكذلك السلوك الأخلاقي. وسوف أناقش الأصل الثاني لهذه النظرية في الفصل الرابع، أما الآن فسوف أقتصر على تقديم ملاحظات عن الأصل الأول.
كان البرهان الرياضي يعد على الدوام منهجا للمعرفة تتحقق فيه أرفع معايير الحقيقة. ولا شك في أن أفلاطون قد أكد سمو الرياضة على كل ضروب المعرفة الأخرى، غير أن دراسة الرياضة تؤدي إلى صعوبات منطقية معينة عندما يسير فيها المرء على أساس الموقف النقدي للفيلسوف، وهذا ينطبق بوجه خاص على الهندسة، وهي علم كانت له مكانة بارزة في أبحاث علماء الرياضة اليونانيين. وسوف أشرح هذه الصعوبات بالصورة المنطقية والمصطلحات التي نعرضها بها اليوم، ثم أناقش الحل الذي قدمه أفلاطون.
ومما يعيننا على إيضاح المشكلة، أن نقوم باستطراد موجز في مجال المنطق. إن عالم المنطق يميز بين القضايا الكلية والقضايا الجزئية؛ فالقضايا الكلية تتعلق بالكل، وصيغتها: «كل الأشياء التي هي من نوع معين لها صفة معينة.» ويطلق على هذه القضايا أيضا اسم قضايا اللزوم العام
general implication ؛ لأنها تقرر أن الشرط الموضوع يلزم عنه وجود الصفة. فلنتأمل على سبيل المثال قضية: «كل المعادن تتمدد بالتسخين.» هذه القضية يمكن أن تصاغ على النحو الآتي: «إذا سخن المعدن تمدد.» فإذا ما أردنا تطبيق هذه النتيجة على شيء بعينه، كان لزاما علينا أن نتأكد من أن هذا الشيء يفي بالشرط الذي وضعناه، وعندئذ يمكننا أن نستدل على أنه يتصف بالصفة التي ذكرناها. فنحن نلاحظ مثلا أن معدنا معينا قد سخن، ثم ننتقل إلى القول إنه يتمدد، فتكون قضية «هذا المعدن الساخن يتمدد» قضية جزئية.
وتتخذ النظريات الهندسية صورة قضايا كلية، أو لزوم عام. مثال ذلك النظرية الآتية: «مجموع زوايا كل مثلث 180 درجة.» أو نظرية فيثاغورس: «المربع المقام على الوتر، في كل المثلثات القائمة الزوايا، يساوي مجموع المربعين المقامين على الضلعين الآخرين.» فإذا ما أردنا تطبيق أمثال هذه النظريات، كان علينا أن نتأكد من أن الشرط المنصوص عليه قد تحقق؛ فعندما نرسم مثلثا على الأرض مثلا، ينبغي أن نتأكد باستخدام خيوط مشدودة من أن أضلاعه مستقيمة ، وبعد ذلك نستطيع أن نؤكد أن مجموع زواياه 180 درجة.
ولهذا النوع من قضايا اللزوم العام فائدة كبيرة؛ فهي تتيح لنا أن نقوم بتنبؤات. فاللزوم المتعلق بتسخين الأجسام يتيح لنا التنبؤ بأن قضبان الخطوط الحديدية سوف تتمدد في الشمس، واللزوم المتعلق بالمثلثات ينبئنا مقدما بالنتائج التي سنصل إليها لو قمنا بقياس زوايا مثلث يقع بين ثلاثة أبراج. مثل هذه القضايا تسمى تركيبية
Synthetic ، وهو تعبير يمكن ترجمته بقولنا إنها إخبارية.
وهناك نوع آخر من اللزوم العام؛ فلنتأمل مثلا قضية مثل: «كل أعزب غير متزوج.» هذه القضية لا تفيدنا كثيرا؛ فلو أردنا أن نعرف إن كان شخص معين أعزب، كان من الواجب أن نعرف أولا أنه غير متزوج، وعندما نعرف ذلك، لا تنبئنا القضية بأي شيء جديد؛ فاللزوم لا يضيف أي شيء إلى الشرط الذي ينص عليه. وهذا النوع من القضايا فارغ، ويسمى تحليليا
analytic ، وهو تعبير يمكن ترجمته بقولنا إنه يشرح نفسه بنفسه
self-explanatory .
والآن ينبغي أن نناقش مسألة الطريقة التي يمكننا بها أن نعرف إن كان اللزوم العام صحيحا؛ فبالنسبة إلى اللزوم التحليلي يكون الجواب على هذا السؤال يسيرا؛ إذ إن اللزوم «كل أعزب غير متزوج» يتلو من معنى لفظ «أعزب». أما القضايا التركيبية فأمرها مختلف؛ ذلك لأن معنى لفظي «معدن» و«ساخن» لا ينطوي على أية إشارة إلى «التمدد»؛ ولذا لم يكن من الممكن التحقق من هذا اللزوم إلا بالملاحظة؛ فقد اتضح لنا في جميع تجاربنا السابقة أن المعادن تتمدد عندما تسخن؛ لذلك نشعر بأن من حقنا أن نقول بهذا اللزوم العام.
غير أن هذا التفسير يبدو عاجزا إزاء أمثلة اللزوم الهندسي. فهل عرفنا من التجارب الماضية أن مجموع زوايا المثلث 180 درجة؟ إن بعض التفكير في المنهج الهندسي كفيل باستبعاد الجواب بالإيجاب؛ فنحن نعلم أن لدى الرياضي برهانا على النظرية المتعلقة بمجموع زوايا المثلث. في هذا البرهان يرسم خطوطا على الورق، ويوضح لنا علاقات معينة بالنسبة إلى الشكل المرسوم، ولكنه لا يقيس الزوايا؛ أي إنه يلجأ إلى حقائق عامة معينة تسمى بالبديهيات ، يستخلص منها النظرية بطريقة منطقية. مثل ذلك أنه يشير إلى البديهية القائلة: إنه لم كان لدينا خط مستقيم ونقطة خارجة ، فهناك خط واحد، وواحد فقط، يمكن أن يرسم موازيا للخط الأول من هذه النقطة. هذه البديهية تظهر في الشكل الذي يرسمه، ولكنه لا يثبتها بقياسات، ولا يقيس المسافات بين الخطوط لكي يبين أن المستقيمين متوازيان.
بل إنه قد يعترف بأن الشكل الذي يرسمه رديء، ولا يقدم مثلا جيدا لمثلث ومتوازيات، ولكنه يظل يؤكد أن برهانه دقيق على الرغم من ذلك؛ فهو يقول: إن المعرفة الهندسية تنبع من الذهن، لا من الملاحظة. أما المثلثات المرسومة على الورق فقد تفيد في إيضاح ما نتحدث عنه، ولكنها لا تمدنا ببرهان؛ إذ إن البرهان مسألة استدلال، لا ملاحظة. ولكي نقوم باستدلال كهذا نتصور العلامات الهندسية، «ونرى» - بمعنى «أرفع» لهذه الكلمة - أن النتيجة الهندسية محتومة؛ وبالتالي فهي صحيحة بالمعنى الدقيق. فالحقيقة الهندسية نتاج للعقل، وهذا يجعلها أرفع من الحقيقة التجريبية، التي يهتدى إليها عن طريق التعميم من عدد كبير من الأمثلة.
ونتيجة هذا التحليل هي أن العقل يبدو قادرا على كشف الخصائص العامة للموضوعات المادية. وتلك في الواقع نتيجة تدعو إلى الاستغراب؛ إذ لن تكون هناك مشكلة إن كانت حقيقة العقل مقتصرة على الحقيقة التحليلية؛ فمن الممكن أن يعرف العقل وحده أن الأعزب غير متزوج، ولكن لما كانت هذه العبارة فارغة، فإنها لا تثير مشكلات فلسفية. أما القضايا التركيبية فأمرها مختلف؛ إذ كيف يتسنى للعقل كشف الحقيقة التركيبية؟
على هذه الصورة وجه «كانت» هذا السؤال، بعدما يربو على ألفي عام من عصر أفلاطون. ولم يكن أفلاطون قد صاغ السؤال بهذا القدر من الوضوح، ولكن لا بد أنه أدرك المشكلة بطريقة مماثلة لهذه. ونحن نستدل على هذا التفسير من الإجابة التي قدمها للسؤال؛ أي من الطريقة التي تكلم بها عن أصل المعرفة الهندسية.
فأفلاطون ينبئنا أن هناك، إلى جانب الأشياء المادية، نوعا ثانيا من الأشياء يسميه ب «المثل»
ldeas ؛ فهناك مثال المثلث، ومثال المتوازي، والدائرة، إلى جانب الأشكال المناظرة لها، المرسومة على الورق. والمثل تعلو على الأشياء المادية؛ إذ تتبدى فيها خصائص هذه الأشياء على النحو الكامل ، بحيث إن ما نعرفه عن الموضوعات المادية بالتطلع إلى مثلها يزيد على ما نعرفه بالتطلع إلى هذه الموضوعات ذاتها. ويتضح ما يعنيه أفلاطون، مرة أخرى، بالإشارة إلى الأشكال الهندسية؛ فللخطوط المستقيمة التي نرسمها سمك معين؛ ومن هنا لم تكن خطوطا بالمعنى الذي يقصده عالم الهندسة، الذي لا يكون لخطوطه سمك. وأركان المثلث الذي نرسمه في التراب هي في الواقع مساحات صغيرة؛ وبالتالي فهي ليست نقطا مثالية. وقد أدى التباين بين معاني المفاهيم الهندسية وبين تحققها من خلال الموضوعات المادية، أدى بأفلاطون إلى الاعتقاد بأن من الضروري أن تكون هناك موضوعات مثالية أو عناصر مثالية تمثل هذه المعاني. وهكذا وصل أفلاطون إلى عالم ذي حقيقة أعلى من عالم الأشياء المادية الذي نعرفه، ووصف هذه الأخيرة بأنها تشارك في الأشياء المثالية على نحو من شأنه أن يبين خصائص الأشياء المثالية بطريقة غير كاملة.
غير أن الموضوعات الرياضية ليست هي الأشياء الوحيدة التي توجد بصورة مثالية؛ ففي رأي أفلاطون أن هناك مثلا من شتى الأنواع، كمثال القط، والإنسان، أو البيت. وبالاختصار، فكل اسم يدل على فئة (أي اسم لنوع من الموضوعات، أو اسم كلي)، يدل على وجود مثال مناظر، وتتميز مثل الأشياء الأخرى، شأنها شأن المثل الرياضية، بأنها كاملة، بالقياس إلى نسخها الناقصة في العالم الواقعي. وهكذا فإن مثال القط تتبدى فيه كل الصفات «القططية» بصورة كاملة، ومثال الرياضي يسمو على كل رياضي فعلي من جميع الأوجه؛ فهو مثلا يتميز بقوام جسمي مثالي. وبهذه المناسبة فإن كلمة «مثالي»، بالمعنى الذي نستخدمه حاليا لهذه الكلمة، مستمدة من نظرية أفلاطون.
وعلى الرغم مما قد تبدو عليه نظرية المثل من غرابة في نظر الذهن الحديث، فينبغي أن ننظر إليها، في إطار المعرفة المتوافرة في عصر أفلاطون، على أنها محاولة للتفسير؛ أي محاولة لتفسير الطبيعة التي تبدو تركيبية للحقيقة الرياضية. فنحن نرى خواص الأشياء الفكرية (أو المثالية ) بواسطة أفعال رؤية؛ وبذلك نكتسب معرفة بالأشياء الحقيقية. وهكذا تعد رؤية الأفكار (المثل) مصدرا للمعرفة يشبه ملاحظة الموضوعات الواقعية، ولكنه أرفع منه؛ لأنه يكشف من خصائص ضرورية لموضوعاته. فالملاحظة الحسية لا تستطيع أن تنبئنا بحقيقة معصومة من الخطأ، أما الرؤية فتستطيع. ونحن نرى «بعين العقل» أنه لا يمكن، بالنسبة إلى مستقيم معين، أن نرسم من نقطة خارجة إلا مستقيما واحدا موازيا له. ولما كانت هذه المصادرة
1
تبدو لنا حقيقة معصومة من الخطأ، فلا يمكن استخلاصها من ملاحظات تجريبية، وإنما هي تفرض علينا بفعل رؤية نستطيع القيام به حتى عندما تكون عينا الجسم مغمضتين؛ وبهذه الصورة نستطيع التعبير عن مفهوم المعرفة الهندسية عند أفلاطون. وأيا ما كان رأينا في هذا المفهوم، فلا بد لنا من الاعتراف بأنه يكشف عن استبصار عميق بالمشكلات المنطقية للهندسة. وقد دافع «كانت» عن هذا الرأي، وإن يكن قد أدخل على صيغته بعض التحسينات، ولم يكن من الممكن في الواقع الاستعاضة عنه بفهم أقل غموضا منه إلا بعد أن أدت التطورات في القرن التاسع عشر إلى كشوف جديدة في ميدان الرياضيات، وهي كشوف أدت إلى استبعاد تفسيري «أفلاطون» و«كانت» للهندسة معا.
وينبغي أن ندرك أن أفعال الرؤية، عند أفلاطون، لا يمكنها تقديم معرفة إلينا إلا لأن الأشياء الفكرية (المثالية) موجودة. فالتوسع في مفهوم الوجود أساسي بالنسبة إليه؛ أي إنه لما كانت الأشياء المادية موجودة فمن الممكن أن ترى، ولما كانت الأفكار موجودة فمن الممكن أن ترى بعين العقل. ولا بد أن أفلاطون قد وصل إلى هذا الفهم نتيجة لحجة من هذا النوع، وإن لم يكن قد صاغ هذه الحجة صراحة؛ فهو يتصور الرؤية الرياضية على أنها مشابهة للإدراك الحسي، غير أن هذه هي النقطة التي نجد فيها أن منطق نظريته غير سليم، وذلك حتى لو حكمنا عليه بمعيار للنقد ملائم لعصره؛ ذلك لأنه يقدم إلينا تشبيها حيث كان يرمي إلى تقديم تفسير. ومن الواضح أن التشبيه ذاته غير صالح؛ فهو يمحو الفارق الباطن الذي يوجد بين المعرفة الرياضية والمعرفة التجريبية. وهو يتجاهل حقيقة واضحة، هي أن «رؤية» العلاقات الضرورية تختلف أساسا عن رؤية الموضوعات التجريبية؛ فالفيلسوف هنا يضع مجازا حيث كان ينبغي أن يضع تفسيرا، ويخترع عالما من الوجود المستقل «الأعلى»؛ لأنه يسير على أساس التشبيه بدلا من التحليل. وكما رأينا من قبل في الأمثلة التي قدمناها لفلسفات أخرى، فإن التأويل الحرفي لتشبيه ما، يصبح أصل سوء الفهم الفلسفي. وهكذا فإن نظرية المثل، بتعميمها لتصور الوجود، لا تأتينا إلا بتفسير وهمي.
وقد يحاول المفكر ذو النزعة الأفلاطونية أن يدافع عن نفسه بحجة من هذا القبيل: إن وجود الأفكار ينبغي ألا يساء تأويله؛ فليس من الضروري أن يكون وجودها من نفس نوع وجود الموضوعات التجريبية تماما. ألا يحق للفيلسوف أن يتخذ ألفاظا معينة مستمدة من اللغة اليومية، بمعنى أوسع إلى حد ما، إذا كان في حاجة إلى هذه الألفاظ؟
على أنني لا أعتقد أن هذه الحجة تتضمن دفاعا مقنعا عن المذهب الأفلاطوني. صحيح أن لغة العلم كثيرا ما تستعير ألفاظ الحياة اليومية؛ نظرا إلى تشابهها مع تصورات جديدة يحتاج إليها العالم. مثال ذلك أن لفظ «الطاقة» يستخدم في الفيزياء بمعنى مجرد مشابه إلى حد ما لمعناه في الحياة اليومية، غير أن إعادة استخدام الألفاظ على هذا النحو لا يكون أمرا مباحا إلا عندما يعرف المعنى الجديد بدقة، ويلتزم المرء في كل استخدام آخر للفظ بمعناه الجديد، لا بمشابهته مع المعنى القديم. فعالم الفيزياء الذي يتحدث عن طاقة الإشعاع الشمسي، لا يسمح لنفسه بأن يقول إن الشمس مليئة بالطاقة والنشاط، شأنها شأن الإنسان المليء بالطاقة والنشاط؛ إذ إن في هذه اللغة عودة إلى المعاني القديمة للفظ. على أن استخدام أفلاطون للفظ «الوجود» ليس من النوع العلمي. ولو كان كذلك، لعرفت القضية القائلة إن الموضوعات الفكرية (المثالية) موجودة، من خلال قضايا أخرى لا تنطوي على مثل هذا اللفظ المشكوك فيه، ولما استخدمت بطريقة مستقلة وكأن لها معنى مماثلا لمعنى الوجود المادي. ففي استطاعتنا تعريف وجود المثلث المثالي على أنه يعني أننا نستطيع التحدث عن المثلثات من خلال ما تنطوي عليه من مضمونات، أو لنضرب مثلا من ميدان الجبر، فنقول إننا نستطيع أن نصرح بأنه يوجد حل لكل معادلة جبرية تتعلق بمقدار مجهول، إذا كانت تفي بشروط معينة. في هذا الاستخدام يعني لفظ «يوجد» أننا نعرف كيف نجد الحل، ومثل هذا الاستخدام للفظ «الوجود» هو طريقة في الكلام لا ضرر منها، يلجأ إليها الرياضيون بالفعل في أحيان كثيرة. أما عندما يتحدث أفلاطون عن وجود المثل، فإن العبارة تعني أكثر - إلى حد بعيد - من مجرد تعبير يمكن ترجمته إلى معان مقررة.
إن ما يرمي إليه أفلاطون هو تقديم تفسير لإمكان معرفة الحقيقة الرياضية، ونظريته في المثل تقدم بوصفها تفسيرا لهذه المعرفة؛ أي إنه يعتقد أن وجود المثل يمكن أن يفسر معرفتنا للموضوعات الرياضية لأنه يتيح نوعا من إدراك الحقيقة الرياضية، بنفس المعنى الذي يتيح به وجود الشجرة إدراك شجرة. ومن الواضح أن تفسير وجود المثل على أنه أسلوب في الكلام فحسب لا يعنيه في شيء، ما دام سيعجز عن تعليل ذلك النوع من الإدراك الحسي الذي قال به بالنسبة إلى الموضوعات الرياضية، وبدلا من ذلك نراه يصل إلى تصور للوجود المثالي، يشتمل على خصائص الوجود المادي والمعرفة الرياضية معا، وهو مزيج عجيب من عنصرين متنافرين، ظل شبحه يخيم على اللغة الفلسفية منذ ذلك الحين.
ولقد ذكرت من قبل أن نهاية العلم تأتي عندما نعمل على إرضاء رغبتنا في المعرفة بتقديم تفسير وهمي، وعندما نخلط بين التشبيه والعمومية، ونستخدم مجازات بدلا من تصورات محددة بدقة؛ لذلك فإن نظرية المثل عند أفلاطون، شأنها شأن بقية النظريات الكسمولوجية في عصره، ليست علما وإنما هي شعر؛ فهي نتاج للخيال، لا للتحليل المنطقي. والواقع أن أفلاطون لم يتردد، عندما توسع في عرض نظريته فيما بعد، في التعبير صراحة عن اتجاهه الفكري الذي كان صوفيا أكثر منه منطقيا؛ فهو يربط بين نظريته في المثل وبين فكرة تناسخ الأرواح.
هذا التحول يحدث في محاورة «مينو» الأفلاطونية؛ ففي هذه المحاورة يسعى سقراط إلى تفسير طبيعة المعرفة الهندسية، ويوضحها بتجربة يجربها على عبد صغير، لم يتلق تعليما منظما في الرياضيات ، ويبدو أنه يستخلص منه برهانا هندسيا؛ فهو لا يشرح للصبي العلاقات الرياضية المستخدمة في الحل، وإنما يجعله «يراها» عن طريق توجيه أسئلة إليه. ويتخذ أفلاطون من هذا الموقف الطريف مثلا للاستبصار العقلي بالحقيقة الهندسية، وللمعرفة الفطرية غير المستمدة من التجربة. هذا التفسير، وإن لم يكن مقبولا من وجهة النظر الحديثة، كان في عصر أفلاطون دليلا كافيا على فكرة رؤية المثل، غير أن أفلاطون لا يكتفي بهذه النتيجة، وإنما يود أن يمضي في التفسير أبعد من ذلك، وأن يفسر إمكان المعرفة الفطرية. وفي هذا السياق يعرب سقراط عن الرأي القائل إن المعرفة الفطرية تذكر لرؤية المثل، كان لدى الناس في «حيوات» سابقة عاشتها أرواحهم؛ فقد كانت من بين هذه الحيوات حياة في «السماء التي تعلو على السموات»، كانت المثل ترى فيها. وهكذا يلجأ أفلاطون إلى الأسطورة لكي «يفسر» معرفة المثل. وإنه لمن الصعب أن نقتنع بإمكان حدوث هذه الرؤية للمثل في حياة سابقة إن كانت مستحيلة في حياتنا الحاضرة، أو أن نقتنع بضرورة القول بنظرية للتذكر إن كانت هناك رؤية للمثل في حياتنا الحاضرة.
إن التشبيه الشعري لا يكترث بالمنطق؛ ففي الأساطير اليونانية أثير السؤال عن سبب عدم سقوط الأرض في المكان اللانهائي، وكان الجواب هو أن عملاقا، يسمى أطلس، يحمل الكرة الأرضية على كتفيه. والواقع أن نظرية التذكر عند أفلاطون ذات قدرة تفسيرية تكاد تماثل هذه القصة، من حيث إنها تكتفي بأن تنقل أصل معرفة المثل من حياة إلى أخرى. ولم يكن مذهب أفلاطون في الكونيات (الكسمولوجيا)، كما عرضه في محاورة «طيماوس»، يختلف عن هذه الأسطورة الساذجة إلا في استخدامه لغة تجريدية؛ فهو ينبئنا مثلا بأن الوجود كان موجودا قبل تكون الكون. ولا شك أن غموض اللغة هو وحده الذي يقنع الفيلسوف بأن يتبين حكمة عميقة في هذه الكلمات التي تذكرنا، لو اختبرناها بدقة، بابتسامة قطة «تشيشاير
Cheshire »،
2
التي ظلت ترى حتى بعد أن اختفت القطة.
غير أنني لا أود أن أسخر من أفلاطون؛ ذلك لأن مجازاته تتحدث بلغة بلاغية تثير الخيال، وكل ما في الأمر أن من الواجب ألا تعد تفسيرا؛ فكل ما أبدعه أفلاطون كان شعرا، ومحاوراته كانت من أروع الأعمال في الأدب العالمي. وإن قصة سقراط الذي يعلم الشبان بطريقة توجيه الأسئلة، إنما هي مثل رائع للشعر التعليمي، الذي وجد له مكانا إلى جانب إلياذة هوميروس وتعاليم الأنبياء، ولكن ليس لنا أن نأخذ آراء سقراط مأخذ الجد أكثر مما ينبغي؛ إذ إن المهم هو الطريقة التي يقول بها هذه الآراء، وكيف يستثير تلاميذه للدخول في مناقشة منطقية. ففلسفة أفلاطون إنما هي نتاج لفيلسوف انقلب شاعرا.
وإنه ليبدو أن الفيلسوف، عندما يصادف أسئلة يعجز عن الإجابة عليها، يشعر بإغراء لا يقاوم لكي يقدم إلينا لغة مجازية بدلا من التفسير. ولو كان أفلاطون قد بحث مشكلة أصل المعرفة الهندسية من وجهة نظر العالم، لوجب أن يكون رده اعترافا صريحا هو: «لا أعرف.» فالعالم الرياضي إقليدس، الذي شيد بعد جيل واحد من أفلاطون نسق البديهيات الهندسي، لم يحاول تقديم تفسير لمعرفتنا بالبديهيات الهندسية. أما الفيلسوف فيبدو عاجزا عن السيطرة على رغبته في المعرفة. وإنا لنجد العقل الفلسفي، طوال تاريخ الفلسفة، مقترنا بخيال الشاعر؛ فحيثما كان الفيلسوف يسأل، كان الشاعر هو الذي يجيب؛ لذلك فإن من الواجب، عند قراءتنا للعرض الذي يقدمه الفلاسفة لمذاهبهم، أن نركز انتباهنا في الأسئلة، لا في الإجابات المقدمة؛ ذلك لأن كشف الأسئلة الأساسية هو في ذاته إسهام عظيم الأهمية في التقدم العقلي. وعندما ينظر إلى تاريخ الفلسفة على أنه تاريخ للأسئلة، فإن الوجه الذي يتبدى عليه يغدو أخصب بكثير من ذلك الذي يبدو لنا عندما ننظر إليه على أنه تاريخ للمذاهب. وهناك بعض من هذه الأسئلة يرجع إلى عهود غابرة في التاريخ، لم يتم التوصل إلى إجابات علمية عليه إلا في أيامنا هذه. ومن هذه الأسئلة، السؤال عن أصل المعرفة الرياضية. وسوف نتناول في الفصول المقبلة أسئلة أخرى كان لها تاريخ مماثل.
إن التحليل الذي قدمناه في هذا الفصل هو الإجابة الأولى على السؤال النفسي المتعلق باللغة الفلسفية، الذي أثير عند مناقشة الفقرة التي استهللنا بها هذا الكتاب. فالفيلسوف يتحدث لغة غير علمية؛ لأنه يحاول الإجابة على الأسئلة في الوقت الذي تعوزه فيه الإجابة العلمية. ومع ذلك فإن صحة هذا التفسير التاريخي محدودة النطاق؛ فهناك فلاسفة يظلون يتحدثون بلغة مجازية في الوقت الذي تتوافر فيه بالفعل وسائل الوصول إلى حل علمي. وعلى حين أن التفسير التاريخي ينطبق على أفلاطون، فإنه لا يمكن أن يصدق على كاتب بالفقرة القائلة: إن العقل هو جوهر الأشياء جميعا. إذ كان في وسع هذا الكاتب أن يفيد من المعرفة المتراكمة طوال ألفي عام من البحث العلمي بعد عصر أفلاطون، غير أنه لم ينتفع منها.
الفصل الثالث
البحث عن اليقين والفهم العقلي للمعرفة
تبين لنا من الفصل السابق أن أصل المفاهيم الغامضة للمذاهب الفلسفية يرجع إلى نوع من النوافع الخارجة عن مجال المنطق، التي تتدخل في عملية التفكير؛ فعن طريق اللغة المجازية، يقدم الفيلسوف إرضاء وهميا لسعيه المشروع إلى تقديم تفسير يتسم بالعمومية. ومما يغري على إقحام الشعر في مجال المعرفة على هذا النحو، الميل إلى تشييد عالم خيالي من الصور، وهو ميل يمكن أن يصبح أقوى من السعي إلى الحقيقة، ويستحق هذا الميل إلى التفكير المجازي أن يسمى دافعا خارجا عن مجال المنطق؛ لأنه لا يمثل نوعا من التحليل المنطقي، وإنما يرجع أصله إلى حاجات ذهنية لا تنتمي إلى مجال المنطق.
وهناك دافع ثان خارج عن مجال المنطق، كان في كثير من الأحيان يتدخل في عملية التحليل. فعلى الرغم من أن المعرفة المكتسبة بالملاحظة الحسية هي على وجه العموم ناجحة في الحياة اليومية، فإن في وسعنا أن ندرك منذ وقت مبكر أننا لا نستطيع الاعتماد عليها أكثر مما ينبغي. فهناك بضعة قوانين فيزيائية بسيطة يبدو أنها تصح بلا استثناء، كالقانون القائل إن النار ساخنة، أو إن البشر فانون، أو إن الأجسام التي لا ترتكز على شيء تهوي. غير أن هناك قواعد أخرى كثيرة جدا لها استثناءات، كالقاعدة القائلة إن البذرة التي تغرس في الأرض تنمو، أو كقواعد الطقس أو قواعد شفاء الأمراض البشرية. وكثيرا ما تؤدي الملاحظة الأكثر شمولا إلى كشف استثناءات حتى في القوانين ذات الصبغة الأدق. مثال ذلك أن نار حشرة «ذبابة النار» ليست ساخنة، وذلك على الأقل بالمعنى المعتاد لكلمة «ساخنة»، كما أن فقاعات الصابون قد ترتفع إلى أعلى (وإن لم تكن مرتكزة على شيء). وعلى حين أن من الممكن تفسير هذه الاستثناءات بوضع صيغة أدق للقانون، تحدد شروط سريانه ومعاني ألفاظه بطريقة أدق، فإننا نظل مع ذلك نشك إن كانت الصيغة الجديدة خالية من الاستثناء، أو إن كانت ستظهر كشوف جديدة تكشف عن نوع من النقص في الصيغة المعدلة. ولا شك أن لهذا الشك مبرراته القوية، التي ترجع إلى ما أدى إليه تطور العلم مرارا من استبعاد للنظريات القديمة والاستعاضة عنها بنظريات جديدة.
وهناك مصدر آخر للشك، هو أن تجاربنا الداخلية تنقسم إلى عالم للواقع وعالم للأحلام. ولقد كانت ضرورة القيام بهذا التقسيم، من الوجهة التاريخية، كشفا تم في فترة متأخرة إلى حد ما من تطور الإنسان. فنحن نعلم أن الشعوب البدائية في عصرنا هنا لا تضع بين العالمين حدا فاصلا واضحا؛ فالإنسان البدائي الذي يحلم بأن شخصا آخر هاجمه قد يعد حلمه حقيقة، ويقتل الرجل الآخر، أو قد يحلم بأن زوجته تخدعه مع رجل آخر، فيقوم بأعمال انتقامية مماثلة أو يتخذ تدابير للقصاص، وذلك تبعا لوجهة نظره إلى الموضوع. وقد يكون المحلل النفسي على استعداد لالتماس عذر لهذا الرجل إلى حد ما، وذلك بأن يشير إلى أن مثل هذه الأحلام ما كانت لتحدث دون أسباب، وأنها تبرر الشك على الأقل، إن لم تكن تبرر العقاب. غير أن الإنسان البدائي لا يسلك على أساس اعتبارات التحليل النفسي، وإنما يسلك لافتقاره إلى تمييز واضح بين الحلم والواقع. وعلى الرغم من أن الإنسان العادي في عصرنا هذا يشعر بأنه في مأمن من هذا الخلط، فإن قليلا من التحليل يبين لنا أن ثقته هذه لا ترقى إلى مرتبة اليقين؛ ذلك لأننا عندما نحلم لا نعلم أننا نحلم، وإنما نعرف أن حلمنا كان حلما فيما بعد؛ أي عندما نستيقظ فقط. فكيف ندعي أن تجاربنا الحالية يمكن الاعتماد عليها أكثر من الحلم؟ إن كون هذه التجارب مقترنة بشعور من الواقعية لا يجعلها أكثر قابلية للاعتماد عليها؛ إذ إن هذا الشعور ذاته يكون لدينا في الحلم، فليس في وسعنا أن نستبعد تماما احتمال أن التجارب التالية ستثبت أننا نحلم الآن. وليس الغرض من إثارة هذه الحجة هو زعزعة ثقة الإنسان العادي في تجاربه، وإنما تبين هذه الحجة أننا لا نستطيع أن نعتمد على هذه الثقة اعتمادا مطلقا.
ولقد كان الفيلسوف يشعر على الدوام بالقلق؛ لأن من غير الممكن الاعتماد على الإدراك الحسي. وقد عبر عن هذا القلق بأفكار كتلك التي قدمناها، كما أنه تحدث عن خداع الحواس في حالة اليقظة، كالالتواء البادي للعصا عندما تغمر في الماء، أو كالسراب في الصحراء؛ لذلك كان يشعر بالابتهاج عندما يجد مجالا واحدا على الأقل من مجالات المعرفة يبدو له بمنأى عن الخداع، وهو مجال المعرفة الرياضية.
ولقد كان أفلاطون، كما ذكرنا من قبل، ينظر إلى الرياضيات على أنها أسمى صورة للمعرفة.
1
وقد أسهم تأثيره بدور كبير في الرأي الشائع القائل إن المعرفة لا تكون معرفة على الإطلاق إن لم تتخذ صورة رياضية. غير أن العالم الحديث، وإن يكن يتخذ من الرياضيات أداة رئيسية للبحث، لا يقبل هذا الحكم دون قيد أو شرط، وإنما يؤكد أن الملاحظة لا يمكن إغفالها في العلم التجريبي، ويترك للرياضة مهمة إثبات الارتباطات بين مختلف نتائج البحث التجريبي فحسب. وهو يبدي استعدادا تاما لاستخدام هذه الارتباطات الرياضية مرشدا لكشوف جديدة تعتمد على الملاحظة، غير أنه يعلم أنها لا يمكنها أن تعينه إلا لأنه يبدأ من مادة مستمدة بالملاحظة، وهو مستعد على الدوام للتخلي عن النتائج الرياضية إن لم تؤيدها الملاحظة اللاحقة. فالعلم التجريبي ، بالمعنى الحديث لهذه العبارة، يجمع بنجاح بين المنهج الرياضي ومنهج الملاحظة، ونتائجه لا تعد ذات يقين مطلق، بل ذات درجة عالية من الاحتمال، ويمكن الاعتماد عليها بالنسبة إلى جميع الأغراض العملية بقدر كاف.
غير أن فكرة المعرفة التجريبية كانت خليقة بأن تبدو ممتنعة في نظر أفلاطون؛ فعندما وحد بين المعرفة وبين المعرفة الرياضية، أراد أن يقول إن الملاحظة لا ينبغي أن يكون لها دور في المعرفة. ولقد قال أحد تلاميذ سقراط في محاورة فيدون: «إن الحجج المبنية على الاحتمالات زائفة.» ذلك لأن أفلاطون كان يطلب اليقين، لا الترجيح الاستقرائي الذي ترى الفيزياء الحديثة أنه الهدف الوحيد الذي يمكنه بلوغه.
ومن الصحيح، بطبيعة الحال، أن اليونانيين لم يكن لديهم علم فيزيائي يمكن مقارنته بعلمنا، وأن أفلاطون لم يكن يعلم مدى ما يمكن تحقيقه عن طريق الجمع بين المنهج الرياضي والتجربة. ومع ذلك فهناك علم طبيعي واحد أحرز، حتى في أيام أفلاطون، نجاحا كبيرا بفضل هذا الجمع، هو علم الفلك؛ ذلك أن القوانين الرياضية لدوران النجوم والكواكب كانت قد كشفت، بدرجة كبيرة من الإحكام، بفضل الملاحظة الدقيقة والاستدلال الهندسي، غير أن أفلاطون لم يكن على استعداد للاعتراف بدور الملاحظة في الفلك، وإنما أكد أن الفلك لا يكون علما إلا بقدر ما تفهم حركات النجوم ب «العقل والذهن». ففي رأيه أن ملاحظات النجوم لا تنبئنا بالكثير عن القوانين الخاصة بدورانها؛ لأن حركتها الفعلية غير كاملة، ولا تخضع للقوانين خضوعا دقيقا. ويقول أفلاطون إن من غير المعقول أن نفترض أن الحركات الحقيقية للنجوم «أزلية ولا تتعرض لأي انحراف». وهو يذكر بوضوح كامل رأيه في الفلكي الذي يعتمد على الملاحظة: «فإذا كان ما يدرسه المرء شيئا حسيا، فإنه سواء تطلع مشدوها إلى أعلى، أم خفض عينيه إلى أسفل، فلن تكون هذه معرفة على الإطلاق؛ إذ لا يمكن أن يكون ثمة علم بالمحسوس. فالنفس في هذه الحالة إنما تنظر إلى أسفل، سواء أكان المرء يدرس وهو راقد على ظهره، أم وهو طاف على الماء.» وبدلا من ملاحظة النجوم، علينا أن نحاول الاهتداء إلى قوانين دورانها بالفكر؛ فمن واجب الفلكي أن «يترك السماء المحتشدة بالنجوم جانبا»، وأن يخوض موضوعه باستخدام «الجزء العاقل بطبيعته في نفوسنا» (الجمهورية، الكتاب السابع، 529-530). إنه لمن المحال أن نجد كلمات أقوى من هذه تعبر عن رفض العلم التجريبي، وعن الاعتقاد بأن معرفة الطبيعة لا تحتاج إلى ملاحظة، وإنما يمكن بلوغها بالعقل وحده.
فكيف يمكن تفسير هذا الموقف المعادي للتجريبية على أساس نفسي؟ إن البحث عن اليقين هو الذي يجعل الفيلسوف يتجاهل دور الملاحظة في المعرفة. ولما كان يستهدف معرفة ذات يقين مطلق، فإنه لا يستطيع أن يقبل نتائج الملاحظات، ولما كانت الحجج المبنية على أساس احتمالات حججا للحقيقة. وهكذا فإن المثل الأعلى الذي يتجه إلى صبغ المعرفة بصبغة رياضية كاملة، وإلى جعل الفيزياء من نفس نمط الهندسة والحساب، ينشأ عن الرغبة في الاهتداء إلى يقين مطلق لقوانين الطبيعة، وهو يؤدي إلى ذلك المطلب الممتنع، وأعني به أن ينسى عالم الفيزياء ملاحظاته، وأن يحول عالم الفلك عينيه بعيدا عن النجوم.
ويطلق على نوع الفلسفة التي تعد العقل مصدرا لمعرفة العالم الفيزيائي اسم المذهب العقلي
Rationalism . وينبغي أن نميز بدقة بين هذا اللفظ، وكذلك الصفة المشتقة منه وهي «عقلاني
rationalistic »، وبين لفظ «معقول
rational »؛ فالمعرفة العلمية يتم التوصل إليها باستخدام مناهج معقولة
rational ؛ لأنها تقتضي استخدام العقل مطبقا على مادة الملاحظة، غير أنها ليست عقلانية، إذ إن هذه الصفة لا تنطبق على المنهج العلمي، وإنما على المنهج الفلسفي الذي يتخذ من العقل مصدرا للمعرفة التركيبية المتعلقة بالعلم، ولا يشترط ملاحظة لتحقيق هذه المعرفة.
وفي كثير من الأحيان يقتصر اسم «المذهب العقلي»، في الكتابات الفلسفية، على مذاهب عقلانية معينة في العصر الحديث، بينما يطلق على المذاهب ذات النمط الأفلاطوني اسم «المثالية
jueansm »، تمييزا لها من السابقة. على أننا سوف نستخدم في هذا الكتاب اسم «المذهب العقلي» بالمعنى الواسع دائما، بحيث يشمل المثالية. ويبدو أن لهذا الجمع ما يبرره؛ لأن نوعي الفلسفة متماثلان من حيث إنهما ينظران إلى العقل على أنه مصدر مستقل لمعرفة العالم الفيزيائي. فالأصل النفسي لكل مذهب عقلي بالمعنى الواسع هو دافع خارج عن مجال المنطق؛ أعني دافعا لا يمكن تبريره من خلال المنطق: هو البحث عن اليقين.
ولم يكن أفلاطون هو أول العقليين؛ فقد كان أهم المفكرين الذين سبقوه في هذا الاتجاه، الفيلسوف الرياضي فيثاغورس (حوالى 540ق.م) الذي كان لتعاليمه تأثير هائل في أفلاطون. وإنه ليبدو من المفهوم أن يكون الرياضي أكثر من غيره تعرضا للتحول إلى المذهب العقلي؛ ذلك لأنه حين يدرك مدى نجاح الاستنباط المنطقي في مجال لا يحتاج إلى رجوع إلى التجربة، فقد يميل إلى الاعتقاد بإمكان التوسع في مناهجه بحيث تمتد إلى مجالات أخرى، فتكون النتيجة نظرية للمعرفة تحل فيها أفعال الاستبصار محل الإدراك الحسي، ويعتقد فيها أن للعقل قوة خاصة به، يكتشف بواسطتها القوانين العامة للعالم الفيزيائي.
وعندما يتخلى الفيلسوف عن الملاحظة التجريبية بوصفها مصدرا للحقيقة، لا تعود بينه وبين النزعة الصوفية إلا خطوة قصيرة. فإذا كان في استطاعة العقل أن يخلق معرفة، فإن بقية النواتج التي يخلقها الذهن البشري يمكن أن تعد بدورها جديرة بأن تسمى معرفة؛ ومن هذا المفهوم ينشأ مزيج غريب من النزعة الصوفية والنزعة الرياضية، لم يحتف من مسرح الفلسفة منذ بداية ظهوره عند فيثاغورس؛ فقد أدى تبجيل فيثاغورس الديني للعدد والمنطق إلى قوله بأن كل الأشياء أعداد، وهي فكرة لا يكاد يكون من الممكن ترجمتها إلى عبارات ذات معنى. ولقد كانت نظرية تناسخ الأرواح، التي تحدثنا عنها في صدد نظرية المثل عند أفلاطون، من التعاليم الرئيسية عند فيثاغورس، الذي يفترض أنه اقتبسها من عقائد شرقية، وإنا لنعلم أن أفلاطون قد عرف هذه النظرية بفضل ارتباطه بالفيثاغورين. كذلك فإن الفكرة القائلة إن الاستبصار المنطقي يمكنه أن يكشف خصائص العالم المادي هي بدورها فكرة ترجع إلى أصل فيثاغوري؛ فقد كان أتباع فيثاغورس يمارسون نوعا من العبادة الدينية، يتضح طابعه الصوفي في محرمات معينة، يقال إن أستاذهم قد فرضها عليهم. مثال ذلك أنهم تعلموا أن من الخطر أن يترك المرء انطباعا لجسمه على سريره، وكان لزاما عليهم أن يرتبوا ملاءات أسرتهم ويمدوها عندما يستيقظون في الصباح.
وللنزعة الصوفية أشكال أخرى لا ترتبط بالرياضيات؛ فالصوفي عادة متحامل على العقل والمنطق، وهو يبدي ازدراء لقوة العقل. ويدعي الصوفي أن لديه نوعا من التجربة فوق الطبيعية، تكشف له عن حقيقة معصومة برؤية مباشرة. ويعد المتصوفة الدينيون مصدرا لهذا النوع من النزعة الصوفية. أما خارج مجال الدين، فلم يكن للنزعة الصوفية المضادة للعقل دور هام؛ لذلك ففي استطاعتي أن أتجاهلها في هذا الكتاب الذي يأخذ على عاتقه مهمة تحليل أشكال الفلسفة المتصلة بالتفكير العلمي، والتي أسهمت في النزاع الهائل بين الفلسفة والعلم. فالنزعة الصوفية ذات الاتجاه الرياضي هي وحدها التي تدخل ضمن نطاق هذا التحليل. والصفة التي تجمع بين هذه النزعة الصوفية الرياضية، وبين الأشكال غير الرياضية للنزعة الصوفية، هي إشارتها إلى أفعال الرؤية فوق الحسية، ولكن ما يميزها عن تلك الأشكال الأخرى هو استخدام تلك الرؤية في إثبات حقيقية عقلية.
على أن المذهب العقلي ليس صوفيا على الدوام بطبيعة الحال؛ فالتحليل المنطقي قد يستخدم هو ذاته في إثبات نوع من المعرفة يعد ذا يقين مطلق، وإن يكن يرتبط بمعرفة الحياة اليومية أو المعرفة العلمية. وقد ظهرت في العصر الحديث مذاهب عقلية متعددة من هذا النمط العلمي غير الصوفي.
ومن بين هذه المذاهب، أود أن أناقش المذهب العقلي عند الفيلسوف الفرنسي ديكارت (1596-1650م)؛ ففي كثير من كتاباته نراه يقدم حججا لإثبات افتقار المعرفة المبنية على الإدراك الحسي إلى اليقين، وهي حجج من النوع الذي تحدثنا عنه من قبل. ويبدو أن ديكارت كان يستشعر قلقا عظيما من جراء افتقار المعرفة كلها إلى اليقين، وقد نذر للعذراء أن يحج إلى لوريتو
Loretto
لو أنارت عقله وساعدته على الاهتداء إلى اليقين المطلق. وهو يروي أن الاستنارة أتته عندما كان يقيم في خندق خلال حملة شتوية اشترك فيها بوصفه ضابطا، فأعرب عن شكره للعذراء بأن وفى نذره.
ويبني ديكارت برهانه على اليقين المطلق عن طريق خدعة منطقية؛ فهو يقول إنني أستطيع أن أشك في كل شيء، فيما عدا أمرا واحدا، هو أنني أشك، ولكنني عندما أشك أفكر، وعندما أفكر لا بد أن أكون موجودا. وهكذا يزعم أنه قد أثبت وجود الأنا بالاستدلال المنطقي؛ وبذلك تكون الصيغة السحرية هي: أنا أفكر؛ إذن أنا موجود. على أنني عندما أسمي هذا الاستدلال خدعة منطقية، لا أود أن أقول إن ديكارت قد تعمد أن يخدع قراءه، وإنما أود أن أقول إنه هو ذاته كان ضحية هذا النوع الخادع من الاستدلال. أما إذا تحدثنا من وجهة النظر المنطقية، لقلنا إن الانتقال الذي قام به ديكارت في استدلاله من الشك إلى اليقين هو أشبه ب «خفة اليد»؛ فهو ينتقل من الشك إلى النظر إلى الشك على أنه فعل يقوم به الأنا؛ وبذلك يعتقد أنه قد اهتدى إلى حقيقة لا يتطرق إليها الشك.
ولقد كشف التحليل الذي تم في عهود لاحقة عن المغالطة في حجة ديكارت؛ فليس لمفهوم الأنا تلك الطبيعة البسيطة التي كان يؤمن بها ديكارت؛ إذ إننا لا نرى أنفسنا بنفس الطريقة التي نرى بها البيوت والناس من حولنا. قد نتحدث عن ملاحظة أفعالنا في حالة الفكر أو الشك، غير أننا لا ندرك هذه الأفعال على أنها نواتج للأنا، وإنما على أنها موضوعات منفصلة، وعلى أنها صور تصاحبها مشاعر؛ فالقول «أنا أفكر» يتجاوز نطاق التجربة المباشرة من حيث إن هذه الجملة تستخدم لفظ «أنا».
وعبارة «أنا أفكر» لا تمثل معطى يمكن ملاحظته، وإنما هي نهاية حلقات طويلة من التفكير تكشف عن وجود «أنا» متميز عن «أنا» الأشخاص الآخرين. وكان حريا بديكارت أن يقول: «هناك تفكير.» وبذلك يوضح طريقة الحدوث المنفصل لمحتويات الفكر، وظهورها مستقلة عن أفعال الإرادة أو غيرها من الاتجاهات التي يشترك فيها الأنا، ولكن لو كان ديكارت قد فعل ذلك لما عاد استدلاله ممكنا؛ ذلك لأنه إذا لم يكن الوعي المباشر ضمانا لوجود الأنا، فلا يمكن تأكيد وجوده بيقين يزيد على يقين الموضوعات الأخرى المستمدة عن طريق إضافات مقبولة إلى معطيات الملاحظة .
ولا تكاد تكون بحاجة إلى القيام بتفنيد أكثر تفصيلا لاستدلال ديكارت؛ فحتى لو كان الاستدلال مقبولا لما أثبت الكثير، ولما كان دليلا على يقين معرفتنا بالأشياء المغايرة للأنا، وهو ما يتضح من الطريقة التي يواصل بها عرض حجته؛ فهو يستدل أولا على أن وجود الأنا يستتبع حتما وجود الله، وإلا لما كانت للأنا فكرة عن كائن لا متناه، ثم ينتقل إلى الاستدلال على أن الأشياء المحيطة بنا لا بد أن تكون موجودة بدورها، وإلا لكان الله خادعا. وتلك حجة لاهوتية تبدو غريبة حقا حين تصدر عن رياضي ممتاز مثل ديكارت. والسؤال الهام هو: كيف أمكن أن تعالج مشكلة منطقية، هي إمكان الوصول إلى اليقين، عن طريق مجموعة معقدة من الحجج قوامها بعض الخدع والتفكير اللاهوتي، وهي حجج لا يمكن أن يأخذها أي قارئ ذي عقلية علمية في عصرنا هذا مأخذ الجد؟
إن البحث النفسي للفلاسفة مشكلة تستحق من الانتباه أكثر مما يبديه بها الكتاب الذين يعرضون تاريخ الفلسفة، وإن دراسة هذا الموضوع لهي خليقة بأن تلقي على معنى المذاهب الفلسفية ضوءا أعظم مما تلقيه عليها كل محاولات التحليل المنطقي لهذه المذاهب؛ ففي استدلال ديكارت منطق هزيل، غير أننا نستطيع أن نستخلص منه قدرا كبيرا من المعلومات النفسية؛ ذلك لأن البحث عن اليقين هو الذي جعل هذا الرياضي الممتاز ينجرف في تيار هذا المنطق المتخبط. ويبدو أن البحث عن اليقين يمكن أن يعمي بصيرة المرء عن مصادرات المنطق، وأن محاولة بناء المعرفة على أساس العقل وحده كفيلة بأن تجعله يتخلى عن مبادئ التفكير السليم.
ويفسر علماء النفس السعي إلى اليقين بأنه الرغبة في العودة إلى العهود الأولى للطفولة، وهي العهود التي لم يكن يعكرها الشك، وكانت تسترشد بالثقة في حكمة الوالدين. وتقوى هذه الرغبة عادة بفضل التربية التي تعود الطفل على أن يرى في الشك خطيئة، وفي الثقة فضيلة يحض عليها الدين. وفي استطاعة من يكتب تاريخ حياة ديكارت أن يحاول الجمع بين هذا التفسير العام وبين الطابع الديني لشكوك ديكارت ، ودعائه من أجل الاستنارة، وذهابه إلى الحج، وكلها أمور تدل على أن هذا الرجل كان في حاجة إلى مذهبه الفلسفي لكي يتغلب على عقدة من الحيرة وانعدام اليقين متغلغلة فيه بعمق. وعلى الرغم من أننا لا نود القيام بدراسة مفصلة لحالة ديكارت، ففي استطاعتنا أن نستخلص منها نتيجة هامة، هي أنه إذا كانت هناك غاية محددة مقدما، تتحكم في نتيجة البحث المنطقي، وإذا جعلنا من المنطق أداة للبرهنة على نتيجة نرغب في إثباتها لسبب آخر معين، فإن منطق الحجة يصبح معرضا للخطأ والمغالطة؛ ذلك لأن المنطق لا يزدهر إلا في جو من الحرية التامة، وفي تربة لا تثقل ثمارها مخلفات الخوف والتحامل. وعلى من يبحث في طبيعة المعرفة أن يفتح عينيه جيدا، ويكون على استعداد لقبول أية نتيجة يأتي بها الاستدلال السليم، ولا يهتم إذا جاءت النتيجة مناقضة لتصوره الخاص لما ينبغي أن تكون عليه المعرفة. فعلى الفيلسوف ألا يجعل من نفسه عبدا لرغباته.
هذه النصيحة تبدو ضئيلة الشأن، ولكنها لا تبدو كذلك إلا لأننا لا ندرك مدى صعوبة اتباعها. فالسعي إلى اليقين من أخطر مصادر الخطأ؛ لأنه يرتبط بادعاء معرفة عليا. وهكذا يعد يقين البرهان المنطقي مثلا أعلى للمعرفة، ويشترط في كل معرفة أن يكون من الممكن إثباتها بمناهج تماثل المنطق في إمكان الاعتماد عليها. ولكي ندرك النتائج المترتبة على هذه النظرية، علينا أن ندرس طبيعة البرهان المنطقي بمزيد من الدقة.
يطلق على البرهان المنطقي اسم الاستنباط
deduction ؛ إذ إننا نتوصل فيه إلى النتيجة عن طريق استنباطها من قضايا أخرى تسمى بمقدمات الاستدلال. والاستدلال نفسه مركب بحيث إنه إذا صحت المقدمات وجب أن تكون النتيجة بدورها صحيحة. مثال ذلك أننا نستطيع أن نستخلص من القضيتين «كل إنسان فان» و«سقراط إنسان»، النتيجة «سقراط فان». ويكشف هذا المثل عن الطابع الفارغ للاستنباط؛ فلا يمكن أن تذكر النتيجة شيئا أكثر مما ورد في المقدمات، وإنما هي تقتصر على الإفصاح عن محتوى معين موجود ضمنيا في المقدمات؛ فهي تنزع الغلاف - إن جاز هذا التعبير - عن المضمون الذي كان مغلفا في المقدمات.
وإن قيمة الاستنباط لترجع إلى كونه فارغا؛ ذلك لأن كون الاستنباط لا يضيف أي شيء إلى المقدمات، هو ذاته السبب الذي يتيح على الدوام تطبيقه دون خوف من أن يؤدي إلى الإخفاق. وبعبارة أدق، فليست النتيجة بأقل يقينا من المقدمة؛ فالوظيفة المنطقية للاستنباط هي نقل الحقيقة من القضايا المعطاة إلى قضايا أخرى، ولكنه لا يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك؛ فهو لا يستطيع أن يثبت الحقيقة التركيبية إلا إذا كنا نعرف من قبل حقيقة تركيبية أخرى.
ومن الملاحظ أن مقدمتي المثال السابق، وهما «كل إنسان فان» «وسقراط إنسان»، هما معا حقيقتان تجريبيتان؛ أي إنهما حقيقتان مستمدتان من الملاحظة؛ ومن ثم فإن النتيجة، وهي «سقراط فان»، هي بدورها حقيقة تجريبية، وليس فيها من اليقين أكثر مما في المقدمتين. ولقد ظل الفلاسفة دائما يحاولون الاهتداء إلى مقدمات من نوع أفضل، لا تتعرض لأي نوع من النقد، وكان ديكارت يعتقد أن لديه حقيقة لا يتطرق إليها الشك في مقدمته «أنا أفكر». وقد أوضحنا من قبل أن لفظ «أنا» في هذه المقدمة يمكن الشك فيه، وأن الاستدلال لا يأتينا بيقين مطلق. ومع ذلك فإن صاحب المذهب العقلي لا يستسلم، وإنما يظل يبحث عن مقدمات لا يتطرق إليها الشك.
على أن هناك بالفعل مقدمات من هذا النوع، هي تلك التي تقدمها لنا مبادئ المنطق؛ فالقول إن كل شيء في هوية مع ذاته، وإن كل جملة إما صادقة وإما كاذبة - أي «أن تكون أو لا تكون» بالمعنى المنطقي - هي مقدمات لا يتطرق إليها الشك، ولكن عيبها أنها بدورها فارغة؛ فهي لا تذكر شيئا عن العالم الفيزيائي، وإنما هي قواعد نستخدمها في وصف العالم الفيزيائي، دون أن تسهم بشيء في مضمون الوصف، فهي تتحكم في صورته وحدها؛ أي في لغة وصفنا؛ وإذن فمبادئ المنطق تحليلية (وقد سبق أن أشرنا إلى هذا اللفظ على أنه يعني «ما هو فارغ ويشرح ذاته بذاته»). وفي مقابل ذلك تكون القضايا التي تنبئنا بواقعة ، كمشاهدات عيوننا، قضايا تركيبية؛ أي قضايا تضيف شيئا إلى معرفتنا، غير أن كل القضايا التركيبية التي تقدمها لنا التجربة معرضة للشك، ولا يمكنها أن تأتينا بمعرفة ذات يقين مطلق.
وقد بذلت محاولة لإثبات اليقين المطلوب بناء على مقدمة تحليلية في البرهان الأنطولوجي المشهور على وجود الله، الذي وضعه «أنسلم، أسقف كنتربري» في القرن الحادي عشر. ويبدأ البرهان بتعريف الله على أنه كائن لا نهائي الكمال. ولما كان مثل هذا الكائن ينبغي أن تكون له كل الصفات الأساسية،
2
فلا بد أن تكون له أيضا صفة الوجود؛ ومن ذلك يستنتج أن الله موجود. والواقع أن المقدمة تحليلية؛ لأن كل تعريف تحليلي. ولما كانت القضية القائلة بوجود الله تركيبية، فإن الاستدلال يمثل خدعة تستخلص فيها نتيجة تركيبية من مقدمة تحليلية.
ومن السهل أن نتبين الطبيعة المغالطة لهذا الاستدلال من نتائجه الممتنعة؛ فإذا كان من حقنا أن نستدل على الوجود من تعريف، لكان في استطاعتنا إثبات وجود قط ذي ثلاثة ذيول، عن طريق تعريف مثل هذا الحيوان بأنه قط له ثلاثة ذيول ويتصف بالوجود. وتنحصر المغالطة، من وجهة النظر المنطقية، في الخلط بين الكليات والجزئيات؛ فمن التعريف لا يمكننا أن نستدل إلا على القضية الكلية القائلة: إنه إذا كان شيء ما قطا ذا ثلاثة ذيول فإنه موجود، وهي قضية صحيحة. أما القضية الجزئية القائلة إن هناك قطا ذا ثلاثة ذيول فلا يمكن أن تستخلص. وبالمثل لا يمكننا أن نستدل من تعرف أنسلم إلا على القضية القائلة إنه إذا كان شيء ما كائنا مطلق الكمال فإنه موجود، لا أن نستدل على أن مثل هذا الكائن موجود (وبهذه المناسبة فإن الخلط الذي وقع فيه أنسلم بين الكليات والجزئيات يشبه خلطا مماثلا وقعت فيه نظرية القياس الأرسططالية).
ولقد كان «إمانويل كانت
lmmanuel Kant » (1724-1804م) هو الذي أدرك أن اليقين ذا الطبيعة التركيبية لا يمكن أن يستمد من مقدمات تحليلية، وإنما يحتاج إلى مقدمات تركيبية لا سبيل إلى الشك في صحتها. ولما كان يؤمن بوجود أمثال هذه القضايا، فقد أسماها ب «القضايا التركيبية القبلية»
synthetic a priori . وكلمة «القبلية» تعني «غير مستمد من التجربة»، أو «مستمدا من العقل وذا صحة مطلقة». وتمثل فلسفة «كانت» محاولة كبرى لإثبات وجود حقائق تركيبية قبلية، وهي من الوجهة التاريخية تمثل آخر بناء هائل لفلسفة عقلية. ولقد تفوق «كانت» على أفلاطون وديكارت، اللذين سبقاه في نفس الاتجاه؛ لأنه تجنب أخطاءهما، فهو لا يلتزم بالقول بوجود المثل الأفلاطونية، كذلك فإنه لا يقدم إلينا خلسة مقدمة ذات ضرورة وهمية عن طريق ارتكاب خدعة كتلك التي ارتكبها ديكارت، وإنما هو يبدأ، مثل أفلاطون، بالمعرفة الرياضية، وإن لم يكن يفسر هذه المعرفة بوجود موضوعات ذات حقيقة أعلى، وإنما بتأويل بارع للمعرفة التجريبية، سنعرض له الآن.
إذا كان مظهر التقدم في الفلسفة هو كشف أسئلة ذات دلالة، فمن الواجب أن ننسب إلى «كانت» مكانة رفيعة نظرا إلى سؤاله المتعلق بوجود المعرفة التركيبية القبلية. ومع ذلك فإنه، شأنه شأن غيره من الفلاسفة، يطالب لنفسه بمكانة رفيعة، لا على أساس السؤال، وإنما على أساس إجابته عليه، بل إنه يصوغ السؤال على نحو مختلف إلى حد ما؛ إذ إن اقتناعه بوجود المعرفة التركيبية القبلية بلغ حدا جعله لا يرى ضرورة في التساؤل عن وجودها، وإنما وضع السؤال في صيغة: كيف تكون المعرفة التركيبية القبلية ممكنة؟ وهو يرد على هذا السؤال بالقول: إن الدليل على وجودها مستمد من الرياضيات والفيزياء الرياضية.
والواقع أن هناك أمورا كثيرة جدا يمكن أن تقال دفاعا عن موقف «كانت»؛ فنظرته إلى بديهيات الهندسة على أنها تركيبية قبلية، تشهد بعمق فهمه للمشكلات الخاصة التي تثيرها الهندسة. ولقد أدرك «كانت» أن هندسة إقليدس لها مركز فريد، من حيث إنها كشف عن علاقات ضرورية تسري على موضوعات تجريبية، وهي علاقات لا يمكن أن تعد تحليلية. وهو في هذه النقطة أصرح وأوضح بكثير من أفلاطون؛ فقد أدرك «كانت» أن دقة البرهان الرياضي لا يمكن أن تفسر الصحة التجريبية للنظريات الهندسية. فالقضايا الهندسية، كالنظرية المتعلقة بمجموع زوايا المثلث، أو نظرية فيثاغورس، تستخلص باستنباط منطقي دقيق من المقدمات ، غير أن هذه المقدمات ذاتها لا تستخلص على هذا النحو؛ إذ لا يمكن استخلاصها؛ لأن كل استخلاص لنتائج تركيبية ينبغي أن يبدأ بمقدمات تركيبية. وإذن فمن الواجب إثبات صحة البديهيات بوسائل أخرى غير المنطق، فلا بد أن تكون تركيبية قبلية. وعندما نعرف أن المقدمات تصدق على الموضوعات الفيزيائية، يضمن المنطق بعدئذ انطباق النظريات على هذه الموضوعات، ما دامت صحة البديهيات تنتقل بالاستنباط المنطقي إلى النظريات. وبالعكس، فإذا اقتنع المرء بأن النظريات الهندسية تنطبق على الواقع الفيزيائي، كان في ذلك اعتراف بصحة البديهيات؛ وبالتالي بالمعرفة التركيبية القبلية. والواقع أن نفس الأشخاص الذين لا يودون أن يعترفوا صراحة بالمعرفة التركيبية القبلية، يسلكون على نحو ينم عن إيمانهم بها؛ إذ إنهم لا يترددون في تطبيق نتائج الهندسة على قياسات عملية. ويرى «كانت» أن هذه الحجة تثبت وجود معرفة تركيبية قبلية.
ويعتقد «كانت» أن من الممكن الإتيان بحجج مماثلة بالنسبة إلى الفيزياء الرياضية؛ فهو يقول إننا لو سألنا عالم الفيزياء عن وزن الدخان لتوصل إليه عن طريق وزن المادة قبل الاحتراق، ثم طرح وزن الرماد. وفي تحديد وزن الدخان على هذا النحو نعبر عن تسليمنا بأن المادة لا تفنى. وهكذا يتضح، كما يقول «كانت»، أن مبدأ بقاء المادة حقيقة تركيبية قبلية، يعترف بها الفيزيائي في طريقة إجرائه لتجربته. ونحن نعلم اليوم أن الحساب الذي أوضحه «كانت» يؤدي إلى نتيجة غير صحيحة؛ إذ إنه لا يأخذ بعين الاعتبار وزن الأكسجين الذي يدخل في تفاعل كيميائي مع المادة المحترقة.
ومع ذلك فلو كان «كانت» قد عرف هذا الكشف الذي ظهر فيما بعد، لقال إنه على الرغم من كونه يؤدي إلى تعديل طريقة الحساب، فإنه لا يناقض مبدأ بقاء المادة، وسيظل هذا المبدأ هو الذي يكون إطار الحساب إذا أخذنا وزن الأكسجين في الاعتبار.
وهناك مبدأ تركيبي قبلي آخر يأخذ به عالم الفيزياء في نظر «كانت»، هو مبدأ العلية؛ فعلى الرغم من أننا نعجز في كثير من الأحيان عن الاهتداء إلى سبب لحادث ملاحظ، فإننا لا نفترض أنه حدث بلا سبب، وإنما نقتنع بأننا سنهتدي إلى السبب لو أننا مضينا في البحث عنه. هذا الاقتناع يتحكم في منهج البحث العلمي ، وهو القوة الدافعة لكل تجربة علمية؛ إذ إننا لو لم نكن نؤمن بالعلية، لما كان هناك علم. وهكذا فإن «كانت» يثبت المعرفة التركيبية القبلية في هذه الحالة، كما في حججه الأخرى، بالرجوع إلى طريقة سير العلم؛ أي إن أساس مذهب «كانت» الفلسفي هو القول إن العلم يفترض المعرفة التركيبية القبلية مقدما.
والواقع أن الأساس العلمي لموقف «كانت» هو مصدر قوة هذا الموقف؛ فسعيه إلى اليقين ليس من النوع الصوفي الذي يلجأ إلى القول برؤية لعالم المثل، وليس من النوع الذي يلجأ إلى خدع منطقية تستخلص اليقين من مقدمات فارغة، مثلما يستخلص الحواة أرنبا من قبعة خالية، وإنما يستعين كانت بالعلم السائد في عصره لكي يبرهن على إمكان بلوغ اليقين. وهو يذهب إلى أن حلم اليقين لدى الفيلسوف يجد له في نتائج العلم دعامة يرتكز عليها؛ أي إن «كانت» يستمد قوته من إهابته بسلطة العالم.
غير أن الأرض التي ارتكز عليها «كانت» لم تكن من الرسوخ بقدر ما تصور؛ فهو قد رأى في فيزياء نيوتن المرحلة الأخيرة لمعرفة الطبيعة، ورفع هذه الفيزياء فكريا إلى مرتبة المذهب الفلسفي. وهكذا كان يعتقد أنه، باستخلاصه مبادئ نيوتن من العقل الخالص، قد توصل إلى تبرير عقلي كامل للمعرفة، وحقق الهدف الذي عجز السابقون عليه عن بلوغه. ويدل عنوان كتابه الأكبر «نقد العقل الخالص» على البرنامج الذي استهدفه، وهو أن يجعل العقل مصدرا للمعرفة التركيبية القبلية؛ وبالتالي أن يثبت، على أساس فلسفي، أن الرياضيات والفيزياء السائدة في أيامه حقيقة ضرورية.
ومن غرائب الأمور المشاهدة بالفعل أن أولئك الذين يرقبون البحث العلمي من الخارج ويعجبون به، يكون لديهم في كثير من الأحيان ثقة في نتائج هذا البحث العلمي تفوق ثقة أولئك الذين يسهمون في تقدمه؛ فالعالم يعرف الصعوبات التي كان عليه أن يذللها قبل أن يثبت نظرياته، وهو يعلم أن الحظ قد حالفه في كشف النظريات التي تلائم ما لديه من ملاحظات، وفي جعل الملاحظات التالية تلائم نظرياته، وهو يدرك أنه قد تظهر في أية لحظة ملاحظات متعارضة أو صعوبات جديدة، ولا يزعم أبدا أنه قد اهتدى إلى الحقيقة النهائية. أما فيلسوف العلم، الذي هو أشبه بالحواريين حين يكونون أشد تعصبا من النبي ذاته، فإنه معرض لخطر الثقة بنتائج العلم إلى حد يفوق ما يجيزه أصل هذه النتائج، المبني على الملاحظة والتعميم.
على أن الإفراط في الثقة بنتائج العلم لا يقتصر على الفيلسوف، وإنما أصبح سمة عامة للعصر الحديث؛ أي للفترة التي تبدأ من عهد جاليليو إلى وقتنا الحالي، وهي الفترة التي خلق فيها العلم الحديث. فالاعتقاد بأن لدى العلم الإجابة على كل سؤال - أي بأن كل ما على المرء، إذا كان في حاجة إلى معلومات فنية، أو كان مريضا، أو يعاني مشكلة ما، هو أن يسأل العالم ليجد لديه الجواب - قد بلغ من الانتشار حدا جعل العلم يضطلع بوظيفة اجتماعية كانت في الأصل من مهام الدين، وأعني بها وظيفة كفالة الطمأنينة القصوى؛ ففي حالات كثيرة حل الإيمان بالعلم محل الإيمان بالله، وحتى عندما كان الدين يعد متمشيا مع العلم، كان يعدل بحيث يلائم عقلية المؤمن بالحقيقة العلمية. وإذا كان عصر التنوير، الذي ينتمي إليه «كانت»، قد رفض التخلي عن الدين، فإنه قد حول الدين إلى عقيدة للعقل، وجعل الله أشبه بعالم رياضي يعرف كل شيء لأن لديه استبصارا كاملا بقوانين العقل. فلا عجب إذن إن بدا العالم الرياضي أشبه بأنه صغير ينبغي أن تقبل تعاليمه على أساس أنها بمنأى عن الشك. وهكذا فإن كل مخاطر اللاهوت، من قطعية جازمة وتحكم في الفكر من أجل ضمان اليقين، تعود إلى الظهور في أية فلسفة تعد العلم معصوما من الخطأ.
ولو كان «كانت» قد عاش ليشهد العلم الفيزيائي والرياضي في عصرنا هذا، لتخلى، على الأرجح، عن فلسفة المعرفة التركيبية القبلية، وإذن فلننظر إلى كتبه على أنها وثائق تنتمي إلى عصرها الخاص، وعلى أنها محاولة بذلها لإشباع نهمه إلى اليقين، عن طريق إيمانه بفيزياء نيوتن. والواقع أن مذهب «كانت» ينبغي أن يعد بناء علويا أيديولوجيا، شيد على أساس علم فيزيائي يلائم فكرة المكان المطلق، والزمان المطلق، والحتمية المطلقة للطبيعة. وهذا الأصل يفسر نجاح المذهب وإخفاقه؛ أي إنه يوضح السبب الذي يعد «كانت» من أجله، في نظر الكثيرين، أعظم الفلاسفة في كل العصور، والذي تعجز فلسفته من أجله عن أن تقدم أي شيء لمن يعيشون مثلنا في عصر فيزياء أينشتين وبور.
كذلك فإن هذا الأصل يعلل تلك الحقيقة النفسية، وأعني بها أن «كانت» لم يدرك نقطة الضعف في البناء المنطقي الذي كان يريد أن يبرر به المعرفة التركيبية القبلية؛ ذلك لأن الغرض الذي يحدد مقدما، هو الذي يعمي الفيلسوف عن إدراك المسلمات التي أدخلها ضمنا في فلسفته. ولكي أوضح نقدي هذا، فسوف أناقش الآن الجزء الثاني من نظرية «كانت» في المعرفة التركيبية القبلية، وهو الجزء الذي حاول فيه الإجابة عن السؤال: «كيف تكون المعرفة التركيبية القبلية ممكنة؟»
لقد ذهب «كانت» إلى أنه يستطيع تفسير حدوث المعرفة القبلية التركيبية بواسطة نظرية تبين أن المبادئ القبلية شروط ضرورية للتجربة؛ فهو يرى أن الملاحظة وحدها لا تأتينا بمعرفة، وأن من الواجب تنظيم الملاحظات وترتيبها قبل أن يتسنى لها أن تصبح معرفة. وهو يعتقد أن تنظيم المعرفة يتوقف على استخدام مبادئ معينة، كالبديهيات الهندسية، ومبدأي العلية وبقاء المادة، وهي مبادئ كامنة في الذهن البشري، نستخدمها مبادئ تنظيمية عند تشييدنا للعلم. وهكذا يخلص من ذلك إلى أنها ذات صحة ضرورية؛ لأن العلم يكون بدونها مستحيلا. وهو يسمي هذا البرهان باسم الاستنباط الترنسندنتالي للمعرفة التركيبية القبلية.
وينبغي أن نعترف بأن تفسير «كانت» للمعرفة التركيبية القبلية أرفع بكثير من تحليل أفلاطون لهذا الموضوع؛ ذلك لأن أفلاطون يفترض، من أجل تفسير قدرة العقل على معرفة الطبيعة، وجود عالم من الأشياء المثالية التي يدركها العقل، والتي تتحكم على نحو ما في الأشياء الفعلية، أما «كانت» فلا نجد عنده مثل هذه النزعة الصوفية، وإنما تقول حجته إن للعقل معرفة بالعالم الفيزيائي؛ لأنه يشكل الصورة التي نشيدها للعالم الفيزيائي؛ فالمعرفة التركيبية القبلية ترجع إلى أصل ذاتي، وهي شرط يفرضه الذهن البشري على المعرفة البشرية من أعلى.
وسأضرب مثلا بسيطا أوضح به تفسير «كانت»؛ فالشخص الذي يلبس نظارة زرقاء يرى كل الأشياء زرقاء، غير أنه لو كان قد ولد بهذه النظارة، لنظر إلى الزرقة على أنها صفة ضرورية في الأشياء جميعا، ولكان لا بد من مضي بعض الوقت قبل أن يكتشف أنه هو، أو على الأصح نظارته، الذي يضفي الزرقة على العالم. فالمبادئ التركيبية القبلية للفيزياء والرياضة هي النظارة الزرقاء التي نرى من خلالها العالم؛ ومن هنا فليس لنا أن ندهش حين نجد كل تجربة تدعمها؛ لأننا لا نستطيع أن نكتسب تجربة بدونها.
3
هذا المثل لا يرجع إلى «كانت»، بل إنه يبدو في الواقع غريبا عن روح مؤلف تلك الكتب الغامضة التي تحفل بأفكار مجردة مصوغة بلغة معقدة، تجعل القارئ متعطشا إلى أمثلة عينية ملموسة. ولو كان «كانت» قد اعتاد شرح أفكاره باللغة الواضحة البسيطة التي يستخدمها العالم، لجاز أن يكتشف عندئذ أن استنباطه الترنسندنتالي ذو قيمة مشكوك فيها، ولأدرك أن حجته، إذا ما امتدت أبعد من ذلك، تؤدي إلى تحليل من النوع الآتي:
هب أن من الصحيح أنه لا توجد تجربة تستطيع تكذيب المبادئ القبلية، فمعنى ذلك أن أية ملاحظات نقوم بها يمكن على الدوام أن تفسر أو ترتب بطريقة تتفق وهذه المبادئ. مثال ذلك أنه لو كانت النتائج التي نتوصل إليها من قياس زوايا مثلث، تتناقض مع النظرية المتعلقة بمجموع زوايا المثلث، لعزونا الفوارق إلى أخطاء في الملاحظة، ولأدخلنا «تصحيحات» على المقادير التي قيست بحيث تتفق مع النظرية الهندسية، أما إذا استطاع الفيلسوف أن يثبت أن هذا الإجراء ممكن دائما بالنسبة إلى جميع المبادئ القبلية، لتبين أن هذه المبادئ فارغة؛ وبالتالي تحليلية، وفي هذه الحالة لا تكون هذه المبادئ شروطا تقيد التجارب الممكنة، ولا تنبئنا بشيء عن خصائص العالم الفيزيائي. وبالفعل حاول «هنري بوانكاريه» أن يمتد بنظرية «كانت » في هذا الاتجاه، وذلك فيما أسماه بالمذهب الاصطلاحي؛ فهو ينظر إلى هندسة إقليدس على أنها اصطلاح متعارف عليه؛ أي على أنها قاعدة نفرضها باختيارنا على النظام الذي نرتب به تجاربنا. وسوف نوضح في الفصل الثامن ما في هذه النظرية من قصور. ولكي نضرب مثلا لمعنى المذهب الاصطلاحي في مجال غير مجال الهندسة، فلنتأمل القضية القائلة إن جميع الأعداد التي تزيد على 99 ينبغي أن تكتب بثلاثة أرقام على الأقل. هذه القضية لا تصدق إلا على النظام العشري، وهي تخفق في حالة الطرق الأخرى للتدوين، كالنظام الاثني عشري عند البابليين، الذي استخدم العدد 12 أساسا لنظامه العددي. فالنظام العشري اصطلاح نستخدمه في طريقتنا الخاصة في تدوين الأرقام، ونحن نستطيع أن نثبت أن جميع الأعداد يمكن أن تكتب بهذه الطريقة في التدوين؛ وعلى ذلك فالقضية القائلة إن جميع الأعداد التي تزيد على 99 ينبغي أن تكتب بثلاثة أرقام على الأقل، هي قضية تحليلية عندما تشير إلى هذا النظام. فإذا أردنا أن نفسر فلسفة «كانت» بأنها مذهب اصطلاحي، لكان علينا أن نبرهن على أن مبادئ كانت يمكن التمسك بها إزاء كل التجارب الممكنة.
غير أننا لا نستطيع تقديم برهان كهذا، بل إنه لو كانت المبادئ القبلية تركيبية، كما اعتقد «كانت»، لكان مثل هذا البرهان مستحيلا؛ ذلك لأن كلمة «تركيبية» تعني أننا نستطيع تصور تجارب تناقض المبادئ القبلية. وإذا كان في استطاعتنا أن نتخيل تجارب كهذه، فليس لنا أن نستبعد إمكان مجيء يوم تكون لنا فيه مثل هذه التجارب بالفعل. على أن «كانت» قد يرد بقوله إن مثل هذه الحالة لا يمكن أن تحدث؛ لأن المبادئ شروط ضرورية للتجربة، أو بعبارة أخرى، لأن التجربة بوصفها نسقا منظما من الملاحظات، لن تكون في الحالة المذكورة ممكنة. ولكن كيف يعرف أن التجربة ستكون دائما ممكنة؟ إن «كانت» لا يملك دليلا على أننا لن نصل أبدا إلى مجموع من الملاحظات لا يمكن تنظيمه في إطار مبادئه الأولية، ويجعل التجربة - أعني التجربة بالمعنى الكانتي على الأقل - مستحيلة. ولو عبرنا عن هذه المسألة من خلال المثال السابق، لقلنا إن هذه الحالة يمكن أن تحدث لو لم تكن في العالم الفيزيائي أشعة ضوئية لها طول الموجة المناظرة للأزرق، فعندئذ لا يرى الرجل ذو النظارة الزرقاء شيئا. ولو حدثت الحالة المناظرة في العلم، أعني إذا أصبحت التجربة من النوع الذي يقول به «كانت» مستحيلة، لاتضح أن مبادئ «كانت» لا تسري على العالم الفيزيائي. ولما كان مثل هذا التفنيد ممكنا، فلا يمكن أن تسمى المبادئ قبلية. وهكذا فإن المصادرة القائلة إن التجربة في إطار المبادئ القبلية ينبغي أن تكون ممكنة، هي المقدمة التي لم يبرهن عليها «كانت»، والتي يرتكز عليها مذهبه، ويدلنا عدم تصريحه بالمقدمة التي يرتكز عليها، على أن البحث عن اليقين جعله يغفل نواحي القصور في حجته.
على أنني لا أود أن أظهر بمظهر عدم الاحترام نحو فيلسوف عصر التنوير. فنحن نستطيع أن نثير هذا الاعتراض؛ لأننا رأينا الفيزياء تدخل مرحلة ينهار فيها إطار المعرفة الكانتية، ولم تعد الفيزياء في أيامنا هذه تعترف ببديهيات الهندسة الإقليدية، ومبدأي العلية والجوهر. ونحن نعلم أن الرياضة تحليلية، وأن جميع تطبيقات الرياضة على الواقع الفيزيائي، وضمنها الهندسة الفيزيائية، لها صحة تجريبية، ويمكن أن تصححها التجارب اللاحقة؛ أي إننا نعلم، بعبارة أخرى، أنه لا توجد معرفة تركيبية قبلية، غير أننا لم نكتسب هذه المعرفة إلا في الوقت الحالي، بعد أن تم تجاوز فيزياء نيوتن وهندسة إقليدس. وإنه لمن الصعب أن يتصور المرء إمكان انهيار نسق علمي عندما يكون ذلك النسق في أوجه، أما بعد أن يصبح هذا الانهيار حقيقة واقعة، فما أسهل الإشارة إليه!
لقد جعلتنا هذه التجربة من الحكمة بحيث نتوقع انهيار أي نسق. ومع ذلك فإنها لم تثبط همتنا؛ فقد أثبتت الفيزياء الحديثة أن في وسعنا اكتساب معرفة خارج إطار المبادئ الكانتية، وأن الذهن البشري ليس قائمة متحجرة من المقولات يكدس العقل في داخلها كل التجارب، بل إن مبادئ المعرفة تتغير بتغير مضمونها، ويمكن تكييفها مع عالم أعقد بكثير من عالم ميكانيكا نيوتن. وإنا لنأمل أن يكون لأذهاننا، في أي موقف في المستقبل، من المرونة ما يتيح لها الإتيان بوسائل للتنظيم المنطقي تستطيع أن تعالج مادة الملاحظة المعطاة، ولكن هذا مجرد أمل، وليس اعتقادا نزعم أن لدينا دليلا فلسفيا عليه. ففي استطاعتنا الآن أن نستغني عن اليقين، ولكن كان لا بد من السير في طريق طويل قبل أن نصل إلى موقف من المعرفة متحرر على هذا النحو. وكان من الضروري أن يهدم البحث عن اليقين نفسه في المذاهب الفلسفية الماضية قبل أن نتمكن من تصور مفهوم للمعرفة يستغني عن جميع ادعاءات الحقيقة المطلقة.
الفصل الرابع
البحث عن التوجيهات الأخلاقية والتوازي بين مجالي الأخلاق
والمعرفة
سقراط :
إذن فسوف نبحث سويا عما تكون المعرفة؟
مينو :
بالتأكيد.
سقراط :
ولما كنا لا نعلم بعد ما هي، وما طبيعتها، فلنبحث في مسألة إمكان تعليمها، بحيث نقول على سبيل الفرض ما يلي:
إذا كانت علما أو معرفة أو شيئا غير العلم والمعرفة فسوف يكون من الممكن تعليمها أو لا يكون. أليس من الواضح على الأقل أن الإنسان لا يمكنه أن يتعلم إلا ما هو علم أو معرفة؟
مينو :
هذا ما يبدو لي.
سقراط :
فإذا كانت الفضيلة نوعا من العلم أو المعرفة، فمن الممكن تعليمها؟
مينو :
بالطبع.
سقراط :
وهكذا ننتهي سراعا من هذا البحث الفرضي؛ فإذا كانت هذه هي طبيعة الفضيلة، فمن الممكن تعليمها، وإلا فلا.
في هذه الفقرة من محاورة «مينو»، وهي فقرة نعرضها هنا في صورة مختصرة، يناقش سقراط مسألة الفضيلة وهل هي علم. وكما فعل سقراط في محاورة أسبق ناقش فيها نفس هذه المسألة، وهي «بروتاجوراس»، فإنه لا يقدم إجابة واضحة بنعم أو لا، وهو لا يستطيع الوصول إلى جواب قاطع نظرا إلى استخدامه لكلمتي «المعرفة» والتعليم بمعنى مزدوج. إن سقراط يؤكد في كثير من الأحيان أنه لا يعلم أبدا، وإنما يقتصر على أن يساعد شخصا على رؤية الحقيقة بعينيه هو، والمنهج الذي يستخدمه هو توجيه الأسئلة. ويتعلم التلميذ لأن الأسئلة توجه انتباهه إلى نقاط معينة، وهكذا يعرف الجواب الصحيح بالتركيز على العوامل المتصلة بالموضوع، واستخلاص النتائج اللازمة. ومن هذا القبيل تعليم الهندسة اللازمة لبرهان معين يترك دائما للتلميذ، وكل ما يفعله المعلم هو أن يعينه على أداء أفعال الاستبصار هذه، ولكن إذا «تعلم» نتيجة لهذا المنهج المسمى بالمنهج الديالكتيكي، فإن من الممكن جدا أن يقال عن الشخص الذي يجعله يتعلم إنه «يعلم». والواقع أنه لو توسع سقراط في استخدام مصطلحه الغريب بحيث يمتد إلى مجال الهندسة، وأنكر إمكان تعليم الهندسة (وهو ما يفعله أحيانا)، لكان معنى ذلك أن الهندسة ليست معرفة (وهي نتيجة لا يستخلصها)؛ لذلك يبدو أن من الصواب تفسير رأي سقراط بالقول إنه يعني أن الفضيلة ضرب من المعرفة، بنفس المعنى الذي يمكن أن تسمى به الهندسة ضربا من المعرفة.
والواقع أن طريقة عرض سقراط ذاته للمشكلة تبرر هذا التفسير؛ فهو يريد أن يبين لمينو الطريقة التي يمكن بها حل المشكلات الأخلاقية، ويشير لهذا الغرض إلى عملية اكتساب المعرفة الهندسية، وعند هذه النقطة تدب الحياة في المحاورة في المشهد المذكور من قبل، الذي يعمل فيه سقراط على جعل عبد صغير يفهم نظرية هندسية؛ فهو يريد أن يضرب مثلا لرأيه القائل إن المرء ينبغي عليه، لكي يعرف ما الفضيلة وما الخير، أن يقوم بفعل استبصار من نفس النوع اللازم لفهم البراهين الهندسية. وهكذا تعرض الأحكام الأخلاقية كما لو كانت تكتشف بنوع خاص من الرؤية، مشابه للتبصر بالعلاقات الهندسية. وباستخدام هذه الحجة يقدم إلينا الاستبصار الأخلاقي على أنه مواز للاستبصار الهندسي؛ فإن كان ثمة معرفة هندسية، فلا بد أن تكون هناك أيضا معرفة أخلاقية؛ تلك هي النتيجة التي تبدو محتومة، عندما يتحرر المذهب السقراطي الأفلاطوني من ذلك المصطلح السفسطائي الذي يصاغ به؛ وبهذا المعنى يمكن التعبير عن هذا المذهب في القضية القائلة إن الفضيلة هي العلم.
وعن طريق هذه القضية، أثبت أفلاطون التوازي بين مجالي الأخلاق والمعرفة؛ أي أثبت النظرية القائلة إن الاستبصار ضرب من المعرفة أو العلم؛ فإذا ارتكب شخص فعلا لا أخلاقيا، فهو جاهل بنفس المعنى الذي يكون به الشخص الذي يرتكب أخطاء في الهندسة جاهلا؛ أي إنه عاجز من القيام بفعل الرؤية الذي يكشف له عن الخير، وهي رؤية من نفس النوع الذي يكشف له عن الحقيقة الهندسية.
فإذا ما قارنا بين هذا الرأي وبين الصورة التي تعرض بها المبادئ الأخلاقية في الكتاب المقدس، لظهر لنا فارق واضح؛ فالكتاب المقدس يعرض القواعد الأخلاقية على أنها كلمة الله؛ أي إله العبرانيين الذي يوجه الوصايا العشر إلى موسى على جبل سيناء: «لا تقتل!» و«لا تسرق!» ولا شك أن الصيغة الآمرة التي تتسم بها القواعد تدل بوضوح على أن المقصود منها أن تكون أمرا، لا أن تكون إقرارا لأمر واقع. ويبدو أن تحول القواعد الأخلاقية إلى ضرب من المعرفة كان اختراعا متأخرا؛ فالعبرانيون كانوا خليقين بأن يروا في المساواة بين الوصايا العشر وبين قانون للطبيعة أو قانون رياضي استخفافا بكلمة الله. وفي الوقت الذي ظهرت فيه أسفار موسى، لم تكن المعرفة قد اتخذت صورة نسق منظم؛ إذ لم تكن هندسة المصريين القدماء سوى مجموعة من القواعد العملية التي تفيد في مسح الأرض وتشييد المعابد، وكان أحد اليونانيين هو الذي اكتشف أن من الممكن إثبات الهندسة في شكل برهان منطقي؛ وعلى ذلك فإن النظرة إلى الفضيلة على أنها علم هي طريقة يونانية خالصة في التفكير. ولقد كان من الضروري، قبل أن يتسنى النظر إلى المعرفة على أنها هي التي تمدنا بأساس القواعد الأخلاقية، أن تتخذ المعرفة أولا ذلك الطابع الذي أضفته عليها الروح اليونانية، بما فيه من كمال وشرف، عن طريق بناء الرياضيات بوصفها نسقا منطقيا. وكان لا بد من الاعتراف أولا بأن قوانين الطبيعة والرياضة قوانين بالمعنى الصحيح؛ أعنى علاقات تفرض علينا احترامها، ولا تحتمل أية استثناءات، قبل أن يمكن تصور هذه القوانين على أنها موازية للقوانين الأخلاقية. وإن المعنى المزدوج لكلمة «القانون»، بوصفه أمرا أخلاقيا وقاعدة للطبيعة أو العقل، ليشهد بتحقق هذه الموازاة.
ويبدو أن الدافع إلى فكرة الموازاة هو الرغبة في إقامة الأخلاق على أساس أقوى من ذلك يزودها به الدين؛ فقد تكفي أوامر الآلهة لإرضاء ذهن ساذج لا يؤرقه أي شك في علو مكانة الأب، غير أن الشعب الذي وضع الصورة المنطقية للرياضة قد اكتشف شكلا جديدا للأوامر، هو الأوامر العقلية. وإن الطابع اللاشخصي لهذا الأمر ليجعله يبدو من نوع أرفع؛ إذ إنه يقتضي الاحترام سواء أكنا نعترف بوجود الآلهة أم لا، وهو يستبعد السؤال عما إذا كانت أوامر الآلهة خيرا، ويحررنا من النظرة التشبيهية بالإنسان، القائلة إن فعل الخير ينحصر في الامتثال لإرادة أعلى؛ فلا عجب إذن إن بدت أفضل طريقة لإثبات أن القواعد الأخلاقية ملزمة للجميع هي إقرار التوازي بين مجالي الأخلاق والمعرفة، والقول بأن الفضيلة هي العلم.
وهناك مذهب فلسفي يعرض فكرة التوازي بين مجالي الأخلاق والمعرفة في صورتها المتطرفة، هو المذهب الأخلاقي عند اسبينوزا (1632-1677م)؛ ففي هذا المذهب يذهب اسبينوزا إلى حد محاكاة طريقة إقليدس في تقديم الهندسة على شكل بديهيات ونظريات، آملا بذلك أن يشيد الأخلاق على أساس متين كأساس الهندسة؛ فهو يبدأ، مثل إقليدس، ببديهيات ومصادرات، ثم يستخلص نظرية بعد الأخرى. والواقع أن كتابه «الأخلاق» يبدو عند قراءته أشبه بكتاب تعليمي في الهندسة، على أن الكتاب في أجزائه الأولى ليس أخلاقيا بالمعنى الذي نقصده، وإنما يقدم نظرية عامة في المعرفة، ثم ينتقل بعد ذلك إلى بحث الانفعالات. ويعرض اسبينوزا نظريته القائلة إن الانفعالات تنشأ من أفكار غير كافية في النفس، وهي نظرية تتمشى مع نظرية سقراط القائلة إن الرذيلة جهل. وهو يحاول أن يبين، في فصل عنوانه «في عبودية الإنسان، أو قوة الانفعالات» أن الانفعالات تسبب الحزن والكدر؛ وبالتالي فهي شر؛ فنحن نصل إلى السعادة عندما نتغلب على قوة الانفعالات. وفي فصل آخر بعنوان «قوة العقل، أو في حرية الإنسان» يوضح أن القدرة على هذا التحرر كامنة في العقل. وهكذا فإن أخلاقه رواقية، وهو يرى أن الخير ليس إلا اللذة العقلية للمعرفة، أما السعادة، تستمد من إرضاء الانفعالات ومن متع الحياة، فهي وإن لم تكن في نظره منافية للأخلاق ، تبدو له خارجة عن مجال الأخلاق، وهو لا يحبذها، بقدر معتدل، إلا بوصفها غذاء للبدن، لازما لحفظ قدرة الجسم على أداء كل ما تقدر عليه طبيعته من أفعال.
ويتمتع اسبينوزا بسمعة طيبة بين الفلاسفة، ولكني أعتقد أن الفضل في هذه السمعة يرجع إلى شخصيته أكثر مما يرجع إلى فلسفته؛ فقد كان رجلا متواضعا شجاعا، تصدى للدفاع عن نظرياته، وطبق مذهبه الأخلاقي في حياته، وكان يكتسب رزقه بقطع عدسات المناظير، ورفض منصبا جامعيا لأنه قد يؤدي إلى الحد من حرية تفكيره. ولقد تعرض لهجمات متعددة وصفته بأنه ملحد، وطرد من الطائفة اليهودية في أمستردام لمروقه، ولكنه ظل غير عابئ بأي انتقاد، وكان عطوفا على الجميع، ولم يبد كراهية لأحد.
فإذا ما جردنا مذهبه الأخلاقي من صورته المنطقية، لبدا لنا عقيدة لشخص متزن يبدو في نظره ضبط النفس والعمل العقلي أسمى الفضائل. على أنه حين عرض مذهبه الأخلاقي بصورة منطقية، أثبت أن إعجابه بالمنطق يفوق مقدرته في مجال المنطق. والواقع أن منطق استنتاجاته هزيل، ولا يمكن أن تفهم هذه الاستنتاجات بدون كثير من الإضافات الضمنية والتفسيرات النفسية، ولا يمكن أن يعد مذهبه متسقا داخليا على الأقل؛ أي لا يمكن أن تستخلص نتائجه بطريقة صحيحة من بديهياته؛ إذ إن هذه النتائج تتجاوز مضمون مقدماته بكثير. مثال ذلك أنه يقول بالدليل الأنطولوجي على وجود الله. غير أن التركيبات المنطقية غير الصحيحة يمكن أن تظل لها تلك الوظيفة النفسية في دعم المعتقدات الذاتية، والاستدلال الباطل يمكن أن يكون أداة لا غناء عنها في يد العقيدة الشخصية. ولقد كان اسبينوزا في حاجة إلى ذلك الهيكل الذي يتخذ صورة منطقية؛ لكي يرتكز عليه في قمعه للانفعالات، وفي عدم اكتراثه الغريب بملذات الرغبات. وهكذا فإنه استخدم الطابع العقلي الذي أضفاه سقراط على الأخلاق، كما فعل الكثير من سابقيه، في تشييد مذهب أخلاقي يقلل من شأن الانفعالات. وربما كانت هذه أسوأ نتائج الموازاة بين مجالي الأخلاق والمعرفة؛ فمنذ عهد الرواقيين سادت بين جماهير الناس تلك النظرة إلى الفيلسوف على أنه إنسان بلا انفعال، وأدت تلك النظرة إلى شعور غير الفلاسفة من الناس بأن فيهم نقصا، وذلك عندما يجدون أنفسهم عاجزين عن تحقيق مثل هذه الحكمة، ولكني لا أستطيع أن أرى سببا يدعو الفلاسفة إلى تمجيد هذا النمط غير المنفعل؛ فأنا لا أود أن أصرف أولئك الذين يجدون متعة في عدم الانفعال، عن هذا النوع الخاص بهم من اللذة، ولكني لا أرى سببا يدعو البقية منا، ممن تتخذ لذاتهم صبغة أكثر إنسانية، إلى أن يشعروا بالنقص. فما يجعل الحياة جديرة بأن تعاش هو الانفعال، وهذه القاعدة تنطبق على الفلاسفة بدورهم. ويبدو أن انفعال اسبينوزا المؤسف نحو المنطق لم يكن يختلف كثيرا عن تلك الأنواع الأكثر إثارة، التي يتبدى عليها الانفعال لدى الأشخاص الآخرين.
ولقد كان البناء الاستنباطي للأخلاق عند اسبينوزا، الذي كان يهدف إلى إثبات إمكان الإتيان ببرهان منطقي على القواعد الأخلاقية، مجرد صورة أكثر تفصيلا وتعقيدا لفكرة سقراط القائلة إن الفضيلة هي العلم، بل إن مذهب اسبينوزا يبني هذه الفكرة على أساس أمتن؛ لأنه يبين أن المعرفة الأخلاقية ليست نتاجا لاستبصار عقلي فحسب، بل إن من الممكن أيضا أن يطبق عليها أقوى أساليب التفكير العقلي، وأعني به الاستنباط المنطقي. فبديهيات الأخلاق، شأنها شأن بديهيات الهندسية؛ ليست إلا نقطة البداية في بناءات استنباطية تؤدي، عن طريق سلسلة من الاستدلالات، إلى نتائج يتسع نطاقها بالتدريج. فالأخلاق علم، ليس فقط لأن مبادئها الأولى تبدو «صحيحة»، بل أيضا لأنها خاضعة لمبادئ الاستدلال المنطقي، ويمكن أن يطبق عليها أسلوب البرهان المنطقي من أجل إثبات العلاقات بين القوانين الأخلاقية. تلك هي الحجة التي تعبر عن موقف اسبينوزا مثلما تعبر عن موقف سقراط وأفلاطون.
ولكي نوضح هذا التوازي، سنضرب أمثلة لاستنباطات مختارة من الميدانين المعرفي والأخلاقي؛ فعملية الاهتداء إلى الخير، شأنها شأن عملية اكتساب المعرفة، ذات طبيعة متدرجة، وتتم عن طريق خطوات من الاستبصار الذي يزداد وضوحا بالتدريج. وتعليم الحقيقة أو تعليم الفضيلة، ينحصر في مساعدة الشخص على أن يصعد خطوات السلم هذه. فنحن نسأل مثلا إن كان من الممكن رسم دائرة داخل مثلث تكون أضلاعه مماسات للدائرة، فنتخيل صورا تبين دوائر ومثلثات لها هذه العلاقة، ولكنا لا نعلم بعد إن كان من الممكن تحقيق ذلك بالنسبة إلى كل أنواع المثلثات، أو إن كان من الممكن تحقيقه بأكثر من طريقة واحدة. وأخيرا نهتدي إلى البرهان الهندسي القائل إن من الممكن تحقيق ذلك بالنسبة إلى كل مثلث، وبطريقة واحدة بالنسبة إلى المثلث الواحد. هذا الكشف يتم على خطوات، سواء أكنا نحن الذين نهتدي إلى البرهان أم كان هناك معلم يوضحه لنا. وبالمثل قد نتساءل إن كان الكذب على الغير خيرا، وربما أجبنا أنه خير أحيانا وشر أحيانا أخرى، ولكنا إذا مضينا في التحليل أبعد من ذلك اتضح لنا أنه على الرغم من أن الكذب قد يفيدنا أحيانا فإنه ليس خيرا؛ لأن مثل هذا السلوك من جانبنا قد يشجع الآخرين على أن يسلكوا بنفس الطريقة، فتكون النتيجة زوال الثقة المتبادلة في العلاقات بين أفراد البشر. وهكذا تبدو العملية المتدرجة في هذا البحث مشابهة للتفكير الرياضي؛ وبذلك نعرف لماذا كانت القواعد الأخلاقية قابلة لأن تعلم.
غير أن دراسة عمليات الاستنباط تؤدي أيضا إلى إظهار النظرة المعرفية للأخلاق في ضوء جديد؛ فالاستنباط المنطقي ليس وسيلة للاهتداء إلى حقيقة نهائية، وإنما هو مجرد أداة للربط بين حقائق مختلفة. وقوام الاستنباط الرياضي، في المثال الذي قدمناه من قبل، هو البرهان على أننا إذا سلمنا ببديهيات معينة، فإن النتيجة المتعلقة بالدائرة المرسومة داخل المثلث تلزم عنها، والاستنباط الأخلاقي المشار إليه من قبل هو برهان على أننا إذا رغبنا في غايات معينة، فمن الواجب أن نطيع القاعدة الأخلاقية التي تقضي بالامتناع عن الكذب. وبعبارة أوضح، فإن ما برهنا عليه هو أننا إذا أردنا نظاما اجتماعيا تقوم فيه العلاقات بين أفراد البشر على أساس الثقة المتبادلة، فمن الواجب ألا نكذب.
وفي كلتا الحالتين نجد أن علاقة «إذا كان ... فإن ...» هي القابلة للبرهان، كما أن المثلين إنما يتطابقان في إمكان استنباط هذه العلاقة فيهما معا؛ أي إن كون الفضيلة قابلة لأن تعلم، هو نتيجة تترتب على كون الاعتبارات الأخلاقية، شأنها شأن الاستنباطات الرياضية، تنطوي على عنصر منطقي قابل لأن يحلل بخطوات منطقية، تناظر الخطوات المنطقية في البرهان الرياضي.
ولسنا بحاجة إلى أن نؤكد أن الاستنباط المنطقي لا يمكنه أن يخلق نتائج مستقلة، وإنما هو أداة للربط فحسب؛ فهو يستمد نتائجه من بديهيات معطاة، ولكنه لا يستطيع أن ينبئنا بشيء من حقيقة البديهيات، وعلى ذلك فإن بديهيات الرياضة تحتاج إلى معالجة مستقلة، ومسألة كونها صحيحة تؤدي، كما أوضحنا من قبل، إلى أسئلة من قبيل السؤال عما إذا كانت هناك معرفة تركيبية قبلية. ويؤدي تحليل الاستنباطات الأخلاقية إلى نتائج مماثلة. فبديهيات الأخلاق، شأنها شأن بديهيات الرياضة، ينبغي أن تميز من النظريات الأخلاقية المستنبطة منها، والعلاقة بين الاثنين؛ أعني العبارة الموضوعة في صيغة «إذا كان ... فإن ...»، وهي «إذا قبلت البديهيات فإن من الضروري أن تقبل النظرية»، هي وحدها التي يمكن البرهنة عليها منطقيا؛ وعلى ذلك فإن التحليل يبين لنا أن صحة الأخلاق يمكن أن ترد إلى صحة البديهيات الأخلاقية. وكل ما يستطيع منهج الاستنباط أن يقوم به في ميدان الأخلاق، كما في ميدان الرياضة، هو أن ينقل السؤال عن الصواب من النظريات إلى البديهيات، ولكنه لا يستطيع تقديم إجابة على هذا السؤال.
فلا بد لكي نثبت أن الفضيلة علم، وأن الأحكام الأخلاقية من نوع معرفي، من أن نثبت أن بديهيات الأخلاق من نوع معرفي، غير أن إمكان تطبيق الاستنباط المنطقي على المشكلات الأخلاقية لا يثبت أي شيء في هذا الصدد. وهكذا فإن السؤال عن طبيعة الأخلاق يرد إلى السؤال عن طبيعة البديهيات الأخلاقية.
وهنا نجد لزاما علينا مرة أخرى أن ننسب الفضل في إدراك هذه الحقيقة، وأعني بها كون مشكلة الأخلاق هي مشكلة البديهيات الأخلاقية، إلى إمانويل كانت؛ فقد أدرك أن من المستحيل، نتيجة للطبيعة التحليلية للاستنباط، أن نجعل صحة القواعد الأخلاقية مرتكزة على الاستنباط وحده، وهي حقيقة تصدق على الرياضيات بدورها. وأكد أن طبيعة الأخلاق لا تفهم إلا بعد الإجابة على السؤال عن بديهيات الأخلاق، ولكن لنقل مرة أخرى إن «كانت» لا يدعي لنفسه الفضل في تقديم السؤال، وإنما في تقديم الإجابة عنه. وإنه لمن المفيد أن ندرس هذه الإجابة، التي تمثل - شأنها شأن إجابته على مشكلة بديهيات الرياضة والفيزياء - آخر بناء قوي شيده المذهب العقلي.
إن إجابة «كانت» تنحصر في الرأي القائل إن بديهيات الأخلاق تركيبية قبلية، شأنها شأن بديهيات الرياضة والفيزياء؛ فهو يحاول في كتابه «نقد العقل العملي» أن يستنبط بديهيات الأخلاق بطريقة مماثلة لاستنباطه بديهيات الرياضة والفيزياء في كتاب «نقد العقل الخالص»؛ ففي الكتاب الأول يبين أن بديهيات الأخلاق يمكن أن ترد إلى بديهية واحدة، يطلق عليها اسم الأمر المطلق
categorical imperative ، وصيغتها كما يلي: «افعل بحيث يمكن أن تصبح قاعدة سلوكك مبدأ لتشريع عام.» وهو يوضح استخدام هذه البديهية بأمثلة كذلك المثال الذي ضربناه للكذب؛ فالكذب قد يفيد بعض الأفراد، ولكنه لا يمكن أن يصبح مبدأ لتشريع عام؛ لأنه يؤدي عندئذ إلى نتيجة ممتنعة هي أن أحدا لن يستطيع أن يثق في أي شخص آخر، ويعتقد «كانت» أن البشر جميعا لا بد أن يسلموا بصحة الأمر المطلق لو أنهم حاولوا أن يسترشدوا بالبصيرة العقلية، وأن الأمر المطلق تتضح صحته بفعل رؤية مماثل لذلك الفعل الذي يكشف لنا عن بديهيات الرياضة والفيزياء بوصفها حقائق ضرورية؛ ففي مذهب «كانت» وصلت الموازاة بين المجالين الأخلاقي والمعرفي إلى قمتها، وذلك بارتكازها على معرفة تركيبية قبلية تشمل البديهيات المعرفية والأخلاقية معا، ويرجع مصدرها الأخير إلى طبيعة العقل؛ ففي عبارة «كانت» المشهورة «السموات المرصعة بالنجوم من فوقي والقانون الأخلاقي في داخلي» يرمز «كانت» إلى ثنائية القوانين المعرفية والأخلاقية، وهي القوانين التي ينبغي أن يعترف بها كل ذهن بشري.
ولم يكن في استطاعة «كانت» أن يدرك، في وقته، أن هذه الموازاة ذاتها هي التي تؤدي آخر الأمر إلى انهيار مذهبه الأخلاقي؛ فلقد أوضحنا في الفصل السابق أنه لا يوجد عنصر تركيبي قبلي في مجال المعرفة، وأن الرياضة تحليلية، وأن جميع الصيغ الرياضية للمبادئ الفيزيائية ذات طابع تجريبي. فلو كان القانون الأخلاقي في داخل من نوع القانون الذي تكشفه لي السماء المرصعة بالنجوم، لكان إما تعبيرا تجريبيا عن سلوك البشر، وإما قضية فارغة تعبر عن علاقة لزوم بين البديهيات والنتائج الأخلاقية، كالنظريات الرياضية، ولكنه لن يعود في هذه الحالة أمرا غير مشروط، أو أمرا مطلقا (حمليا) بلغة المنطق التقليدي التي استخدمها «كانت»؛ وإذن فإخفاق مذهب «كانت» الأخلاقي يرجع إلى نفس السبب الذي يرجع إليه إخفاق نظريته في المعرفة؛ فهو ناشئ عن الفكرة الباطلة القائلة إن في وسع العقل أن يضع قضايا تركيبية.
على أن هذه ليست إلا إجابة سلبية، تقول إن البديهيات الأخلاقية ليست قضايا تركيبية قبلية، وتبقى بعد ذلك مهمة الاهتداء إلى إجابة إيجابية؛ أي إيضاح طبيعة البديهيات الأخلاقية. ولن أقوم بمناقشة هذه المسألة في الجزء التاريخي من هذا البحث، وإنما سأقوم بتحليلها في الفصل السابع عشر، ومع ذلك فإني أود أن أضيف بضع كلمات عن الأصل النفسي لآراء «كانت».
إننا نكتشف، عندما ندرس نفسية الفيلسوف دراسة فاحصة، أن القول بالمعرفة التركيبية القبلية في مجال الأخلاق يبعث في «كانت» رضاء انفعاليا أقوى، حتى من ذلك الذي يبعثه القول بالمعرفة التركيبية القبلية في مجال المعرفة؛ فهو في كتاباته الأخلاقية يقحم وسط الأسلوب الأكاديمي الجاف الذي يعرض به آراءه، تعبيرات شاعرية يهتف بها ممجدا للقواعد والتصورات الأخلاقية: «الواجب! أيها الاسم العظيم الجليل، يا من لا تنطوي في ذاتك على أية صفة تجعلك محببا أو باعثا للإرضاء، ولكنك تطالب بالخضوع، ومع ذلك فأنت لا تتوعدنا بأي شيء قد يبعث الرعب أو يولد نفورا طبيعيا، أي أصل جدير بك. وأين يجد المرء جذور منبتك النبيل؟ إنك لترفض كل وشائج تربطك بالهوى، وإن السير على هديك إنما هو الشرط الضروري لكل قيمة عليا يصدرها الإنسان.»
إن تصور الواجب هو محور مذهب «كانت» الأخلاقي؛ فبقدر ما يكون سلوكنا مبنيا على الهوى أو الميل الطبيعي، لا يكون خيرا ولا شرا، حتى لو كان ميلنا يتجه إلى هدف له قيمته، كمساعدة أشخاص محتاجين. فمصدر أخلاقية سلوكنا هو دافع الواجب الذي يجعلنا نسلك. فيا للتشويه الذي لحق بالنزوع الطبيعي إلى مساعدة الآخرين! ويا لالتواء الأخلاق التي تتكشف في هذه الصبغة العقلية التي أضفاها «كانت» على القرارات الخلقية! لقد كان «كانت» ينتمي إلى أسرة من الطبقة المتوسطة، تحيا حياة متواضعة، وكان أبوه نجارا، وأمه نصيرة متحمسة لجماعة دينية محافظة. وفي بيئة كهذه يعد الاعتماد على الذات والاستجابة الحرة للميل الطبيعي خطيئة في كثير من الأحيان، ويبدو أن الابن المشهور قد وجد سعادة وفخرا في أن يستنبط في كتب فلسفية معقدة نفس الاتجاهات الأخلاقية التي تشبع بها منذ نعومة أظفاره.
والواقع أن النجاح الذي أحرزته فلسفته في بلاده، والذي جعل منه فيلسوف البروتستانتية والنزعة البروسية، هو دليل آخر على أن الأخلاق التي وضع صيغتها المنظمة في مذهبه الفلسفي إنما هي أخلاق طبقة وسطى معينة من الشعب؛ فتمجيد الواجب يمثل أخلاق طبقة اجتماعية توجد في ظروف الفاقة، وتعتمد في معيشتها على العمل الشاق الذي لا يترك وقتا للفراغ، أو هو أخلاق طبقة عسكرية مميزة لا بد فيها من الخضوع لأوامر الرؤساء. ولقد كانت كلتا الحالتين موجودة في بروسيا أيام «كانت»، غير أن رفض «كانت» الاعتراف بسلطة جماعات أو نظم معينة يدل على أنه كان ذا ذهن مستقل؛ مما أدى بالفعل إلى قيام نزاع بينه وبين الحكومة البروسية. ولو لم يكن قد دعا إلا إلى قاعدة التعاون الاجتماعي، التي يعبر عنها الأمر المطلق عنده، لنظرنا إليه على أنه نصير لمجتمع ديمقراطي، ولأدرجناه مع لوك وقادة الثورة الأمريكية، غير أن تقديسه للواجب ينم عن قدر مفرط من اللذة المستمدة من الخضوع، والرضا الناجم عن العبودية، وهي صفات مميزة للطبقة الوسطى البورجوازية التي ظلت طويلا تخضع لسلطة فئة حاكمة قوية. وإنها لمأساة فيلسوف المعرفة التركيبية القبلية أن يكون ما قدمه إلينا على أنه التركيب النهائي للعقل مماثلا إلى حد يدعو إلى الدهشة للوسط الاجتماعي الذي ترعرع فيه؛ فالعنصر الأولي في المعرفة عنده يتفق مع فيزياء عصره، والعنصر الأولي في الأخلاق يتفق مع أخلاق طبقته الاجتماعية. فليكن في هذا الاتفاق تحذير لكل من يزعم أنه قد اهتدى إلى الحقيقة النهائية.
ويبدو أن «كانت » كان ينظر إلى تأسيسه للأخلاق على أنه عمل يفوق في أهميته نظريته في المعرفة بقدر ما تفوق الغاية في أهميتها الوسيلة، ويبدو أن هذه النظرة مميزة لجميع أنصار الموازاة بين المجالين الأخلاقي والمعرفي؛ إذ يبدو أن السعي إلى توجيهات أخلاقية هو الدافع إلى أبحاثهم، وأن السبب الرئيسي في نشدانهم لليقين المعرفي هو أنه يمدهم بوسيلة الاهتداء إلى اليقين الأخلاقي. على أن لهذا التحول في الاهتمام من الميدان المعرفي إلى الميدان الأخلاقي تأثيرا مؤسفا؛ إذ يؤدي إلى تأمل نظرية المعرفة الناتجة بصورة مشوهة، وبنائها من أجل غاية معينة، هي أن تكون دعامة للمذهب المطلق في الأخلاق؛ وبالتالي لا تكون تفسيرا منزها للمعرفة؛ وبذلك يصبح البحث عن التوجيهات الأخلاقية دافعا خارجا عن مجال المنطق، يتدخل في التحليل المنطقي للمعرفة. وينبغي أن نبين الآن إلى أي مدى أثرت النتيجة الناجمة عنه، وهي الموازاة بين مجالي الأخلاق والمعرفة، في الفلسفات المعرفية، وأصبحت مصدرا رئيسيا لنظريات باطلة في المعرفة.
لما كان الإنسان الفعلي لا يسلك، على وجه العموم، سلوكا أخلاقيا، فيبدو من الواضح تماما أن الأخلاق لا تبحث في السلوك الفعلي للإنسان. فالفرق بين الطريقة التي ينبغي أن يسلك بها الإنسان، والطريقة التي يسلك بها بالفعل، واضح تماما؛ ومن هنا يبدو أن علم الأخلاق يتعلق بسلوك الإنسان المثالي. ولكي يقدم الباحث النظري الأخلاقي تعليلا لهذا الفارق، فإنه يشير إلى التباين بين القوانين الهندسية والعلاقات التي تسري على الموضوعات الفيزيائية الفعلية، ويميز المثلث المثالي (أو العقلي) من المثلث الفعلي، ويذهب إلى أن الرياضي يكشف عن القوانين المعيارية للموضوعات الهندسية بنفس المعنى الذي يثبت به الفيلسوف الأخلاقي القوانين المعيارية للسلوك البشري. وهكذا يتصور النظريات الرياضية على أنها قضايا تتعلق بما ينبغي أن يكون، متميزا عما هو كائن، بنفس المعنى الذي يتصور به النظريات الأخلاقية.
على أن أية دراسة نزيهة للرياضة كفيلة بأن تكشف فورا عن بطلان هذا التشبيه. صحيح أن الأشكال الهندسة المثالية لا توجد في الواقع الفيزيائي، ولكن قوانين الهندسة تنبئنا على الأقل بعلاقات تسري تقريبا على الموضوعات الفعلية. والرياضة تصف الواقع الفيزيائي من حيث إنها تمدنا بمعرفة تقريبية للواقع، وهي لا تنبئنا بما ينبغي أن يكون عليه الواقع، وإنما بما هو عليه بالفعل. فأي معنى يمكن أن يكون للقول إن محيط الشجرة ينبغي أن يكون دائرة كاملة؟ إن الدائرة غير الكاملة التي يكونها هذا المحيط بالفعل تخضع للقوانين الهندسية بقدر ما تخضع لها الدائرة الكاملة، وقوانين الدائرة الكاملة مفيدة لنا؛ لأنها تنبئنا على وجه التقريب بالعلاقات التي تسري على دوائر غير كاملة مثل محيط الأشجار.
ولنحتفظ بهذا التشبيه، فنحاول تفسير الأخلاق على أنها ذات طبيعة مماثلة؛ أي إنها تنبئنا عن السلوك التقريبي للناس. صحيح أن الأخلاق الوصفية، أي الوصف الاجتماعي للقواعد الأخلاقية السائدة، لا تقدم عادة على هذا النحو، وإنما تقدم من خلال وصف للسلوك الفعلي للناس. ومع ذلك ففي استطاعتنا، نظريا على الأقل، أن نشيد أخلاقا وصفية عن طريق بحث الإنسان المثالي، مثلما يبحث عالم الهندسة في المثلث المثالي. وهذا ممكن لأن القوانين الأخلاقية المثالية تتحقق في حدود تقريبية معينة. والواقع أن معظم الناس، مثلا، لا يسرقون ولا يقتلون. فالمثل العليا الأخلاقية تتحقق تقريبيا لأنها لو لم تكن تتحقق لما أمكن أن يوجد الناس بوصفهم جماعة اجتماعية. وهكذا نستطيع أن نصل إلى أخلاق وصفية تنبئنا عن السلوك الأخلاقي التقريبي للبشر عن طريق وصف سلوكهم المثالي، مثلما تنبئنا الهندسة عن العلاقات التقريبية بين مقاييس المكان الفيزيائي عن طريق البحث في أشكال هندسية مثالية.
غير أن هذا ليس ما يريده فيلسوف الأخلاق؛ فهو يريد توجيهات أخلاقية؛ أي قواعد تدلنا على الطريقة التي ينبغي أن نسلك بها، لا أوصافا للطريقة التي نسلك بها بالفعل. ولما كان يذهب إلى أن العقل، أو رؤية المثل الفكرية، يستطيع أن يكشف لنا عن هذه القواعد، فإنه يضطر في مقابل ذلك إلى أن ينظر إلى وظيفة الرياضة على أنها معيارية لا وصفية. وهكذا يصل إلى فهم يبدو الذهن فيه مشرعا، أو بتعبير أكثر تواضعا، يبدو العقل أداة للرؤية تدرك القوانين المعيارية بالتطلع إلى مجال أعلى للوجود. وهذا هو الأصل النفسي لفكرة تعدد عوالم الوجود، وهي الفكرة التي كان أفلاطون أكبر دعاتها. وفي هذه الحالة ينظر إلى الطابع غير الكامل للأشكال الهندسية للموضوعات الفيزيائية الفعلية على أنه نقص، أو عيب بالمعنى الأخلاقي، شأنه شأن عيوب السلوك الفعلية لدى البشر، ويقال بوجود عالم من الوجود الأعلى، متحرر من هذه النقائص، وذلك على المستوى المعرفي والمستوى الأخلاقي معا.
ويظهر التقويم الأخلاقي للعلاقات المعرفية في تغلغل الحجج الأخلاقية في العلم اليوناني، كعلم الفلك؛ فالمسارات السماوية للنجوم مثلا تعد دوائر كاملة لأسباب تتعلق بالكرامة، إن جاز هذا التعبير، أما أن محيط الأشجار يمثل دائرة غير كاملة فهذا دليل على نقصها؛ ونتيجة لهذه الآراء نظر إلى الأشياء الفعلية على أنها ناقصة بالقياس إلى الأشياء الفكرية أو المثالية. وتعبر نظرية المثل الأفلاطونية عن هذا التباين في القيمة بين العالم الفيزيائي والعالم المثالي.
ويقول «كانت» برأي مماثل، وإن كان يعرضه بحجج أقل سذاجة؛ فهو يفرق بين الظواهر والأشياء في ذاتها، فكل معرفة لنا تقتصر على الظواهر؛ لأن المعرفة تعرض موضوعات العالم الفيزيائي في إطار المبادئ القبلية. وهو يذهب إلى أن من الضروري أن تكون هناك من وراء المظاهر أشياء في ذاتها؛ أي الأشياء كما هي قبل إدماجها في مبادئ الهندسة ومبدأ العلية وما إلى ذلك. وهو يصل، مثل أفلاطون، إلى عالم متعال (ترنسندنتالي) يختلف عن العالم الذي تكشفه لنا الملاحظة والعلم ويعلو عليه.
1
ولا شك أن السبب الذي يحتاج «كانت» من أجله إلى الأشياء في ذاتها واضح؛ فهو يريد تشييد عالم يمكن أن تطبق فيه مبادئه الأخلاقية والدينية؛ ذلك لأن العلم، بما فيه من حتمية علية، لم يترك مكانا لحرية الفعل البشري أو للحكم الإلهي. وهكذا بدت أسس الأخلاق والدين مهددة في نظر «كانت»، وخيل إليه أن هناك مخرجا من هذا المأزق، هو أن يقتصر العلم على البحث في نوع من الوجود الأدنى مرتبة؛ وبذلك تتخلص الأشياء في ذاتها من حتمية الظواهر. ولقد كان من السهل أن يطبق هذا التفسير على المعرفة التركيبية القبلية عند «كانت» نظرا إلى طابعها الذاتي؛ فإذا كان الذهن هو الذي يفرض قوانين العلية والهندسة على الوجود المطلق فحسب، فإن هذا الوجود ذاته يكون حرا، ولا يعوقه شيء عن اتباع القانون الأخلاقي بدلا من القانون العلي. وإنه لمن المؤلم أن نرى كيف يبذل فيلسوف الفيزياء النيوتونية كل هذا الجهد لكي يتخلى عن فيزيائه بأكملها من أجل إنقاذ أخلاقه الدينية. والواقع أن «كانت» يعترف صراحة بأن هذا هو مقصد فلسفته؛ ففي مقدمة الطبعة الثانية لكتابه «نقد العقل الخالص» يقول: «كان علي أن أضع حدودا للمعرفة لكي أفسح مكانا للإيمان.» وتتضح النتائج المدمرة لهذا البرنامج في الطابع الأخير الذي أضفاه على فلسفته «النقدية»؛ ذلك لأن نفس الكتاب الذي يضع أساس نظريته في المعرفة ينتهي بباب يسمى ب «الديالكتيك الترنسندنتالي» يكاد يلغي كل نتائجه السابقة. ففي هذا الباب يزعم «كانت» أن العقل عندما يمتد إلى ما وراء عالم الظواهر يؤدي حتما إلى متناقضات، يطلق عليها اسم «النقائض
antinomies »، وأن المخرج الوحيد لحالة الانهيار التي تصيب العقل هذه هي الإيمان بالله والحرية والخلود، بوصفها مبادئ تسري على عالم يعلو على العالم المنظور.
على أن هذه النقائض المزعومة التي قال بها «كانت»، والتي تتعلق أساسا بلانهائية المكان والزمان، لم تصمد للاختبار المنطقي؛ فمن السهل حلها عن طريق المنطق الذي يعلم كيف يتعامل باتساق مع الأعداد اللانهائية. كذلك اتضح أن تفسيره للعلية والهندسة على أنها مبادئ يفرضها الذهن البشري على الأشياء، هو بدوره تفسير غير مقبول؛ فقانون العلية، إن كان يسري على الإطلاق، فلا بد أن يسري على الأشياء في ذاتها، وإلا لما أمكن استخدامه في التنبؤ بالملاحظات المقبلة؛ إذ إن الذهن البشري لا يخلق ملاحظاته، وإنما هو سلبي أساسا في عملية الإدراك الحسي. كذلك فإن الهندسة، كما نعرفها اليوم، تصف خاصية للعالم الفيزيائي (انظر الفصل الثامن). وهكذا لا تظل هناك حجة يرتكز عليها تحديده المصطنع لقوى العقل، وإدخاله لعالم ميتافيزيقي، هو عالم الأشياء في ذاتها. ومع ذلك فإن هذا الجزء غير العلمي من فلسفة «كانت»، منذ نشره في كتبه، قد أصبح منبعا ينهل منه أعداء العلم،
2
وقد استخدموه لتشييد مذاهب فلسفية تقلل من قيمة التفكير العلمي، وتزعم أنها تقيم عالما من الوجود المثالي، الذي لا يعرفه إلا الفيلسوف، والفيلسوف وحده.
وهكذا يؤدي المذهب العقلي إلى تلك النظرة المثالية، التي عرضت من قبل على أنها شكل خاص من أشكال المذهب العقلي، والتي تذهب لي أن الحقيقة النهائية تقتصر على المثل أو الأفكار، على حين أن الموضوعات الفيزيائية ليست إلا نسخا ناقصة من الموضوعات المثالية. ولقد كانت أكثر الصيغ التي عبرت عن هذه النظرية امتناعا، هي تلك القائلة إن العقل جوهر الأشياء جميعا، وهي الصيغة التي عبرت عنها الفقرة التي اقتبسناها في مستهل هذا الكتاب. وقد سبق لنا أن تساءلنا عن السبب الذي يرغم الفيلسوف على صياغة آرائه على هذا النحو، وفي استطاعتنا الآن أن نأتي بالجواب؛ فهذا السبب هو أن اهتمامه الأول ليس منصبا على فهم المعرفة، وإنما على شيء آخر؛ فهو يود أن يتصور المعرفة على نحو من شأنه أن يقدم أساسا للتوجيهات الأخلاقية، وهو يود أن يجعل للمعرفة يقينا لا يمكن أن يبلغه الإدراك الحسي أبدا؛ وذلك بقصد تشييد معرفة أخلاقية مطلقة موازية لهذا اليقين، وهو لا يجد غضاضة في عرض مذهبه بلغة مجازية؛ لأنه يسيء فهم لغة التفسير العلمي.
ولقد كان كاتب الفقرة المشار إليها هو هيجل
Hegel (1770-1831م) الذي اقتبسنا هذه الفقرة من مقدمته لكتاب «فلسفة التاريخ». وقد يكون من المفيد أن نقدم بعض الملاحظات عن فلسفة هيجل؛ لأن مذهبه يمكن أن يعد الصورة المتطرفة للموقف المثالي، أو ربما كان علي أن أصفه بأنه الصورة «الكاريكاتيرية» لهذا المذهب! إن هيجل يختلف عن أفلاطون وعن «كانت» في أنه لا يشاركهما إعجابهما بالعلوم الرياضية، وهو يختلف عنهما أيضا في أن أسئلته لا تبلغ من العمق ما بلغته أسئلتهما ، غير أن كل أخطائهما تتكرر عنده، وهو يكشف عن هذه الأخطاء بطريقة تبلغ من السذاجة حدا يجعل من الممكن دراسة مذهبه بوصفه أنموذجا لما لا ينبغي أن تكون عليه الفلسفة.
إن نقطة بداية فلسفة هيجل هي التاريخ، لا العلم؛ فهو يحاول تقديم وصف لتطور الإنسان التاريخي؛ أي لتلك الفترة التي تتوافر لدينا عنها وثائق مكتوبة من فترات التاريخ البشري، عن طريق تكوين بعض الأطر البسيطة التي يعتقد أنها تفسر التطورات التاريخية؛ فهناك إطار من هذه الأطر يشبه التاريخ بنمو الفرد؛ أي إن هناك مرحلة الطفولة التي تمثلها الشعوب الشرقية القديمة، ثم مرحلة الشباب التي يحددها بأنها العصر اليوناني، ثم عصر الإنسان الناضج الذي تحقق عند الرومان، ثم عصر الكهولة الذي يمثله عصرنا. وهو في نظر هيجل ليس عصر انحلال، وإنما عصر نضوج كامل، وأعلى درجات هذا النضوج الكامل هي تلك التي بلغتها الدولة البروسية، التي كان هيجل يشتغل فيها أستاذا في برلين. ولست أدري ماذا كان هيجل خليقا بأن يقوله عن بروسيا الهتلرية، ولعله كان يجعل لها مكانا تواصل به خط التطور التاريخي كما تصوره، ولكن لعله أيضا كان يؤثر أن يرجئ حكمه حتى يرى نهاية إمبراطورية هتلر.
هذا الإطار التنظيمي البدائي، الذي هو جدير بطالب مستجد يود أن يشيد لنفسه مذهبا فلسفيا خاصا به، أقل شهرة بكثير من إطار آخر من الأطر التاريخية التي وضعها؛ فقد رأى هيجل أن التطورات التاريخية تتحرك في كثير من الأحيان من طرف إلى آخر، مثل «بندول» الساعة، ثم تصل إلى مرحلة ثالثة تشتمل إلى حد معين على نتائج المرحلتين السابقتين. مثال ذلك أن النزعة المطلقة في السياسة تعقبها أحيانا ثورة ديمقراطية، تتطور بدورها إلى حكومة ذات طابع مركزي، تعترف بحقوق الشعب. وقد أطلق على هذا الإطار اسم القانون الديالكتيكي، وهو يسمي المرحلة الأولى ب «الوضع»
thesis ، والثانية ب «الوضع المضاد»
antithesis ، والثالثة ب «الوضع المركب» (أو المركب فقط
synthesis ).
ويكشف تاريخ الفكر البشري عن أمثلة متعددة لهذا القانون الديالكتيكي. ومن هذه الأمثلة تطور المفاهيم الفلكية للكون ؛ فتصور بطليموس للكون المرتكز حول الأرض، أعقبه تصور كوبرنيكس للكون الذي تتحرك فيه الأرض وتكون فيه الشمس مركزا ثابتا للمجموعة الشمسية. هذان التصوران المتضادان قد تجاوزهما، كما كون «مركبا» منهما؛ تصور أينشتين النسبي الذي يرى أن من الممكن اتخاذ النظام المرتكز حول الأرض والنظام المرتكز حول الشمس تفسيرات مقبولة، إذا تحررا من ادعاء الحركة المطلقة. وهناك مثل آخر يتضح في تطور النظريات الفيزيائية في الضوء، وهي التي انتقلت من نظرية جزيئية إلى نظرية موجية، حتى اتحدت الاثنتان أخيرا في نظرية ثنائية تقول بإمكان تفسير المادة على أنها جزيئات، وعلى أنها موجات في آن واحد (انظر الفصل الحادي عشر). كذلك يمكننا أن ننظر إلى الطريقة العامة التي يسير بها المنهج التجريبي، وهي طريقة المحاولة والخطأ، والنجاح الذي لا يعدو أن يكون محاولة جديدة، على أنها تكرار لا ينتهي للقانون الديالكتيكي. وتدل هذه الأمثلة، فضلا عن ذلك، على أن للقانون الديالكتيكي معنى يتسم بالمرونة؛ فهو لا يعدو أن يكون إطارا مريحا يمكن أن تدمج فيه تطورات تاريخية معينة بعد وقوعها، ولكنه لا يبلغ من الدقة ولا من العمومية ما يتيح استخلاص تنبؤات تاريخية منه، كما أنه لا يمكن أن يستخدم دليلا على صحة نظرية علمية معينة؛ فصحة نظرية أينشتين في الحركة لا يمكن أن تستمد من النمط الديالكتيكي للعملية التاريخية التي أدت إلى وضع هذه النظريات، وإنما ينبغي أن تكون مبنية على أسس مستقلة.
ولو كان هيجل قد اكتفى بوضع القانون الديالكتيكي وضرب أمثلة له بمجموعة كبيرة من المواد التاريخية والفلسفية، لأصبح مؤرخا عظيما، أو عالما كبيرا للتاريخ. ولو كان عالما، لأدرك الحدود التي لا يتعداها قانون الخطوات الثلاثية. والأمثلة العديدة التي لا يسري عليها هذا القانون، والبحث عن الشروط الخاصة اللازمة لانطباقه. غير أنه كان فيلسوفا؛ وبذلك وقع ضحية بحثه عن العمومية واليقين؛ فقد عمم قانونه الديالكتيكي بحيث جعل منه قانونا منطقيا، ووضع مذهبا يكون فيه التناقض كامنا في المنطق، ويدفع الفكر من موقف متطرف إلى الموقف المتطرف المضاد، إن جاز هذا التعبير؛ فتحدث بذلك الحركة الديالكتيكية. فهيجل يقول مثلا: إن القضية «الوردة حمراء» تنطوي على تناقض؛ لأنها تقول عن الشيء الواحد إنه شيئان مختلفان، هما وردة وحمراء. وقد أوضح المناطقة في كثير من الأحيان الخطأ الأولي الكامن في هذا الفهم الذي يخلط بين الانتماء إلى فئة وبين الهوية؛ فالقضية تقول: إن الشيء نفسه ينتمي إلى فئتين مختلفتين، هما فئة الورود وفئة الأشياء الحمراء، وهو أمر لا ينطوي على تناقض، وإنما يقوم التناقض لو أكدنا أن هناك هوية بين الفئتين المختلفتين، غير أن القضية لا تعني هذا. وعن طريق ألاعيب منطقية كهذه، يحاول هيجل أن يثبت أن قانونه الديالكتيكي قانون منطقي يصدق بلا استثناء.
ويصل هيجل، عن طريق الجمع بين تفسيره للقانون الديالكتيكي وبين تصوره للتطور التقدمي للبشر، إلى آراء كتلك التي عرضناها في الفقرة التي استهل بها هذا الكتاب؛ فجوهر الوجود هو العقل، وهو يدفع الوجود من طرف إلى الطرف الآخر، ويجمع بين النقيضين على مستوى أعلى، ثم يبدأ العملية من جديد. وهذه لغة مجازية، غير أن ما يقوله هيجل لا يمكن أن يقال على أي نحو آخر، وإلا لأصبح امتناعه واضحا للعيان، ولو فسرنا رأيه هذا على أنه يعني أن العالم يزداد معقولية على الدوام، أو أن كل الأحداث تخدم غرضا معقولا، لظهر بطلان هذا الرأي بوضوح؛ ذلك لأن التاريخ البشري، وإن يكن ينطوي على اتجاهات تقدم عقلي وأخلاقي، هو ظاهرة أعقد من أن تصنف على مثل هذا الأساس البسيط. ومن ذا الذي يستطيع أن يزعم أن تطور العالم الفيزيائي، أي النظم النجمية مثلا، يتبع مسارا يرضي رغبات العقل البشري، أو يحقق ما قد يعده البشر غاية؟ الواقع أن مصدر جاذبية مذهب هيجل إنما هو لغته الشاذة.
ولقد اتخذ البحث عن توجيهات أخلاقية عند هيجل شكل إسقاط للغايات الأخلاقية على التاريخ؛ فالخير سيصبح حقيقة آخر الأمر، وينبغي أن نسعى إلى الخير لأننا نشارك في عملية التاريخ. وهذا يعني بلغة أقل تعقيدا، أن القضايا المتعلقة بما سيحدث تستمد من قضايا متعلقة بما ينبغي أن يحدث. إن رجل الشارع يسمي هذا تفكيرا مبنيا على التمني
Wishful thinking . أما الفيلسوف فيسميه تفسيرا غائيا للتاريخ. والواقع أنه لا جدوى من محاولة تقديم تحليلي منطقي لمثل هذه الفلسفة، بوصفها وثيقة تشهد بما يحدث للمذهب العقلي حين لا يعود يخضع لسيطرة المنطق، وهي تمثل حالة يؤمن فيها الفيلسوف بأنه إذا كان في استطاعة العقل أن يكتشف قوانين الكون، ففي استطاعة العقل أيضا أن يفرض القوانين على الكون.
وأنى لأشك في أن هيجل كان سيحرز كل شهرته الحاضرة لو لم يكن قد وجد دعامة خارج الفلسفة في المذهب المادي الاقتصادي عند كارل ماركس (1818-1883م)؛ فتطبيق قانون هيجل الديالكتيكي في إطار حركة سياسية قد جعل مذهب هيجل موضوعا لنزاع حاد، ونوقشت الاشتراكية، بين أنصارها وخصومها معا، في ضوء فلسفة هيجل. ومع ذلك فإن ماركس، في مبادئه الأساسية، هو أعظم خصوم هيجل؛ لأنه يرفض أن يشارك هيجل اعتقاده البدائي بقوة العقل. فذلك الرجل الذي فسر الحركات الأيديولوجية على أنها نتائج لأحوال اقتصادية، ودعا إلى الصراع الطبقي بوصفه الخطوة اللازمة لتحقيق التقدم، لم يكن مثاليا. والحق أن موقف ماركس التاريخي إنما هو في اتجاه التجريبية، ليس فقط لأن ماركس تأثر بقوة بالتجريبيين الإنجليز من أمثال ركاردو
Ricardo ، بل أيضا لأن قانون هيجل الديالكتيكي لا يمكن إدماجه في بحثه الاجتماعي بطريقة متسقة إلا إذا فهم على أنه قانون تجريبي. ولا شك أن الصورة التي نكونها لتاريخ المذهب التجريبي الاجتماعي كانت تغدو أوضح بكثير لو كان ماركس ذاته قد اعترف بهذه الحقيقة.
فإذا شئنا أن نفهم لماذا لم ينشق ماركس بوضوح على ميتافيزيقا هيجل، فعلينا أن نبحث عن تفسير نفسي؛ فقد توسع في تفسيره الاقتصادي للتاريخ بحيث أصبح حتمية اقتصادية، وربما كان قد احتاج إلى روابط تجمع بينه وبين فلسفة مثالية؛ لكي تكون فيها دعامة لمذهبه الذي ينظر إلى التطورات التاريخية على أنها تتحدد بدقة بقوانين اقتصادية، بنفس الطريقة التي يتحدد بها مجرى الكواكب بقوانين فيزيائية، غير أن الأحوال الاقتصادية ليست إلا عاملا يسهم في التطورات التاريخية، وهناك عامل آخر هو العامل النفسي، بل إن الاثنين معا لا يمكنهما أن يمدانا بأكثر من قوانين إحصائية لتطور المجتمع البشري. ولقد تخلى ماركس عن مبادئ النزعة التجريبية حين نظر إلى عامل من العوامل التي تسهم في إحداث التطور، على أنه هو السبب الوحيد لهذا التطور. ولا يمكن أن يغفل الطابع الإحصائي البحت للقوانين الاجتماعية إلا مفكر ذو نزعة عقلية قبلية
apriorist ؛ إذ إن التجريبي يعلم أن من المستحيل أن يمحى عنصر الاتفاق تماما من الحوادث التاريخية، وأن هذا العنصر يؤدي إلى استبعاد القابلية الدقيقة للتنبؤ، حتى بالنسبة إلى الاتجاهات التاريخية الكبرى. والواقع أن الإيمان المتعصب للماركسيين بالتنبؤات الاقتصادية لفيلسوفهم، وهو الإيمان الذي هو أشبه بالعقيدة منه بالنظرة العلمية، إنما هو إحياء للهيجلية؛ أي لفلسفة تضع الحدوس الأولية قبل الأدلة التجريبية.
ولقد وصف البعض هيجل بأنه خليفة «كانت»، غير أن في هذا إساءة فهم خطيرة ل «كانت»، ورفعا لمكانة هيجل ليس له ما يبرره؛ ذلك لأن مذهب «كانت»، وإن أثبتت التطورات التالية استحالة قبوله، كان محاولة من ذهن عظيم لإقامة المذهب العقلي على أساس علمي. أما مذهب هيجل فهو بناء هزيل لشخص متعصب أدرك حقيقة تجريبية واحدة، وحاول أن يجعل منها قانونا منطقيا في إطار منطق أبعد ما يكون عن الروح العلمية. وعلى حين أن مذهب «كانت» يمثل قمة الاتجاه التاريخي للمذهب العقلي، فإن مذهب هيجل ينتمي إلى فترة تدهور الفلسفة التأملية، وهي الفترة التي تميز القرن التاسع عشر. وسوف أتحدث عن هذه الفترة فيما بعد، وحسبي الآن أن أذكر مقدما ملاحظة واحدة، هي أن مذهب هيجل قد أسهم، أكثر من أية فلسفة أخرى، في إحداث انشقاق بين العلماء والفلاسفة؛ فقد جعل الفلسفة موضوعا للسخرية يحرص العالم على التبرؤ منه.
وهكذا نستطيع الآن أن نفهم لماذا كانت الثغرة بين العلم والفلسفة واسعة؛ فالفيلسوف ذو النزعة العقلانية معاد للعلم في صميم روحه، والعوامل التي تتحكم في تحديد مسار تفكيره عوامل خارجة عن مجال المنطق، تتخذ من النتائج والمناهج العلمية أداة لبلوغ أهداف غير علمية. وعلينا ألا ننخدع بالإعجاب والتمجيد الذي يبديه أنبياء الفلسفة المثالية في كثير من الأحيان بالرياضيات؛ ذلك لأن الرياضيات ليست في نظرهم إلا مثلا يوضح نظرياتهم، ومرآة لأفكارهم الخاصة، وهم لا يعلمون ما تعنيه المعرفة - وضمنها المعرفة الرياضية - بالنسبة إلى من يدرس المعرفة لذاتها.
ليس ثمة مجال للتوفيق بين العلم والفلسفة التأملية، فلنكف عن محاولة التوفيق بين الاثنين أملا في الوصول إلى مركب أعلى. فليست كل التطورات التاريخية تحدث وفقا للقانون الديالكتيكي، بل إن أحد الاتجاهات الفكرية قد يخمد ويخلي مكانه لاتجاه آخر ينبثق من جذور مختلفة، شأنه شأن النوع البيولوجي الذي لا يبقى إلا في صورة حفريات عندما يحل محله نوع آخر له قدرات أعظم. والحق أن الفلسفة التأملية لم تجد، بعد أن بلغت قمتها في مذهب «كانت»، إلا ممثلين ضعفاء، وهي في طريقها إلى الانحلال، ولكن هناك فلسفة أخرى في صعود، قريبة من العلم، وقد تمكنت من إجابة عدد كبير من الأسئلة التي أثيرت في فلسفة العهود الماضية. وسوف أناقش الجذور التاريخية لهذه الفلسفة قبل أن أعرض ما تقدمه من إجابات.
الفصل الخامس
النظرة التجريبية
مظاهر نجاحها وإخفاقها
لم يكن المقصود من مناقشة المذاهب الفلسفية في الفصول السابقة هو تقديم صورة شاملة للفلسفة؛ فالفلاسفة الذين أشرنا إليهم حتى الآن قد اختيروا من وجهة نظر معينة؛ إذ يتمثل فيهم نمط معين من الفلسفة، وينبغي ألا يعدوا ممثلين للفلسفة في مجموعها؛ فهناك نظرة معينة تميز فلسفتهم، تقول بوجود مجال خاص للمعرفة، هو المعرفة الفلسفية، يكتسبه الذهن باستخدام قدرة معينة، تسمى بالعقل أو الحدس أو رؤية المثل، وأصحاب هذه المذاهب يزعمون أن مذاهبهم نتاج لهذه القدرة، ويعتقدون أنها تتيح نوعا من المعرفة لا يستطيع العالم بلوغه؛ أعني معرفة فوق العلمية لا تبلغها مناهج الملاحظة الحسية والتعميم، التي تشيد بواسطتها العلوم. هذا النوع من الفلسفة هو الذي أطلقنا عليه ها هنا اسم المذهب العقلاني
Rationalism ، وتمثل الرياضيات في نظر صاحب المذهب العقلاني، باستثناء قلة مثل هيجل، الصورة المثلى للمعرفة ؛ فهي تقدم الأنموذج الذي تشكل على أساسه المعرفة الفلسفية.
على أنه كان هناك، منذ عهد الإغريق، نوع ثان من الفلسفة يختلف عن النوع الأول اختلافا أساسيا ؛ ففي نظر فلاسفة هذا النوع الثاني يعد العلم التجريبي، لا الرياضة، الصورة المثلى للمعرفة، وهم يؤكدون أن الملاحظة الحسية هي المصدر الأول والفيصل الأخير في المعرفة، وأن الذهن البشري يخدع نفسه لو ظن أنه قادر على أن يصل مباشرة إلى أي نوع من الحقيقة غير حقيقة العلاقات المنطقية الفارغة. هذا النوع من الفلسفة هو المسمى ب «المذهب التجريبي»
empiricism .
ويختلف منهج الفيلسوف التجريبي اختلافا أساسيا عن منهج المذهب العقلي؛ فالفيلسوف التجريبي لا يزعم أنه كشف نوعا جديدا من المعرفة يعجز العالم عن الوصول إليه، وإنما هو يقتصر على دراسة المعرفة المستمدة بالملاحظة وتحليلها، سواء أكانت معرفة علمية أم معرفة عادية، ويحاول فهم معناها ومضموناتها. وليس مما يضير هذا المفكر أن تسمى نظرية المعرفة المبنية على هذا النحو معرفة فلسفية، غير أنه يرى أنها مشيدة بنفس المناهج التي يستخدمها العالم، ويرفض تفسيرها على أنها نتاج لقدرة فلسفية خاصة.
على أن الموقف التجريبي لم يكن يعبر عنه على الدوام بنفس الوضوح الذي نستطيع به التعبير عنه الآن، وإنما كانت الصياغة الدقيقة لهذا الموقف هي ذاتها نتيجة تطور تاريخي طويل؛ فلم تكن لدى التجريبيين القدامى تلك النظرة الواضحة إلى العلم التجريبي التي لدينا الآن، بل إنهم كثيرا ما كانوا يتأثرون بالمذاهب العقلية، وفضلا عن ذلك فإن فلسفتهم كثيرا ما كانت تشمل أجزاء نعدها اليوم منتمية إلى مجال العلم التجريبي، كالنظريات الخاصة بأصل الكون أو بطبيعة المادة. ومن هذا القبيل مذاهب التجريبيين اليونانيين التي نجدها في الفترة السابقة على سقراط، وكذلك في الفترة المتأخرة للفلسفة اليونانية. ولقد كان أبرز هؤلاء الفلاسفة هو ديمقريطس
Democritus ، وهو معاصر لسقراط، يعد أول من طرأت بذهنه الفكرة القائلة إن الطبيعة تتألف من ذرات، ومن هنا كان يحتل مكانه في تاريخ العلم فضلا عن تاريخ الفلسفة. ولقد كان تصوره لأصل الكون رائعا؛ لأنه يفترض حدوث تطور عن طريق الجمع بين الذرات في تركيبات معقدة؛ ففي الأصل لم تكن هناك إلا ذرات مفردة تنطلق في كل الاتجاهات خلال المكان، وعن طريق المصادمات العارضة تكونت مجموعات أدت بمضي الوقت إلى تكوين أجسام من شتى الأنواع والأشكال. وقد عادت هذه الأفكار إلى الظهور، بعد حوالي مائة عام، عند أبيقور، الذي انتقل مذهبه في العصور الرومانية إلى الأجيال التالية، عن طريق كتاب لوكريتيوس
Lucretius
الشعري المشهور: «في طبيعة الأشياء
De rerum natura ». وقد قدم أبيقور وصفا مختلفا إلى حد ما لحركة الذرات؛ إذ افترض أن الذرات كانت في الأصل تهبط كلها في خطوط متوازية وفي زمان لا متناه، حتى انحرفت بعض الذرات عرضا عن مساراتها، واصطدمت بعضها بالبعض، وقد أدى هذا الحادث العارض إلى بدء التطور.
ويمكن أن يعد الشكاك، من بين الفلاسفة اليونانيين المتأخرين، ممثلين للنزعة التجريبية؛ ذلك لأنهم إذا كانوا قد أعربوا عن الشك في إمكان المعرفة، فذلك لأن اليونانيين كانوا يعتقدون أن المعرفة لا بد أن تكون يقينية على نحو مطلق. وقد أدرك كارنيادس
Carneades (في القرن الثاني ق.م) أن الاستنباط لا يمكنه تقديم مثل هذه المعرفة؛ لأنه يقتصر على استخلاص نتائج من مقدمات معطاة، ولا يستطيع إثبات صحة المقدمات، كما أدرك أنه لا ضرورة للمعرفة المطلقة من أجل توجيه الإنسان في حياته اليومية، وأن الرأي القائم على أساس متين يكفي أساسا للسلوك؛ وبناء على وجهة النظر هذه وضع نظرية للاحتمال ميز فيها بين ثلاثة أنواع من الاحتمال أو ثلاث درجات لليقين. والواقع أن كارنيادس، بدفاعه عن الرأي الشائع وعن الاحتمال، قد أرسى دعائم الموقف التجريبي في بيئة عقلية كان اليقين الرياضي يعد فيها الصورة الوحيدة المقبولة للمعرفة، وبالفعل فإن آراء هؤلاء التجريبيين الأوائل، التي اصطدمت بعنف منذ قيامها بالنظريات العقلية السائدة. كانت شكاكة في أساسها، وفيها تظهر سمة صحية - وإن تكن سلبية - هي سمة الهجوم على المذهب العقلي، وإن كانت لا تذهب إلى حد بناء فلسفة تجريبية إيجابية.
وقد استمرت مدرسة الشكاك طوال قرون عديدة؛ فبعد حوالي ثلاثمائة عام من كارنيادس، كتب سكتس إمبيريكوس
Sextus Empiricus (حوالي 150 ميلادية) بحثا جامعا لنظريات الشكاك، يحدثنا فيه عن أسلافه القدامى في هذا المذهب، ولا يدع مجالا للارتياب في أنه لا يود التشكيك في إمكان الفعل الغرضي المبني على معلومات مستمدة من الإدراك الحسي، كما أنه كان ممثلا رئيسيا لمدرسة الأطباء التجريبيين، الذين حاولوا تطهير علم الطب من الشوائب التأملية، كذلك كان من بين الفلاسفة العرب مفكرون تجريبيون كالحسن بن الهيثم، الذي اشتهر بمؤلفاته في ميدان علم البصريات الفسيولوجي. أما في العصور الوسطى الأوروبية، فلم يكن يشتغل بالفلسفة إلا رجال الدين؛ ولذا لم يكن في الفلسفة المدرسية متسع للنزعة التجريبية. أما أولئك الذين حاولوا بشجاعة أن يدافعوا عن الموقف التجريبي، مثل «روجر بيكن
Roger Bacon » و«بيتر أوريولي
» و«وليم الأوكامي
Wiliam of Oceam »، فقد كانوا متشبعين بطرق التفكير اللاهوتية إلى حد لا يسمح بتشبيههم بالتجريبيين الآخرين في العصور المتقدمة أو المتأخرة. وليس المقصود من هذه الملاحظة أن نقلل من الأهمية التاريخية لهؤلاء المفكرين، بل إننا في الواقع لو قسنا فضل الشخص بمقدار انحراف أفكاره عن الآراء الشائعة في بيئته، لكان دفاع هؤلاء عن النزعة التجريبية جديرا بإعجاب كل من كانوا تجريبيين في عصور أقرب إلى الروح التجريبية.
ومن السهل أن يفهم المرء الرابطة الوثيقة بين المذهب العقلي وبين اللاهوت؛ فنظرا إلى أن المذاهب الدينية ليست مبنية على الإدراك الحسي، فإنها تقتضي مصدرا للمعرفة خارجا عن الحواس. ومن هنا كان الفيلسوف الذي يزعم أنه أهتدى إلى معرفة من هذا النوع حليفا طبيعيا لرجل اللاهوت، وقد استغل اللاهوتيون المسيحيون مذهبي أفلاطون وأرسطو، فأصبح أفلاطون هو فيلسوف الجماعات ذات العقلية الأقرب إلى التصوف، على حين أصبح أرسطو فيلسوف المدرسية «الاسكلائية». ولقد أدت علاقة صاحب المذهب العقلي باللاهوت إلى شعوره دائما بالسمو على التجريبي من الناحية الأخلاقية، غير أن العداء بين الجماعتين، وإن يكن كل طرف منهما يشعر به بقوة لا تقل عن شعور الآخر، لا يتخذ صورة تماثلية؛ فعلى حين أن صاحب المذهب العقلي يعد التجريبي ذا مستوى أخلاقي أدنى، فإن التجريبي يرى صاحب المذهب العقلي مفتقرا إلى الحس السليم.
وبظهور العلم الحديث، في حوالي عام 1600م، بدأ المذهب التجريبي يتخذ شكل نظرية فلسفية إيجابية قائمة على أسس متينة ، يمكن أن تدخل في منافسة ناجحة مع المذهب العقلي، وكان العصر الحديث هو الذي ظهرت فيه أعظم المذاهب التجريبية؛ أعني مذاهب فرانسس بيكن (1561-1626م) وجون لوك (1632-1704م)، وديفيد هيوم (1711-1776م). فلننتقل الآن إلى مقارنة موقف هؤلاء التجريبيين الإنجليز بالمذهب العقلي.
لقد وجد الموقف التجريبي أوضح تعبير عنه في فلسفات هؤلاء المفكرين؛ فالفكرة القائلة إن الإدراك الحسي هو مصدر المعرفة ومعيارها النهائي، هي النتيجة التي تؤدي إليها أبحاثهم آخر الأمر. فجون لوك يقول إن الذهن يبدأ وكأنه صفحة بيضاء، والتجربة هي التي تسطر هذه الصفحة ما يكتب فيها. ومع ذلك فهناك نوعان من الإدراك الحسي: إدراك الموضوعات الخارجية، وإدراك الموضوعات الداخلية. فالنوع الأخير من الموضوعات يعطى لنا في الحوادث النفسية، كالتفكير والاعتقاد والشعور بالألم أو الإحساس باللون، وهي حوادث نلاحظها بالحس الباطن. ويقسم هيوم محتويات الذهن إلى انطباعات وأفكار؛ فالانطباعات تأتي من الحواس، وضمنها الحس الباطن، وأفكار الانطباعات السابقة وذكرياتها. ولا تختلف الأفكار عن الظواهر الملاحظة إلا في طريقة تجمعها. مثال ذلك أن الانطباعات الملاحظة للذهب وللجبل يمكن أن تجمع سويا لتكون جبلا ذهبيا، وهو موضوع لم يلاحظ، وإن كان من الممكن تخيله. وهكذا فإن المذهب التجريبي، على خلاف المذهب العقلي، يجعل للذهن دورا ثانويا هو إقرار النظام بين الانطباعات والأفكار، والنسق المنظم هو ما نسميه بالمعرفة.
ويمكننا أن نضرب الأمثلة لتوضيح دور الذهن في بناء المعرفة، وهي أمثلة كان من الممكن أن يستخدمها بيكن أو لوك أو هيوم؛ فالذهن يلتقط من بين شتى التجارب التي تمر به في يوم ما، وهج النار كما تراه العينان، ويربط بينه وبين الشعور بالحرارة، الذي نحس به عندما نقترب من النار؛ وبذلك نصل إلى القانون الفيزيائي القائل: إن النار ساخنة. وبالمثل يكشف الذهن قوانين حركة النجوم عن طريق مقارنة مختلف الصور التي نلاحظها عند التطلع إلى السماء في ساعات مختلفة من الليل، وفي ليال متباينة. وعن طريق الربط بين مختلف مواقع نجم معين في خط خيالي، يرسم الذهن مسار النجم، الذي لا يعد هو ذاته موضوعا للملاحظة .
وعندما أقول إن للذهن في هذه النظرة إلى المعرفة دورا ثانويا، فإني أعني أن الذهن لا يعد معيارا للحقيقة؛ فقد تبدو الدائرة للذهن أفضل شكل لحركة النجم، ولكن الإدراك الحسي هو الذي يحكم إن كانت هذه الحركة دائرية بالفعل أم لا. وقد يدفعني العقل إلى القول إن المادة تتألف من جزئيات صغيرة؛ لأنني لا أرى كيف يمكن أن تنضغط المادة على أي نحو آخر، غير أن الإدراكات الحسية هي التي يمكنها أن تحكم على صحة النظريات الذرية. وفي هذا المثال نجد أن الإدراك الحسي لا يستطيع تقديم إجابة مباشرة على هذا السؤال؛ لأن الذرات أصغر من أن تلاحظ، غير أنه يجيب على السؤال بطريق غير مباشر؛ إذ يقدم إلينا سلسلة من الوقائع الملاحظة التي تجعل التفسير الذري محتوما. ومع ذلك فإن المثال الأخير يوضح أن وظيفة الذهن في بناء المعرفة لا يمكن أن تسمى ثانوية. بمعنى آخر، فالعقل هو الأداة الضرورية لتنظيم المعرفة، وهو الأداة التي لا يمكن بدونها معرفة الوقائع ذات الطابع الأكثر تجريدا؛ فالحواس لا تبين لي أن الكواكب تتحرك في مدارات بيضاوية حول الشمس، أو أن المادة تتألف من ذرات، بل إن ما يؤدي إلى هذه الحقائق المجردة هو الملاحظة الحسية مقترنة بالاستدلال العقلي.
وقد أدرك بيكن بكل وضوح الضرورة القصوى للعقل في التصور التجريبي للمعرفة؛ فهو يشبه أصحاب المذهب العقلي، في مناقشة أجراها للمذاهب الفلسفية، بالعناكب التي تحيك نسيجها من مادتها الخاصة، ويشبه التجريبيين القدامى بالنمل الذي يجمع المواد دون أن يتمكن من الاهتداء إلى نظام فيها. أما التجريبيون الجدد فهم في نظره أشبه بالنحل الذي يجمع المواد ويهضمها، ويضيف إليها من جوهره؛ وبذلك يخلق نتاجا من نوع أرفع. وذلك في الواقع برنامج عظيم صيغ في عبارة ذكية، فلنبحث إلى أي حد تحقق هذا البرنامج في المذهب التجريبي في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
ما هي الإضافة التي يقدمها العقل للمعرفة المكتسبة بالملاحظة؟ لقد قلنا من قبل إنها إدخال علاقات مجردة تقوم بتنظيم هذه الملاحظات. ومع ذلك فإن العلاقات المجردة في ذاتها لن تكون لها كل هذه الأهمية لو لم تكن تشتمل على عبارات تتعلق بحقائق عينية جديدة؛ فلو كانت العلاقات المجردة حقائق عامة لما كانت تسري فقط على الملاحظات التي تمت، بل لكانت تسري أيضا على الملاحظات التي لم تتم بعد، ولكانت لا تتضمن إيضاحا للتجارب الماضية فحسب، بل أيضا تنبؤات بشأن التجارب المقبلة. هذه هي الإضافة التي يقدمها العقل للمعرفة؛ فالملاحظة تنبئنا عن الماضي والحاضر، أما العقل فيتكهن بالمستقبل.
ولأضرب بعض الأمثلة لإيضاح الطبيعة التنبئية للقوانين المجردة. فالقانون القائل إن النار ساخنة، يتجاوز نطاق التجارب التي بني على أساسها هذا القانون، والتي تنتمي إلى الماضي، ويتنبأ بأننا كلما رأينا نارا فسوف تكون ساخنة. وقوانين حركة النجوم تتيح لنا التنبؤ بالمواقع المقبلة للنجوم، وتشمل تنبؤات بملاحظات مثل كسوف الشمس وخسوف القمر. والنظرية الذرية في المادة أدت إلى تنبؤات كيمائية، أمكن تحقيقها في تركيب مواد كيمائية جديدة، بل إن جميع التطبيقات الصناعية للعلم مبنية في الواقع على الطبيعة التنبئية للقوانين العلمية، ما دامت تتخذ من القوانين العلمية أساسا لتكوين أجهزة تعمل وفقا لخطة مرسومة مقدما. ولقد كان بيكن على وعي واضح بالطبيعة التنبئية للمعرفة عندما قال كلمته المشهورة: المعرفة قوة.
ولكن كيف يستطيع العقل أن يتنبأ بالمستقبل؟ لقد أدرك بيكن أن العقل وحده لا يملك أية قدرة تنبئية، وهو لا يكتسب هذه القدرة إلا مقترنا بالملاحظة، والمناهج التنبئية للعقل متضمنة في العمليات المنطقية التي ننظم بها مادة الملاحظة ونستخلص نتائجها؛ فنحن إذن نصل إلى التنبؤات عن طريق أداة الاستخلاص المنطقي، وفضلا عن ذلك فقد أدرك بيكن أنه إذا كان للاستخلاص المنطقي أن يخدم أغراضا تنبئية، فلا يمكن أن يقتصر على المنطق الاستنباطي، بل ينبغي أن يشمل مناهج منطق استقرائي.
وفي استطاعتنا أن نزيد من وضوح هذا التمييز، الذي يرتكز عليه تطور النزعة التجريبية الحديثة، من خلال بحث طبيعة القياس. فلنتأمل المثل الكلاسيكي: «كل إنسان فان، وسقراط إنسان؛ إذن سقراط فان.» إن نتيجة هذا القياس، كما أوضحنا من قبل، تلزم تحليليا عن المقدمات، ولا تضيف إليها شيئا، وإنما هي تقتصر على أن تستخلص صراحة جزءا من مضمونها. هذا الفراغ يشكل ماهية الاستدلال الاستنباطي ذاتها، وهو الثمن الذي ينبغي دفعه لكي تكون للنتيجة صحة مطلقة. وفي مقابل ذلك، لنتأمل استدلالا مثل: «كل الغربان التي لوحظت حتى الآن سوداء؛ وإذن فكل الغربان في العالم سوداء.» في هذا المثال لا تكون النتيجة متضمنة في المقدمة، وإنما تشير إلى غربان لم تلاحظ من قبل وتطبق عليها صفة شوهدت في الغربان الملاحظة؛ ومن ثم فلا يمكن ضمان صدق النتيجة؛ إذ إن من الممكن أن نكتشف يوما ما في الفيافي النائية طائرا لديه كل صفات الغراب فيما عدا اللون الأسود، ولكن، على الرغم من هذا الاحتمال، فنحن على استعداد للقيام بهذا النوع من الاستدلال لا سيما حين يكون الأمر متعلقا بأشياء أهم من الغربان؛ فنحن نحتاج إليه عندما نريد إقرار حقيقة عامة، تشمل الإشارة إلى أشياء غير ملاحظة، ونظرا إلى حاجتنا هذه إليه، فإننا نكون على استعداد لتحمل مخاطرة الخطأ. ويسمى هذا النوع من الاستدلال باسم الاستدلال الاستقرائي، أو بتعبير أخص، استدلال الاستقراء التعدادي
induction by enumeration .
ويرجع الفضل التاريخي إلى بيكن في تأكيد أهمية الاستدلال الاستقرائي للعلم التجريبي؛ فقد اعترف بقصور الاستدلال الاستنباطي، وأكد أن المنطق الاستقرائي لا يمكنه أن يأتينا بالمناهج التي ننتقل بها من الوقائع الملاحظة إلى الحقائق العامة؛ وبالتالي إلى تنبؤات متعلقة بمزيد من الملاحظات، فلا يمكن أن يكون الاستدلال الاستنباطي تنبئيا إلا إذا كانت المقدمات تنطوي على إشارة إلى المستقبل.
مثال ذلك أنه لما كانت المقدمة «كل إنسان فان» تنطوي على إشارة إلى بشر مثلنا، ممن لم يموتوا بعد، فإنها تتيح استخلاصا استنباطيا للنتيجة القائلة إننا بدورنا سنموت يوما ما، ولكن مثل هذه المقدمة لا بد قد تكونت بواسطة استدلال استقرائي معين؛ وعلى ذلك فليس في وسع المنطق الاستنباطي أن يضع نظرية للتنبؤ، ولا بد من إكماله بمنطق استقرائي. ولقد كان المنطق الاستنباطي الذي عرفه بيكن، والذي ظل هو المنطق الاستنباطي الوحيد طوال بضعة قرون هو منطق أرسطو، وكان هذا المنطق قد نقل إلى أهل العلم في العصور الوسطى في مجموعة من الكتب تحمل اسم «الأورجانون» فقام بيكن بنشر كتاب يحمل اسم «الأورجانون الجديد
Novum Organum »، يتضمن منطقه الاستقرائي الذي وضعه في مقابل أورجانون أرسطو. ويعد هذا الكتاب، من الوجهة التاريخية، أول محاولة لوضع منطق استقرائي؛ ولذا فإنه، على الرغم من نقائصه العديدة، يحتل مكانة بارزة في الآداب العالمية.
كذلك فإن بيكن قد تجاوز الأشكال القديمة للمذهب التجريبي في موقفه الإيجابي من الاستدلال الاستقرائي. مثال ذلك أن «سكستوس إمبريكوس» كان قد هاجم المنطق القياسي على أساس أنه فارغ، ولكنه لم يقبل استخدام الاستدلال الاستقرائي، الذي رآه غير صالح لإثبات المعرفة؛ وعلى ذلك فقد كان على التجريبية الإنجليزية أن تحارب المثل اليوناني الأعلى للمعرفة ذات اليقين المطلق، التي تتخذ من الرياضيات أنموذجا لها. تلك كانت وظيفتها التاريخية، التي تجعلها رائدة للفلسفة العلمية الحديثة.
وعلى الرغم من اهتمام بيكن الهائل بالاستدلال الاستقرائي، فقد أدرك نقاط ضعفه بوضوح تام. ولكي يتغلب على هذه الصعوبات، وضع منهجا يصنف الوقائع الملاحظة على أساس صفة مشتركة. وهكذا درس طبيعة الحرارة بأن جمع في قائمة واحدة ظواهر متباينة تحدث فيها الحرارة، وفي قائمة أخرى ظواهر متماثلة لا تحدث فيها الحرارة، وفي قائمة ثالثة ظواهر تحدث فيها الحرارة بدرجات متفاوتة. ولقد كان تصنيفه خليطا عجيبا قارن فيه بين ملاحظات مثل وجود الحرارة في روث الخيل وبين غياب الحرارة في ضوء القمر. ومع ذلك فعلينا ألا ننسى أن التصنيف هو الخطوة الأولى في البحث العلمي، وأن بيكن لم يكن في موقف يسمح له بوضع نظرية في المناهج الاستقرائية للفيزياء الرياضية؛ لأن الفيزياء الرياضية كانت لا تزال في مهدها. صحيح أن جاليليو كان معاصرا لبيكن، وأن منهج جاليليو الرياضي كان أرقى من تصنيف بيكن الاستقرائي، غير أنه كان لا بد أولا من وضع منهج الفرض الرياضي (انظر الفصل السادس)، واستخلاص نتائجه الكاملة، قبل أن يتسنى اتخاذه موضوعا للبحث الفلسفي. ولم يتضح إمكان استخدام المناهج الاستنباطية مقترنة بالاستدلالات الاستقرائية إلا بعد ظهور نيوتن في الجاذبية، التي نشرت بعد حوالي ستين عاما من وفاة بيكن. وعلى ذلك فليس بيكن هو الذي ينبغي أن يلام على دراسته للمنهج العلمي من خلال أنموذج مفرط في البساطة يغفل دور الرياضيات في الفيزياء، وإنما الواجب أن يوجه هذا اللوم إلى التجريبيين المتأخرين، ولا سيما جون استورت مل، الذي وضع بعد مائتين وخمسين عاما من وفاة بيكن منطقا استقرائيا لا يكاد يرد فيه ذكر المنهج الرياضي، وكان في أساسه صياغة جديدة لأفكار بيكن.
إن منطق بيكن الاستقرائي ساذج؛ لأنه يرتكز على الثقة في قاعدة يجد الذهن العادي في نفسه الاستعداد لتطبيقها. ومع ذلك فقد كان ذلك من وجهة أخرى منطقا لا يستطيع العالم الاستغناء عنه، وليس لأحد أن يتوقع نقدا للمنهج العلمي في وقت كان فيه ذلك المنهج لا يزال في مهده، وكان يغمره التفاؤل بما أحرزه في أول عهده من نجاح؛ وإذن فمن الواجب أن يدرك مؤرخو الفلسفة الذين يعيبون على منطق بيكن الاستقرائي كونه غير علمي، أن حكمهم إنما يصدر على أساس معايير لم تعرف إلا في عصر متأخر.
لقد وجدت النزعة التجريبية في بيكن نبيا لها، ووجدت في لوك زعيمها الشعبي، وفي هيوم ناقدها؛ فقد قبل لوك نظرية بيكن في المعرفة التجريبية من حيث هي مستمدة بالاستقراء عن طريق تعميمات من التجارب. ومع ذلك فهو لم يوضح تماما موقفه حول مسألة ما إذا كانت كل معرفة تركيبية تتسم بالطابع التجريبي. ويبدو أنه كان ينظر إلى المعرفة الرياضية على أنها ذات يقين مطلق وإن تكن تركيبية؛ وبذلك ميزها عن المعرفة التجريبية. ففي رأيه أن القضايا الضرورية إما أن تكون «خاوية
trifling »، وإما «مثمرة
instructive »، وهو تمييز استبق به، على الأرجح، تمييز «كانت» بين القضايا التحليلية والتركيبية، ويؤدي، إذا ما فسر على هذا النحو، إلى جعله واحدا من أنصار المعرفة التركيبية القبلية. صحيح أن كتابات لوك لا تنطوي على التزام واضح بفكرة المعرفة التركيبية القبلية، ومع ذلك فإن معالجته للأحكام الأخلاقية على أساس أن لها نفس النوع من الحقيقة، الذي تتصف به النظريات الرياضية، تجعله من أنصار فكرة التوازي بين مجالي الأخلاق والمعرفة، وتؤدي به إلى نتائج لا تتمشى مع النظرة التحليلية إلى الرياضيات.
والواقع أن التجريبية لم تكن في مراحلها الأولى متسقة مع نفسها على الدوام؛ فتجريبية لوك تقتصر على المبدأ القائل إن جميع التصورات، وضمنها تصورات الرياضة والمنطق، تأتي إلى ذهننا من خلال التجربة. وهو ليس على استعداد للتوسع في هذا المبدأ بحيث يشمل الرأي القائل إن كل معرفة تركيبية لا تتحقق إلا من خلال التجربة. وتمشيا مع هذا الموقف غير النقدي، فقد أخذ بالاستدلال الاستقرائي دون نقد، وعده أداة مفيدة لكل معرفة تجريبية. فلم يخطر بذهن بيكن أو لوك احتمال الشك في مشروعية هذه الأداة وهدم الأساس الذي ترتكز عليه التجريبية، وكان دور هيوم هو أن يكيل هذه الضربة لفلسفة التجربة.
عندما ألف هيوم كتابه «بحث في الذهن البشري
Essay concerning Human Understanding » كان قد مضى على كتاب «الأورجانون الجديد» أكثر من مائة عام، غير أن نظرية الاستقراء التي وجدها هيوم في كتب المنطق المعاصرة له كانت لا تزال هي نظرية بيكن؛ لذلك سلم هيوم مقدما بأن الاستدلال العلمي يتخذ صورة استقراء تعدادي، وهو نوع الاستدلال الذي شرحناه في المثال الخاص بالغربان. على أن كل من درس الفيزياء الرياضية يعلم أن هذه النتيجة مشكوك فيها، وأن هناك أنواعا أخرى من الاستدلال الاستقرائي. مثال ذلك أن الفيزياء عند نيوتن تطبق نظرية استنباطية معقدة، وتتخذ منها أداة للتحقيق الاستقرائي، وليس من الواضح على الإطلاق أن هذه النظرية ترد آخر الأمر إلى استدلالات من ذلك النوع البسيط المسمى بالاستقراء التعدادي، غير أن هذه مشكلة سنعالجها فيما بعد، وحسبنا في هذا المقام أن نلاحظ أن التحليل الحديث قد أوضح أن كل أنواع الاستدلال الاستقرائي يمكن ردها إلى الاستقراء التعدادي، وهي نتيجة تجيز قصر مناقشة المنهج
ويتفوق هيوم على لوك في وضوح نظرته إلى المذهب التجريبي ؛ فقد تخلص من فكرة التوازي بين مجالي الأخلاق والمعرفة، وأدرك بوضوح كامل أن الأحكام الأخلاقية لا تعبر عن الحقيقة، وإنما تعبر - كما يقول - عن مشاعر الاستحسان، أو الاستهجان؛ أي إن «التمييز بين الرذيلة والفضيلة لا يدرك بالعقل». ولما كان هيوم قد تحرر من خطأ أولئك الذين يضطرون إلى إدخال المعرفة التركيبية القبلية لكي يهتدوا إلى أساس للأخلاق، فقد تمكن من دراسة المعرفة غير مقيد بأعباء الباحث الأخلاقي، وتوصل إلى النتيجة القائلة إن كل معرفة إما أن تكون تحليلية وإما أن تكون مستمدة من التجربة؛ فالرياضة والمنطق تحليليان، وكل معرفة تركيبية مستمدة من التجربة. وهو لا يعني بلفظ «مستمدة» أن التصورات يرجع أصلها إلى الإدراك الحسي فحسب، بل يعني أيضا أن الإدراك الحسي هو مصدر صحة كل معرفة تحليلية؛ وإذن فالإضافة التي يقدمها الذهن إلى المعرفة هي بطبيعتها فارغة.
ومن الملاحظ أن تفسير هيوم هذا لا يقوم على أساس سليم تماما فيما يتعلق بالرياضيات؛ فنظرا إلى أنه كان يجهل الإجابة التي قدمها القرن التاسع عشر على هذه المشكلة بعد ظهور الهندسات اللاإقليدية، فإنه كان يفتقر إلى الوسيلة التي تتيح له تعليل الطبيعة المزدوجة للرياضيات، من حيث هي من إملاء العقل، ومن حيث هي قادرة على التنبؤ بالملاحظات. ومع ذلك يبدو أنه لم يدرك هذه المشكلة بوضوح كامل، ويمكن القول إنه كان حسن الحظ في هذه الحالة، كما كان في مشكلة الاستقراء الذي رأى أن كل أنواعه ترتد إلى الاستقراء التعدادي؛ لأنه استبق نتائج ظهرت فيما بعد، على الرغم من أنه لم يكن يملك حججا قوية ترتكز عليها آراؤه. وأنا لا أميل إلى النظر إلى هذا الاتفاق على أنه علامة العبقرية، وإنما أفضل أن أسميه حسن الحظ، وإني لأوثر أن أرى عبقرية هيوم تتبدى، بدلا من ذلك، في تلك النتائج التي كان يستطيع أن يقدم لها أسباب مقنعة، مثل رفضه للموازاة بين مجالي الأخلاق والمعرفة، وأفضل أن أثني عليه لما أبداه من اتساق في عرضه لأفكاره ضد شتى أنواع التراث المخالف له .
هذا الاتساق يتجلى في بحثه للاستقراء؛ فلو كان كل ما يسهم به الذهن في المعرفة تحليليا، لنشأت صعوبات خطيرة بالنسبة إلى استخدام الاستدلال الاستقرائي. وإن أهمية هيوم في تاريخ الفلسفة لترجع إلى أنه لفت الأنظار إلى هذه المشكلة، التي يمكن تحليلها دون التزام بالتفسير التحليلي أو التركيبي للرياضة؛ فالاستدلال الاستقرائي ليس تحليليا. ويوضح هيوم هذه المسألة بأن يشير إلى أن من الممكن تماما تصور عكس النتيجة الاستقرائية. مثال ذلك أنه، على الرغم من أن كل الغربان التي لوحظت حتى الآن سوداء، ففي استطاعتنا أن نتصور على الأقل أن الغراب التالي الذي سنراه سيكون أبيض، ونحن لا نؤمن بأنه سيكون أبيض، ما دمنا نركن إلى الاستدلال الاستقرائي. غير أن الإيمان لا صلة له بالموضوع حين يكون الأمر متعلقا بالإمكانات المجردة؛ ففي استطاعتنا أن نتصور أن النتيجة باطلة دون أن نضطر إلى التخلي عن المقدمة، وإن إمكان وجود نتيجة باطلة مقترنة بمقدمة صحيحة ليثبت أن الاستدلال الاستقرائي لا ينطوي في ذاته على ضرورة منطقية؛ وإذن فقضية هيوم الأولى هي أن الاستقراء له طابع غير تحليلي.
فكيف يمكننا إذن تبرير استخدام الاستدلال الاستقرائي؟ يناقش هيوم إمكان تحقيق الاستدلال بالتجربة، وأغلب الظن أن بيكن ولوك قد افترضا وجود تحقيق من هذا النوع، ولكنهما مع ذلك لم يناقشا أبدا مشروعية الاستقراء. وقد نقول إننا استخدمنا الاستدلالات الاستقرائية في كثير من الأحيان وأحرزنا بها نجاحا طيبا، وهكذا نشعر بأن من حقنا أن نمضي في تطبيق هذا الاستدلال أبعد من ذلك. ومع ذلك فإن نفس طريقة صياغة الحجة توضح، كما يقول هيوم، أن هذا التبرير باطل؛ فالاستدلال الذي نود أن نبرر به الاستقراء هو ذاته استدلال استقرائي؛ إذ إن القول إننا نؤمن بالاستقراء لأن الاستقراء كان ناجحا حتى الآن، هذا القول ذاته هو استقراء من نوع استقراء «الغراب»؛ وبذلك نكون دائرين في حلقة مفرغة. فمن الممكن إثبات إمكان الاعتماد على الاستقراء إذا افترضنا أن من الممكن الاعتماد عليه، ولما كان مثل هذا الاستدلال ينطوي على دور، فإن الحجة لا بد أن تنهار؛ وعلى ذلك فإن قضية هيوم الثانية هي أن الاستقراء لا يمكن تبريره بالرجوع إلى التجربة.
إن هيوم يذهب إلى أن نتيجة نقده هي القول باستحالة تبرير الاستدلال الاستقرائي. والحق أن من الواجب إدراك خطوة هذه النتيجة إدراكا كاملا؛ فإذا كانت قضية هيوم صحيحة، فإن الأداة التي نستخدمها في التنبؤ تنهار، ولا تكون لدينا وسيلة لاستباق المستقبل. فقد رأينا حتى الآن أن الشمس تشرق كل صباح، ونحن نعتقد أنها ستشرق غدا، ولكن ليس لاعتقادنا هذا أساس؛ وقد رأينا الماء ينحدر من أعلى إلى أسفل، ونحن نعتقد أنه سينحدر دائما على هذا النحو، ولكن ليس لدينا ما يثبت أنه سيفعل ذلك غدا. ألا يجوز أن تبدأ الأنهار في الجريان من أسفل إلى أعلى غدا؟ إنك قد تقول: لست من الحمق بحيث أعتقد ذلك، ولكن لم كان في هذا الاعتقاد حمق؟ ستجيب بأن السبب هو أنني لم أر أبدا ماء يجري من أسفل إلى أعلى، وأنني كنت أنجح دائما في تطبيق أمثال هذا الاستدلال من الماضي إلى المستقبل. وهنا تكون قد وقعت في المغالطة التي كشفها هيوم؛ فأنت تثبت الاستقراء باستخدام استدلال استقرائي، وهكذا نقع في الفخ مرارا وتكرارا، ونرى أن من المستحيل تبرير الاستقراء، ولكنا نظل نقوم باستقراءات ونحتج بأن من الحمق أن نشك في المبدأ الاستقرائي.
هذا هو المأزق الذي يقع فيه صاحب النزعة التجريبية؛ فإما أن يكون تجريبيا كاملا، ولا يقبل من النتائج سوى القضايا التحليلية أو القضايا المستمدة من التجربة، وعندئذ لا يستطيع القيام باستقراء، ويتعين عليه أن يرفض أية قضية عن المستقبل؛ وإما أن يقبل الاستدلال الاستقرائي، وعندئذ يكون قد قبل مبدأ غير تحليلي لا يمكن استخلاصه من التجربة؛ وبذلك يكون قد تخلى عن التجريبية. وهكذا تنتهي التجريبية الكاملة إلى القول إن معرفة المستقبل مستحيلة، ولكن ماذا تكون المعرفة إن لم تكن تشتمل على المستقبل؟ إن مجرد بيان العلاقات الملاحظة في الماضي لا يمكن أن يسمى معرفة؛ فإذا شئنا أن تكشف المعرفة عن العلاقات الموضوعية للأشياء الطبيعية، فلا بد أن تنطوي على تنبؤات موثوق فيها؛ وعلى ذلك فإن التجريبية الكاملة تنكر إمكان المعرفة.
وهكذا تنتهي الفترة الكلاسيكية للمذهب التجريبي، وهي فترة بيكن ولوك وهيوم، بانهيار لهذا المذهب؛ إذ إن هذا هو ما يؤدي إليه تحليل هيوم للاستقراء. فنقد هيوم يؤدي إلى الانتقال من التجريبية إلى اللاأدرية، وهو ينادي - فيما يتعلق بالمستقبل - بفلسفة للجهل تقول إن كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف أي شيء عن المستقبل. ولا بد لنا أن نعجب بدقة ذلك الذهن الذي لم يمتنع عن استخلاص هذه النتيجة الهدامة، على الرغم من أنه تشرب الثقة بالمذهب التجريبي. ومع ذلك، فعلى الرغم من أن هيوم يذكر هذه النتيجة صراحة، ويسمي نفسه شكاكا، فإنه لا يعترف بالمأساة التي يؤدي إليها استنتاجه هذا؛ فهو يحاول تخفيف تأثير هذه النتيجة بأن يسمي الاعتقاد الاستقرائي عادة. وإن المرء ليشعر عند قراءة ما كتبه هيوم بأن هذا التفسير قد طامن من شكوكه، وأنه كان في نظره تفسيرا نفسيا للاعتقاد الاستقرائي. ومن الملاحظ أن هيوم لم يكن من الأحرار الإنجليز، وإنما كان من المحافظين، ولم تكن هناك نزعة تحررية في اتجاهاته الإدارية تناظر نزعته التحررية الذهنية. وهكذا يتضح لنا ذلك الوجه الغريب لفيلسوف يستبعد بابتسامة ودية التهمة الحاسمة التي وجهها هو ذاته إلى الفلسفة التجريبية.
على أننا لا نستطيع أن نشارك هيوم شعوره هذا بالاطمئنان؛ فنحن لا ننكر أن الاستقراء عادة؛ إذ إنه كذلك بالطبع، غير أننا نود أن نعرف إن كان عادة مستحبة أم عادة مرذولة. ونحن نعترف بأن من الصعب التخلص من هذه العادة، فمن ذا الذي يجرؤ على أن يسلك على أساس افتراض أن الماء سيجري غدا من أسفل إلى أعلى في كل الأحوال؟ ومع ذلك فحتى لو كان تعودنا على الاستقراء يبلغ من القوة حدا لا نملك معه إلا أن نكون مدمنين للاستقراء، مثل مدمني المخدرات، فإنا نود أن نعرف على الأقل إن كان الواجب يقضي علينا بالتخلص من هذه العادة. فالمشكلة المنطقية للاستقراء مستقلة عن مسألة كون الاستقراء عادة، وكوننا نستطيع التخلص من هذه العادة. إن الفيلسوف التجريبي يود أن يعلم إن كان في وسع التجربة أن تمدنا بمعرفة للمستقبل، وبأي معنى تمدنا بهذه المعرفة، فإن لم يستطع أن يجيب عن هذا السؤال، فعليه أن يعترف صراحة بأن التجريبية قد أخفقت.
فإذا ما انتقلنا إلى إجراء مقارنة بين المذهب التجريبي والمذهب العقلي، لوصلنا إلى نوع غريب من التوازن؛ فصاحب المذهب العقلي لا يستطيع أن يحل مشكلة المعرفة التجريبية لأنه يتصور مثل هذه المعرفة على مثال الرياضيات؛ وبذلك يجعل العقل مشرعا للعالم الفيزيائي. والتجريبي بدوره لا يستطيع أن يحل هذه المشكلة؛ إذ إن محاولته الاعتراف بالكيان الخاص للمعرفة التجريبية من حيث هي مستمدة من الإدراك الحسي تنهار بدورها؛ لأن المعرفة التجريبية تفترض مقدما منهجا غير تحليلي، هو المنهج الاستقرائي. صحيح أن التجريبي لا يكرر أخطاء العقلي، فهو لا يستخدم لغة مجازية، ولا يسعى إلى اليقين المطلق، ولا يحاول أن يشكل مجال المعرفة بحيث يكون أساسا للتوجيهات الأخلاقية. ومع ذلك فإنه حين يقصر قدرة العقل على وضع المبادئ التحليلية، يقع في صعوبة جديدة؛ فهو لا يستطيع تفسير المبدأ الذي تنتقل به المعرفة التجريبية من الماضي إلى المستقبل؛ أي إنه لا يستطيع تفسير الطبيعة التنبئية للمعرفة.
وهكذا يتحتم علينا الاعتراف بضرورة وجود خطأ أساسي في المذهب التجريبي. فقد سبق أن ارتكب صاحب المذهب العقلي خطأ النظر إلى المعرفة الرياضية على أنها أنموذج كل معرفة؛ وبذلك أراد أن يجعل من العقل مصدرا لمعرفة العالم، في أساسياتها على الأقل. أما التجريبي فقد صحح هذا الخطأ بأن أكد أن المعرفة التجريبية مستمدة من الإدراك الحسي، وأن العقل لا يمدنا إلا بعلاقات تحليلية، وأن كل معرفة تركيبية هي من النوع الممتد من الملاحظة. ومع ذلك فالمعرفة المستمدة من الملاحظة تقتصر على الماضي والحاضر، أما معرفة المستقبل فليست من النوع المستمد من الملاحظة. ومع ذلك فالمعرفة المستمدة من الملاحظة تقتصر على الماضي والحاضر، أما معرفة المستقبل فليست من النوع المستمد من الملاحظة. على أن التجريبيين القدامى لم يدركوا الصعوبات الناجمة عن هذا التمييز؛ فلما كان من الممكن تحقيق التنبؤات الخاصة بالمستقبل أو تكذيبها، في وقت متأخر، فقد نظروا إلى معرفة المستقبل على أنها من نفس نوع المعرفة المستمدة من الملاحظة، وفاتهم أننا نود معرفة حقيقة التنبؤات قبل وقوع الحوادث التي نتنبأ بها، وأن المعرفة عندما تصبح مستمدة من الملاحظة لا تعود معرفة بالمستقبل. ولقد تنبه هيوم إلى هذه الصعوبة، ولكن لما لم يكن في وسعه التخلي عن فهم للمعرفة يقتضي ضمنا أن تكون معرفة المستقبل من نفس نوع معرفة الماضي؛ فقد انتهى إلى أن المناهج التنبئية للعلم لا يمكن تبريرها، وأن من المحال أن تكون لنا أية معرفة بالمستقبل.
ولقد اعترف المذهب التجريبي، في مفهومه الحديث، بهذا الخطأ. فلما كان من المستحيل تبرير القضايا المتعلقة بالمستقبل إذا ما نظر إليها على أنها من نفس نوع القضايا المتعلقة بالماضي أو الحاضر، فإنا نستدل من ذلك على أن من الواجب تفسير القضايا المتعلقة بالمستقبل على نحو مختلف. فمن الواجب تصور معرفة المستقبل على أنها تختلف أساسا عن معرفة الماضي. وبهذا التحول ينقلب السؤال؛ فبدلا من أن نفترض أن طبيعة معرفة المستقبل معلومة، ثم ينصب تساؤلنا على الطريقة التي يمكن أن تكون لنا بها معرفة بالمستقبل، فإن السؤال يتركز فيما ينبغي أن تكون عليه طبيعة معرفة المستقبل إن شئنا تبرير القضايا المتعلقة بالمستقبل.
على أن إحداث مثل هذا الانقلاب في السؤال كان أمرا يفوق إمكانات هيوم. والحق أن نقده للاستقراء كان عملا يبلغ من العظمة حدا المعرفة على نحو يهدف إلى العثور فيها على التركيب الذي يريد الفيلسوف الوصول إليه. فصاحب المذهب العقلي يتصور المعرفة التجريبية على أنها نسق ينبغي أن تكون لأسسه يقينية الرياضيات، والتجريبي يستعيض عن يقينية الرياضيات بالتأكيد المرتكز على الملاحظة، ولكنه يشترط في القضايا المتعلقة بالمستقبل أن يكون لها نفس نوع التأكيد الذي ننسبه إلى القضايا المتعلقة بالماضي. وهكذا ينتهي صاحب المذهب العقلي إلى مواجهة هذه المشكلة: لماذا كان يتعين على الطبيعة أن تتبع العقل؟ ويواجه التجريبي هذه المسألة: كيف يمكن نقل التأكيد الذي تتسم به الملاحظات إلى التنبؤات؟
ولم يكن في مقدور فلسفة القرن الثامن عشر أن تصل إلى مخرج من هذا المأزق؛ إذ لم يكن من الممكن إحداث انقلاب في السؤال، بحيث يصبح متعلقا بطبيعة المعرفة التنبئية، إلا بعد حدوث بعض التغيرات الحاسمة في أسس العلم. فقد كانت القوة الدافعة للعلم في القرن الثامن عشر هي الثقة غير النقدية بنجاحه، وكان لا بد للعلم في يشعر بقصور مناهجه قبل أن يصبح ناقدا لذاته ويتساءل عن معنى نتائجه. وقد بدأ هذا التطور في القرن التاسع عشر، وما زال مستمرا حتى يومنا هذا. ولم يكن مصدر هذا التطور هو الفلسفة؛ إذ إن العالم لم يكن في وقت من الأوقات يعبأ كثيرا بتفسير الفيلسوف، بل إن نقد ديفيد هيوم ذاته لم يؤثر فيه. ولقد اتضح أن عدم اكتراث العالم بالفلسفة كان موقفا مفيدا له، وإن كان ذلك من قبيل حسن الحظ فحسب؛ ذلك لأن النجاح كثيرا ما يحالف أولئك الذين يفعلون، بدلا من أن يفكروا فيما ينبغي أن يفعلوه. ولم يكن من الممكن تقديم تفسير لطبيعة المعرفة في إطار العلم السائد في القرن الثامن عشر؛ إذ كان من الواجب إعادة النظر في الفكرة السائدة عن طبيعة الرياضيات، وعن طبيعة العلية، قبل أن يتسنى وضع نظرية للمعرفة تعلل في آن واحد قدرة المناهج الاستنباطية في الفيزياء الرياضية، وكذلك فائدة الاستدلال الاستقرائي. وإذن فقد كان من حسن حظ العالم أنه لم ينتقل إلى بحث مسألة تبرير مناهجه قبل أن تتوافر لديه وسائل الإجابة عن هذه المسألة.
وإنه لمن المعقول أن تكون هذه الإجابة قد قدمت في إطار نظرية للاحتمالات، وإن تكن صورة هذه النظرية تختلف كل الاختلاف عما قد يتوقعه المرء. فالقول إن ملاحظات الماضي يقينية، على حين أن التنبؤات احتمالية فحسب، ليس هو الجواب النهائي على مسألة الاستقراء، يضمن له موقعا بارزا في تاريخ الفلسفة. ولقد ذكرت من قبل أن من الواجب البحث عن مظاهر التقدم الفلسفي، لا في الإجابات التي قدمها الفلاسفة، وإنما في الأسئلة التي سألوها، وهذه القاعدة تنطبق على هيوم بدوره؛ فإلى هيوم يرجع الفضل في إثارة السؤال الخاص بتبرير الاستقراء، وإيضاح الصعوبات التي تعترض حله، أما إجابته عليه فلا تفيدنا في شيء.
ومن الغريب حقا أن هذا الحكم على التجريبية الإنجليزية يصل إلى نقد يناظر اعتراضنا سبق أن وجهناه إلى المذهب العقلي؛ فالتجريبية الإنجليزية، على الرغم من اختلافها الأساسي عن المذهب العقلي، قد كررت خطأ من أهم أخطاء هذا المذهب، ألا وهو البحث في المعرفة، لا بنزاهة الملاحظ الموضوعي، بل بقصد إثبات غاية محددة مقدما، ودراسة طبيعة وما هو إلا نوع من الإجابة الوسط، التي لا تكتمل إلا بوضع نظرية في الاحتمالات تفسر ما نعنيه ب «الاحتمالي»، وعلى أي أساس نستطيع تأكيد الاحتمالات. ولقد درس التجريبيون، ومنهم هيوم، طبيعة الاحتمالات مرارا، ولكنهم انتهوا إلى أن للاحتمال طبيعة ذاتية، وهو ينطبق على الظن أو الاعتقاد الذي ميزوا بينه وبين المعرفة. ولا شك أن الفكرة القائلة بأن هناك معرفة احتمالية، كانت خليقة بأن تبدو متناقضة في نظرهم. والواقع أن رأي هيوم القائل إن الاستدلال الاستقرائي ليس أداة مشروعة للمعرفة، يدل على أنه كان لا يزال واقعا تحت تأثير المذهب العقلي؛ فكل ما كان في استطاعته أن يفعله هو أن يثبت، كما فعل الشكاك القدامى، أن من المستحيل بلوغ المثل العقلي الأعلى للمعرفة، ولكنه لا يستطيع الاستعاضة عنه بنظرة أفضل إلى المعرفة. ولو كان هيوم قد درس رياضيات الاحتمالات، التي كانت قد وردت في عصره في كتابات باسكال وفيرما
Fermat
وجاكوب برنويي
Jacob Bernoulli ، لكان من الجائز أن يهتدي إلى معنى موضوعي للاحتمال، غير أن عدم إشارته إلى هذه الكتابات يدل على أنه لم يكن صاحب عقلية رياضية، ولم يكن بالرجل الذي يصلح لاستغلال نظرية الاحتمالات الرياضية في أغراض فلسفية.
وعلى الرغم من أن التحليل المنطقي لفكرة الاحتمال شرط ضروري لإيضاح المعرفة التنبئية، فلا بد من تغيير جذري في التفسير الفلسفي قبل أن يتسنى تقديم الإجابة النهائية التي تخلصنا من مآزق التجريبية. ونحن نعلم اليوم أن المعرفة التنبئية ذاتها لا يمكن إثبات كونها احتمالية، وأن فكرة المعرفة الاحتمالية تتعرض لنقد مماثل لذلك الذي أثاره هيوم بالنسبة إلى المعرفة التي تزعم لنفسها اليقين؛ وعلى ذلك فإن مشكلة المعرفة التنبئية تقتضي إعادة تفسير لطبيعة المعرفة. ولم يكن من الممكن الوصول إلى هذا الفهم الجديد للمعرفة في إطار فيزياء نيوتن، بل كان لا بد لحل مشكلة الاستقراء من انتظار ذلك التفسير الجديد للمعرفة، الذي ظهر بفضل فيزياء القرن العشرين.
الفصل السادس
الطبيعة المزدوجة للفيزياء الكلاسيكية
جانبها التجريبي وجانبها العقلي
كان حديثنا حتى الآن مقتصرا على الفلسفة. أما الآن، فلندرس تطور العلم خلال تلك الأعوام الألفين والخمسمائة، التي ظهرت خلالها، في مجال الفلسفة، المذاهب العقلية والتجريبية في شتى صورها.
إن الدور الذي أسهم به اليونانيون في مجال العلم يكاد يقتصر على العلوم الرياضية وحدها، ولقد أحرزت الهندسة على وجه التخصيص تقدما عظيما، وكان من أبرز الكشوف الهندسية التي توصل إليها اليونانيون، تلك النظرية التي تحمل اسم فيثاغورس، وهي كشف لا يعادله إلا بحثهم للقطاعات المخروطية، والمنحنيات التي تعرف باسم البيضاوي، والقطع الناقص والقطع الزائد. أما علم الحساب فلم يكن يتميز عندهم بذلك الأسلوب العددي الذي نطبقه اليوم بمثل هذا النجاح؛ فلم يكن اليونانيون يكتبون أرقامهم بالنظام العشري، الذي هو طريقة متأخرة في التدوين، توصل إليها العرب، ولا كانوا يعرفون اللوغاريتمات التي اخترعت في القرن السابع عشر.
1
وعلى الرغم من هذه العيوب الفنية، فإن اليونانيين قد وضعوا أسس نظرية الأعداد، وأدركوا أهمية الأعداد الأولية، وكشفوا وجود الأعداد الصماء؛ أي الأعداد التي لا يمكن كتابتها على أنها معامل لعددين صحيحين. ولقد كان أعظم ما أسهموا به في ميدان الرياضيات هو بناء الهندسة على أساس نظام البديهيات، وهو البناء الذي توصل إليه إقليدس، ذلك الرياضي اليوناني الأصل، الذي جعل من الإسكندرية مركزا للحضارة اليونانية في حوالي عام 300ق.م، وكان نظام إقليدس يعد على الدوام دليلا قاطعا على قدرة الاستدلال الاستنباطي .
ولقد كان نجاح اليونانيين في ميدان العلوم التجريبية مقتصرا على تلك العلوم التي يمكن استخدام المناهج الرياضية فيها؛ فقد كانت نظرية بطليموس، وهو عالم سكندري عاش في القرن الثاني الميلادي، هي أعظم تنظيم شامل لعلم الفلك اليوناني؛ إذ أثبت بطليموس، مستعينا بنتائج سابقة للملاحظة الفلكية والاستدلال الهندسي، أن الأرض كروية الشكل. ومع ذلك فقد كان يرى أن من المؤكد أن الأرض ساكنة، وأن قبة السماء تتحرك حولها، حاملة معها النجوم والشمس والقمر، وهناك أيضا حركات في داخل هذه القبة؛ فالشمس والقمر ليسا مثبتين في موقع محدد بين النجوم، وإنما يتحركان في مسارات دائرية خاصة بهما، والكواكب ترسم أقواسا ذات أشكال غريبة، أدرك بطليموس أنها نتيجة لحركتين دائريتين تتمان في نفس الوقت، مثل مسار شخص جالس في أرجوحة تدور في داخل أرجوحة أخرى أكبر منها. وما زال نظام بطليموس الفلكي، الذي يعرف أيضا باسم نظام مركزية الأرض
geocentric system ، يستخدم اليوم في الإجابة على جميع الأسئلة الفلكية التي تقتصر على الإشارة إلى الجانب الذي يرى من الأرض في النجوم، ولا سيما الأسئلة المتعلقة بالملاحة. ويدل إمكان تطبيق هذا النظام عمليا على هذا النحو على أن في نظام بطليموس قدرا كبيرا من الصواب.
على أن الفكرة القائلة إن الشمس ساكنة والأرض والكواكب تتحرك حولها، لم تكن مجهولة لليونانيين؛ فقد اقترح أرسطرخس الساموسي
Aristarchus of Samos
النظام المتمركز حول الشمس في حوالي عام 200ق.م، ولكنه لم يتمكن من إقناع معاصريه بصوابه، ولم يكن في استطاعة الفلكيين اليونانيين أن يأخذوا برأي أرسطرخس نظرا إلى أن علم الميكانيكا كان في ذلك الحين في حالة تأخر. مثال ذلك أن بطليموس اعترض على أرسطرخس بالقول إن الأرض ينبغي أن تكون ساكنة لأنها لو لم تكن كذلك لما سقط الحجر الذي يقع على الأرض في خط رأسي، ولظلت الطيور في الهواء متخلفة عن الأرض المتحركة، وهبطت إلى جزء مختلف من سطح الأرض.
ولم تجر تجربة لإثبات خطأ بطليموس إلا في القرن السابع عشر؛ فقد أجرى الأب جاسندي
Gassendi ، وهو عالم وفيلسوف فرنسي كان معاصرا لديكارت وخصما له، تجربة على سفينة متحركة؛ فأسقط حجرا من قمة الصاري، ورأى أنه وصل إلى أسفل الصاري تماما. ولو كانت ميكانيكا بطليموس صحيحة، لوجب أن يتخلف الحجر عن حركة السفينة، وأن يصل إلى سطح السفينة عند نقطة تقع في اتجاه مؤخرتها. وهكذا أيد جاسندي قانون جاليليو، الذي كان قد اكتشف قبل ذلك بوقت قصير، والذي يقول إن الحجر الهابط يحمل في ذاته حركة السفينة ويحتفظ بها وهو يسقط.
فلماذا لم يقم بطليموس بتجربة جاسندي؟ ذلك لأن فكرة التجربة العلمية، متميزة من القياس والملاحظة المجردة، لم تكن مألوفة لليونانيين. إن التجربة إنما هي سؤال يوجه إلى الطبيعة، وباستخدام الأدوات المناسبة يحدث العالم واقعة فيزيائية تؤدي نتيجتها إلى الإجابة ب «نعم» أو «لا» على هذا السؤال. وطالما كنا نعتمد على ملاحظة الحوادث التي لا نتدخل نحن فيها، فإن الأحداث القابلة للملاحظة تكون عادة نتاجا لعوامل تبلغ من الكثرة حدا لا نستطيع معه تحديد الدور الذي يسهم به كل عامل منفرد في النتيجة الكلية. أما التجربة العلمية فإنها تعزل العوامل بعضها عن البعض، ويؤدي تدخل الإنسان إلى إيجاد ظروف يتبدى فيها تأثير عامل واحد دون إقحام العوامل الأخرى فيه؛ وبذلك يكشف عن العملية الداخلية التي تتم في الحوادث المعقدة التي تحدث دون تدخل الإنسان. مثال ذلك أن سقوط ورقة من شجرة هو حادث معقد تتنافس فيها قوى الجاذبية مع القوى الهوائية الدنيامية الناتجة عن حركة الهواء تحت الورقة المنزلقة، التي تتحرك إلى أسفل في اتجاه متعرج؛ فإذا استبعدنا، من جهة، تأثير الهواء بأن نجعل الورقة تسقط في ساحة مفرغة من الهواء، لرأينا أن سقوطها هو، من حيث الجاذبية، مماثل لسقط الحجر؛ وإذا قمنا من جهة أخرى بإمرار تيار هوائي على سطح ثابت عبر نفق للهواء، لكشف لنا عن قوانين حركة الهواء. وهكذا فإن الحادث الطبيعي المعقد يحلل إلى عناصره المكونة له عن طريق القيام بتجارب مرسومة مخططة؛ ولهذا السبب أصبحت التجربة أداة للعلم الحديث. أما عدم التجاء اليونانيين إلى التجارب على أي نطاق واسع فيدل على مدى صعوبة التحول من الاستدلال العقلي إلى العلم التجريبي.
إننا نؤرخ بداية ظهور العلم الحديث بعهد كوبرنيكوس (1472-1543م) وجاليليو (1564-1641م)؛ فحين وضع كوبرنيكوس النظام المرتكز حول الشمس، أرسى أسس علم الفلك الحديث، وقام في الوقت ذاته بالخطوة الحاسمة التي أدت إلى تغيير مجرى التفكير العلمي الحديث، وحررته من عناصر التشبيه بالإنسان، التي كانت تسود الفترات السابقة. أما جاليليو فقد أعطى العلم الحديث منهجه الكمي التجريبي؛ فقد حددت التجارب التي قام بها لإثبات قانون سقوط الأجسام أنموذج المنهج الذي يجمع بين التجربة وبين القياس
measurement
والصياغة الرياضية، وبفضل جاليليو تحول جيل من العلماء إلى استخدام التجارب في الأغراض العلمية. ومع ذلك، فإن هذا التحول العام إلى استخدام المنهج التجريبي لا يمكن أن يعد نتيجة لجهد شخص واحد، والأفضل أن نفسره على أنه نتيجة لتغير في الظروف الاجتماعية حرر أذهان العلماء من الاهتمام بالعلم اليوناني في صورة النزعة المدرسية (الاسكلائية)، وأدى بطريقة طبيعية إلى قيام علم تجريبي.
ولقد اقترن مولد العلم التجريبي بموجة من النشاط والاهتمام امتدت إلى جميع أرجاء أوروبا؛ فقد كان جاليليو أول من وجه التلسكوب، الذي اخترعه صانع عدسات هولندي، إلى السماء في إيطاليا. واخترع إيطالي آخر كان صديقا لجاليليو، هو توريتشللي
Torricelli ، البارومتر، وأثبت أن للهواء ضغطا يقل بازدياد الارتفاع. وفي ألمانيا اخترع جوريكه
Guericke
مضخة الهواء، وأوضح أمام جمهور عقدت الدهشة لسانه قوة الضغط الجوي، بأن جمع بين نصفي كرة فرغ ما بينهما من الهواء، ولم تستطع مجموعة من الخيول أن تفصل أحدهما عن الآخر. كذلك كان للإنجليز دور بارز في هذا الميدان الجديد؛ فقد أجرى وليم جلبرت
W. Gilbert ، طبيب الملكة إليزابيث، دراسات مستفيضة عن المغناطيسية ونشرها. واكتشف هارفي
Harvey
الدورة الدموية، ووضع بويل
Boyle
القانون الذي يعرف باسمه، والخاص بالعلاقة بين ضغط الغاز وحجمه. وهكذا خلقت الملاحظة والتجربة بالفعل عالما جديدا كاملا من الوقائع والقوانين العلمية.
هذه المجموعة المختارة الموجزة من الأحداث التي أدت إلى تطور العلم، توضح السبب في ظهور مذاهب تجريبية في العصر الحديث تشبه في تأثيرها المذاهب العقلية الكبرى عند اليونانيين؛ فالمذهب العقلي اليوناني يعكس نجاح الأبحاث الرياضية في حضارة اليونانيين، والتجريبية الإنجليزية تعبر عن انتصار المنهج التجريبي في العلم الحديث، ذلك المنهج الذي يوجه أسئلة إلى الطبيعة، ويترك للطبيعة مهمة الإجابة عنها ب «نعم» أو «لا».
غير أن هناك تطورا آخر يستحق إيضاحا، وهو إحياء الفلسفة العقلية في بلدان القارة الأوروبية خلال نفس الفترة التي كان الفلاسفة الإنجليز يضعون فيها المذاهب التجريبية الجديدة؛ ففي هذه الفترة شيد ديكارت وليبنتس وكانت، على الرغم من اهتمامهم البالغ بالعلم وإسهامهم في بعض الميادين العلمية، مذاهب عقلية تفوق في منهجها ودقتها مذاهب الأقدمين.
ولكي نفهم هذا التطور المضاد، ينبغي أن نذكر أن المنهج التجريبي مهما بدا ثوريا عند ظهوره على مسرح العلم، إلا واحدا من أداتين رئيسيتين للعلم الحديث. أما الأداة الأخرى فهي استخدام المناهج الرياضية لإثبات التفسير العلمي؛ وبهذا المعنى يمكن القول إن العصر الحديث يواصل مهمة العلم اليوناني، ولم يكن من قبيل المصادفة أن نظام كوبرنيكوس، الذي نعده رمزا للعصر العلمي الحديث، كان قد استبق في نظام أرسطرخس القائل بمركزية الشمس. ففي تطور العلم الحديث تأكدت قدرة المنهج الرياضي على تحليل العالم الفيزيائي، وهي القدرة التي كان اليونانيون قد اكتشفوها في أبحاثهم الفلكية، غير أن الجمع بين هذا المنهج الرياضي وبين استخدام التجارب واتخاذ الاثنين معا معايير للصواب، كان ينطوي على أكثر من تأكيد لهذه القدرة؛ إذ كان يعني مضاعفتها بحيث تؤدي إلى نجاح أضخم بكثير من كل ما تحقق من قبل. فمصدر قوة العلم الحديث هو اختراع المنهج الفرضي الاستنباطي
hypothetico-deductive method ، وهو المنهج الذي يضع تفسيرا في صورة فرض رياضي يمكن استنباط الوقائع الملاحظة منه. فلندرس هذا المنهج، الذي يسمى أيضا ب «الاستقراء التفسيري
explanatory induction » من خلال مثل مشهور.
لم يكن كشف كوبرنيكوس بقادر على أن يحظى بموافقة جميع الأوساط العلمية لو لم تكن أبحاث يوهان كبلر
J. Kepler (1571-1630م) قد أدخلت عليه تحسينات، ولو لم يندمج آخر الأمر في تفسير رياضي بفضل جهود إسحاق نيوتن (1643-1727م)؛ فقد كان كبلر عالما رياضيا ذا عقلية صوفية، أخذ على عاتقه خطة رياضية طموحا تهدف إلى إثبات الانسجام المزعوم للكون، غير أنه كان من الذكاء بحيث تخلى عن فرضه الأصلي الخاص بحركات الكواكب، عندما أدرك أن الملاحظات تدل على أن قوانين حركة الأفلاك مختلفة كل الاختلاف؛ ونتيجة لذلك، وضع ثلاثة قوانين مشهورة لحركة الكواكب، يتضح منها أن مدارات الكواكب ليست دوائر، وإنما مدارات بيضاوية. وبعد كشوف كبلر ظهر كشف أعظم منها، بل هو أعظم كشوف هذه الفترة كلها، وهو قانون تجاذب الكتل عند نيوتن. هذا القانون، الذي يشيع إطلاق اسم قانون الجاذبية عليه، يتخذ صورة معادلة رياضية بسيطة إلى حد ما، وهو من الوجهة المنطقية يؤلف فرضا لا يمكن تحقيقه مباشرة، وإنما يبرهن عليه بطريقة غير مباشرة، ما دام من الممكن، كما أوضح نيوتن، أن تستخلص منه جميع نتائج الملاحظات التي تلخصها قوانين كبلر، بل إن الأمر لا يقتصر على نتائج كبلر، وإنما يمكن بالمثل استخلاص قانون سقوط الأجسام عند جاليليو، وكثير غيره من وقائع الملاحظة، كظاهرة المد والجزر في ارتباطها بمواقع القمر.
ولقد أدرك نيوتن ذاته بوضوح أن نجاح قانونه يتوقف على التأييد المستمد من تحقيق نتائجه، وكان عليه، من أجل استخلاص هذه النتائج، أن يبتدع منهجا رياضيا جديدا، هو حساب التفاضل، غير أنه لم يكتف بهذا النصر الاستنباطي، مع كل روعته، وإنما أراد الوصول إلى دليل كمي مبني على الملاحظة، واختبر نتائجه عن طريق القيام بملاحظات للقمر الذي كان دورانه الشهري يعد مثلا لقانون الجاذبية عنده، غير أن أمله خاب عندما وجد أن نتائج الملاحظة لا تتفق مع حساباته، فما كان من نيوتن إلا أن أودع المخطوط الذي دون فيه نظريته في أحد أدراجه، بدلا من أن يجعل للنظرية، مهما كان تناسقها، الأفضلية على الوقائع. وبعد حوالي عشرين عاما، قامت بعثة فرنسية بقياسات جديدة لمحيط الكرة الأرضية، أدرك منها نيوتن أن الأرقام التي كان قد بنى عليها اختباره لم تكن صحيحة، وأن الأرقام الأدق تتفق مع حسابه النظري. ولم ينشر نيوتن قانونه إلا بعد هذا الاختبار.
والحق أن قصة نيوتن من أروع أمثلة المنهج العلمي الحديث؛ فمعطيات الملاحظة هي نقطة بدء المنهج العلمي، غير أنها لا تستنفد هذا المنهج، وإنما يكملها التفسير الرياضي، الذي يتجاوز بكثير نطاق إقرار ما لوحظ بالفعل، ثم تطبق على التفسير نتائج رياضية تظهر صراحة نتائج معينة توجد فيه بصورة ضمنية، وتختبر هذه النتائج الضمنية بملاحظات. هذه الملاحظات هي التي تترك لها مهمة الإجابة ب «نعم» أو «لا»، ويظل المنهج إلى هذا الحد تجريبيا، غير أن ما تؤكد الملاحظات صحته يزيد كثيرا على ما تقوله مباشرة؛ فهي تثبت تفسيرا رياضيا مجردا؛ أي نظرية يمكن استنباط الوقائع الملاحظة منها بطريقة رياضية. لقد كان لدى نيوتن من الشجاعة ما يجعله يغامر بتفسير مجرد، ولكن كان لديه أيضا من الفطنة ما يجعله يمتنع عن تصديقه قبل أن يؤيده اختبار قائم على الملاحظة.
ولقد مرت نظرية نيوتن بتطورات تالية امتدت أكثر من قرنين من الزمان، وكانت كلها تنطوي على تأكيد متجدد لهذه النظرية؛ فعن طريق تجربة بارعة ابتدعها كافندش
Cavendish
أمكن اختبار قوة الجاذبية الصادرة عن كرة من الرصاص لا يزيد قطرها عن قدم، ثم أمكن فيما بعد حساب انحرافات الكواكب في مداراتها، وهي الانحرافات التي تسببها قوى الجاذبية المتبادلة، كما أمكن تحقيق هذه الحسابات بأساليب أكثر دقة في الملاحظة. وأخيرا تنبأ الرياضي الفرنسي «لوفرييه
Leverrier » (وكذلك الفلكي الإنجليزي آدامز
Adams
على نحو مستقل عنه) بوجود كوكب كان مجهولا حتى ذلك الحين، هو الكوكب نبتون، وذلك على أساس حسابات اتضح منها أن الانحرافات الملاحظة في بعض الكواكب لا بد أن تكون راجعة إلى هذا الكوكب الجديد. وعندما وجه الفلكي الألماني «جاله
Galle » منظاره إلى تلك المنطقة في السماء الحالكة، التي كان لوفرييه قد حسبها، رأى بقعة يتغير موقعها تغيرا بسيطا من ليلة إلى أخرى، وهكذا اكتشف الكوكب نبتون (1846م).
والواقع أن المنهج الرياضي هو الذي أكسب الفيزياء الحديثة قدرتها التنبئية، وعلى كل من يتحدث عن العلم التجريبي أن يذكر أن الملاحظة والتجربة لم يتمكنا من بناء العلم الحديث إلا لأنهما اقترنا بالاستنباط الرياضي؛ فالفيزياء عند نيوتن تختلف اختلافا كبيرا عن صورة العلم الاستقرائي التي رسمها فرانسس بيكن قبل جيلين من عهد نيوتن؛ إذ إن أي عالم لم يكن ليستطيع لو اقتصر على جمع الوقائع الملاحظة، كما يتمثل في قوائم بيكن، أن يكتشف قانون الجاذبية؛ فالاستنباط الرياضي مقترنا بالملاحظة هو الأداة التي تعلل نجاح العلم الحديث.
ولقد كان أوضح تعبير عن تطبيق المنهج الرياضي هو مفهوم السببية كما تطور نتيجة للفيزياء الكلاسيكية؛ أي لفيزياء نيوتن. فلما كان من الممكن التعبير عن القوانين الفيزيائية في صورة معادلات رياضية، فقد بدا كأن من الممكن تحويل الضرورة الفيزيائية إلى ضرورة رياضية. فلنتأمل مثلا القانون القائل إن حركات المد تتبع موقع القمر، بحيث يتجه جزء من المحيط صوب القمر، ويتجه الجزء الآخر في الاتجاه المضاد، على حين أن الأرض تدور تحت هذا الجزء، وتجعله ينزلق فوق سطحه. هذه واقعة ملاحظة، وعن طريق تفسير نيوتن يتضح أن هذه الواقعة نتيجة لقانون رياضي، هو قانون الجاذبية؛ وبذلك ينتقل يقين القانون الرياضي إلى الظواهر الفيزيائية. وهكذا فإن عبارة جاليليو التي يقول فيها إن قانون الطبيعة مكتوب بلغة رياضية، هذه العبارة قد أثبتت صحتها خلال القرون التالية، إلى حد يتجاوز كل ما كان يمكن أن يتخيله جاليليو ذاته. فقوانين الطبيعة لها تركيب القوانين الرياضية وضرورتها وشمولها، تلك هي النتيجة التي يؤدي إليها علم فيزيائي يتنبأ بوجود كوكب جديد بقدر من الدقة يكفي المرء معه أن يوجه منظاره نحوه لكي يراه.
وهكذا بدا القانون الرياضي أداة للتنبؤ، لا أداة للتنظيم فحسب، واكتسب عالم الفيزياء بفضله القدرة على التنبؤ بالمستقبل، وبدا التعميم البسيط الذي يتم في الاستدلال الاستقرائي التعدادي أداة هزيلة إذا ما قورن بقدرة المنهج الفرضي الاستنباطي، فكيف يمكن تفسير هذه القدرة ؟ لقد بدا الجواب واضحا؛ فلا بد أن يكون هناك نظام دقيق بين جميع الأحداث الفيزيائية، تعكسه العلاقات الرياضية، وهو نظام يعبر عنه لفظ السببية.
إن فكرة التحديد السببي الدقيق لكل حوادث الطبيعة هي نتاج للعصر الحديث؛ فاليونانيون قد وجدوا نظاما رياضيا في حركات النجوم، غير أنهم رأوا أن الحوادث الفيزيائية الأخرى تتحدد، جزئيا على الأكثر، بالقوانين الفيزيائية. صحيح أن بعض الفلاسفة اليونانيين كانوا يقولون بحتمية شاملة، غير أننا لا نعلم مدى اتفاق نظرتهم إلى الحتمية السببية مع النظرة الحديثة، فلم يترك واحد منهم صيغة واحدة تحدد ما يعنيه بالحتمية، وليس من المحتمل أن يكون أحدهم قد نظر إلى السببية على أنها قانون يسري بلا تخلف، ويتحكم في أتفه الحوادث مثلما يتحكم في أهمها، ويجعل كل حادث ناتجا ضروريا عن الحادث السابق، بغض النظر عما تعنيه هذه الحوادث بالنسبة إلى أهداف البشر؛ فلم يكن من الممكن تصور التنزه الكامل للسببية عن القيم البشرية، في وقت لم تكن فيه الفيزياء الرياضية قد عرفت بعد.
ولقد كان لفكرة الجبر
بالنسبة إلى الذهن اليوناني طابع ديني، يعبر عنه مفهوم المصير أكثر مما يعبر عنه مفهوم السبب أو العلة؛ فأصل القدرية تشبيهي بالإنسان، ولا يمكن تفسيره إلا بإسقاط ساذج للقيم البشرية وأشكال السلوك البشري على مجرى الطبيعة؛ وكما يتحكم الناس في الحوادث الطبيعية من أجل تحقيق أغراضهم، كذلك تتحكم الآلهة في شئون البشر، وقد رسم إله المصير خطته بالنسبة إلى كل فرد من أفراد البشر، هذه هي تعاليم القدرة اليونانية. ومهما اتبعنا من وسائل للهرب من مصيرنا، فلن نكون في ذلك إلا محققين لهذا المصير، ولكن بطرق أخرى؛ فقد كان مصير أوديب هو أن يقتل أباه ويتزوج أمه، وهو مصير لم يكن يعرفه، ولكن عرفه أبوه، ملك ثيبس (طيبة
Thebes ) عن طريق نبوءة، وكان الإخفاق مكتوبا على محاولة الأب أن يهرب من مصيره بترك ابنه الوليد في الجبال، فقد قام أبوان آخران برعاية الطفل، وعندما أصبح أوديب شابا رحل إلى طيبة، فقابل رجلا لا يعرفه وقتله ، وعندما نجح في تحرير البلدة من رعب «أبي الهول» الذي حل لغزه، كانت مكافأته هي الزواج من الملكة. وفيما بعد، اكتشف أن الرجل الذي قتله أبوه، وأن زوجته الملكة هي أمه. تلك هي الأسطورة التي يفسرها علم النفس التحليلي عند فرويد بأنها انعكاس لرغبة لا شعورية عامة، هي كراهية الابن لأبيه وحبه الجنسي لأمه. وهكذا يمكن تفسير فكرة المصير نفسيا بأنها تعبير عن العجز الذي نشعر به إزاء الدوافع اللاشعورية. على أن هذا تفسير حديث، لم يعرفه اليونانيون، وأيا ما كان رأينا فيه، فلا بد أن نكون على استعداد للاعتراف بأن فكرة الجبر عن طريق المصير هي فكرة ينبغي تفسيرها بعلم النفس لا بالتحليل المنطقي.
أما حتمية العلم الحديث فإن لها طابعا مختلفا كل الاختلاف؛ فهي قد ظهرت نتيجة لنجاح المنهج الرياضي في الفيزياء. فإذا كان من الممكن تصور القوانين الفيزيائية على أنها علاقات رياضية، وإذا اتضح أن المناهج الاستنباطية أدوات للتنبؤ الدقيق، عندئذ يكون من الضروري وجود نظام رياضي من وراء عدم الانتظام البادي للتجارب؛ أي لا بد من وجود نظام سببي. ولو لم نكن نعرف هذا النظام في كل الأحوال، ولو بدا أنه سيكون من المستحيل في أي وقت معرفته معرفة كاملة، لكان هذا الإخفاق راجعا إلى نقص الإنسان. وقد لخص الرياضي الفرنسي لابلاس
Laplace
هذا الرأي في تشبيهه المشهور، الذي قال فيه إنه لو وجد عقل فوق البشر يستطيع ملاحظة موقع كل ذرة وسرعتها، وحل جميع المعادلات الرياضية، لكان «المستقبل كالماضي حاضرا» بالنسبة إلى هذا العقل فوق البشري، ولأمكنه أن يحدد بدقة التفاصيل الدقيقة لكل حادث، سواء أكان يقع بعدنا أم قبلنا بآلاف السنين. هذه الحتمية الفيزيائية هي أعم نتيجة لفيزياء نيوتن، وهي تختلف اختلافا أساسيا عن القدر؛ فهي عمياء، لا مرسومة مقدما، وهي لا تحابي الناس أو تكرههم، وهي حتمية لا بالنسبة إلى غايات المستقبل، بل بالنسبة إلى وقائع الماضي، وحتمية لا بالنسبة إلى أمر خارق للطبيعة، بل بالنسبة إلى قانون فيزيائي، غير أنها لا تقل في دقتها وشمولها عن حتمية المصير، وهي تجعل العالم الفيزيائي أشبه بساعة ملآنة تمر آليا بمراحلها المختلفة.
فإذا كانت هذه هي صورة العالم كما رسمتها الفيزياء الكلاسيكية، فلا عجب إذن إن ظهرت في عهد نيوتن موجة من النزعة العقلية فضلا عن النزعة التجريبية؛ فقد اقتصر التجريبيون على تحليل جانب واحد من العلم، هو الجانب القابل للملاحظة، بينما أكد العقليون جانبه الرياضي. على أن التجريبية انهارت آخر الأمر أمام نقد هيوم؛ لأنها عجزت عن تعليل الطبيعة التنبئية للعلم، ولم تستطع تفسير الطريقة التي يمكننا بها أن نعرف النظام السببي الدقيق للعالم، وهو النظام الذي أيقن العالم بوجوده، وكان يعتقد أنه يعرفه في خطوطه العامة على الأقل. وهكذا اعتقد العقليون أنهم كانوا على حق عندما هاجموا الموقف التجريبي، ووضعوا مذاهب ترمي إلى تفسير الدور الذي تقوم به الرياضيات في بناء العالم الفيزيائي.
ومما له دلالته الخاصة أن الدفاع ضد هجمات التجريبيين الإنجليز هو السبب الذي دعا اثنين من كبار العقليين في العصر الحديث، هما ليبنتس وكانت، إلى وضع مذهبيهما، أو هو على الأقل واحد من أسباب وضع هذين المذهبين؛ فقد رد ليبنتس على كتاب لوك «دراسة في الذهن البشري» بكتابه «دراسة جديدة في الذهن البشري»، وصرح «كانت» بأن هيوم «أيقظه من سباته القطعي»، وكتب «نقد العقل الخالص» بقصد إنقاذ المعرفة العلمية من النتائج المدمرة التي تترتب على انتقادات هيوم.
ولقد كان ج. ف. ليبنتس
G. W. Leibniz (1646-1716م) معاصرا لنيوتن، وكان ندا له في مكانته العقلية، وقد اكتشف حساب التفاضل مستقلا عن نيوتن، وطبقه على حل كثير من المشكلات الرياضية. ومع ذلك لم يكن من أنصار نظرية الجاذبية عند نيوتن، بل رفضها على الرغم من نجاحها التجريبي؛ لأنها تؤدي إلى نظرة مطلقة إلى الحركة. وقد وضع ليبنتس نظرية في المكان مبنية على فكرة نسبية الحركة، التي استبق بها المبادئ المنطقية لنظرية النسبية عند أينشتين، ورأى بوضوح أن النظام الكوبرنيكي لا يختلف عن النظام البطليموسي إلا من حيث إنه طريقة مغايرة في الكلام. ويدل عدم وصوله إلى تقدير عادل لفيزياء نيوتن، على أن الاتجاه العقلي في داخله لم يخضع للمعيار التجريبي للحقيقة. أما كونه لم يستطع وضع فيزياء مثل فيزياء أينشتين فهو شيء لا يمكن أن يؤخذ عليه.
ولقد وجد الجانب العقلي للعلم الحديث أقوى تعبير عنه في فلسفة ليبنتس؛ ذلك لأن نجاح المناهج الرياضية في وصف الطبيعة قد جعله يعتقد أن من الممكن رد كل علم إلى الرياضة آخر الأمر، واجتذبته فكرة الحتمية، وفكرة الكون الذي يمر بمراحله كأنه ساعة ملآنة؛ إذ إن هذه الفكرة كانت تعني أن القوانين الفيزيائية قوانين رياضية، فطبق هذه الفكرة على نتاج من أغرب نواتج المذهب العقلي، وأعني به مذهبه في الانسجام المقدر
؛ ففي رأيه أن أذهان الأشخاص المختلفين لا يؤثر بعضها في بعض، وإنما يحدث ما نتوهم أنه تأثر كهذا؛ لأن الأذهان المختلفة، في مساراتها المقدرة مقدما، تمر على الدوام بمراحل يطابق بعضها بعضا بدقة، وكأنها ساعات مختلفة تدل على نفس الوقت دون أن يكون بينها ارتباط سببي. وأنا أذكر هذا المذهب لكي أبين أن النزعة الصوفية الرياضية عند فيثاغورس قد وجدت نظائر لها في فلسفات غيره من كبار الرياضيين.
إن المذهب العقلي عند ليبنتس، وإن يكن يستوحي العلم الرياضي، إنما هو تأمل نظري بحت في ثوب استدلال منطقي، وهو يتخلى عن الأرض الثابتة التي نما فيها العلم الحديث، وأعني بها ارتكازه على الملاحظة التجريبية. ولقد أدى تجاهل ليبنتس للعنصر التجريبي في المعرفة إلى اعتقاده أن كل معرفة إنما هي ضرب من المنطق. وعلى الرغم من أنه أدرك الطبيعة التحليلية للاستنباط المنطقي، فقد كان يعتقد أن المنطق لا يمكنه أن يمدنا بمعرفة فحسب، بل إنه يستطيع أيضا أن يحل محل المعرفة التجريبية؛ فهناك حقائق من النوع الواقعي، أي حقائق تجريبية، وحقائق عقلية، أي تحليلية، غير أن هذا التمييز ليس إلا نتيجة للجهل البشري. ولو كانت لدينا معرفة كاملة، كتلك التي لدى الله، لرأينا أن كل ما يحدث يتصف بالضرورة المنطقية. مثال ذلك أن الله كان يستطيع أن يستنبط من مفهوم الإسكندر أنه كان ملكا وغزا الشرق. هذا التفسير التحليلي للمعرفة التجريبية هو خطأ عقلي ارتكب مرارا على أمل أنه سيتيح تفسير الفيزياء الرياضية. وقد يكون في استطاعتنا تعريف مفهوم الإسكندر على نحو من شأنه أن يتلو تاريخ الرجل كله تحليليا منه، ولكنا لم نكن لنستطيع عندئذ أن نعرف بالمنطق الخالص إن كان الإسكندر، من حيث هو فرد نلاحظه، هو ذلك الذي يحدده التصور بحق. وبعبارة أخرى فالقضية القائلة إن للفرد الملاحظ الصفات التي يعبر عنها التصور تغدو قضية تركيبية، وتخضع لكل عوامل الشك التي تصيب المعرفة التجريبية؛ وإذن فلا سبيل إلى تجنب مشكلات النزعة التجريبية بالالتجاء إلى المنطق التحليلي.
على أن ليبنتس لم يشهد أبدا مذهبا تجريبيا متطرفا؛ فعندما مات كان هيوم في الخامسة من عمره، ونحن نعرف نقده لجون لوك، الذي رفض فيه الاعتراف بمبدأ لوك القائل إن كل معرفة مستمدة من الإدراك الحسي؛ إذ يرى أن التصورات التي تنطوي على ضرورة تتصف بأنها فطرية فينا. على أن هذه الحجة لم يعد لها اليوم أهمية كبيرة، ما دام قد اتضح أن المشكلة الرئيسية للمذهب التجريبي ليست مبدأ لوك القابل بأن للتصورات أصلا تجريبيا، وإنما هي مبدأ هيوم القائل إن التجربة هي الحكم الوحيد على صحة القضايا التركيبية، وهو مبدأ يؤدي إلى النتيجة القائلة إن التنبؤات لا يمكن تبريرها؛ وعلى ذلك فإن الأهم من هذا هو أن نعرف بماذا كان ليبنتس خليقا بأن يرد على هيوم. والأرجح أنه كان سيعترف بمبدأ الاستقراء عند هيوم، ولكنه كان سيراه قاصرا على استخدام البشر، وكان سيقول إن مشكلة الاستقراء لا توجد بالنسبة إلى الله، غير أن هذه ليست إجابة، حتى لو حدد معنى كلمة «الله» في هذه الحالة بأنه «المنطقي الكامل»، ما دام من المستحيل قبول رأي ليبنتس القائل برد المعرفة التجريبية إلى معرفة تحليلية؛ فليس في وسع النزعة العقلية القائلة بمعرفة تحليلية قبلية أن تحل مشكلة هيوم. ومع ذلك فليس هناك احتمال كبير في أن نقد هيوم القاطع كان حريا بأن يؤدي إلى تغيير آراء لبينتس، الذي كان السعي إلى اليقين لديه أقوى من أن يتيح له التغلب على أوهام المذهب العقلي.
ولقد أتى رد المذهب العقلي على هيوم من جانب «كانت»، الذي لم يكن يصغر هيوم إلا بثلاثة عشر عاما، وإن يكن كتابه الرئيسي قد ظهر بعد وفاة هيوم. وقد سبق أن عرضنا فلسفة المعرفة التركيبية القبلية عند «كانت» في الفصل الثالث، وإنه لمن مزايا هذه الفلسفة أنها تسير في طريق مستقل عن ادعاء ليبنتس غير المفهوم بأنه رد المعرفة المتعلقة بالعالم إلى معرفة تحليلية؛ فلنبحث إذن كيف حاول المذهب العقلي في المعرفة التركيبية القبلية أن يرد على هيوم.
في رأي «كانت» أن مبدأ السببية تركيبي قبلي؛ فهو يرى أننا نعلم علم اليقين أن لكل حادث علة، وكل ما يتبقى أمام الملاحظة هو الاهتداء إلى العلة الفردية. وأود أن أوضح ذلك بمثال كان «كانت» ذاته خليقا بأن يستخدمه؛ فعندما نرى المد البحري في إيقاعه الدوري، نعلم بالعقل الخالص أن لهذا الحادث سببا، والأمر الذي تعلمنا إياه الملاحظة مقترنة بالاستدلال الاستقرائي لا يعدو أن يكون أن السبب في هذه الحالة يتحدد بموقع القمر؛ وعلى ذلك فإن الاستدلال الاستقرائي يقتصر على الاهتداء إلى القوانين الفيزيائية الفردية، غير أنه لا يستخدم في إثبات الحقائق العامة للفيزياء، مثل مبدأ السببية، وهي الحقائق التي يفرضها علينا العقل. ولما كنا نعلم علم اليقين أن هناك علة، فإن للاستقراء ما يبرره بوصفه أداة الاهتداء إليها؛ وبهذه الحجة يعتقد «كانت» أنه تغلب على نقد هيوم للاستقراء. فيقين المعرفة التركيبية القبلية يحل محل الشك الذي استسلم له التجريبي، تلك هي ماهية فلسفة «كانت».
وإنه لمن الصعب أن يفهم المرء كيف استطاع «كانت» أن يرى في هذه النظرية عاملا على إيقاظه من السبات القطعي؛ فحجة «كانت» لا تنطوي على إجابة على سؤال هيوم. ولو كان هيوم قد عاش ليقرأ كتاب «نقد العقل الخالص»، فربما كان قد أجاب على «كانت» بقوله: «كيف يمكن أن يكون إدراكنا لوجود سبب عاملا مساعدا لنا عندما يكون هدفنا هو معرفة هذا السبب؟ صحيح أننا لو كنا نعلم أنه ليس ثمة سبب لكان من العبث أن نبحث عن مثل هذا السبب، غير أن هذا ليس موقفنا؛ فنحن لا نعلم إن كان هناك سبب، وفي مثل هذا الموقف نقوم باستدلالات استقرائية مبنية على الملاحظة، ونستنتج مثلا أن القمر سبب ظاهرة المد. هذا الاستدلال الاستقرائي هو ما أضعه موضع الشك، وهو سيظل معرضا لنفس القدر من الشك لو استطعت أن تثبت القضية العامة القائلة إن ثمة سببا؛ وبهذه المناسبة، فإن برهانك على المبدأ العام لا يبدو لي مقبولا.»
فلأوضح هذا الدفاع المتخيل لهيوم بمثال. لنفرض أن شخصا يبحث عن الذهب في بيرو، ولكنه لا يعلم في أي مكان ينبغي عليه أن يحفر، ولكنك تقول له: نعم، إن هناك ذهبا في بيرو. فهل يمكن أن يساعده قولك هذا في شيء؟ إنه لم يتقدم خطوة واحدة عما كان عليه من قبل؛ إذ إن ما يريد معرفته هو ما إذا كانت البقعة التي يحفر فيها ستخرج له ذهبا، وهو لا يستطيع أن يحفر كل بقعة في بيرو. ولو عرف أن هناك ذهبا في مساحة صغيرة معينة من هذا البلد، لظل يعمل على حفر متر مربع بعد الآخر، ولاهتدى إلى الذهب بعد عدد معين من المحاولات، غير أن بيرو أكبر من أن تسمح بإجراء محاولات تشملها كلها؛ وعلى ذلك فإن معرفة مجرد وجود الذهب لا قيمة لها، ولو قلت له إنه لا يوجد ذهب في بيرو، لكانت هذه المعلومات مفيدة له؛ إذ إنها تدفعه إلى الكف عن الحفر. أما القول بأن هناك ذهبا في بيرو فلا يساعده أكثر مما يساعده القول إنك لا تعلم إن كان هناك ذهب في بيرو.
وأود أن أعبر عن هذا النقد ل «كانت» بمزيد من الدقة؛ فقد أكد «كانت» على الدوام أنه يبحث عن الشروط المنطقية المسبقة للمعرفة، مميزا إياها من الشروط النفسية المسبقة: «فلا يمكن أن يكون ثمة شك في أن كل معرفة لنا تبدأ بالتجربة، ولكن لا يلزم عن ذلك القول إنها كلها مستمدة من التجربة.» بهذه الكلمات قدم «كانت» كتابه «نقد العقل الخالص». ولو طبقنا حجته هذه على مشكلة السببية، لكان معناها أننا نتوصل إلى فكرة السببية بالاهتداء إلى أسباب معينة، غير أن معرفة المبدأ العالم للسببية لا تستمد منطقيا من التجارب؛ فهذا المبدأ، في رأي «كانت»، هو الشرط المنطقي المسبق لأي قانون سببي محدد؛ ومن ثم كان من الضروري التسليم بصحته إذا شئنا الاهتداء إلى مثل هذه القوانين السببية.
إن لفظ «شرط منطقي مسبق
logical presupposition » يعني علاقة منطقية، ومعناه هو: إذا كان القانون السببي المعين صحيحا، فإن القانون السببي العام صحيح. على أن هذه العبارة ينبغي أن تكون مقرونة بتحفظ معين؛ فلكي تسري السببية على نوع معين من الحوادث، لا يلزم أن تكون سارية على بقية الأنواع، وكل ما يمكن أن يقال هو: إذا كان القانون السببي الخاص صحيحا، فهناك إذن سبب في هذه الحالة؛ وبهذه الصورة المحدودة وحدها يمكن إقامة علاقة اللزوم. وعلى ذلك، فإن الشرط المنطقي المسبق لأي قانون سببي خاص ليس المبدأ العام للسببية، وإنما هو مبدأ مناظر لا يقال إلا بالنسبة إلى الحادث المعين موضوع البحث.
وعلينا أن نتساءل عما يمكن استخلاصه من هذا اللزوم المحدود؛ فإذا كنت قد وجدت السبب المعين، فهناك إذن سبب لهذا الحادث. ويعتقد «كانت» أن في استطاعتنا أن نستخلص من هذا اللزوم النتيجة الآتية: إذا كنت تبحث عن السبب الخاص، أي سبب ظاهرة المد مثلا، فعليك أن تفترض أن هناك سببا، وإلا لكان من غير المعقول، في رأي «كانت»، أن تحاول البحث عن سبب.
على أن في هذه الحجة مغالطة؛ فإذا كنا نبحث عن سبب معين، فلسنا بحاجة إلى افتراض وجود مثل هذا السبب، وإنما نستطيع أن نترك المسألة مفتوحة، مثل مسألة تحديد كنه السبب. وكل ما يمكن أن يقال هو أننا لو كنا نعلم أنه ليس ثمة سبب لكان من غير المعقول أن نبحث عن سبب خاص، ولكن إذا لم نكن نعرف شيئا عن مسألة وجود سبب، ففي استطاعتنا أن نبحث في وقت واحد عن السبب الخاص، وعن الجواب عن السؤال المتعلق بوجود سبب أو عدم وجوده. فإذا نجحنا في الاهتداء إلى سبب معين، فإنما نعلم أننا قد أثبتنا أن هناك سببا للحالة موضوع البحث. هذه النتيجة التافهة هي كل ما يتبقى من حجة «كانت»؛ فصحة القضية المتعلقة بالسبب المعين تفترض مقدما صحة القضية المتعلقة بوجود سبب، غير أن البحث في صحة القضية الأولى لا يفترض مقدما صحة الثانية.
هذا التحليل يؤدي في الوقت ذاته إلى البت في مسألة المبدأ العام للسببية، وهو المبدأ القائل إن لكل الحوادث أسبابا؛ فمن المؤكد أن عبارة تبلغ هذا القدر الهائل من العمومية ليست هي الشرط المنطقي المسبق للقانون السببي العام موضوع البحث، ولا يمكن أن يكون لها دور إلا بعد بحث القوانين السببية لجميع الحوادث. ولو طبقنا النتائج السابقة على هذه الحالة، لتوصلنا إلى العبارة الآتية: لو كان قد تم الاهتداء إلى قوانين سببية لكل الحوادث، لكان لكل الحوادث أسباب، غير أن البحث عن كل هذه القوانين السببية لا يفترض مقدما التسليم بأن لكل الحوادث قوانين سببية؛ فمن الممكن أن تترك المسألة الأخيرة معلقة، على أن تتم الإجابة عنها بعد أن يكون البحث قد نجح في جميع الحالات.
وهكذا تنهار خطة «كانت» في الاهتداء إلى عنصر تركيبي قبلي عن طريق الكشف عن الشروط المنطقية المسبقة للمعرفة؛ فوجود شروط مسبقة للمعرفة العلمية لا يعني أن هذه الشروط صحيحة. ولو شئنا أن نعرف إن كانت هذه الشروط صحيحة فعلينا أولا أن نثبت أن المعرفة العلمية الصحيحة؛ وعلى ذلك فإن صحة الشروط المسبقة لا تثبت على نحو أفضل مما تثبت صحته المعرفة العلمية. هذا التحليل المنطقي البسيط يدل على أن فلسفة «كانت» في المعرفة التركيبية القبلية لا يمكن قبولها.
إن تفسير المذهب العقلي للفيزياء الكلاسيكية لم يحل المشكلات التي أثارها تفسير المذهب التجريبي. تلك هي النتيجة التي تؤدي إليها كل هذه المناقشة؛ فالدقة الرياضية للفيزياء لا ينبغي لها أن تدفعنا إلى الاعتقاد بأن في استطاعة المناهج الاستنباطية أن تشرح وتعلل جميع العمليات الفكرية المتضمنة في بناء هذا العلم؛ ذلك لأن الفيزيائي يعتمد، إلى جانب الاستنباط، على استخدام الاستقراء، ما دام يبدأ بملاحظات ويتنبأ مقدما بمزيد من الملاحظات. فالتنبؤ بالملاحظات المقبلة هو هدفه ومعيار صحة فرضه في آن واحد. ولقد تمكنت الفيزياء الكلاسيكية، بفضل تشييدها لشبكة معقدة من الاستدلالات الاستنباطية والاستقرائية، من أن تصطنع مناهج تنبئية لها درجة عالية من الكفاءة، غير أنه لا الفيزيائي ولا الفيلسوف استطاع أن يجيب عن السؤال الخاص بالسبب الذي يجعلنا نثق في هذه المناهج عندما نطبقها على المزيد من التنبؤات.
وبانتهاء القرن الثامن عشر، كانت فلسفة الفيزياء قد وصلت إلى طريق مسدود؛ فقد ظل النسق الشامل للمعرفة، الذي خلقه الذهن البشري، غير قابل للفهم. والواقع أن هذا الاعتراف الصريح الذي صدر عن الفيلسوف التجريبي هيوم يبدو أرفع من زعم الفيلسوف العقلي «كانت» القائل إن أسس الفيزياء نتاج للعقل.
على أن الفيزيائيين أنفسهم لم يلاحظوا ذلك الطريق الفلسفي المسدود، وإنما واصلوا القيام بملاحظات ووضع نظريات، وساروا من نجاح إلى نجاح، حتى وصلوا بدورهم إلى طريق مسدود. ومن هذا الطريق الفيزيائي المسدود انبثقت فيزياء جديدة أمكن بواسطتها، آخر الأمر، الخروج من الطريق الفلسفي المسدود بدوره. فلنتحدث عن هذه التطورات في سياق العرض الذي سنقدمه للقرنين التاسع عشر والعشرين.
الباب الثاني
نتائج الفلسفة العلمية
الفصل السابع
أصل الفلسفة الجديدة
إننا لا نملك إزاء الخطأ إلا أن نطالب بتفسير نفسي، أما الصواب فيقتضي تحليلا منطقيا. ولقد كان تاريخ الفلسفة التأملية النظرية قصة لأخطاء أناس وجهوا أسئلة لم يتمكنوا من الإجابة عنها؛ ولذا فليس من الممكن تفسير الإجابات التي أصروا، رغم ذلك، على تقديمها إلا على أساس دوافع نفسية.
أما تاريخ الفلسفة العلمية فهو قصة تطور مشكلات، والمشكلات لا تحل عن طريق تعميمات غامضة، أو أوصاف براقة للعلاقة بين الإنسان والعالم، بل عن طريق ممارسة العمل الفني المتخصص، مثل هذا العمل يتم في العلوم. والحق أن من الواجب تتبع تطور المشكلات من خلال تاريخ العلوم كل على حدة؛ ذلك لأن أقصى ما فعلته المذاهب الفلسفية هو التفكير في مرحلة المعرفة العلمية السائدة في عصرها، غير أنها لم تسهم بشيء في تطور العلم. فالتطوير المنطقي للمشكلات من عمل العالم؛ إذ إن تحليله الفني، وإن كان يوجه في كثير من الأحيان نحو تفاصيل صغيرة، ونادرا ما يجري لأغراض فلسفية، قد أدى إلى زيادة فهم المشكلة إلى أن أصبحت المعرفة الفنية بمضي الوقت، من الاكتمال بحيث تسمح بالإجابة على الأسئلة الفلسفية.
إن العمل العلمي عمل جماعي، وقد يسهم الأفراد في حل مشكلة معينة بدور كبير أو صغير، ولكن هذا الدور يظل على الدوام ضئيلا بالقياس إلى مقدار الجهد الذي بذلته الجماعة في المشكلة. صحيح أن هناك رياضيين وفيزيائيين وبيولوجيين عظاما، غير أن أعظمهم ما كانوا ليتمكنوا من القيام بأعمالهم لو لم تكن الأجيال السابقة قد مهدت لهم الطريق، أو لم يكن معاصروهم قد ساعدوهم؛ فمقدار العمل الفني اللازم لحل مشكلة ما، يتجاوز قدرات العالم الفرد. وهذا لا يصدق فقط على الأبحاث التي تنطوي على ملاحظات وتجارب شاقة، بل يصدق أيضا على البناء المنطقي والرياضي لأية نظرية. والواقع أن الطابع الاجتماعي للعمل العلمي إنما هو مصدر قوته؛ إذ إن موارد الجماعة تكمل القدرة المحدودة للفرد، وتصحيحات الزملاء تصوب أخطاء الفرد، فتكون عقول الأفراد الكثيرين، فيما يسهم به كل منها من نصيب في البحث، أشبه بعقل جماعي فوق الفردي، يستطيع الاهتداء إلى إجابات لا يمكن أن يتوصل إليها فرد واحد.
هذه الاعتبارات ربما كانت تفسر السبب في اتباعي في الباب الثاني من هذا الكتاب خطة تختلف عن تلك التي اتبعتها في الباب الأول؛ فقد كانت فصول الباب الأول تتركز حول المصادر النفسية للخطأ، أما فصول الباب الثاني فتتركز حول المشكلات؛ وعلى ذلك فقد كان لزاما علي، لكي أقدم عرضا كاملا من الوجهة التاريخية، أن أتعقب اتجاهات التطور حتى أعود بها إلى العصور القديمة. ومع ذلك فإن تقديم عرض موجز للعصور القديمة يكفي لتحقيق أغراض هذا الكتاب ؛ إذ إن التطورات الأساسية التي تهم الفيلسوف تبدأ بالقرن التاسع عشر.
والحق أن تاريخ العلم في القرن التاسع عشر يضع أمام أنظار الفيلسوف آفاقا هائلة؛ ذلك لأنه يجمع، إلى وفرة الكشوف الفنية، تحليلا منطقيا زاخرا، وقد نشأت على أساس العلم الجديد فلسفة جديدة. هذه الفلسفة الجديدة بدأت بوصفها ناتجا ثانويا للبحث العلمي؛ ذلك لأن العالم الرياضي أو الفيزيائي أو البيولوجي الذي كان يريد حل المشكلات الفنية لعلمه، كان يجد نفسه عاجزا عن الاهتداء إلى حل ما لم يجب أولا عن أسئلة فلسفية معينة تتميز بطابع أعم. ولقد كان من حسن حظه أنه استطاع البحث عن هذه الإجابة دون أن يثقل كاهله الاهتمام بمذهب فلسفي معين، فتمكن من أن يجد لكل مشكلة إجابة تتعلق بالمشكلة ذاتها، دون أن يعبأ بالجمع بين الإجابات من أجل تكوين مذهب فلسفي متناسق، ولم يكن يهمه أن يكون من الممكن استخلاص نتائجه من مذهب عام معين يحمل اسما خلدته سجلات تاريخ الفلسفة. وهكذا فإنه لما كانت القوة الوحيدة الدافعة له هي منطق المشكلات ذاتها، فقد توصل إلى إجابات لم يكن لها نظير في تاريخ الفلسفة.
وهدف هذا الكتاب هو جمع هذه النتائج، وعرضها بكل ما يجمع بينها من علاقات متبادلة. وعن طريق تكوين مركب عام للإجابات العلمية على الأسئلة الفلسفية، ترسم معالم فلسفة جديدة، أو مذهب فلسفي، لا بمعنى الخلق التأملي لذهن يتخيل، بل بمعنى الكل المنظم الذي لا يمكن التوصل إليه إلا نتيجة لعمل جماعي.
لقد كان القرن التاسع عشر في كثير من الأحيان هدفا لازدراء المؤرخ؛ ذلك لأن الكتاب الذين تعد الشخصية العظيمة للفرد أو للعبقري هي في نظرهم هدف التطورات التاريخية، والذين يقيسون أهمية أية فترة على أساس عدد ما فيها من الأذهان الجبارة؛ قد تحدثوا باستخفاف عن قرن لم يتحدد طابعه الحضاري على أساس من فيه من الشعراء أو المصورين أو الفلاسفة. فلو قارنا بين قرن العلم والصناعة هذا وبين عصر النهضة الأوروبية، أو عهود الأدب الكلاسيكي في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، لكانت الصورة التي يتمثل عليها لنا صورة مدنية لا لون لها، تسعى إلى الآلية والاطراد الرتيب. وبالفعل كانت الألقاب أو الشعارات التي يوصف بها القرن التاسع عشر في التفسير الرومانتيكي للتاريخ هي: الإنتاج بالجملة بدلا من الخلق على يد الفنان أو الصانع الماهر، وإرضاء الجماهير بدلا من معايير الذوق والسمو العقلي، والعمل الذهني الجماعي بدلا من العمل الخلاق للمفكر الفرد.
غير أن المؤرخ الرومانتيكي لن يستطيع أبدا أن يفهم تاريخ عصر العلم والصناعة؛ فمن المستحيل أن تقاس الإنجازات العقلية التي حققها القرن التاسع عشر على أساس الشخصيات العظيمة - وإن كان ذلك القرن قد أنتج بالفعل شخصيات عظيمة - لأن الدور الذي قام به كل فرد، مهما كانت ضخامته، ضئيل بالقياس إلى الإنتاج الجماعي. والحق أن عدد الكشوف العلمية التي تمت بالعمل الجماعي في هذه الفترة كان هائلا. فالفترة التي بدأت بالآلة البخارية وكشف التيار الكهربائي، واستمرت باختراع السكك الحديدية والمولد الكهربائي والمذياع والطائرة، والتي بلغت قمتها في أيامنا هذه بوسائل المواصلات التي تفوق سرعتها سرعة الصوت واستغلال الطاقة الذرية؛ هذه الفترة ليست مجرد مسيرة ظافرة لكشوف صناعية، وإنما هي تمثل في الوقت ذاته اتجاها إلى التقدم السريع في القدرة على التفكير المجرد، وهي قد أدت إلى بناءات نظرية بحتة تتسم بأعلى درجة من الكمال، مثل نظرية التطور عند دارون ونظرية النسبية عند أينشتين، وهي قد دربت العقل البشري على فهم العلاقات المنطقية التي كانت تبدو مستغلقة على فهم الإنسان المثقف في القرون السابقة.
إن نمو القدرة على التجريد ظاهرة تلازم المدنية الصناعية بالضرورة؛ ذلك لأن المهندس الذي يصمم الآلات أو الطائرات لا يماثل عامل المصنع الذي يصنع الآلة أو الطائرة؛ إذ إن إنتاجه يتمثل لخيال كاملا، دون أن يتجسد إلا في صورة تصميم على الورق، قبل أن يصبح حقيقة واقعة. وعالم الفيزياء الذي يجري التجارب في معمله، يقف أمام مجموعة شديدة التعقيد نظاما من الأسلاك وأنابيب الاختبار والقضبان المعدنية، ولكنه يرى في هذه المجموعة المعقدة نظاما من الدوائر الكهربائية، يجعله يسيطر على عملياته اليدوية على نحو من شأنه إنتاج ملاحظات تكشف عن القوانين العامة للطبيعة. والعالم الرياضي، المزود بورق وقلم، يصل إلى أرقام تتحكم في تشييد جسر أو صنع طائرات أو بناء ناطحات سحاب. فلم يحدث قط في تاريخ البشر أن اقتضت مدنية مثل هذا التدريب العقلي المركز من أولئك الذين يعملون على إعلائها.
ولقد كانت فلسفة القرن التاسع عشر نتاجا لهذه القدرة على التجريد؛ فهي لا تقدم تلك الحلول المغرية التي تقدمها مذاهب تتحدث لغة مجازية وتهيب بالميول الجمالية، وإنما تقدم إجابات لا يفهمها إلا ذهن مدرب على التفكير المجرد. وهي تقتضي من تلاميذها دراسة كل جزء منها بدقة العالم الرياضي وانضباط المهندس. ومع ذلك فإنها تقدم إلى من يبدون استعدادا لالتزام هذه الشروط مكافأة هائلة من البصيرة العقلية؛ فهي تجيب على الأسئلة التي لم يستطع مؤسسو المدارس الفلسفية الكبرى الإجابة عنها، وإن كانت تضطر في كثير من الأحيان إلى إعادة صياغة السؤال على نحو من شأنه أن يجعله قابلا لأن يجاب عليه. وهي تبين لنا أن تركيب العالم الذي نعيش فيه أعقد بكثير من ذلك الذي كان يسلم به الفيلسوف الكلاسيكي. وهي قد تمكنت من وضع أساليب لمعالجة هذه التركيبات، وجعل العالم مفهوما في نظر الذهن البشري.
وإنا لنجد عادة في الكتب الفلسفية المدرسية فصلا عن فلسفة القرن التاسع عشر مكتوبا بنفس الروح التي كتبت بها الفصول المتعلقة بالقرون السابقة عليه. في هذا الفصل نجد أسماء «فشته» وشلنج وهيجل وشوبنهور وبرجسون، ونجد وصفا لمذاهبهم تبدو فيه هذه المذاهب خلقا فلسفيا يماثل ما نجده في مذاهب الفترات السابقة، غير أن فلسفة المذاهب تنتهي بمذهب «كانت». ولو فهمنا المذاهب التي ظهرت بعد ذلك بنفس الطريقة التي نفهم بها مذهب «كانت» أو أفلاطون، لكان في ذلك سوء فهم لتاريخ الفلسفة؛ فقد كانت المذاهب الأقدم عهدا تعبر عن علوم عصورها، وقامت بتقديم إجابات وهمية حين كانت تعوزها الإجابات الأفضل. أما المذاهب الفلسفية في القرن التاسع عشر فقد شيدت في وقت كان يجري فيه بناء فلسفة أفضل، وكانت هذه المذاهب من عمل أناس لم يدركوا الكشوف الفلسفية الكامنة في العلم الموجود في عصرهم، فشيدوا، تحت اسم الفلسفة، مذاهب من التعميمات والتشبيهات الساذجة. وكان ما يعجب قراء هؤلاء الفلاسفة فيهم، وما يساعد على شهرتهم ، هو أحيانا تلك اللغة البراقة التي عرضوا بها مذاهبهم، وأحيانا أخرى جفاف أسلوبهم العلمي الوهمي. ومع ذلك فلو نظرنا إلى مذاهبهم هذه تاريخيا لكان الأفضل تشبيهها بالطرف المسدود لنهر كان يتدفق في أرض خصبة، وانتهى به الأمر إلى الجفاف في الصحراء.
والواجب أن نقول إن الحركة التي استمر بها تاريخ الفلسفة بعد «كانت»، وهو التاريخ الذي ظل حتى عصر «كانت» يتمثل في صورة مذاهب فلسفية، ليست تلك المذاهب الوهمية التي قام بها مقلدو الماضي الفلسفي العريق، وإنما تلك الفلسفة الجديدة التي نشأت بفضل علم القرن التاسع عشر، واستمرت في القرن العشرين؛ ففي خلال هذه الفترة القصيرة من الزمن، مرت تلك الفلسفة بتطور سريع، كان متمشيا مع تقدم العلم خلال الفترة ذاتها. وينبغي أن نلاحظ بوجه خاص أن النتائج المترتبة على نظرية النسبية عند أينشتين، وعلى نظرية الكم (الكوانتم) عند بلانك، تقع بأسرها في القرن العشرين؛ ومن ثم فإن من الضروري أن يختلف المظهر الفلسفي لهذا القرن عن مظهر القرن التاسع عشر اختلافا كبيرا. ومع ذلك فإن الانقلاب في التفكير، الذي يعزو الكثيرون الفضل فيه إلى القرن العشرين، إنما كان نتيجة طبيعية للتطورات التي بدأت في القرن التاسع عشر؛ ولذلك كان الأصح أن نسميه تطورا سريعا.
وكما أن الفلسفة الجديدة قد ظهرت في الأصل بوصفها نتاجا ثانويا للبحث العلمي، فإن الأشخاص الذين قامت هذه الفلسفة على أكتافهم لم يكونوا، في معظم الأحيان، فلاسفة بالمعنى الاحترافي؛ فقد كانوا علماء في الرياضة أو الفيزياء أو البيولوجيا أو علم النفس، وكانت فلسفتهم نتيجة لمحاولاتهم الاهتداء إلى حلول لمشكلات يصادفها العالم خلال بحثه العلمي، وهي مشكلات تتحدى الوسائل الفنية التي كانت تستخدم حتى ذلك الحين، وتقتضي إعادة اختبار أسس المعرفة وأهدافها. ونادرا ما كانت هذه الفلسفة مفصلة أو صريحة، كما أنها لم تكن تمتد إلى ما وراء حدود المجالات الخاصة التي يرتكز عليها اهتمام واضعها. وبدلا من ذلك تجد فلسفات هؤلاء الناس ماثلة في تصديرات كتبهم ومقدماتها، وفي ملاحظات تظهر من آن لآخر في مؤلفاتهم التي كان طابعها العام فنيا بحتا.
ولم تظهر فئة جديدة من الفلاسفة، درب أفرادها على الأساليب الفنية للعلم، وضمنها الرياضيات، وركزوا جهودهم في التحليل الفلسفي، إلا في جيلنا هذا؛ فقد أدرك هؤلاء أنه لا مفر من توزيع العمل، وأن البحث العلمي لا يترك للمرء وقتا يكفيه للقيام بأعمال التحليل المنطقي، وأن التحليل المنطقي، من ناحيته، يقتضي تركيزا لا يبقى معه وقت للعمل العلمي، بل إنه تركيز قد يعوق القدرة الإبداعية العملية؛ لأنه يهدف إلى الإيضاح لا إلى الكشف. وكان فيلسوف العلم المحترف هو نتاج هذا التطور.
أما فيلسوف المدرسة القديمة فإنه يرفض في كثير من الأحيان أن يعترف بأن تحليل العلم فلسفة، ويظل يعرف الفلسفة بأنها اختراع المذاهب الفلسفية، وهو لا يدرك أن المذاهب الفلسفية قد فقدت معناها، وأن فلسفة العلم قد شغلت وظيفتها. على أن فيلسوف العلم لا يخشى هذه الخصومة؛ فهو يترك لفيلسوف الطراز القديم مهما ابتدع مذاهب فلسفية قد يكون لها مكان في ذلك المتحف المسمى بتاريخ الفلسفة، ويواصل عمله غير عابئ بشيء.
الفصل الثامن
طبيعة الهندسة
مر العلم، منذ موت «كانت» في عام 1804م، بتطور كان تدريجيا في البداية، ثم ازداد معدله سرعة بالتدريج، وفي هذا التطور تخلى العلم عن كل الحقائق المطلقة والأفكار المسبقة؛ فقد اتضح أن تلك المبادئ التي كان «كانت» يعدها مبادئ ذات طبيعة غير تحليلية، ولا غناء عنها للعلم، إنما هي مبادئ لا تصح إلا بقدر محدود فحسب، وتبين أن القوانين الهامة للفيزياء الكلاسيكية لا تنطبق إلا على الظواهر التي تحدث في بيئتنا العادية. أما بالنسبة إلى الأبعاد الفلكية وما دون المجهرية، فقد كان لا بد من الاستعاضة عن هذه القوانين الكلاسيكية بقوانين للفيزياء الجديدة. وهذه الحقيقة وحدها تكفي لإثبات أنها قوانين تجريبية، وليست قوانين يفرضها علينا العقل ذاته. وسأوضح الآن انحلال المعرفة التركيبية القبلية هذا من خلال تتبع تطور الهندسة.
إن الأصل التاريخي للهندسة، الذي يرجع إلى أيام المصريين القدماء، إنما هو واحد من الأمثلة العديدة لكشوف عقلية نشأت عن حاجات مادية ؛ فقد كانت الفيضانات السنوية لنهر النيل، الذي يروي تربة مصر، تجلب المتاعب لملاك الأرض؛ إذ كانت حدود أراضيهم الزراعية تضيع معالمها كل عام، وكان لا بد من إقامتها من جديد بواسطة قياسات هندسية؛ ولذلك اضطر المصريون، نتيجة لظروف بلادهم الجغرافية والاجتماعية، إلى اختراع فن المساحة. وهكذا نشأت الهندسة بوصفها علما تجريبيا، كانت قوانينه نتائج لملاحظات. مثال ذلك أن المصريين عرفوا بالخبرة العملية أنهم لو صنعوا مثلثا تساوي أضلاعه ثلاث وأربع وخمس وحدات على التوالي، لكان ذلك مثلثا قائم الزاوية. أما البرهان الاستنباطي على هذه النتيجة فلم يكتشف إلا في وقت متأخر على يد فيثاغورس، الذي تفسر نظريته المشهورة كشوف المصريين على أساس أن مجموع مربعي 3 و4 يساوي مربع 5.
1
وتوضح نظرية فيثاغورس طبيعة الدور الذي أسهم به اليونانيون في الهندسة، وأعني به اكتشاف إمكان بناء الهندسة على نسق استنباطي، يكون من الممكن استخلاص كل نظرية فيه، بطريقة دقيقة، من مجموعة البديهيات (انظر الفصل الخامس). وسوف يظل بناء الهندسة في صورة نسق للبديهيات يرتبط إلى الأبد باسم إقليدس، وقد ظل عرضه المنظم منطقيا للهندسة، هو موضوع كل برنامج دراسي في الهندسة، واستمر حتى عهد قريب يدرس كما هو في مدارسنا.
ولقد بدت بديهيات نسق إقليدس طبيعية وواضحة إلى حد بدت معه حقيقتها أمرا لا يتطرق إليه الشك. وفي هذا الصدد كان نسق إقليدس مؤيدا لمفاهيم سابقة قبل أن تتخذ مبادئ الهندسة صورة نسق منظم؛ ذلك لأن الوضوح الذاتي الظاهر للمبادئ الهندسية أدى بأفلاطون، الذي عاش قبل جيل من عصر إقليدس، إلى القول بنظرية المثل. وقد أوضحنا في الفصل الثاني أنه كان يعتقد أن بديهيات الهندسة تتكشف لنا في فعل رؤية يبين لنا أن العلاقات الهندسية إنما هي خواص لموضوعات مثالية، وقد انتهى ذلك التطور الطويل الذي بدأ بأفلاطون، والذي لم يدخل على هذا الفهم تغييرا جوهريا، إلى نظرية «كانت» التي تتميز بأنها أدق، وإن كانت أقل شاعرية، والتي ترى أن البديهيات تركيبية قبلية. وكمان الرياضيون يشاركون في هذا الرأي بدرجات متفاوتة، ولكن اهتمامهم لم يكن ينصب على المناقشة الفلسفية للبديهيات، بقدر ما كان ينصب على تحليل العلاقات الرياضية التي تسري بينها؛ فقد حاولوا رد البديهيات إلى حد أدنى، عن طريق إيضاح أن بعضها يمكن استخلاصه من البعض الآخر.
ولقد كانت هناك بديهية واحدة، هي بديهية التوازي. لم تكن تروق لهم، وكانوا يحاولون استبعادها. وتنص هذه البديهية على أن من الممكن، من نقطة معينة، رسم مواز واحد، وواحد فقط، لمستقيم معين؛ أي إن هناك خطا مستقيما واحدا، وواحدا فقط، لا يتقاطع آخر الأمر مع خط معين، وإن ظل معه على نفس المسطح. ولسنا ندري لماذا لم ترق هذه البديهية للرياضيين، ولكن الذي نعلمه أن محاولات متعددة، ترجع في بدايتها إلى العصور القديمة، قد بذلت لتحويل هذه البديهية إلى نظرية؛ أي لاستخلاصها من بديهيات أخرى. وقد اعتقد الرياضيون مرارا أنهم اهتدوا إلى طريقة لاستخلاص القضية المتعلقة بالتوازي من بديهيات أخرى. ومع ذلك فقد كان يتضح فيما بعد، في كل الأحوال، أن براهينهم باطلة؛ إذ كان هؤلاء الرياضيون يقحمون دون وعي منهم مسلمة معينة لم تكن متضمنة في البديهيات الأخرى، ولكن كانت لها فعالية مساوية لبديهية التوازي. وإذن فقد كانت نتيجة هذا التطور هي أن هناك مسلمات مكافئة لهذه البديهية، غير أن الرياضي لم يكن له الحق في قبول هذه المسلمات أكثر مما له في قبول بديهية إقليدس. فمن الأمثلة المكافئة لبديهية التوازي، المبدأ القائل إن مجموع زوايا المثلث يساوي قائمتين، وكان إقليدس قد استخلص هذا المبدأ من بديهيته، ولكن اتضح أن مبدأ التوازي، بدوره، يمكن استخلاصه إذا ما اتخذ المبدأ المتعلق بمجموع زوايا المثلث بديهية. وهكذا فإن ما هو بديهية في نسق، يصبح نظرية في نسق آخر، والعكس بالعكس.
ولقد ظلت مشكلة التوازي تشغل الرياضيات طوال ما يزيد على ألفي عام قبل أن يتم التوصل إلى حل لها؛ فبعد حوالي عشرين عاما من وفاة «كانت»، اكتشف رياضي مجري شاب، هو جون بولياي
Bolyai (1802-1860م)، أن بديهية التوازي ليست عنصرا ضروريا في الهندسة، فشيد هندسة تخلى فيها عن بديهية التوازي، وأحل محلها مسلمة جديدة هي القائلة إن هناك أكثر من مواز واحد لمستقيم معين من نقطة معينة. وقد تم نفس الكشف في نفس الوقت تقريبا على يد الرياضي الروسي ن. إ. لوباتشفسكي
N. I. Lobachevski (179-1856م) والرياضي الألماني ك. ف. جاوس
K. F. Gauss (1777-1855م). وسميت الهندسات التي وضعت على هذا النحو باسم الهندسات اللاإقليدية. وفيما بعد وضع الرياضي الألماني ب. ريمان
B. Riemann (1826-1866م) نوعا أعم من الهندسة اللاإقليدية، يشمل نسقا لا توجد فيها خطوط متوازية على الإطلاق.
والهندسة اللاإقليدية تناقض الهندسة الإقليدية. مثال ذلك أن مجموع زوايا المثلث، في الهندسة اللاإقليدية، يختلف عن 180 درجة. ومع ذلك فكل هندسة لا إقليدية لا تنطوي على تناقض داخلي، وإنما هي نظام متسق بنفس المعنى الذي تكون به هندسة إقليدس متسقة. وهكذا تحل كثرة من الهندسات محل النسق الإقليدي الواحد. وصحيح أن الهندسة الإقليدية تتميز عن الأخريات جميعا بأن من السهل تصورها بصريا، على حين يكاد يبدو من المستحيل أن نتخيل بالبصر هندسة يكون فيها أكثر من مواز واحد لمستقيم معين من نقطة بالتصور البصري، ونظروا إلى مختلف النسق الرياضية على أنها متساوية في صحتها الرياضية. وتمشيا مع هذه النظرة المنزهة إلى حد ما، التي يتأمل بها الرياضي هذا الموضوع، فسوف أرجئ مناقشة موضوع التصور البصري حتى الانتهاء من مناقشة بعض المشكلات الأخرى.
كان وجود كثرة من الهندسات يقتضي نظرة جديدة إلى مشكلة هندسة العالم الفيزيائي. فطالما كانت هناك هندسة واحدة فقط، هي الهندسة الإقليدية، لم تكن هناك مشكلة متعلقة بهندسة المكان الفيزيائي؛ فقد كان من الطبيعي أن تعد هندسة إقليدس منطبقة على الواقع الفيزيائي؛ لعدم وجود هندسة أخرى. ولقد كان الفضل يرجع إلى «كانت» في أنه أكد، أكثر من غيره، أن تطابق الهندسة الرياضية والهندسة الفيزيائية يحتاج إلى تفسير، وينبغي أن تعد نظريته في المعرفة التركيبية القبلية محاولة عظيمة من فيلسوف لتعليل هذا التطابق، غير أن الموقف تغير تماما باكتشاف كثرة من الهندسات. فعندما يصبح للرياضي الخيار بين هندسات كثيرة، تثار مشكلة: أي هذه الهندسات هي هندسة العالم الفيزيائي؟ وكان من الواضح أن العقل لا يستطيع الإجابة عن هذا السؤال، وإن هذه الإجابة متروكة للملاحظة التجريبية.
ولقد كان أول من لفت الأنظار إلى ذلك هو «جاوس»؛ فبعد كشفه للهندسة اللاإقليدية حاول القيام باختيار تجريبي يتأكد بواسطته من هندسة العالم الفيزيائي. وقد قاس جاوس لهذا الغرض زوايا مثلث حدد أركانه بقمم ثلاثة جبال، وصاغ نتيجة قياساته في عبارة دقيقة، فقال: إن المبدأ الإقليدي صحيح في حدود الأخطاء المحتملة للملاحظة؛ أي إنه إذا كان هناك انحراف لمجموع الزوايا عن 180 درجة، فإن الأخطاء الحتمية للملاحظة تجعل من المستحيل إثبات وجوده؛ فإذا كان العالم لا إقليديا، فإنه خاضع لنوع من الهندسة اللاإقليدية يبلغ اختلافه عن الهندسة الإقليدية حدا من الضآلة يستحيل معه التمييز بين الاثنين.
غير أن قياس جاوس يحتاج إلى بعض المناقشة؛ فمشكلة هندسة العالم الفيزيائي أعقد مما افترض جاوس، ولا يمكن حلها بمثل هذه البساطة.
فلنفترض مؤقتا أن نتيجة جاوس كانت إيجابية، وأن مجموع زوايا المثلث الذي قاسه كان مختلفا عن 180 درجة، فهل يترتب على ذلك أن هندسة العالم لا إقليدية؟
إن ثمة سبيلا إلى تجنب هذه النتيجة؛ فقياس الزوايا الواقعة بين أشياء بعيدة يتم عن طريق رؤية الأشياء من خلال عدسات مثبتة في آلة السدس أو أداة مشابهة. وهكذا فإن الأشعة الضوئية التي تمر من الأشياء إلى الأداة البصرية تستخدم على أساس أنها هي التي تحدد أضلاع المثلث، فكيف نعرف أن الأشعة الضوئية تتحرك في خطوط مستقيمة؟ إن من الممكن القول إنها لا تفعل ذلك، وإن مسارها منحن، وإن قياس «جاوس» لم يكن يتعلق بمثلث أضلاعه خطوط مستقيمة؛ وعلى أساس هذا الافتراض لا يكون القياس قاطعا.
فهل هناك وسيلة لاختبار هذا الافتراض الجديد؟ إن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين؛ فإذا كان مسار الشعاع الضوئي منحنيا، فلا بد أن يكون من الممكن ربط نقطة البداية بنقطة النهاية بواسطة خط آخر، يكون أقصر من مسار شعاع الضوء. مثل هذا القياس يمكن القيام به، من حيث المبدأ على الأقل، بواسطة قضبان قياسية ؛ ففي هذه الحالة توضع القضبان على طول مسار الشعاع الضوئي، ثم توضع على طول خطوط اتصال أخرى. فإذا كان هناك خط اتصال أقصر، لأمكن الاهتداء إليه بتكرار المحاولات.
فلنفرض أننا قمنا بهذا الاختبار وكانت نتيجته سلبية؛ أي إننا وجدنا أن مسار الشعاع الضوئي هو أقصر ارتباط بين النقطتين، فهل تؤدي هذه النتيجة، مقترنة بالقياس السابق لزوايا المثلث، إلى إثبات أن الهندسة إقليدية؟
من السهل أن نرى أن الموقف يظل غير مقطوع به، تماما كما كان من قبل؛ فقد تشككنا في مسار الأشعة الضوئية، واختبرناه بقياسات استخدمنا فيها قضبانا صلبة، غير أن قياس مسافة ما لا يكون أمرا موثوقا منه، إلا إذا لم يكن طول القضيب يتغير حين ينقل، ولكننا نستطيع أن نفترض أن القضيب الذي نقل على طول مسار الشعاع الضوئي قد تمدد بفعل قوة مجهولة، وعندئذ يكون عدد القضبان التي يمكن وضعها على طول المسار أقل، وتكون القيمة العددية التي نصل إليها بشأن هذه المسافة أقل بدورها. وهكذا نتصور أن مسار الشعاع الضوئي أقصر من المسارات الأخرى، على حين أنه أطول في الواقع. وإذن فالبحث فيما إذا كان المستقيم أقصر مسافة يتوقف على مسلك قضبان القياس، فكيف إذن نعلم إن كان القضيب الصلب صلبا بحق؛ أي إنه لا يتمدد ولا ينكمش؟
في هذه الحالة ننقل القضيب الصلب من مكان إلى مكان بعيد، فهل يظل على طوله السابق؟ إن علينا، لكي نختبر طوله، أن نستخدم قضيبا ثانيا. ولنفرض أن طول القضيبين كان متساويا في المكان الأول عندما وضع أحدهما فوق الآخر، ثم نقل أحدهما إلى مكان مختلف، فهل يظل طول القضيبين متساويا؟ إننا لا نستطيع الإجابة عن هذا السؤال. فلكي نقارن بين القضيبين، ينبغي إما أن ننقل القضيب الأول ثانية إلى المكان الأول، أو القضيب الثاني إلى المكان الثاني، ما دامت المقارنة بين الطولين لا تكون ممكنة إلا عندما يكون أحد القضيبين فوق الآخر. وعلى هذا النحو نجد أن طولهما متساو أيضا عندما يكونان معا في المكان الثاني، ولكن لا سبيل إلى معرفة ما إذا كان القضيبان متساويين عندما يكونان في مكانين مختلفين.
وقد يعترض على ذلك بأن هناك وسائل أخرى للمقارنة. مثال ذلك أنه إذا كان طول القضيب يتغير عند نقله، فلا بد أن نكتشف التغير إذا قارنا القضيب بطول أذرعتنا، ولكنا نستطيع أن نفترض، من أجل استبعاد هذا الاعتراض، أن القوى التي تؤدي إلى تمدد الأجسام المنقولة أو انكماشها قوى شاملة؛ أي إن كل الأجسام المادية، وضمنها الأجسام البشرية، يتغير طولها على نفس النحو. ومن الواضح أن أي تغير كهذا لا يمكن ملاحظته.
إن المشكلة موضوع البحث هي مشكلة التطابق
congruence ؛ فينبغي أن ندرك أنه لا سبيل إلى اختبار التطابق والتحقق منه. فلنفرض أن كل الأشياء المادية، وضمنها أجسامنا، قد تضاعف حجمها عشر مرات أثناء نومنا في الليل؛ فعندما نستيقظ في الصباح لا نكون في وضع يسمح لنا باختبار هذا الافتراض، بل إننا لن نتمكن أبدا من التحقق منه؛ فنتائج هذا التغير لا يمكن ملاحظتها، بناء على الشروط الموضوعة. ومن هنا فليس في وسعنا الاهتداء إلى أدلة تؤيدها أو تفندها، فمن الجائز أننا جميعا أطول عشر مرات مما كنا بالأمس.
وليس هناك إلا مخرج واحد من هذه الإشكالات، هو أن ننظر إلى مسألة التطابق، لا على أنها مسألة ملاحظة، بل على أنها مسألة تعريف؛ فينبغي ألا نقول «إن القضيبين الموضوعين في مكانين مختلفين هما بالفعل متساويان»، وإنما الواجب أن تقول إننا نسميهما قضيبين متساويين، ونقل القضبان الصلبة هو الذي يحدد تعريف التطابق. هذا التفسير يؤدي إلى استبعاد المشكلات غير المعقولة التي ذكرت من قبل؛ إذ لا يعود السؤال عما إذا كنا اليوم أطول مما كنا بالأمس عشر مرات سؤالا ذا معنى؛ فنحن نسمي طولنا اليوم مساويا لطولنا بالأمس، ولا معنى للسؤال عما إذا كان هو في الواقع نفس الطول. ويسمى هذا النوع من التعريفات ب «التعريفات الإحداثية
coordinative definitions »، وهي تربط (أو تكون إحداثيا) بين موضوع فيزيائي كالقضيب الصلب، وبين تصور «الطول المتساوي»؛ وبذلك تحدد مفهومه، وهذه الصفة هي التي تفسر الاسم.
وعلى ذلك فإن القضايا المتعلقة بهندسة العالم الفيزيائي لا يكون لها معنى إلا بعد وضع تعريف إحداثي للتطابق؛ فإذا غيرنا التعريف الإحداثي للتطابق نتجت هندسة جديدة. هذه الحقيقة يطلق عليها اسم: نسبية الهندسة. ولكي نوضح معنى هذه النتيجة، فلنفرض مرة أخرى أن قياس جاوس أثبت وجود انحراف لمجموع الزوايا عن 180 درجة، وأن القياسات التي تمت بقضبان صلبة أيدت أن الأشعة الضوئية هي أقصر مسافة، ومع ذلك فلن يظل شيء يحول بيننا وبين النظر إلى هندسة المكان على أنها إقليدية. فلنقل بعد ذلك إن الأشعة الضوئية منحنية، وإن القضبان تتمدد، وعندئذ نستطيع أن نحسب مقدار هذه الانحرافات على نحو من شأنه أن يؤدي التطابق «المصحح» إلى هندسة إقليدية. فمن الممكن النظر إلى الانحرافات على أنها نتيجة لقوى تتفاوت من مكان إلى آخر، ولكنها متماثلة بالنسبة إلى جميع الأجسام والأشعة الضوئية، وهي بالتالي قوى كونية؛ أي إن كل ما يعنيه افتراض هذه القوى هو تغير في التعريف الإحداثي للتطابق. هذه الفكرة تدل على أنه لا يوجد وصف هندسي واحد للعالم الفيزيائي، وإنما توجد فئة من الأوصاف المتكافئة، وكل من هذه الأوصاف صحيح، أما الفروق الظاهرة بينها فلا تتعلق بمضمونها، وإنما باللغة التي تصاغ بها فحسب.
هذه النتيجة تبدو لأول وهلة كأنها تأييد لنظرية «كانت» في المكان. فإذا أمكن تطبيق كل هندسة على العالم الفيزيائي، فيبدو عندئذ أن الهندسة لا تعبر عن صفة في العالم الفيزيائي، وما هي إلا إضافة ذاتية صادرة عن الملاحظ البشري، الذي يضع على هذا النحو نظاما بين موضوعات إدراكه الحسى. وقد استخدم الكانتيون الجدد هذه الحجة في الدفاع عن فلسفتهم، كما أنها استخدمت في موقف فلسفي يسمى ب «المذهب الاصطلاحي
conventionalism »، استحدثه الرياضي الفرنسي هنري بوانكاريه
Henri Poincaré ، وبمقتضاه تكون الهندسة مسألة اصطلاحية، ولا يكون هناك معنى لقضية تزعم أنها تصف هندسة العالم الفيزيائي.
على أن اختبار هذه الحجة بمزيد من الدقة كفيل بأن يثبت أنها غير مقبولة؛ فعلى الرغم من أن من الممكن استخدام كل نسق هندسي في وصف تركيب العالم الفيزيائي، فإن النسق الهندسي إذا ما أخذ وحده لا يصف ذلك التركيب وصفا كاملا، ولن يكون الوصف كاملا إلا إذا اشتمل على قضية عن مسلك الأجسام الصلبة والأشعة الضوئية. وعندما نسمي الوصفين متساويين، أو صحيحين بقدر متساو، فإننا نشير إلى الأوصاف الكاملة بهذا المعنى، ومن بين هذه الأوصاف الكاملة، سيكون هناك وصف واحد، وواحد فقط، لا يقال فيه عن الأجسام الصلبة والأشعة الضوئية إنها «انحرفت أو شوهت» بفعل القوى الكونية. وسوف أستخدم للدلالة على هذا الوصف اسم النسق السوي
normal system . والآن يمكننا أن نتساءل عن أي الهندسيات تؤدي إلى النسق السوي، وهذه الهندسة يمكن تسميتها ب «الهندسة الطبيعية
natural geomefty ». ومن الواضح أن السؤال المتعلق بالهندسة الطبيعية، أي بالهندسة التي لا تكون الأجسام الصلبة والأشعة الضوئية منحرفة أو مشوهة بالنسبة إليها، لا يمكن الإجابة عنه إلا بالبحث التجريبي؛ وبهذا المعنى يكون السؤال عند هندسة المكان الفيزيائي سؤالا تجريبيا.
وفي استطاعتنا أن نضرب مثالا للمعنى التجريبي للهندسة بالإشارة إلى مفاهيم نسبية أخرى. فإذا قال أحد سكان نيويورك «إن الشارع الخامس على يسار الشارع الرابع»، فإن هذه العبارة لا تكون صحيحة ولا باطلة ما لم يحدد الاتجاه الذي ينظر منه إلى هذين الشارعين؛ أي إن العبارة الكاملة «الشارع الخامس على يسار الشارع الرابع منظورا إليهما من الجنوب» هي وحدها القابلة للتحقيق، وهي معادلة للعبارة «الشارع الخامس على يمين الشارع الرابع منظورا إليهما من الشمال». وهكذا فإن المفاهيم النسبية، مثل «على يسار» و«على يمين» تصلح تماما للاستخدام في صياغة المعرفة التجريبية، ولكن من الواجب الحرص على أن تكون الصياغة مشتملة على نقطة الإشارة؛ وبهذا المعنى نفسه تكون الهندسة تصورا نسبيا. فنحن لا نستطيع الكلام عن هندسة العالم الفيزيائي إلا بعد أن نكون قد قدمنا تعريفا إحداثيا للتطابق. وعلى هذا الشرط يمكن إصدار قضية تجريبية عن هندسة العالم الفيزيائي. وعلى ذلك فعندما نتحدث عن الهندسة الفيزيائية، يكون من المفهوم أننا وضعنا تعريفا إحداثيا معينا. ولو كان ما أراد بوانكاريه أن يقوله هو أن اختيار وصف واحد من مجموعة الأوصاف المتكافئة مسألة اصطلاحية، لكان في ذلك على حق. أما إذا كان قد اعتقد أن تحديد الهندسة الطبيعية، بالمعنى الذي عرفناها به، هو مسألة اصطلاحية، فإنه يكون في ذلك مخطئا؛ إذ إن من المستحيل التحقق من هذه الهندسة إلا بطريقة تجريبية. ويبدو أن بوانكاريه كان يعتقد خطأ أن القضيب «الصلب»، وبالتالي التطابق، لا يمكن أن يعرف إلا على أساس اشتراط أن تكون الهندسة الناتجة إقليدية. وهكذا ذهب إلى أنه لو أدت قياسات مثلت إلى أن يكون مجموع الزوايا مختلفا عن 180 درجة، لكان من الضروري أن يصحح الفيزيائي مسارات الأشعة الضوئية وأطوال القضبان الصلبة، وإلا لما أمكنه أن يقول ما يعنيه بالأطوال المتساوية. غير أن بوانكاريه أغفل أن هذا الاشتراط قد يدفع الفيزيائي إلى افتراض قوى كونية،
2
وأن تعريف التطابق يمكن، على العكس من ذلك، أن يقدم على أساس اشتراط استبعاد القوى الكونية، وعن طريق استخدام تعريف التطابق هذا يمكن إصدار قضايا تجريبية متعلقة بالهندسة.
وإني لأود أن أعرض النقد الذي أوجهه إلى بوانكاريه بمزيد من الإسهاب؛ إذ إن العلامة أينشتين قام في الآونة الأخيرة بالدفاع عن المذهب الاصطلاحي بطريقة ذكية، فوصف محادثة خيالية بين بوانكاريه وبيني.
3
ولما كنت أعتقد أنه لا يمكن أن تقوم خلافات في الرأي بين الفلاسفة الرياضيين إذا ما عرضت الآراء بوضوح، فإني أود أن أعرض رأيي على نحو من شأنه، إذا لم يقنع بوانكاريه، أن يقنع العلامة أينشتين، الذي أكن لأعماله العلمية من الإعجاب ما يعادل إعجابه بأعمال بوانكاريه، وهو الإعجاب الذي أعرب عنه بطريقة رائعة.
فلنفرض أن الملاحظات التجريبية تتمشى مع الوصفين الآتيين:
الفئة 1 (أ)
الهندسة إقليدية، غير أن هناك قوى كونية تحرف الأشعة الضوئية، وتشوه قضبان القياس. (ب)
الهندسة لا إقليدية، ولا توجد قوى كونية.
إن بوانكاريه على صواب حين يرى أن من الممكن افتراض صحة كل من هذين الوصفين، وأن من الخطأ التمييز بينهما، فهما مجرد لغتين مختلفتين تصفان حالة واحدة.
ولكن لنفرض أنه أجريت ملاحظات تجريبية في عالم مختلف، أو في جزء مختلف من عالمنا، تتمشى مع الوصفين الآتيين:
الفئة 2 (أ)
الهندسة إقليدية، ولا توجد قوى كونية. (ب)
الهندسة لا إقليدية، ولكن هناك قوى كونية تحرف الأشعة الضوئية، وتشوه القضبان القياسية.
وفي هذه المرة بدورها نجد أن بوانكاريه على حق حين يقول إن كلا من هذين الوصفين صحيح، فهما وصفان متكافئان.
غير أن بوانكاريه يخطئ لو قال إن العالمين 1 و2 متماثلان؛ فهما من الوجهة الموضوعية مختلفان. وعلى الرغم من أنه توجد في كل عالم فئة من الأوصاف المتكافئة، فإن الفئتين المختلفتين ليستا متساويتين من حيث قيمة الصواب، فلا يمكن أن تكون هناك إلا فئة صائبة واحدة بالنسبة إلى نوع معين من العالم، ولا يمكن أن يتحدد أي هاتين الفئتين هي الصائبة إلا بالملاحظة التجريبية. فالمذهب الاصطلاحي لا يدرك إلا تكافؤ الأوصاف في داخل الفئة الواحدة، ويعجز عن إدراك الفوارق بين الفئتين، ومع ذلك فإن نظرية الأوصاف المتكافئة تتيح لنا أن نصف العالم موضوعيا بأن ننسب حقيقة تجريبية إلى فئة واحدة من الأوصاف فحسب، وأن تكون لكل الأوصاف في داخل كل فئة قيمة متساوية من حيث الصواب.
ولكن الأنسب، بدلا من أن نستخدم فئات من الأوصاف، أن نخصص في كل فئة وصفا واحدا على أنه هو النسق السوي، ونستخدمه ممثلا للفئة بأكملها؛ وبهذا المعنى يمكننا أن نختار الوصف الذي تختفي فيه القوى الكونية على أساس أنه النسق السوي، ونسميه بالهندسة الطبيعية. وبهذه المناسبة، فليس في وسعنا حتى أن نثبت أن من الضروري وجود نسق سوي، أما أن هناك نسقا واحدا، وواحدا فقط، من هذا النوع في عالمنا، فلا بد أن تعد هذه واقعة تجريبية (مثال ذلك أن هندسة الأشعة الضوئية قد تكون مختلفة عن هندسة الأجسام الصلبة).
وهكذا فإن نظرية الأوصاف المتكافئة لا تؤدي إلى استبعاد المعنى التجريبي للهندسة، وإنما هي تقتضي فقط أن نعبر عن التركيب الهندسي للعالم الفيزيائي بإضافة شروط معينة؛ أي في صورة قضية عن الهندسة الطبيعية. وبهذا المعنى تعد تجربة «جاوس» دليلا تجريبيا؛ فالهندسة الطبيعية للمكان الموجود في بيئتنا هي إقليدية، وذلك في حدود الدقة التي يمكننا التوصل إليها، أو بعبارة أخرى فإن الأجسام الصلبة والأشعة الضوئية في بيئتنا تسلك وفقا لقوانين إقليدس. ولو كانت تجربة جاوس قد أفضت إلى نتيجة مختلفة، أي لو كانت قد كشفت عن انحراف عن العلاقات الإقليدية يمكن قياسه، لكانت الهندسة الطبيعية لبيئتنا الأرضية مختلفة؛ وعندئذ كان يتعين علينا، لكي نطبق هندسة إقليدية، أن نفترض قوى كونية تحرف الأشعة الضوئية، وتشوه الأجسام المنقولة بطريقة خاصة؛ وإذن فكون الهندسة الطبيعية في بيئتنا في هذا العالم إقليدية، ينبغي أن يعد واقعة تجريبية ترجع إلى حسن الحظ.
هذه الصياغات تتيح لنا التعبير عن الإضافات التي قام بها أينشتين بالنسبة إلى مشكلة المكان؛ فقد توصل من نظريته النسبية العامة إلى النتيجة القائلة إن الهندسة الطبيعية للمكان في الأبعاد الفلكية هندسة لا إقليدية. وهذه النتيجة لا تتناقض مع قياس «جاوس» الذي يؤدي إلى القول إن هندسة الأبعاد الأرضية إقليدية؛ إذ إن من الصفات العامة للهندسة اللاإقليدية أنها تكاد تكون مماثلة للهندسة الإقليدية بالنسبة إلى المساحات الصغيرة، والأبعاد الأرضية صغيرة بالقياس إلى الأبعاد الفلكية. فنحن لا نستطيع ملاحظة ما يحدث من انحرافات عن الهندسة الإقليدية عن طريق الملاحظات الأرضية؛ لأن الانحرافات في هذه الأبعاد ضئيلة إلى أبعد حد. ولكي نثبت وجود انحراف عن الدرجات المائة والثمانين التي تمثل مجموع الزوايا، فلا بد من القيام بقياس جاوس بقدر من الدقة يفوق ما قام به هو ذاته عدة آلاف من المرات، غير أن مثل هذه الدقة بعيدة كل البعد عن متناول أيدينا، وأغلب الظن أنها ستظل كذلك إلى الأبد؛ وإذن فلا يمكن قياس الطابع اللاإقليدي إلا بالنسبة إلى مثلثات أكبر، ما دام انحراف مجموع الزوايا عن 180 درجة يزداد بازدياد حجم المثلث. ولو أمكننا أن نقيس زوايا مثلث تكون أركانه هي النجوم الثوابت الثلاثة، أو المجرات الثلاث - وهو الأفضل - للاحظنا بالفعل أن مجموع زوايا المثلث يزيد على 180درجة، ولكن لا بد لنا من الانتظار حتى يتحقق السفر الكوني في الفضاء قبل أن يتسنى القيام بمثل هذا الاختبار المباشر، ما دام سيكون علينا أن نزور كلا من النجوم الثلاثة على حدة لكي نتمكن من قياس الزوايا الثلاث؛ وعلى ذلك فلا بد لنا من الاكتفاء بالطرق غير المباشرة في الاستدلال، التي تدل، حتى في المرحلة الراهنة لمعرفتنا، على أن الهندسة النجمية لا إقليدية.
وهناك إضافة أخرى قام بها أينشتين؛ فسبب الانحراف عن الهندسة الإقليدية هو في رأيه قوى الجاذبية التي يرجع أصلها إلى كتل النجوم؛ فعلى مقربة من النجم تكون الانحرافات أقوى مما هي في الفضاء الواقع بين النجوم. وهكذا أثبت أينشتين وجود علاقة بين الهندسة والجاذبية. والحق أن هذا الكشف العجيب، الذي أيدته قياسات أجريت خلال كسوف الشمس، والذي لم يسبقه إلى توقعه أحد من قبله، إنما هو تأييد جديد للطابع التجريبي للمكان الفيزيائي.
إن المكان ليس نوعا من النظام يشيد به الملاحظ البشري عالمه، وإنما هو نسق يحدد صيغة علاقات النظام التي تسري بين الأجسام الصلبة المتحركة والأشعة الضوئية؛ وبالتالي يعبر عن سمة عامة جدا للعالم الفيزيائي، تكون أساس كل القياسات الفيزيائية الأخرى؛ فالمكان ليس ذاتيا، وإنما هو واقعي. تلك هي النتيجة التي يؤدي إليها تطور الرياضة والفيزياء الحديثتين. وإنه لمن العجيب حقا أن يؤدي هذا التطور التاريخي الطويل آخر الأمر إلى العودة مرة أخرى إلى الموقف الذي كان سائدا في بدايته؛ فقد بدأت الهندسة بوصفها علما تجريبيا عند المصريين القدماء، ثم أصبحت علما استنباطيا عند اليونانيين، وأخيرا عادت لتصبح علما تجريبيا مرة أخرى، بعد أن كشفت تحليلات منطقية على أعلى درجة من الكمال، عن كثرة من الهندسات، لا بد أن تكون واحدة منها، وواحدة فقط، هي هندسة العالم الفيزيائي.
هذه الفكرة تدل على أن من الواجب التمييز بين الهندسة الرياضية والهندسة الفيزيائية؛ فهناك، من وجهة النظر الرياضية، كثرة من النسق الهندسية، وكل منها متسق منطقيا، وهذا كل ما يطلبه الرياضي؛ فهو لا يهتم بحقيقة البديهيات، وإنما بعلاقات اللزوم بين البديهيات والنظرية، فالقضايا الهندسية التي يقول بها الرياضي تتخذ صورة «إذا كانت البديهيات صحيحة، كانت النظريات صحيحة»، غير أن علاقات اللزوم هذه تحليلية، تتحقق صحتها بواسطة المنطق الاستنباطي؛ وعلى ذلك فإن هندسة الرياضي ذات طبيعة تحليلية. ولا تؤدي الهندسة إلى قضايا تركيبية إلا عندما تفكك علاقات اللزوم، وتؤكد البديهيات والنظريات على حدة؛ وعندئذ تقتضي البديهيات تفسيرا بواسطة تعريفات إحداثية، وبذلك تصبح قضايا عن موضوعات فيزيائية، وعلى هذا النحو تصبح الهندسة نسقا يصف العالم الفيزيائي، غير أنها في هذا المعنى لا تكون قبلية، بل تكون طبيعتها تجريبية، فليس ثمة عنصر تركيبي قبلي في الهندسة؛ إذ إن الهندسة إما أن تكون قبلية، وعندئذ تكون هندسة رياضية وتحليلية، وإما أن تكون تركيبية، وعندئذ تكون هندسة فيزيائية وتجريبية. وهكذا تؤدي أعلى درجات تطور الهندسة إلى انحلال المعرفة التركيبية القبلية.
ولكن ما زال أمامنا سؤال ينبغي الإجابة عنه، وهو السؤال عن التصور البصري
visualization . فكيف نستطيع أن نتصور العلاقات اللإقليدية بصريا بالطريقة التي يمكننا بها رؤية العلاقات الإقليدية؟ قد يكون من الصحيح أن في استطاعتنا، بواسطة صيغ رياضية، أن نتعامل مع الهندسات في أي وقت قادرة على أن تعرض علينا مثلما تعرض الهندسة الإقليدية؛ أعني هل سنتمكن من أن نرى قواعدها في خيالنا مثلما نرى القواعد الإقليدية؟
إن التحليل السابق يتيح لنا أن نقدم إجابة مرضية عن هذا السؤال؛ فالهندسة الإقليدية هي هندسة بيئتنا الفيزيائية، فلا عجب إذن إن أصبحت تصوراتنا البصرية مكيفة مع هذه البيئة، ومتبعة بالتالي للقواعد الإقليدية. ولو تسنى لنا أن نعيش في بيئة يكون تركيبها الهندسي مختلفا إلى حد ملحوظ عن الهندسة الإقليدية، لتكيفنا مع البيئة الجديدة، وتعلمنا كيف نرى مثلثات وقوانين لا إقليدية بنفس الطريقة التي نرى بها الآن تركيبات إقليدية؛ وعندئذ نجد من الطبيعي أن يكون مجموع زوايا المثلث أكبر من 180 درجة، ونتعلم تقدير المسافات على أساس التطابق الذي تحدده الأجسام الصلبة في ذلك العالم؛ ذلك لأن تخيل العلاقات الهندسية بصريا يعني تخيل التجارب التي نمر بها لو كنا نعيش في عالم تسري عليه هذه العلاقات. ولقد كان الفيزيائي هلمولتس
Helmholz
هو الذي قدم هذا التفسير للتخيل البصري، وكان الفيلسوف من قبله قد ارتكب خطأ النظر إلى ما هو في واقع الأمر نتاج للتعود، على أنه رؤية للأفكار (المثل) أو قوانين للعقل، واستغرق الكشف عن هذه الحقيقة أكثر من ألفي عام، ولولا جهد العالم الرياضي بكل ما لديه من أساليب فنية معقدة، لما أمكننا أبدا أن نتخلص من العادات المتأصلة فينا، وأن نحرر أذهاننا من قوانين العقل المزعومة.
إن التطور التاريخي لمشكلة الهندسة إنما هو مثل بارز للإمكانات الفلسفية التي ينطوي عليها تطور العلم. فالفيلسوف الذي زعم أنه كشف قوانين العقل قد أضر بنظرية المعرفة؛ إذ إن ما رآه قوانين للعقل، كان في واقع الأمر تكيفا للخيال البشري مع البناء الفيزيائي للبيئة التي يحيا فيها البشر، ولا بد لنا من البحث عن قدرة العقل، لا في قواعد يمليها العقل على خيالنا، بل في القدرة على تحرير أنفسنا من أي نوع من القواعد تكيفنا معه عن طريق التجربة والتراث. والحق أن التأمل الفلسفي وحده كان سيظل على الدوام عاجزا عن التغلب على طغيان العادات المتأصلة؛ فلم يكن من الممكن أن تتضح مقدرة الذهن البشري إلا بعد أن أوضح العالم وسائل معالجة تركيبات تختلف عن تلك التي تدربت عليها أذهاننا طوال تراث قديم العهد. فالعالم إذن هو المرشد والدليل في مسيرة الاستبصار الفلسفي.
ولقد ظل الطابع الفلسفي للهندسة ينعكس في كل الأوقات على الاتجاه الأساسي للفلسفة؛ وبذلك كان للتطور التاريخي للهندسة تأثير قوي في تطور الفلسفة. فالمذهب العقلي الفلسفي، من أفلاطون إلى كانت، كان قد أكد ضرورة بناء كل معرفة على أنموذج الهندسة، وكان الفيلسوف العقلي قد بنى حجته على تفسير للهندسة، ظل بمنأى عن الشك طوال ما يربو على ألفي عام؛ هذا التفسير هو القائل إن الهندسة نتاج للعقل، يصف العالم الفيزيائي. وعبثا حاول الفلاسفة التجريبيون أن يكافحوا ضد هذه الحجة؛ فقد كان الرياضي واقفا في صف الفيلسوف العقلي، وبدت المعركة ضد منطقه ميئوسا منها. غير أن الآية انعكست بعد كشف الهندسة اللاإقليدية ؛ فقد اكتشف الرياضي أن ما كان يستطيع إثباته لا يعدو أن يكون نسق علاقات اللزوم الرياضية؛ أي علاقات «إذا كان ... فإن»، التي تؤدي من البديهيات إلى النظريات الهندسية، ولم يعد يرى أن من حقه تأكيد صحة البديهيات، وترك مهمة إصدار هذا التأكيد للعالم الفيزيائي. وهكذا أصبحت الهندسة الرياضية مجرد حقيقة تحليلية، واستسلم الجزء التركيبي من الهندسة للعلم التجريبي، وفقد الفيلسوف العقلي أقوى حليف له، وأصبح الطريق خاليا للتجريبي.
ولو كانت هذه التطورات الرياضية قد حدثت قبل حدوثها الفعلي بألفي سنة، لاختلفت صورة تاريخ الفلسفة؛ فقد كان من الممكن جدا أن يكون أحد تلاميذ إقليدس رياضيا، مثل «بولياي
Bolyai »، وأن يكتشف الهندسة اللاإقليدية؛ إذ إن من الممكن الوصول إلى مبادئ هذه الهندسة بوسائل بسيطة إلى حد ما من النوع الذي كان متوافرا في عصر إقليدس. ولنذكر في هذا الصدد أن النظام الفلكي القائل بمركزية الشمس قد كشف في ذلك الحين، وأن الحضارة اليونانية الرومانية وصلت إلى ضروب من التفكير المجرد تقف في مصاف تفكير العصور الحديثة. ولو كان مثل هذا التطور الرياضي قد حدث، لأدى إلى تغيير هائل في مذاهب الفلاسفة؛ فعندئذ كان أفلاطون سيتخلى عن نظرية المثل لافتقارها إلى أساس في المعرفة الهندسية، ولم يكن الشكاك ليجدوا ما يشجعهم على الشك في المعرفة التجريبية أكثر مما يجدونه بالنسبة إلى الهندسة، ولكان من الجائز أن تواتيهم الشجاعة فيدعون إلى مذهب تجريبي إيجابي؛ وعندئذ ما كانت العصور الوسطى لتجد مذهبا عقليا متسقا يمكن إدماجه في اللاهوت، ولما ألف اسبينوزا كتابه «الأخلاق مبرهنا عليها بالطريقة الهندسية»، ولما كتب «كانت» «نقد العقل الخالص».
أكان ذلك كله خليقا بأن يحدث، أم إنني مسرف في التفاؤل؟ أيمكن استئصال الخطأ بتعليم الصواب ؟ إن الدوافع النفسية التي أدت إلى ظهور المذهب العقلي الفلسفي قوية إلى حد يحق معه للمرء أن يفترض أنها كانت ستجد لنفسها عندئذ طرقا أخرى للتعبير؛ فقد كان من الممكن أن ترتكز على نواتج أخرى للعالم الرياضي، وتحولها إلى دليل مزعوم على التفسير العقلي للعالم. والواقع أنه قد انقضى على كشف «بولياي» أكثر من مائة عام، ولم يندثر المذهب العقلي بعد؛ فليست الحقيقة سلاحا كافيا لحظر الخطأ، أو بعبارة أدق، فإن الاعتراف العقلي بالحقيقة لا يكسب الذهن البشري دائما تلك القوة التي تمكنه من مقاومة الجاذبية الانفعالية المتأصلة في السعي إلى اليقين.
غير أن الحقيقة سلاح فعال، وقد تمكنت في كل الأزمان من حشد أتباع من أفضل الناس، وهناك دلائل لا بأس بها على أن حلقة أتباعها تزداد اتساعا بالتدريج، وربما كان هذا كل ما يمكننا أن نؤمله.
الفصل التاسع
ما الزمان؟
الزمان من أظهر صفات التجربة البشرية؛ فحواسنا تقدم إلينا إدراكاتها حسب ترتيب الزمان، وعن طريقها تشارك في المجرى العام المتدفق للزمان الذي يمر خلال الكون، وينتج حادثا بعد حادث، ويخلف ما ينتجه وراءه؛ ليكون أشبه ببلورة لكيان سيال معين كان مستقبلا، وأصبح الآن ماضيا لا يمكن تغييره. أما موقعنا نحن ففي وسط هذا المجرى المتدفق، وهو الوسط المسمى بالحاضر، غير أن ما هو الآن حاضر ينزلق إلى الماضي، على حين أننا ننتقل إلى حاضر جديد، ونظل على الدوام في الآن الأزلي. إننا لا نستطيع إيقاف التدفق، ولا نستطيع أن نعكس اتجاهه ونعيد الماضي، فهو يحملنا معه بلا هوادة، دون أن يمنحنا فرصة للراحة.
على أن الرياضي الذي يحاول ترجمة هذا الوصف النفسي للزمان إلى لغة المعادلات الرياضية يجد نفسه إزاء مهمة عسيرة، فلا عجب إذن أن يبدأ بتبسيط مشكلته؛ فهو يحذف الأجزاء العاطفية من الوصف، ويركز انتباهه على التركيب الموضوعي للعلاقة الزمانية، ويأمل أن يصل على هذا النحو إلى تركيب منطقي قادر على تقديم وصف وتعليل لكل ما نعرفه عن الزمان؛ وإذن فما نشعر به عن الزمان ينبغي أن يكون من الممكن تفسيره على أساس أنه رد فعل للكائن العضوي الانفعالي، على تركيب فيزيائي لهذه الصفات.
هذه الطريقة في البحث قد تخيب آمال القارئ ذي الميول الشاعرية، غير أن الفلسفة ليست شعرا، وإنما هي إيضاح للمعاني عن طريق التحليل المنطقي، ولا مكان فيها للغة المجازية.
إن أول ما يهم الرياضي هو مقياس الزمان؛ فنحن نتصور الزمان على أنه يسير في تدفق مطرد أو متجانس، مستقل عن السرعة الذاتية التي نلاحظها، والتي تتباين تبعا لدرجة الانتباه الانفعالي الذي نبديه بمضمون تجربتنا. والتجانس يعني وجود مقياس؛ أي معيار للمساواة. فنحن نقارن بين فترات الزمان المتعاقبة، ولدينا الوسائل التي تتيح لنا أن نحدد متى يكون طولها متساويا، فما هذه الوسائل؟
إننا نضبط ساعات اليد التي نحملها عن طريق مقارنتها بساعات قياسية، وهذه الساعات الأخيرة بدورها يضبطها عالم الفلك؛ فإذا قسنا مدة اليوم من الفترة الواقعة بين نقطة السمت التي تمر بها الشمس (أي حين تعبر الشمس خط الزوال) وبين النقطة التالية، أي من ظهر يوم معين إلى الظهر التالي، فإننا لن نصل إلى زمان متجانس. فهذا النوع من الزمان، أي الزمان الشمسي، ليس متجانسا تماما؛ لأن دورة الأرض حول الشمس تسير في مدار بيضاوي. ولتجنب الخطأ الناجم عن ذلك، فإن الفلكي يقيس دوران الأرض في فترات يحددها سمت نجم ثابت معين. هذا النوع من الزمان، المسمى بالزمان النجمي، متحرر من التذبذبات التي تسببها دورة الأرض؛ لأن النجوم الثوابت تبلغ من البعد حدا يجعل الاتجاه ما بين الأرض وبين نجم بعيد ثابت يكاد يظل بلا تغير.
فكيف يعلم الفلكي أن الزمان النجمي متجانس بحق؟ إننا لو وجهنا إليه هذا السؤال لأجاب بأن الزمان النجمي ذاته ليس متجانسا تماما إذا توخينا الدقة؛ لأن محور دوران الأرض لا يظل متجها في اتجاه واحد، وإنما ينحرف أو يتذبذب قليلا على نحو يشبه الحركة البطيئة لسن «النحلة» الدوارة (وإن كان هذا الانحراف حركة شديدة البطء؛ لأنها تستغرق حوالي 25000 عام لإكمال دورة واحدة). وعلى ذلك فإن ما يسميه الفلكي بالزمان المتجانس ليس شيئا يمكن ملاحظته مباشرة، وإنما يتعين عليه حسابه عن طريق معادلاته الرياضية، وتتخذ نتائجه صورة تصويبات معينة يضيفها إلى الأرقام التي استخلصت بالملاحظة؛ وإذن فالزمان المتجانس نوع من سريان الزمان، يسقطه الفلكي على المعطيات الملاحظة بالرجوع إلى معادلات رياضية.
ولم يتبق بعد هذا إلا سؤال واحد: فكيف يعلم الفلكي أن معادلاته تحدد زمانا متجانسا بالمعنى الدقيق؟ قد يجيب الفلكي بأن معادلاته تعبر عن قوانين في الميكانيكا، وأنها صحيحة لأنها مستمدة من ملاحظة الطبيعة. غير أن من الضروري، لكي نختبر قوانين الملاحظة هذه، أن يكون لدينا زمان نتخذه مقياسا؛ أعني زمانا متجانسا نعرف بواسطته إن كانت الحركة المعينة متجانسة أم لا، وإلا لما كانت لدينا وسيلة لتحديد ما إذا كانت قوانين الميكانيكا صحيحة أم لا. وهكذا يدور استدلالنا في حلقة مفرغة؛ فلكي نعرف الزمان المتجانس يتعين علينا أن نعرف قوانين الميكانيكا، ولكي نعرف قوانين الميكانيكا يتعين علينا أن نعرف الزمان المتجانس.
وليس لهذه الحلقة المفرغة إلا مخرج واحد، هو أن ننظر إلى مسألة الزمان المتجانس، لا على أنها مسألة معرفة، بل على أنها مسألة تعريف
definition ؛ فعلينا ألا نتساءل إن كان من الصحيح أن زمان الفلكي متجانس، وإنما ينبغي أن نقول إن زمان الفلكي يعرف الزمان المتجانس. فليس ثمة زمان متجانس فعلي، وإنما نصف نحن تدفقا معينا للزمان بأنه متجانس؛ لكي يكون لدينا معيار نرد إليه أنواع التدفق الزماني الأخرى.
هذا التحليل يؤدي إلى حل مشكلة قياس الزمان على نفس النحو الذي حللنا به مشكلة قياس المكان من قبل؛ فقد قلنا إن التطابق المكاني مسألة تعريف، وبالمثل نقول الآن إن التطابق الزماني مسألة تعريف. فليس في وسعنا أن نقارن بين فترتين زمانيتين متعاقبتين مقارنة مباشرة، وإنما نستطيع فقط أن نسميهما متساويتين. وكل ما تمدنا به معادلات الميكانيكا إنما هو تعريف إحداثي للزمان المتجانس. ويلزم عن هذه النتيجة أن يكون الزمان نسبيا؛ إذ إن من الممكن استخدام أي تعريف للتجانس، وتكون أوصاف الطبيعة الناجمة عن هذه التعريفات أوصافا متكافئة، وإن تكن مختلفة لفظيا، فما هي إلا لغات متباينة، أما مضمونها فواحد.
وفي استطاعتنا أيضا أن نستخدم في تحديد مقياس الزمان ساعات طبيعية أخرى، كالذرات الدوارة أو الأشعة الضوئية السائرة، بدلا من استخدام الحركة البادية للنجوم. ومن الأمور الواقعة أن مقاييس الزمان هذه جميعا تتطابق نتائجها، وهذا هو مصدر الأهمية العملية للتعريف الفلكي للتجانس؛ إذ إن هذا التعريف مماثل لذلك الذي تقدمه كل الساعات الطبيعية. وهكذا فإن الساعة الطبيعية تقوم، في قياس الزمان، بدور مشابه لذلك الذي يقوم به الجسم الصلب في قياس المكان.
ولننتقل الآن من مشكلة قياس الزمان إلى مشكلة أخرى تهم الرياضي؛ تلك هي مشكلة ترتيب الزمان. فمشكلة التعاقب الزمنى، أو السابق واللاحق، أو الترتيب الزمني، أهم حتى من مشكلة قياس الزمان؛ فكيف يمكننا أن نحدد إن كان حادث معين أسبق من حادث آخر؟ لو كانت لدينا ساعة، لكان التدفق المتجانس للزمان فيها منطويا على تحديد للترتيب الزمني، غير أن علاقة الترتيب الزمني ينبغي أن تكون خاضعة لتعريف مستقل عن قياس الزمان. فلا بد أن يكون الترتيب الزمني واحدا بالنسبة إلى مختلف مقاييس الزمان؛ وبالتالي ينبغي أن يكون من الممكن تعريف التعاقب الزمني بطريقة أخرى غير الإشارة إلى الأرقام المدونة على الساعات.
ولو استعرضنا الوسائل التي نحكم بها على الترتيب الزمني لوجدنا أنه يشترط فيها دائما معيار أساسي للتعاقب الزمني، فلا بد أن يسبق السبب النتيجة؛ وبالتالي فإننا إذا عرفنا أن حادثا معينا هو سبب حادث آخر، فلا بد أن يكون الأول أسبق من الثاني. مثال ذلك أنه إذا اكتشف شرطي في بقعة خفية ثروة من الذهب ملفوفة في ورقة جرائد، فإنه يعلم أن لف الثروة لم يتم قبل التاريخ المدون على الجريدة، ما دام طبع الجريدة هو السبب الذي أدى إلى ظهور نسختها هذه. وعلى ذلك فإن علاقة الترتيب الزمني يمكن أن ترد إلى علاقة سبب ونتيجة.
ولسنا بحاجة إلى أن ندرس علاقة السبب والنتيجة (أو العلة والمعلول) في هذا الموضع؛ لأننا سندرسها في فصل تال. وحسبنا أن نقول إن الارتباط السببي يعبر عن علاقة من نوع «إذا كان ... فإن ...»، وهي علاقة يمكن اختبارها عن طريق تكرار وقوع حوادث من نفس النوع. غير أن ما ينبغي علينا تفسيره هو كيفية التمييز بين السبب والنتيجة، فلن يعيننا على هذا التمييز أن نقول إن السبب هو أسبق الحادثين المرتبطين؛ إذ إننا نود تعريف الترتيب الزمني على أساس الترتيب السببي، فلا بد إذن أن يكون لدينا معيار مستقل لتمييز السبب من النتيجة.
إن دراسة أمثلة بسيطة للعلاقة السببية تبين لنا أن هناك عمليات طبيعية يتميز فيها السبب عن النتيجة تميزا واضحا. ومن هذا القبيل عمليات المزج وما شابهها من العمليات التي تنتقل من حالة منظمة إلى حالة غير منظمة. فعالم الفيزياء يتحدث عن عمليات لا يعكس ترتيبها
irreversible . فلتتخيل مثلا أن لديك «فيلما» مأخوذا بآلة تصوير سينمائية، وتريد أن تعرف في أي اتجاه تلفه، وفي إحدى صور الفيلم ترى فنجانا من القهوة باللبن، وإلى جانبه إبريق صغير فارغ، وفي صورة أخرى لا تبعد عن الأولى كثيرا، ترى نفس الفنجان مليئا بالقهوة «السادة» والإبريق الصغير إلى جانبه مليئا باللبن؛ عندئذ تعرف أن الصورة الثانية أخذت قبل الأولى، وتعرف الاتجاه الذي تلف فيه شريط «الفيلم»؛ ذلك لأن من الممكن مزج القهوة باللبن، ولكن ليس من الممكن فصلهما بعد مزجهما. أو لنفرض أن ملاحظا أنبأك بأن رأى الأنقاض المحترقة لبيت ما، بينما أنبأك ملاحظ آخر أنه رأى البيت سليما؛ فعندئذ تعلم أن الملاحظة الثانية كانت أسبق من الأولى؛ ذلك أن الاحتراق عملية لا تعكس، وفي استطاعتنا أن نستبعد احتمال كون البيت قد أعيد بناؤه بنفس الشكل الذي كان عليه؛ وذلك لأننا نعلم أن الفترة الزمنية الواقعة بين الملاحظتين لا تتجاوز بضعة أيام. ولعل من الأمثلة الواضحة للعلاقة بين عدم القابلية للانعكاس وبين الترتيب الزمني، سلسلة الصور التي نراها عندما يعرض فيلم سينمائي عرضا عكسيا؛ فالشكل الغريب للسجائر وهي تزداد طولا أثناء احتراقها، أو لقطع الخزف التي تنهض من الأرض إلى المائدة وتتجمع في أطباق وفناجين سليمة، هو دليل على أننا نحكم على الترتيب الزمني على أساس العمليات الفيزيائية غير القابلة للانعكاس (وسوف نقدم في الفصل العاشر اختبارا أدق لصفة عدم القابلية للانعكاس).
والواقع أن قيام علاقة السببية بإيجاد ترتيب متسلسل للحوادث الفيزيائية هو سمة من أهم سمات العالم الذي نعيش فيه، وعلينا ألا نعتقد أن وجود هذا الترتيب المتسلسل ضرورة منطقية؛ إذ إننا نستطيع تخيل عالم لا تؤدي فيه السببية إلى ترتيب متسق للسابق واللاحق. في مثل هذا العالم لن يكون الماضي والمستقبل منفصلين انفصالا قاطعا، وإنما يمكن أن يتلاقيا في حاضر واحد، ونستطيع أن نتقابل مع أنفسنا كما كنا منذ عدة سنوات ونتحدث معها. على أن من الوقائع التجريبية أن عالمنا ليس من هذا النوع، وإنما هو يقبل نظاما متسقا على أساس علاقة متسلسلة مبنية على ارتباط سببي، تسمى بالزمان. فالترتيب الزمني يعكس الترتيب السببي في الكون.
وهناك تعريف مقابل لتعريف التعاقب الزمني، هو تعريف التزامن (أو المعية)
simultaneity ؛ فنحن نسمي الحادثين متزامنين إذا لم يكن أحدهما سابقا أو لاحقا للآخر، وتؤدي مشكلة التزامن إلى نتائج غريبة عند المقارنة بين حوادث في أمكنة مختلفة، وهي مشكلة أصبحت مشهورة بفضل تحليل أينشتين لها.
فعندما نرغب في معرفة زمن حادث بعيد، نستخدم إشارة تنقل إلينا رسالة وقوع الحادث، ولكن لما كانت الإشارة تستغرق زمنا لكي تنتقل في مسارها، فإن لحظة وصول الإشارة إلى مكاننا ليست هي ذاتها وقت وقوع الحادث الذي نود التأكد منه. هذه الواقعة مألوفة عند استخدام الإشارات الصوتية، فعندما نسمع الرعد، تكون قد مرت عدة ثوان على وقوعه في سحابة بعيدة. أما الشعاع الضوئي الذي يحدثه وميض البرق فإن سرعته أكبر بكثير، بحيث إن لحظة ظهور البرق يمكن أن تعد، بالنسبة إلى جميع الأغراض العملية، هي ذاتها لحظة حدوث البرق في السحاب. أما إذا بحثنا الأمر من وجهة نظر القياس الأكثر دقة، لكان التحديد الزمني لوميض البرق من نفس نوع التحديد الزمني لقصف الرعد، ولكان علينا أن نأخذ في اعتبارنا الوقت الذي يستغرقه الشعاع الضوئي لكي ينتقل من السحابة إلى أعيننا.
ومن السهل حساب زمن انتقال الضوء، إذا عرفنا سرعة الضوء والمسافة التي قطعها، غير أن المشكلة هي كيفية قياس سرعة الضوء. فلكي نقيس هذه السرعة علينا أن نرسل شعاعا ضوئيا من نقطة إلى نقطة بعيدة، ونلاحظ زمن قياسها وزمن وصولها؛ وبذلك نتأكد من زمن الانتقال. وبقسمة هذا الزمن على طول المسافة المقطوعة، نحصل على السرعة. غير أننا نحتاج، لقياس زمن القيام وزمن الوصول، إلى ساعتين، ما دامت هذه القياسات تحدث في نقطتين مكانيتين مختلفتين، ولا بد أن تكون هاتان الساعتان مضبوطتين سويا، أو متطابقتي التوقيت
synchronized ؛ أي إن من الضروري أن تكون القراءات فيهما واحدة بالنسبة إلى الأزمان الواحدة، وهذا يعني أن من الضروري أن يكون في استطاعتنا تحديد التزامن في نقاط متباعدة. وهكذا أدت بنا أبحاثنا هذه إلى أن ندور في حلقة مفرغة؛ فقد أردنا أن نقيس التزامن، ووجدنا أن علينا أن نعرف سرعة الضوء لكي نتمكن من هذا القياس، كما تبين لنا أنه لا بد لقياس سرعة الضوء من معرفة التزامن.
على أننا كنا نستطيع أن نجد مخرجا لو أمكننا قياس سرعة الضوء باستخدام ساعة واحدة؛ فبدلا من قياس زمن وصول الإشارة الضوئية في النقطة البعيدة مثلا، نستطيع أن نعكس الشعاع الضوئي بمرآة، بحيث يعود إلى النقطة الأولى؛ وبذلك يمكن قياس الفترة الزمنية التي استغرقتها رحلة الذهاب والإياب بساعة واحدة فقط؛ وعندئذ يكون علينا، لكي نحدد سرعة الضوء، أن نقسم زمن رحلة الذهاب والإياب على ضعف المسافة. وعلى الرغم من أن هذه الطريقة تبدو مبشرة بالخير، فإن الاختبار الدقيق كفيل بأن يكشف نواحي النقص فيها، فكيف نعلم أن الشعاع الضوئي ينتقل في رحلة الإياب بنفس سرعة انتقال في رحلة الذهاب؟ إن الرقم الذي نحصل عليه للسرعة لن يكون له معنى ما لم نكن نعرف أن هذه المساواة حقيقية، ولكن لا بد لنا، لكي نقارن السرعتين في الاتجاهين، من أن نقيس السرعة في كل اتجاه على حدة، ومثل هذا القياس يحتاج إلى ساعتين؛ وبذلك نعود إلى نفس الصعوبة السابقة.
وقد نحاول التأكد من التزامن عن طريق نقل الساعات؛ فنأخذ ساعتين مضبوطتين سويا، وتدلان على نفس الوقت ما دامتا باقيتين في نفس النقطة المكانية، ثم ننقل إحدى الساعتين إلى النقطة البعيدة، ولكن كيف نعلم أن الساعة المنقولة تظل متطابقة التوقيت خلال النقل؟ لا بد للتأكيد من تطابق التوقيت في الساعتين من أن نستخدم الإشارات الضوئية؛ وبذلك نصل إلى نفس المشكلة التي صادفناها من قبل. ولن يساعدنا على حل هذه الصعوبة أن نعيد الساعة الثانية إلى النقطة المكانية الأولى؛ لأن النتيجة التي نحصل عليها بهذه الطريقة لن تكون منطبقة إلا على حالة وجود الساعتين متجاورتين. والواقع أن هذه المشكلة شبيهة بمشكلة مقارنة قضيبي القياس في نقطتين مختلفتين، وهي المشكلة التي ناقشناها من قبل.
بل إن مشكلة الساعتين المنقولتين أعقد من مشكلة قضيبي القياس المنقولين ذاتها؛ ففي رأي أينشتين أن الساعة المنقولة تصبح بطيئة بعد رحلة الذهاب والإياب، إذا ما قورنت بالساعة التي تظل طوال الوقت في مكانها؛ ولهذا الرأي نتائج منطقية هامة؛ فهو ينطبق على جميع أنواع الساعات، وضمنها الذرات، التي تدل على فترة دورانها بلون الإشعاع الضوئي المنبعث عنها، وقد أيدت التجارب التي أجريت على ذرات سريعة التحرك تأخر دورانها على النحو الذي تنبأ به أيشتين. ولما كانت الكائنات العضوية الحية مؤلفة من ذرات، فإن أي تأخير في الحوادث الذرية التي تقع في داخله ينبغي أن ينجم عنه تأخير في عملية الشيخوخة التي يتعرض لها الكائن العضوي؛ ويترتب على ذلك أن الأشخاص الأحياء الذين يسافرون بسرعة كبيرة ينبغي أن تتأخر عملية شيخوختهم، وأنه لو ذهب واحد من شقيقين توءمين، مثلا، في رحلة كونية، لأصبح بعد عودته أصغر من توءمه الآخر (وإن كان سيصبح بدوره أكبر مما كان عندما بدأ رحلته). هذه النتيجة تتلو بمنطق لا جدال فيه من نظرية أينشتين التي ترتكز على أدلة قوية.
فإذا عدنا إلى مشكلة التزامن، لوصلنا إلى النتيجة القائلة إن الساعات المنقولة لا يمكن أن تستخدم في تعريف علاقة «الحدوث في نفس الوقت»، وعلينا أن نبحث عن إشارات مناسبة للوصول إلى هذا التعريف. ولما كانت الإشارات الضوئية على الرغم من سرعتها الشديدة، ذات سرعة محدودة، فإن مما يساعدنا أن نجد في متناول أيدينا إشارات أسرع من الضوء؛ ذلك لأننا عندما نريد قياس سرعة الصوت، نستطيع استخدام الإشارات الضوئية في مقارنة الزمن؛ لأن سرعة الضوء أكبر جدا من سرعة الصوت؛ وبذلك يكون الخطأ الذي نقع فيه ضئيلا من الوجهة العددية إلى حد يمكن تجاهله. وبالمثل، فلو كانت لدينا إشارة أسرع مليون مرة من الضوء، لأمكننا قياس سرعة الضوء بدقة كافية، وذلك بتجاهل زمن إرسال الإشارة الأسرع. على أن هذه نقطة أخرى تختلف فيها فيزياء أينشتين عن الفيزياء الكلاسيكية؛ ففي رأي أينشتين أنه لا توجد إشارة أسرع من الضوء، وهذا لا يعني فقط أننا لا نعرف إشارة أسرع منه، وإنما يرى أينشتين أن القضية القائلة إن الضوء أسرع الإشارات قانون طبيعي، يمكن أن يطلق عليه اسم مبدأ الطابع المحدود لسرعة الضوء، وقد قدم أينشتين أدلة قاطعة على هذا المبدأ، وليس لدينا من أسباب الشك فيه أكثر مما لدينا من أسباب الشك في قانون بقاء الطاقة.
فإذا ما جمعنا بين مبدأ أينشتين وبين التحليل السابق لمعنى التعاقب الزمني، لأدى بنا ذلك إلى نتائج غريبة بشأن التزامن. فلنفرض أن إشارة ضوئية أرسلت في الساعة 12 إلى كوكب المريخ وانعكست منه، وستعود هذه الإشارة بعد عشرين دقيقة مثلا، فأي زمن ينبغي أن نحدده للحظة وصول الإشارة إلى كوكب المريخ؟ إن تحديد هذا الزمن بأنه 12:10 يعني افتراض تساوي سرعة الضوء في الذهاب والإياب، غير أننا رأينا من قبل أنه لا يوجد سبب يدعو إلى افتراض هذا التساوي. والواقع أننا نستطيع تحديد لحظة وصول الإشارة الضوئية إلى المريخ بأي وقت يقع بين 12:00 و12:20؛ ففي استطاعتنا أن نقول مثلا إن الإشارة وصلت في الساعة 12:05، ويكون معنى ذلك أنها قطعت رحلة الذهاب في خمس دقائق، ورحلة العودة في خمس عشرة دقيقة، ولكن الأمر الذي يؤدي تعريفنا للتعاقب الزمني إلى استبعاده، هو القول بأن الضوء وصل إلى المريخ الساعة 11:55؛ لأن معنى تحديد هذا الوقت هو أن الإشارة وصلت قبل وقت مغادرتها؛ وبذلك تكون النتيجة سابقة على السبب، ولكنا ما دمنا نختار لوقت وصول الإشارة إلى المريخ رقما يقع في الفترة الواقعة بين 12:00 و12:20، فإننا نكون بذلك ملتزمين لشرط الترتيب الزمني. ولا بد أن يستبعد حدوث تأثير سببي متبادل بين أي حادث يقع في هذه الفترة الزمنية في موقعنا نحن، وبين الحادث الذي يقع في المريخ، والذي يدل عليه وصول الإشارة الضوئية. فلما كان التزامن يعني استبعاد إمكان وجود أي تأثير سببي متبادل، فإن أي حادث يقع خلال هذه الفترة الزمنية في مكاننا يمكن أن يوصف بأنه متزامن مع وصول الشعاع الضوئي إلى المريخ. وهذا هو ما يسميه أينشتين بنسبية التزامن.
وهكذا نرى أن التعريف السببي للترتيب الزمني يؤدي إلى عدم التحدد فيما يتعلق بالمقارنة الزمنية بين الحوادث التي تقع في نقاط متباعدة، وهو يؤدي إلى ذلك نظرا إلى الطابع المحدود لسرعة الضوء. ولا يمكن أن يوجد زمان مطلق، أي تزامن لا شك ولا غموض فيه، إلا في عالم لا يكون فيه لسرعة الإشارات حد أعلى، ولكن لما كانت سرعة الانتقال السببي محدودة في عالمنا هذا، فلا يمكن أن يكون هناك تزامن مطلق. والواقع أن النظرية السببية في الزمان تفسر معنى التعاقب الزمني والتزامن على نحو من شأنه أن يكون التفسير قابلا للانطباق على عالم الفيزياء الكلاسيكية مثلما ينطبق على عالمنا، الذي تكون فيه سرعة الانتقال السببي خاضعة لحد أعلى، ولا يمكن فيه تعريف التزامن بطريقة قاطعة لا غموض فيها.
وبهذه النتائج نكون قد وصلنا إلى حد لمشكلة الزمان مماثل لذلك الذي وصلنا إليه لمشكلة المكان؛ فالزمان، كالمكان، ليس كيانا مثاليا أو فكريا له وجود أفلاطوني يدرك بنوع من التبصر، وليس نوعا ذاتيا من الترتيب يفرضه الملاحظ البشري على العالم، كما اعتقد «كانت»، بل إن في استطاعة الذهن البشري أن يدرك نظما مختلفة للترتيب الزمني، يعد الزمان الكلاسيكي نظاما واحدا منها، وزمان أينشتين، بما يفرضه من حدود على الانتقال السببي، نظاما آخر. أما اختيار الترتيب الزمني الذي ينطبق على عالمنا، من بين هذه الكثرة من النظم الممكنة، فهو مسألة تجريبية؛ فالترتيب الزمني يمثل صفة عامة للكون الذي نعيش فيه، والزمان حقيقي بنفس المعنى الذي يكون به المكان حقيقيا، ومعرفتنا للزمان ليست أولية، وإنما هي نتيجة ملاحظة؛ أي إن النتيجة التي تؤدي إليها فلسفة الزمان هي أن تحديد التركيب الفعلي للزمان إنما هو عمل من أعمال علم الفيزياء.
وعلى الرغم من أن نسبية التزامن تبدو فكرة تدعو إلى الاستغراب، فإنها منطقية ويمكن تخيلها عينيا. وإن الغرابة في آراء أينشتين لتختفي في عالم تصبح فيه قيود الانتقال السببي أكثر وضوحا. فإذا ما أمكن في وقت ما إقامة تليفون لاسلكي مع المريخ، وكان علينا أن ننتظر عشرين دقيقة للإجابة على أي سؤال نوجهه بالتليفون، لاعتدنا عندئذ فكرة نسبية التزامن، ونظرنا إليها على أنها طبيعية تماما، مثلما أننا لا نجد اليوم أية غرابة في اختلاف معايير التوقيت في مختلف المناطق الزمنية التي ينقسم إليها سطح الأرض. وإذا ما أمكن السفر بين الكواكب يوما ما،
1
لبدا من الأمور المألوفة لنا أن تتأخر عملية الشيخوخة أو التقدم في العمر لدى الأشخاص العائدين من رحلات طويلة، ولظلوا أقل من عمر الأشخاص الآخرين الذين كان لهم في الأصل نفس عمره. والحق أن النتائج التي يصل إليها العلماء بالاستدلال المجرد، والتي تقتضي من المرء، عندما يصادفها لأول مرة، أن يتخلى عن معتقدات تقليدية، كثيرا ما تصبح عادات مألوفة لدى الأجيال اللاحقة.
وهكذا أدى التحليل العلمي إلى تفسير للزمان يختلف كل الاختلاف عن تجربة الزمان في الحياة اليومية؛ فقد اتضح أن ما نشعر بأنه تدفق للزمان، هو ذاته العملية السببية التي تكون هذا العالم، وتبين لنا أن تركيب هذه الصيرورة السببية ذو طبيعة أعقد بكثير مما يكشفه الزمان الذي ندركه بالملاحظة المباشرة، حتى يجيء يوم يغزو فيه الإنسان الفضاء الواقع بين الكواكب، وعندئذ يصبح زمان الحياة اليومية مماثلا في تعقيده للزمان كما يعرفه العلم النظري اليوم. صحيح أن العلم يجرد المضمون الانفعالي لكي ينتقل إلى التحليل المنطقي. غير أن من الصحيح أيضا أن العلم يفتح آفاقا جديدة، قد تجعلنا نمارس يوما ما انفعالات لا عهد لنا بها من قبل على الإطلاق.
الفصل العاشر
قوانين الطبيعة
كانت فكرة السببية تحتل موقع الصدارة في كل نظرية للمعرفة في العصر الحديث؛ ذلك لأن إمكان تفسير الطبيعة على أساس القوانين السببية يوحي بالفكرة القائلة إن العقل يتحكم في أحداث الطبيعة، كما أن العرض السابق لتأثير ميكانيكا نيوتن في المذاهب الفلسفية (الفصل السادس) يظهر بوضوح أن جذور المعرفة التركيبية القبلية ترجع إلى تفسير ذي طابع حتمي للعالم الفيزيائي. ولما كانت الفيزياء السائدة في عصر ما تؤثر تأثيرا عميقا في نظرية المعرفة في ذلك العصر، فسيكون من الضروري دراسة التطور الذي طرأ على مفهوم السببية في فيزياء القرنين التاسع عشر والعشرين، وهو التطور الذي أدى إلى إعادة النظر في فكرة القوانين الطبيعية، وانتهى بفلسفة جديدة للسببية.
ومما يزيد في سهولة عرض هذا التطور التاريخي إلى حد بعيد، أن يسبقه تحليل لمعنى السببية، وهذا التحليل يمكن أن يرتبط بالبحث في معنى التفسير (الذي ورد في الفصل الثاني)، وهو البحث الذي انتهى إلى أن التفسير تعميم. ولما كان التفسير إرجاعا إلى الأسباب، فإن العلاقة السببية ينبغي أن تفهم على نفس النحو. والواقع أن العالم يعني بالقانون السببي علاقة من نوع «إذا كان ... فإن ...»، مع إضافة أن نفس العلاقة تسري في كل الأحوال. فالقول إن التيار الكهربائي يسبب انحرافا لإبرة المغناطيس، يعني أنه كلما كان هناك تيار كهربائي كان هناك دائما انحراف لإبرة المغناطيس. وإضافة لفظ «دائما» تؤدي إلى تمييز القانون السببي من الاتفاق الذي يحدث بالصدفة؛ فقد حدث مرة، أثناء ظهور منظر تفجير صخور على شاشة سينما، أن اهتزت الصالة نتيجة لزلزال خفيف، وانتاب المتفرجين شعور مؤقت بأن الانفجار الذي شاهدوه على الشاشة هو الذي سبب اهتزازا في صالة العرض. فإذا رفضنا قبول هذا التفسير، فنحن إنما نشير في هذا الرفض إلى أن الاتفاق الذي لوحظ ليس قابلا للتكرار.
ولما كان التكرار هو كل ما يميز القانون السببي من الاتفاق المحض، فإن معنى العلاقة السببية ينحصر في التعبير عن تكرار لا يقبل استثناء، ولا ضرورة لأن نفترض له معنى يزيد على ذلك. الفكرة القائلة إن السبب يرتبط بنتيجته بنوع من الخيط الخفي، وإن النتيجة مضطرة إلى أن تتلو السبب، هي فكرة يرجع أصلها إلى التشبيه بالإنسان، ومن الممكن الاستغناء عنها؛ فكل ما تعنيه العلاقة السببية هو «إذا كان كذا ... حدث كذا دائما». ولو كانت صالة السينما تهتز دائما عندما يظهر انفجار على الشاشة لكانت هناك علاقة سببية؛ فنحن إذن لا نعني أي شيء أكثر من ذلك عندما نتحدث عن السببية.
صحيح أننا في بعض الأحيان لا نقف عند حد تأكيد اتفاق لا يقبل استثناء، وإنما نبحث عن مزيد من التفسير؛ فالضغط على زرار معين يصاحبه دائما رنين جرس. هذا التطابق المنتظم يفسر بقوانين الكهرباء، التي تنبئنا بأن رنين الجرس نتيجة للعلاقة بين التيار الكهربي والمغناطيسية، ولكننا إذا انتقلنا إلى صياغة هذه القوانين، وجدنا أنها بدورها تنحصر في التعبير عن علاقة من نوع «إذا حدث كذا ... حدث كذا دائما». والعنصر الوحيد الذي تمتاز به قوانين الطبيعة على حالات الانتظام البسيطة التي يمثلها نمط ضغط الأزرار، هو أن الأولى تتصف بمزيد من العمومية؛ فهي تصوغ علاقات تتمثل في تطبيقات فردية متباينة لها أنواع شديدة الاختلاف؛ فقوانين الكهرباء مثلا تعبر عن علاقات اتفاق دائمة، تلاحظ في الأجراس ذات الأزرار المضغوطة، وفي المحركات الكهربائية، وفي أجهزة الراديو والسيكلوترون.
ويقبل العلماء عامة، في أيامنا هذه، تفسير السببية على أساس العمومية، وهو التفسير الذي صيغ بوضوح في كتابات ديفيد هيوم؛ فهو يرى أن القوانين الطبيعية لا تعدو أن تكون تعبيرا عن تكرار لا يقبل استثناء. وهذا التحليل لا يوضح السببية فحسب، وإنما يمهد الطريق أيضا لتوسيع نطاق السببية على نحو تبين أنه لا غناء عنه لفهم العلم الحديث.
وسرعان ما اتضح أن قوانين الإحصاء، التي لوحظت في الأصل بالنسبة إلى نتائج ألعاب الحظ، تنطبق أيضا على كثير من المجالات الأخرى. وكانت أولى الإحصاءات الاجتماعية قد جمعت في القرن السابع عشر. وفي القرن التاسع عشر أدخلت المناهج الإحصائية في الفيزياء. فبفضل الحسابات الإحصائية وضعت النظرية الحركية في الغازات، وهي النظرية القائلة إن الغاز يتألف من عدد هائل من الجزيئات الصغيرة، التي تسمى بالجسيمات، تتحرك في كل الاتجاهات مصطدمة بعضها ببعض، وترسم مسارات متعرجة بسرعة هائلة. وبلغ المنهج الإحصائي أوج نجاحه عندما نجح في تفسير ظاهرة «عدم القابلية للانعكاس» التي تميز كل العمليات الحرارية، والتي ترتبط ارتباطا وثيقا باتجاه الزمان.
إن كل شخص يعلم أن الحرارة تنتقل من الجسم الحار إلى الجسم البارد، لا العكس؛ فعندما نلقي بمكعب من الثلج في كوب من الماء، فإن الماء يصبح أبرد؛ لأن حرارته انتقلت إلى الثلج وأذابته. هذه الحقيقة لا يمكن أن تستخلص من قانون بقاء الطاقة؛ فمكعب الثلج ليس باردا كل البرودة، وهو ينطوي في داخله على كمية كبيرة من الحرارة، وإذن فمن الممكن جدا أن يعطي جزءا من حرارته إلى الماء المحيط به فيجعله أسخن، على حين يصبح الثلج ذاته أبرد. مثل هذه العملية لا تتعارض مع قانون بقاء الطاقة، إذا كانت كمية الحرارة التي تنطلق من الثلج تساوي الكمية التي يتلقاها الماء، ولكن عدم حدوث مثل هذه العملية، وانتقال طاقة الحرارة في اتجاه واحد فقط، ينبغي أن يصاغ بوصفه قانونا مستقلا. هذا القانون هو الذي نسميه بقانون «عدم القابلية للانعكاس»، وكثيرا ما يطلق عالم الفيزياء عليه «المبدأ الثاني للديناميكا الحرارية»، على حين أن المبدأ الأول في نظره هو قانون «بقاء الطاقة».
ومن الضروري صياغة مبدأ عدم القابلية للانعكاس بدقة كبيرة؛ فليس صحيحا أن الحرارة تنساب دائما من الحرارة الأعلى إلى الحرارة الأدنى؛ إذ إن كل ثلاجة كهربائية إنما هي مثال للحالة العكسية. فالآلة تخرج الحرارة من داخل الثلاجة إلى خارجها؛ وبذلك تجعل الداخل أبرد والجو المحيط بها أسخن، ولكنها لا تستطيع أن تفعل ذلك إلا لأنها تستخدم كمية معينة من الطاقة الميكانيكية التي يأتي بها المحرك الكهربائي، وهذه الطاقة تتحول إلى حرارة في نفس درجة الحرارة المتوسطة للغرفة. وقد أثبت الفيزيائي أن كمية الطاقة الميكانيكية التي تحولت إلى حرارة أعظم من كمية الطاقة الحرارية التي تسحب من داخل الثلاجة. فإذا نظرنا إلى الحرارة ذات الدرجة الأعلى، أو الطاقة الميكانيكية أو الكهربائية، على أنها طاقة من مستوى أعلى، كانت الطاقة التي تهبط أكثر من الطاقة التي تعلو في الثلاجة. فمن الواجب صياغة مبدأ عدم القابلية للانعكاس على أنه قضية تقول إننا إذا أخذنا في اعتبارنا كل العمليات التي لها علاقة بالموضوع، كان مجموع الطاقة هابطا، بحيث يكون هناك على وجه العموم اتجاه إلى التعويض.
ولقد كان الفيزيائي بولتزمان
Boltzman ، من فيينا، هو الذي اكتشف أن من الممكن تفسير مبدأ عدم القابلية للانعكاس بطريقة إحصائية؛ فكمية الحرارة في جسم ما تتحدد حسب حركة جزيئاته، فكلما ازداد متوسط سرعة الجزيء، ارتفعت الحرارة. وينبغي أن ندرك أن هذه العبارة لا تشير إلا إلى متوسط سرعة الجزيء؛ لأن الجزيئات المنفردة قد تكون لها سرعات متباينة تماما. فإذا حدث اتصال مباشر بين جسم ساخن وجسم بارد، اصطدمت جزيئاتهما، وقد يحدث من آن لآخر أن يصطدم جزيء بطيء بجزيء سريع فيفقد كل سرعته، وتزداد سرعة الجزيء السريع. غير أن هذه حالة استثنائية، والذي يحدث على وجه الإجمال هو تعادل للسرعات عن طريق الصدمات. وهكذا يفسر عدم قابلية العمليات الحرارية للانعكاس بأنه ظاهرة امتزاج، تشبه تقليب أوراق اللعب، أو خلط الغازات والسوائل.
وعلى الرغم من أن هذا التفسير يجعل قانون عدم القابلية للانعكاس يبدو معقولا، فإنه يؤدي أيضا إلى نتيجة خطيرة غير متوقعة؛ إذ ينزع عن القانون صرامته، ويجعله قانونا احتماليا؛ فعندما تقلب أوراق اللعب لا نقول إن من المستحيل أن يؤدي تقليبنا للأوراق بمضي الوقت إلى ترتيب يكون فيه النصف الأول من المجموعة مشتملا على أوراق حمراء، والنصف الثاني على أوراق سوداء، وكل ما يمكن أن يقال عن الوصول إلى هذا الترتيب هو أنه أمر بعيد الاحتمال جدا. والواقع أن جميع القوانين الإحصائية من هذا النوع؛ فهي تجعل للترتيبات غير المنظمة درجة عالية من الاحتمال، بينما تترك للترتيبات المنظمة درجة منخفضة من الاحتمال. وكلما ازداد العدد الذي تنطوي عليه الظاهرة، كان احتمال الترتيبات المنظمة أقل، غير أن درجة الاحتمال هذه لا تصل أبدا إلى الصفر. ومن المعروف أن ظواهر الديناميكا الحرارية تشير إلى أعداد هائلة جدا من الحوادث المنفردة، ما دام عدد الجزيئات كبيرا جدا؛ وبالتالي فهي تنطوي على درجات عالية جدا من الاحتمال بالنسبة إلى العمليات التي تسير في اتجاه التعويض، ولكن ليس من الممكن، إذا شئنا الدقة، أن نصف العملية التي تسير في الاتجاه المضاد بأنها مستحيلة. فنحن مثلا لا نستطيع استبعاد إمكان مجيء يوم تصل فيه جزيئات الهواء في غرفتنا، بالصدفة المحضة، إلى حالة منظمة من شأنها أن تتجمع جزيئات الأكسجين في جانب من الغرفة وجزيئات النيتروجين في الجانب الآخر. وعلى الرغم من أن التفكير في الجلوس في جانب الغرفة المليء بالنيتروجين هو أمر لا يبعث على الارتياح، فإن إمكان وقوع مثل هذا الحادث لا يمكن أن يستبعد استبعادا مطلقا. وبالمثل لا يستطيع الفيزيائي استبعاد احتمال أن يجيء وقت يغلى فيه الماء عندما نضع مكعبا ثلجيا في كوب من الماء، ويصبح مكعب الثلج من البرودة مثل غرفة التجميد، ولكن لعله مما يعزينا أن نعرف أن هذا الاحتمال أضعف كثيرا من احتمال شبوب النار في كل بيت من بيوت مدينة ما في وقت واحد ولأسباب مستقلة.
وعلى حين أن النتائج العملية للتفسير الإحصائي لقانون عدم القابلية للانعكاس لا قيمة لها نظرا إلى ضعف احتمال سير العمليات في الاتجاه المضاد، فإن لنتائجه النظرية أهمية كبيرة؛ فقد اتضح أن ما كان من قبل قانونا طبيعيا دقيقا، هو مجرد قانون إحصائي، واستعيض عن يقين القانون الطبيعي بدرجة عالية من الاحتمال؛ وبهذه النتيجة دخلت نظرية السببية مرحلة جديدة، وكان من الطبيعي أن يثار السؤال عما إذا كانت بقية قوانين الطبيعة ستنتهي إلى نفس المصير ، وعما إذا كانت ستبقى أية قوانين سببية بالمعنى الدقيق.
إن مناقشة هذه المشكلة تؤدي إلى رأيين متعارضين؛ فتبعا للرأي الأول يكون استخدام القوانين الإحصائية مجرد تعبير عن الجهل؛ فلو كان في استطاعة عالم الفيزياء أن يلاحظ ويحسب الحركة المنفردة لكل جزيء على حدة، لما اضطر إلى استخدام القوانين الإحصائية، ولقدم تفسيرا سببيا دقيقا للعمليات الديناميكية الحرارية. ففي استطاعة «الإنسان الأرقى» الذي افترضه لابلاس
Laplace
1
أن يفعل ذلك؛ إذ إن مسار كل جزيء يمكن، في نظره، التنبؤ به مثل مسار النجوم، ولا حاجة به إلى أية قوانين إحصائية. فهذا الفهم لا يتخلى عن فكرة السببية الدقيقة، وإنما هو يقتصر على القول إن العملية الدقيقة بعيدة عن متناول المعرفة البشرية، التي تضطر، نتيجة لنقصها، إلى الالتجاء إلى قوانين الاحتمال.
أما الرأي الثاني فيمثل وجهة النظر المضادة؛ فأنصار هذا الرأي لا يؤمنون بالسببية الدقيقة في حركة الجزيء المنفرد، وإنما يرون أن ما نلاحظه على أنه قانون سببي للطبيعة هو دائما نتيجة لعدد كبير من الحوادث الذرية؛ وعلى ذلك فمن الممكن النظر إلى فكرة السببية الدقيقة على أنها تعبير مثالي عن النظام المطرد المشاهد في بيئة العالم الكبير الذي نحيا فيه، أو تبسيط نضطر إليه نظرا إلى أن العدد الهائل من العمليات الأولية التي ينطوي عليها الموضوع يجعلنا ننظر إلى ما هو في الواقع قانون إحصائي، على أنه قانون دقيق. وتبعا لهذا الرأي لا يكون من حقنا نقل فكرة السببية الدقيقة إلى مجال العالم الأصغر؛ فليس هناك سبب يدعونا إلى افتراض أن الجزيئات تخضع لقوانين صارمة، بل إن الجزيئات التي تبدأ من مواقع متساوية قد تنتهي في المستقبل إلى مواقع مختلفة، وليس في استطاعة إنسان «لابلاس» الأرقى ذاته أن يتنبأ بمسار أي جزيء.
إن الخلاف إنما ينصب حول مسألة ما إذا كانت السببية مبدأ نهائيا أم مجرد بديل للانتظام الإحصائي، ينطبق على العالم الكبير أو الخشن، ولكن لا يمكن قبوله بالنسبة إلى عالم الذرات. فعلى أساس فيزياء القرن التاسع عشر لم يكن من الممكن الإجابة على هذا السؤال، وإنما جاءت هذه الإجابة من فيزياء القرن العشرين، التي حللت الحوادث الذرية على أساس مفهوم الكم (الكوانتم) عند بلانك. فنحن نعلم من أبحاث ميكانيكا الكم الحديثة أن الحوادث الذرية المنفردة لا تقبل تفسيرا سببيا، بل تحكمها قوانين الاحتمال فحسب. هذه النتيجة، التي صيغت في مبدأ اللاتحدد المشهور عند هيزنبرج
Heisenberg ، هي الدليل على أن الرأي الثاني هو الصحيح، وعلى أن من الواجب التخلي عن فكرة السببية الدقيقة، وأن قوانين الاحتمال أصبحت تشغل المكان الذي كان يحتله من قبل قانون السببية.
فإذا ما تذكرنا التحليل المنطقي للسببية، كما عرضناه في مستهل هذا الفصل، لبدت هذه النتيجة امتدادا طبيعيا للآراء القديمة؛ فقد أدى ذلك التحليل إلى القول بضرورة التعبير عن السببية على أنها قانون للانتظام الذي لا يعرف استثناء؛ أي على أنها علاقة من نوع «إذا حدث كذا ... حدث كذا دائما». أما قوانين الاحتمال فهي قوانين لها استثناءات، ولكنها استثناءات تحدث في نسبة مئوية منتظمة من الحالات؛ فقانون الاحتمال هو علاقة من نوع «إذا حدث كذا ... حدث كذا في نسبة مئوية معينة». ويقدم إلينا المنطق الحديث وسيلة معالجة مثل هذه العلاقة، التي يطلق عليها اسم «اللزوم الاحتمالي
»؛ تمييزا لها من اللزوم المعروف في المنطق المعتاد. وهكذا يحل التركيب الاحتمالي محل التركيب السببي للعالم الفيزيائي، ويحتاج فهم العالم الفيزيائي إلى وضع نظرية في الاحتمالات.
وينبغي أن ندرك أن تحليل فكرة السببية يكشف عن ضرورة فكرة الاحتمال، حتى بدون نتائج ميكانيكا الكم؛ ففي الفيزياء الكلاسيكية يعد القانون السببي تعبيرا مثاليا، وتكون الحوادث الفعلية أعقد مما يفترض بالنسبة إلى الوصف السببي. فعندما يحسب عالم فيزياء مسار رصاصة أطلقت من بندقية، فإنه يحسبه على أساس بعض العوامل الرئيسية، مثل شحنة البارود واتجاه الماسورة، ولكن نظرا إلى أنه لا يستطيع أن يأخذ في اعتباره كل العوامل الثانوية، كاتجاه الرياح ورطوبة الهواء؛ فإن دقة حسابه تكون محدودة. ومعنى ذلك أنه لا يستطيع التنبؤ بالنقطة التي ستصيبها الرصاصة إلا في حدود درجة احتمال معينة. وكذلك فإن المهندس حين يشيد جسرا، لا يستطيع التنبؤ بقوة تحمله إلا في حدود درجة احتمال معينة؛ فقد تحدث ظروف لا يتوقعها، تجعل الجسر ينهار تحت حمل أقل. وإذن فقانون السببية، حتى لو كان صحيحا، لا يسري إلا على موضوعات مثالية. أما الموضوعات الفعلية التي نتعامل معها فلا يمكن التحكم فيها إلا في حدود درجة عالية من الاحتمال؛ لأننا لا نستطيع تقديم وصف شامل لتركيبها السببي. ولمثل هذه الأسباب اتضحت أهمية مفهوم الاحتمال حتى قبل كشوف ميكانيكا الكم. وبعد هذه الكشوف أصبح من الواضح أن أي فيلسوف لا يستطيع إغفال مفهوم الاحتمال، إذا ما أراد أن يفهم تركيب المعرفة.
لقد كانت فلسفة المذهب العقلي تستشهد على الدوام بالسببية بوصفها دليلا على الطابع المعقول لهذا العالم؛ ففكرة اسبينوزا عن تحدد مسار الكون مقدما، لا يمكن تصورها دون اعتقاد بالسببية. وفكرة ليبنتس عن الضرورة المنطقية، التي تعمل من وراء الحوادث الفيزيائية، تتوقف على افتراض وجود ارتباط سببي بين كل الظواهر. ونظرية «كانت» في المعرفة التركيبية القبلية للطبيعة تستشهد بمبدأ السببية، إلى جانب قوانين المكان والزمان، بوصفه أبرز أمثلة هذه المعرفة. وهكذا فإن تطور مبدأ السببية، شأنه شأن تطور مشكلتي المكان والزمان، قد أدى منذ وفاة «كانت» إلى انهيار المعرفة التركيبية القبلية. وتزعزعت أسس المذهب العقلي على يد نفس العلوم التي كانت تقدم - بتفسيرها الرياضي للطبيعة - أقوى دعامة يرتكز عليها فيلسوف هذا المذهب، وأصبح الفيلسوف التجريبي في العصر الحديث يستمد أقوى حججه من الفيزياء الرياضية.
الفصل الحادي عشر
هل توجد ذرات؟
من الأمور التي يعدها المثقف اليوم حقيقة مقررة، أن المادة تتألف من جزيئات تسمى بالذرات. فإذا لم يكن قد تعلم ذلك في المدرسة، فإن الصحف تنبئه به؛ إذ يبدو من الواضح أنه ما دامت هناك قنابل ذرية، فلا بد أن تكون هناك ذرات أيضا.
أما مؤرخ العلم فيتخذ من هذه المسالة موقفا أقرب إلى الروح النقدية؛ فهو يعلم أن وجود الذرات أمر قيل به منذ العصور القديمة، ولكنه كان على الدوام مثارا للجدل، ويعلم أن حججا قوية قد أدلي بها تأييدا لفكرة الذرة ومعارضة لها. فإذا كان التاريخ الذي يكتبه للعلم يشتمل على الأعوام الخمسة والعشرين الأخيرة، فإنه يعلم أيضا أن نظرية الذرة، وإن بلغت خلال القرن التاسع عشر مرحلة بدا فيها وجود الذرة أمرا لا يتطرق إليه الشك، قد عادت فأصبحت مثارا للجدل نتيجة للتطورات الأخيرة، بحيث أصبح الشك في وجود الذرة أقوى مما كان في أي وقت مضى.
ويبدأ تاريخ نظرية الذرة بفلسفة ديمقريطس (420ق.م)، وهو من أبرز الشخصيات في الفلسفة اليونانية؛ فقد رأى ديمقريطس أن من الممكن تقديم تفسير مقنع للخصائص الفيزيائية للمادة، مثل قابليتها للانضغاط والانقسام، إذا افترضا أن المادة تتألف من جزيئات صغيرة؛ فعندئذ يكون ضغط مادة معينة معناه زيادة التقريب بين الذرات، على حين أن الذرات ذاتها صلبة تماما، ويظل حجمها بلا تغير. والواقع أن نظرية ديمقريطس إنما هي مثل واضح لما يستطيع الاستدلال العقلي أن يحققه، وما لا يستطيع بلوغه؛ ففي استطاعة الاستدلال العقلي أن يقدم تفسيرات ممكنة، أما كون التفسير صحيحا أو غير صحيح، فهو أمر لا يمكن معرفته عن طريق الاستدلال، وإنما ينبغي أن يترك للملاحظة. ولم يكن في استطاعة اليونانيين أن يحققوا نظرية الذرات باختبار تجريبي، وإنما حاولوا تكملة النظرية بنظرية أخرى، بدلا من تكملتها بالملاحظة؛ فقد كانوا يعتقدون أن الذرات تتماسك بواسطة «خطافات» صغيرة، وكانوا يعتقدون أن المادة ذات الطبيعة الألطف، كالنفس أو النار، تتألف من ذرات شديدة الصغر والنعومة، أما الأجسام الأكبر حجما فتتكون بالجمع بين ذرات متساوية الحجم، وهي عملية طبيعية يوجد لها مثيل في انتقاء أمواج البحر للحصى ذي الأحجام المتساوية، غير أن الخيال إذا لم يكبح جماحه اختبار تجريبي ما، يفسح المجال للتأمل القائم على غير أساس. مثال ذلك أنه كان من الخلافات الفلسفية التي أثيرت حول موضوع الذرة مسألة ما إذا كان المكان الخالي بين الذرات تصورا يمكن قبوله منطقيا؛ ذلك لأن المكان الخالي هو «لا شيء»، وإذا كان هناك «لا شيء» بين الذرات، فلا بد أن تكون متلامسة تكون مادة صلبة. وفي هذه الحالة لا تكون هناك ذرات.
على أن نظرية الذرة قد اقتلعت من تربة التأمل الفلسفي، وأعيد غرسها في تربة البحث العلمي عندما وضع لها أساس من التجارب الكمية قبل مستهل القرن التاسع عشر مباشرة؛ فقد قاس جون دالتون
John Dalton
نسب الأوزان التي تدخل بها العناصر الكيميائية في مركبات، واكتشف أن هذه النسب ثابتة، تعبر عنها أعداد صحيحة بسيطة. مثال ذلك أن العنصرين المكونين للماء، وهما الهيدروجين والأكسجين، يتحدان دائما بنسبة واحد إلى اثنين، فإذا كانت توجد في الأصل أكثر من مادة واحدة، فإنها لا تدخل في المركب. وقد أدرك دالتون أن هذه النسب الكمية تقتضي تفسيرا ذريا؛ فأصغر أجزاء المادة، وهي الذرات، تتحد بنسب ثابتة؛ أي إن ذرتين من الهيدروجين تتحد مع ذرة واحدة من الأكسجين، وتنعكس نسبة أوزان الذرات على النسبة التي لوحظت في قياسات دالتون.
ومنذ ظهور قانون دالتون، أصبح تاريخ فكرة الذرة يسير في طريقه محققا نصرا بعد نصر؛ فحيثما كان مفهوم الذرة يستخدم في تفسير القياسات الملاحظة، كان يقدم تفسيرا مقنعا، وأصبح هذا النجاح ذاته دليلا قاطعا على وجود الذرة. ففي النظرية الحركية للغازات لم يكن من الممكن فقط تفسير السلوك الحراري بالمفاهيم الذرية، بل كان من الممكن أيضا حساب عدد الذرات، أو الجزيئات في البوصة المكعبة الواحدة، ويدل هذا العدد الهائل، الذي يحسب بواحد وعشرين رقما، على شدة صغر الذرة الواحدة. أما التركيبات المعقدة للأجسام العضوية فيمكن تفسيرها على أساس أنها مؤلفة من جسيمات يتألف كل منها من مئات الذرات. ولا شك أن النجاح الذي حققته الكيمياء في ميدان الصناعة ما كان ليتحقق لولا النظرية الذرية.
وقد رأى العالم الفيزيائي، فضلا عن ذلك، أن المبدأ الذري لا يقتصر على المادة؛ فالكهرباء بدورها ينبغي أن ينظر إليها على أنها مؤلفة من ذرات. وقد اكتشفت ذرات الكهرباء حوالي نهاية القرن التاسع عشر، وسميت إلكترونات، وكان من الغريب أنها كلها تحمل شحنة كهربائية سالبة، وظل علماء الفيزياء يعتقدون طوال بضع عشرات من السنين أن الذرات الكهربائية الموجبة لا يمكن أن تنفصل عن المادة. غير أن الأبحاث القريبة العهد أثبتت أن هناك إلكترونات موجبة أيضا، يسمى كل منها عادة باسم «البوزيترون
»، وكشفت أبحاث أخرى قريبة العهد عن وجود جزيئات أولية أخرى للمادة، تحتل بينها «النيوترونات» مكانة هامة.
ولكن، على حين أن المسيرة الظافرة لفكرة الذرة قد استمرت في عدد كبير من مجالات العلم، فإنها توقفت في مجال واحد هام، هو نظرية الضوء؛ فقد كان إسحاق نيوتن، الذي اشتهر بفضل وضعه لنظرية الجاذبية، من أعظم الباحثين في علم الضوء أيضا، وقد أدرك أن من الممكن تفسير سير الأشعة الضوئية في خطوط مستقيمة بافتراض أن الضوء يتألف من جزيئات صغيرة تنبعث بسرعة هائلة من المصدر الضوئي، ولا بد أن تسير هذه الجزيئات، تبعا لقوانين الحركة، في خطوط مستقيمة. وهكذا كان نيوتن واضع النظرية الجسيمية في الضوء، وهي النظرية التي ظلت سائدة حتى أوائل القرن التاسع عشر. أما النظرية التموجية في الضوء، التي ابتدعها معاصره كريستيان هويجنز
C. Huyghens ، فلم تصادف في بداية عهدها نجاحا كبيرا. وانقضى قرن كامل قبل أن تجرى بعض التجارب الحاسمة، التي أثبتت الطابع التموجي للضوء؛ وبذلك وضعت هذه التجارب حدا للتفسير الذري للأشعة الضوئية. وقد تركزت هذه التجارب حول ظاهرة «التداخل
interference » التي يوضع فيها شعاعان ضوئيان كل فوق الآخر فيمحو أحدهما الآخر، وهي نتيجة لا يمكن تصورها في نظرية جسيمية؛ ذلك لأن الجزيئين اللذين يتحركان في نفس الاتجاه لا يمكن أن ينتجا إلا تأثيرا أقوى، ويزيدا من كثافة الضوء، أما الموجتان اللتان تتحركان في اتجاه واحد، فإن كلا منهما تلغي الأخرى إذا كانت قمم إحدى الموجتين تتطابق مع سفوح الأخرى. وظاهرة التداخل معروفة في الموجات المائية، وهي تفسر النماذج العجيبة التي تنتج عن تقاطع موجات تسير في اتجاهين. ومع ذلك فقد كان معروفا أن الوسيط الذي تنتشر فيه الموجات الضوئية ليست له طبيعة المادة المألوفة، كالماء أو الهواء، وإنما كان يفترض أنه عنصر له تركيبه الخاص الذي يكاد يكون تركيبا لا ماديا، يسمى بالأثير .
وبعد الكشوف التجريبية مباشرة، استحدثت الوسائل الرياضية لتحليل الموجات، وأخيرا تم الربط بين نظرية الموجات الضوئية وبين النظرية الكهربائية في أعمال جيمس ماكسويل
James Maxwell ، وأدى الدليل التجريبي الذي قدمه هينريش هرتس
Heinrich Hertz
على وجود موجات كهربائية، إلى تبديد آخر الشكوك التي كانت تحيط بإمكان وجود الموجات الأثيرية، وأصبحت النظرية التموجية في الضوء «يقينا، بقدر ما يتسنى للبشر الكلام عن اليقين»، كما عبر عنها هينريش هرتس في خطاب ألقاه في اجتماع للجمعية الألمانية للعلماء في عام 1888م.
وقرب نهاية القرن التاسع عشر، كانت الفيزياء قد وصلت إلى مرحلة تبدو نهائية؛ فقد بدا أن التركيب النهائي للضوء والمادة، وهما أعظم مظهرين للواقع الفيزيائي، أصبح معروفا. فالضوء مركب من موجات والمادة من ذرات، وكان كل من يجرؤ على الشك في هذين الأساسين اللذين يقوم عليهما العلم الفيزيائي يعد دخيلا على العلم أو شخصا غريب الأطوار، ولم يكن أي عالم جاد يقبل أن يتجشم عناء مناقشته.
على أن النظريات الفيزيائية إنما تقدم تفسيرا للمعرفة المبنية على الملاحظة في عصرها، وهي لا تستطيع أن تدعي أنها حقائق أزلية. وقد حرص هينريش هرتس على أن يصوغ عبارة «يقين، بقدر ما يتسنى للبشر الكلام عن اليقين»، وربما لم يكن هناك تصريح لفيزيائي يعبر عن طبيعة العلم بمثل العمق الذي تعبر به عنها هذه العبارة المتواضعة. وإن التحول الذي طرأ على النظرية في العقد التالي لكلمة هرتس هذه، لدليل على الحدود التي تفرض على يقين النظريات العلمية.
فقد شهد عام 1900م ظهور كشف بلانك للكم (الكوانتم)، وكانت هذه المصادفة أوضح الأمثلة تعبيرا عن التغير الجذري الذي طرأ على فهمنا للواقع الفيزيائي في القرن العشرين. فلكي يفسر بلانك القوانين التي تم الاهتداء إليها تجريبيا بالنسبة إلى صدور الإشعاع عن الأجسام الساخنة، استحدث الفكرة القائلة إن كل إشعاع، وضمنه الضوء، يخضع لتحكم أعداد صحيحة؛ أي إنه يسير تبعا لأعداد صحيحة لوحدة أولية للطاقة، أطلق عليها اسم «الكم (الكوانتم
quantum )». فتبعا لرأيه تكون الطاقة مؤلفة من وحدات أولية، هي «الكمات
quanta »، وحيثما تنبعث الطاقة أو تستوعب، ينقل كوانتم واحد أو اثنان أو مائة كوانتم، ولكن لا يكون هناك أبدا جزء أو كسر من الكوانتم؛ فالكوانتم هو ذرة الطاقة، ولكن مع ملاحظة أن حجم هذه الذرة، أي كمية وحدة الطاقة، تتوقف على طول موجة الإشعاع الذي ينقل به الكوانتم، فكلما كان طول الموجة أقصر، كان الكوانتم أكبر . وهكذا يبدو كشف بلانك نصرا جديدا للنظرية الذرية. وعندما توسع ألبرت أينشتين في تطبيق نظرية بلانك على الفكرة القائلة إن الضوء يتألف من حزم من الموجات شبيهة بالإبرة، تحمل «كوانتم» واحدا من الطاقة؛ بدا أن فكرة الذرة قد غزت أخيرا نفس ميدان الفيزياء الذي ظل طويلا بمنأى عن المفاهيم الذرية، كما كانت فكرة معادلة المادة والطاقة، التي ظهرت في السنوات الأخيرة بصورة درامية واضحة في انشطار ذرة اليورانيوم، دليلا آخر على أن الإشعاع يمكن أن يندرج تحت النظرية الذرية.
ولقد كان أهم تطبيق للكوانتم هو نظرية الذرة عند نيلز بور
Niels Bohr ؛ ففي هذه النظرية توحد أخيرا اتجاها التطور، أعني اتجاه نظرية الذرة واتجاه نظرية الإشعاع؛ ذلك لأن دراسة الذرة كانت قد أوضحت أن الذرة ذاتها ينبغي أن تعد مجموعة من الجزيئات الأصغر منها، التي تتماسك مع ذلك بقوة تجعل الذرة تسلك، بالنسبة إلى جميع التفاعلات الكيميائية، كوحدة ثابتة نسبيا. ولقد كان أول كشف اتضح فيه أن للذرة تركيبا داخليا هو ذلك الذي قام به العالم الروسي مندلييف
Mendeleieff ، الذي أدرك في أواسط القرن التاسع عشر أنه إذا رتبت ذرات العناصر الكيميائية حسب الوزن، فإن خواصها الكيميائية تتخذ ترتيبا دائريا. وربط العالم الفيزيائي الإنجليزي رذرفورد
E. Rutherford
بين هذه الكشوف الكيميائية وبين كشف الإلكترون، ووضع الأنموذج الكوكبي للذرة، وبمقتضاه تكون الذرة مؤلفة من نواة يدور حولها عدد معين من الإلكترونات، وكأنها كواكب تسير في مداراتها. وفي عام 1913م اكتشف «نيلز بور»، الذي كان في ذلك الحين مساعدا شابا لرذرفورد، أن أنموذج الذرة عند رذرفورد ينبغي أن يربط بفكرة «كم الطاقة» عند بلانك؛ فالإلكترونات لا يمكنها أن تدور إلا في مدارات تقع على مسافات محدودة معينة من المركز، وهذه المسافات محددة بحيث إن الطاقة الميكانيكية التي يمثلها كل مدار إما أن تكون كما واحدا، أو اثنين، أو ثلاثة، وهكذا دواليك. وعلى الرغم مما بدا في هذا الرأي من غرابة في نظر الفيزيائي في مبدأ الأمر، فقد أدى إلى نجاح مذهل في إيضاح الوقائع الملاحظة؛ إذ إن نظرية «بور» أتاحت تفسيرا على أعظم جانب من الدقة لوقائع القياس الطيفي
spectroscopy ؛ أي لسلسلة الخطوط الطيفية التي تميز كل عنصر. وفي السنوات الواقعة بين 1913 و1925م طبقت نظرية بور وتأيدت على نطاق واسع، كما عمقت بحيث تقدم تفسيرا للتركيب الذري لكل عنصر على حدة.
ومع ذلك فقد اتضح أن كشف الكوانتم كان، على الرغم من كل هذا النجاح، نعمة مقيدة بشروط؛ ففي مقابل قدرته التفسيرية بالنسبة إلى علم القياس الطيفي، ظهرت في مجالات أخرى تعقيدات غير قابلة للتفسير؛ ذلك لأن نفس الأسس التي يرتكز عليها مفهوم الكوانتم بدت غير متمشية مع النظرية الكلاسيكية في توليد الموجات الكهربائية، ومع ظاهرة التداخل المعروفة في مجال علم الضوء. وهكذا كانت النظرية الجديدة تهدد اتساق الفيزياء بالخطر؛ فقد كان بعض الظواهر يقتضي تفسيرا جسميا للضوء، وبعضها الآخر يقتضي تفسيرا تموجيا، وبدا أنه لا توجد وسيلة للتوفيق بين النظريتين المتناقضتين.
على أن أغرب ظاهرة في نظر المشاهد الفلسفي هي أن البحث الفيزيائي لم يتوقف نتيجة لهذه المتناقضات، بل عمل الفيزيائي على السير في طريقه، على نحو ما، بهاتين النظريتين المتناقضتين، وتعلم كيف يطبق إحداهما تارة، والأخرى تارة أخرى، وذلك بنجاح مذهل فيما يتعلق بالكشوف المبنية على الملاحظة. وأنا لا أعتقد أن هذه الحقيقة تثبت أن التناقض منقطع الصلة بالنظريات الفيزيائية، وأن النجاح المرتكز على الملاحظة هو وحده الذي يهم، أو أن التناقض، كما يعتقد الهيجليون، كامن في الفكر البشري، وهو القوة الدافعة له، وإنما أعتقد بدلا من ذلك أنها تثبت أن كشف الأفكار الجديدة يخضع لقوانين مغايرة لقوانين التنظيم المنطقي، وأن معرفة نصف الحقيقة يمكن أن تكون مرشدا كافيا للذهن الخلاق في طريقه نحو الحقيقة الكاملة، وأن النظريات المتناقضة لا يمكن أن تكون مفيدة إلا لأن هناك نظرية أفضل تشتمل على كل الوقائع الملاحظة، وتخلو من المتناقضات، وإن لم تكن معروفة في ذلك الوقت؛ ففي الوقت الذي يبحث فيه البشر، تكون الحقيقة في سبات، ولن يوقظها إلا أولئك الذين لا يتوقفون في بحثهم، حتى عندما تعترض طريقهم عقبات التناقض.
ولقد كانت نقطة التحول في تطور نظريات الضوء والمادة هي فكرة تقدم بها العالم الفيزيائي الفرنسي لوي دي بروليي
Louis de Broglie ؛ ففي الوقت الذي كان فيه علماء الفيزياء يكافحون من أجل حل مشكلة ما إذا كان الضوء مؤلفا إما من جزيئات وإما من موجات، تجرأ بروليي بإعلان الفكرة القائلة إن الضوء مؤلف من جزيئات ومن موجات معا، بل لقد بلغت به الجرأة إلى حد نقل هذه الفكرة إلى ذرات المادة، التي لم يفسرها أحد من قبله على أساس موجي، فوضع نظرية رياضية يكون فيها كل جزيء صغير من المادة مقترنا بموجة. وهكذا حل محل «إما ... وإما ...»، فكرة «معا»؛ ومن ثم فإن كشف دي بروليي يمثل بداية عهد التفسير المزدوج، الذي تأكد منذ ذلك الحين بوصفه نتيجة محتومة للطبيعة التركيبية للمادة. وقد أجرى ديفيسون وجيرمر
Davisson and Germer
تجربة استخدما فيها ترتيبا تداخليا، أوضحت أن من الممكن إثبات وجود موجات دي بروليي بالنسبة إلى شعاع من الإلكترونات، بحيث إن وجود موجات من المادة أصبح أمرا مؤكدا على نحو لا يتطرق إليه الشك.
وقد أخذ إ. شرودنجر
E. Schroedinger
بآراء دي بروليي، ووضع معادلة تفاضلية أصبحت هي الأساس الرياضي للنظرية الحديثة في الكم (الكوانتم)، وهي النظرية التي يطلق عليها عادة اسم ميكانيكا الكوانتم. وتتفق نظريته الرياضية مع بعض النظريات الأخرى التي بدت لأول وهلة مختلفة عنها كل الاختلاف، والتي وضعها على نحو مستقل هيزنبرج
Heisenberg
وماكس بورن
Max Born
وجوردان
من جانب، وديراك
Dirac
من جانب آخر، وقد تم الاهتداء إلى هذه الكشوف جميعا في عامي 1925-1926م. وفي وقت قصير نسبيا أمكن وضع فيزياء جديدة لعناصر المادة، أتاحت لعالم الفيزياء أداة رياضية قوية كان عليه أن يتعلم الموجات والجسيمات ، فما معنى القول إن المادة تتألف من موجات وجزيئات في آن واحد؟ على الرغم من أن النظرية الرياضية كانت موجودة، فإن تفسيرها كان ينطوي على صعوبات جمة. وهنا نجد أنفسنا إزاء تطور يكشف عن الاستقلال النسبي للنسبة الرياضية؛ فللرموز الرياضية حياة خاصة بها، إن جاز هذا التعبير، وهي تؤدي إلى النتيجة الصحيحة حتى قبل أن يفهم من يستخدم الرموز معناها النهائي.
كان دي بروليي قد فسر الجمع بين النظريتين الجزيئية والتموجية بأبسط معانيه، فكان يعتقد أن هناك جزيئات تصحبها موجات تسير مع الجزيء وتتحكم في حركته. أما شرودنجر فكان يعتقد أنه يستطيع الاستغناء عن الجزيئات، وأنه لا توجد إلا موجات تتجمع، مع ذلك، في بقاع صغيرة معينة، فينتج عنها شيء يشبه الجزيء. وهكذا قال بوجود حزم موجية تسلك على نحو شبيه بالجزيئات، ولكن بعد أن اتضح أن الرأيين معا لا يمكن قبولهما، اقترح بورن الفكرة القائلة إن الموجات لا تكون أي شيء مادي على الإطلاق، وإنما تمثل احتمالات. وأدى تفسيره هذا إلى حدوث تحول غير منتظر في مشكلة الذرة؛ فقد افترض أن الكيانات الأولية جزيئات لا تتحكم في سلوكها قوانين سببية، وإنما قوانين احتمالية من نوع مشابه للموجات فيما يتعلق بتركيبها الرياضي. وفي هذا التفسير لا تكون للموجات حقيقة الموضوعات المادية، بل تكون لها حقيقة المقادير الرياضية فحسب.
وقد واصل هيزنبرج السير في هذا الطريق، فبين أن هناك قدرا محددا من اللاتحدد
indeterminacy
فيما يتعلق بالتنبؤ بمسار الجزيء؛ مما يجعل من المستحيل التنبؤ بهذا المسار بدقة،
اللاتحدد
indeterminacy ». وبفضل كشوف بورن وهيزنبرج اتخذت الخطوة التي أدت إلى الانتقال من تفسير سببي للعالم الأصغر، إلى تفسير إحصائي له، فأصبح من المعترف به أن الحادث الذري المنفرد لا يتحدد بقانون سببي، بل يخضع لقانون احتمالي فحسب، واستعيض عن فكرة «إذا كان ... فإن ...» التي عرفتها الفيزياء الكلاسيكية، بفكرة «إذا كان ... فإن ... في نسبة مئوية معينة». وأخيرا جمع بور
Bohr
بين نتائج بورن ونتائج هيزنبرج، فوضع مبدأ التكامل
complementarity ، وهو المبدأ القائل إن تفسير بورن لا يقدم إلينا إلا وجها واحدا للمشكلة، ومن الممكن أيضا أن ننظر إلى الموجات على أنها ذات حقيقية فيزيائية، وهو رأي لا يكون فيه للجزيئات وجود. ولا سبيل إلى التمييز بين هذين التفسيرين؛ لأن اللاتحدد
فاصلة؛ أي إنه يؤدي إلى استبعاد التجارب التي تبلغ من الدقة حدا يكفي لتحديد أي التفسيرين هو الصحيح وأيهما الباطل.
وهكذا تتخذ ثنائية التفسير صورتها النهائية؛ فالكشف الذي توصل إليه دي بروليي، والقائل إن الذرات جزيئات وموجات «معا»، ليس له ذلك المعنى المباشر القائل إن الموجات والجسيمات توجد في وقت واحد، بل إن له معنى غير مباشر هو أن نفس الواقع الفيزيائي يقبل تفسيرين ممكنين، كل منهما يماثل الآخر في صحته، وإن يكن من غير الممكن الجمع بين الاثنين في صورة واحدة. وهذا ما يعبر عنه المنطقي بقوله إن واو العطف هذه (بين الموجات والجزيئات) ليست في لغة الفيزياء، وإنما فيما بعد اللغة
metalanguage ؛ أي في لغة تتحدث عن لغة الفيزياء، أو بعبارة أخرى، فإن واو العطف هذه لا تنتمي إلى الفيزياء، وإنما إلى فلسفة الفيزياء، وهي لا تشير إلى موضوعات فيزيائية، وإنما إلى أوصاف ممكنة للموضوعات الفيزيائية؛ وبذلك تكون منتمية إلى عالم الفيلسوف.
هذه، في الواقع، هي النتيجة النهائية للخلاف بين أنصار الموجات وأنصار الجسيمات، وهو الخلاف الذي بدأ بين هويجنز ونيوتن، وبلغ قمته، بعد تطور استمر قرونا، في ميكانيكا الكوانتم عند دي بروليي، وشرودنجر، وبورن، وهيزنبرج، وبور. فالسؤال «ما المادة؟» لا يمكن الإجابة عنه بالتجارب الفيزيائية وحدها، وإنما يحتاج إلى تحليل فلسفي للفيزياء؛ ذلك لأن الإجابة عنه تتوقف على السؤال «ما المعرفة؟» ففي خلال القرن التاسع عشر استعيض عن التفكير الفلسفي الذي كان موجودا في مهد المذهب الذري بالتحليل التجريبي، ولكن البحث وصل آخر الأمر إلى مرحلة من التعقيد تقتضي العودة إلى البحث الفلسفي. ومع ذلك فإن فلسفة هذا البحث لا يمكن التوصل إليها بالتأمل النظري البحت، بل إن الفلسفة العلمية هي وحدها التي تستطيع معاونة الفيزيائي في هذا المجال. ولكي نفهم هذا التطور الأخير يتعين علينا أن نبحث في معنى القضايا المتعلقة بالعالم الفيزيائي.
إن المعرفة تبدأ بالملاحظة؛ فحواسنا تنبئنا بما يوجد خارج أجسامنا. غير أننا لا نكتفي بما نلاحظه، وإنما نود أن نعرف المزيد، ونبحث في الأشياء التي لا نلاحظها مباشرة . ونحن نبلغ هذا الهدف بعمليات فكرية، تربط بين الوقائع الملاحظة، وتقدم لها تفسيرا في ضوء الأشياء غير الملاحظة. وهذه الطريقة تتبع في الحياة اليومية مثلما تتبع في العلم؛ فهي تطبق عندما نستدل من وجود برك صغيرة في الطريق على أن السماء قد أمطرت قبل وقت قصير، أو عندما يستدل العالم الفيزيائي من انحراف الإبرة الممغنطة على أن هناك كيانا غير مرئي، يسمى بالكهرباء، في السلك، أو عندما يستدل الطبيب من أعراض المرض على أن هناك نوعا معينا من البكتريا يسري في دم المريض. فلا بد لنا من دراسة طبيعية هذا الاستدلال، إذا شئنا فهم معنى النظريات الفيزيائية.
إن الاستدلال قد يبدو أمرا هينا طالما أننا لا نفكر فيه، غير أن التحليل العميق له كفيل بأن يكشف عن تركيب شديد التعقيد؛ فأنت تقول إن بيتك يظل في مكانه دون تغيير أثناء بقائك في مكتبك، فكيف عرفت ذلك؟ إنك لا ترى بيتك عندما تكون في مكتبك، ولكنك ستجيب بأن من السهل التحقق من هذه القضية بالذهاب إلى البيت والتطلع إليه. وصحيح أنك سترى بيتك عندئذ، ولكن هل تؤدي هذه الملاحظة إلى تحقيق عبارتك؟ إن ما قلته هو أن بيتك هناك عندما كنت تراه، فكيف تستطيع أن تتأكد من أنه كان هناك عندما كنت غائبا؟
وإني لأدرك أنك، أيها القارئ، قد أخذت تشعر بالحنق، وتقول: عجبا لأمر هؤلاء الفلاسفة الذين يريدون الضحك على عقول الجميع! إن البيت إذا كان هناك في الصبح وبعد الظهر، فكيف لا يكون موجودا قبل الظهر؟ أيعتقد الفيلسوف أن هناك مقاولا استطاع أن يهدم البيت في دقيقة ويعيد بناءه في دقيقة أخرى؟ وفيم يفيد مثل هذا السؤال الذي لا معنى له؟
إن المشكلة هي أنه، ما لم يمكنك الاهتداء إلى إجابة عن هذا السؤال أفضل من تلك التي يأتي بها الفهم العادي للإنسان، فلن نتمكن من حل مشكلة ما إذا كان الضوء والمادة يتألفان من جزيئات أو موجات. وهذه هي النقطة التي توصل إليها الفيلسوف؛ فالفهم العادي قد يكون أداة مفيدة بالنسبة إلى مشكلات الحياة اليومية، ولكنه يصبح أداة غير كافية عندما يبلغ البحث العلمي مرحلة معينة من التعقيد. فالعلم يقتضي إعادة تفسير لمعرفة الحياة اليومية؛ لأن المعرفة تكون لها آخر الأمر طبيعة واحدة، سواء أكانت متعلقة بالأشياء العينية، أم بمركبات التفكير العلمي. وعلى ذلك فمن الضروري الاهتداء إلى إجابات أفضل من الأسئلة البسيطة للحياة اليومية، قبل أن نستطيع الإجابة عن الأسئلة العلمية.
ولقد عرف الفيلسوف اليوناني بروتاجوراس، زعيم السفسطائيين، بتعبيره عن مبدأ النزعة الذاتية، الذي صاغه على النحو الآتي: «الإنسان مقياس الأشياء جميعا، تلك التي توجد على أنها موجودة، وتلك التي لا توجد على أنها غير موجودة.» ولسنا ندري بالضبط ما كان يعنيه بهذه العبارة التي كانت «متسفسطة» بحق، ولكن لنفرض أنه كان سيقول عن مشكلتنا السابقة ما يأتي: «إن البيت لا يوجد إلا عندما أنظر إليه، أما حين لا أنظر إليه فإنه يختفي دائما.» فما الذي يمكنك أن تعترض به عليه؟ إنه لا يقول إنه يختفي ويعود إلى الظهور بطريقة سحرية من نوع ما. وهو يؤكد أن ملاحظة المشاهد البشري هي التي تنتج البيت، وأن البيوت غير الملاحظة لا توجد بالتالي، فأية حجج نستطيع أن نعترض بها على مثل هذا الاختفاء السحري، والخلق الذي يتم على يد المشاهد البشري؟
قد تقول إنك تستطيع أن تتصل تليفونيا ببواب البيت من مكتبك، وتسأله إن كان البيت ما زال موجودا. غير أن البواب إنسان مثلك، وقد تكون مشاهدته هي التي تخلق البيت مثل مشاهدتك، فهل سيكون البيت هناك حين لا يشاهده أحد؟
وقد تقول إنك تستطيع أن تدير ظهرك للبيت وتشاهد ظله، ويكون معنى ذلك أن البيت ينبغي أن يكون موجودا دون أن تلاحظه لأن له ظلا. ولكن كيف تعلم أن الأشياء غير الملاحظة لها ظل؟ إن ما رأيته حتى الآن هو أن الأشياء الملاحظة لها ظلال، وفي استطاعتك أن تفسر الظل الذي تراه حين لا ترى البيت، بافتراض أن الظلال تظل موجودة عندما يختفي الشيء، وإن هناك ظلا بدون بيت. وليس من حقك أن ترد بأن مثل هذه الظلال الخاصة بأشياء غير موجودة لم تلاحظ أبدا من قبل؛ فهذه الحجة لا تكون صحيحة إلا إذا افترضت ما تريد إثباته، وهو أن البيت يظل وجودا حين لا تعود تراه. فإذا افترضت العكس، كما فعل بروتا جوراس، فإن لديك عددا كبيرا من الأدلة على رأيه هذا؛ لأنك رأيت ظلالا على شكل بيوت دون أن ترى بيوتا في نفس الوقت.
وقد تدافع عن موقفك بالإهابة من جديد بالفهم العادي السليم، فتجيب قائلا: «لم أفترض أن قوانين علم البصريات مختلفة بالنسبة إلى الموضوعات غير الملاحظة؟ إن من الصحيح أن هذه القوانين وضعت بالنسبة إلى الموضوعات الملاحظة، ولكن ألا توجد لدينا أدلة دامغة على أنها ينبغي أن تسري على الموضوعات غير الملاحظة بدورها؟» ومع ذلك فإن قليلا من التفكير اللاحق كفيل بإقناعك بأننا لا نملك أدلة كهذه على الإطلاق. وأقول إنه لا توجد أدلة كهذه؛ لأن الموضوعات غير الملاحظة لم تلاحظ أبدا.
ولا يبقى بعد ذلك إلا مخرج واحد من هذه الصعوبة، فمن الواجب أن ننظر إلى قضايانا المتعلقة بالموضوعات غير الملاحظة، لا على أنها قضايا قابلة للتحقيق، بل على أنها مواضعات أو اصطلاحات، نأتي بها نظرا إلى ما تؤدي إليه من تبسيط شديد للغة. فما نعرفه هو أننا إذا ما أخذنا بهذا الأمر الاصطلاحي، فمن الممكن المضي فيه دون تناقض؛ أي إننا إذا افترضنا أن الموضوعات غير الملاحظة هي ذاتها الموضوعات الملاحظة، فإنا نصل إلى نسق للقوانين الفيزيائية يسري على الموضوعات الملاحظة وغير الملاحظة معا. وهذه القضية الأخيرة، التي هي قضية من نوع «إذا» (أي قضية مشروطة)، هي أمر واقع تحققنا من صحته، وهي تثبت أن لغتنا المعتادة عن الموضوعات غير الملاحظة هي لغة مقبولة، غير أنها ليست هي اللغة المقبولة الوحيدة. ففي استطاعة شخص مثل بروتاجوراس، يقول إن البيوت تختفي حين لا تلاحظ، أن يتكلم لغة مقبولة أيضا، إذا كان على استعداد لقبول النتيجة المترتبة على قوله هذا، وهي أن علينا أن نضع نسقين مختلفين للقوانين الفيزيائية، أحدهما للموضوعات الملاحظة، والآخر للموضوعات غير الملاحظة.
وحصيلة هذه المناقشة الطويلة هي أن الطبيعة لا تملي علينا وصفا واحدا بعينه، وأن الحقيقة لا تقتصر على لغة واحدة؛ ففي استطاعتنا أن نقيس البيوت بالأقدام أو بالأمتار، ودرجات الحرارة بمقياس فهرنهيت أو بالمقياس المئوي، وفي استطاعتنا أن نصف العالم الفيزيائي بهندسة إقليدية أو بهندسة لا إقليدية، كما بينا في الفصل الثامن. وعندما نستخدم نظما مختلفة في القياس أو الهندسة، فإننا نتحدث لغات مختلفة، غير أننا نقول نفس الشيء. فالكثرة من الأوصاف تتكرر على نحو أعقد عندما نتحدث عن الموضوعات غير الملاحظة. وهناك طرق كثيرة لقول الصدق، وكلها متكافئة بالمعنى المنطقي، كما أن هناك أيضا طرقا متعددة لقول الكذب. مثال ذلك أن من الكذب القول إن الثلج يذوب في درجة حرارة اثنتين وثلاثين، إذا استخدمنا المقياس المئوي؛ وعلى ذلك فإن فلسفتنا لا تمحو الفارق بين الصدق والكذب، غير أن من قصر النظر أن يتجاهل المرء كثرة الأوصاف الصحيحة. فالواقع الفيزيائي يقبل فئة من الأوصاف المتكافئة، ونحن نختار أحدها على سبيل التيسير على أنفسنا، وهذا الاختيار لا يرتكز إلا على عرف أو اصطلاح؛ أي على قرار إرادي. مثال ذلك أن النظام العشري يتيح وصفا للقياسات أيسر مما يتيحه غيره من النظم؛ فعندما نتحدث من موضوعات غير ملاحظة، فإن أيسر لغة هي تلك التي يختارها الذهن المعتاد، والتي بمقتضاها لا تكون الموضوعات غير الملاحظة مختلفة عن الموضوعات الملاحظة، ولا يكون سلوك الأولى مختلفا عن سلوك الثانية، غير أن هذه اللغة مبنية على عرف أو اصطلاح.
ومن مزايا نظرية الأوصاف المتكافئة أنها تتيح لنا التعبير عن حقائق معينة لا تستطيع لغة الذهن المعتاد أن تضع صيغة لها. وأنا أعني بذلك تلك الحقيقة التي تعبر عنها القضية الشرطية السابقة؛ فمن الصحيح أننا إذا افترضنا أن الموضوعات غير الملاحظة في هوية مع الموضوعات الملاحظة، فإننا لا نصل إلى تناقضات، أو إن من الصحيح بعبارة أخرى أنه يوجد، من بين الأوصاف المقبولة للعالم الفيزيائي ، وصف تكون فيه الموضوعات غير الملاحظة على قدم المساواة مع الموضوعات الملاحظة؛ فلنطلق على هذا الوصف اسم «النظام السوي
normal system ». وإن من أهم الحقائق أن العالم الفيزيائي يمكن أن يوصف بنظام سوي، وقد كنا على الدوام نأخذ هذه الحقيقة قضية مسلما بها، بل إننا لم نعمل على صياغتها؛ وبذلك لم نعلم أنها حقيقة. فنحن لم نر فيها أية مشكلة، شأننا شأن الشخص الذي لا يرى مشكلة في سقوط الأجسام إلى الأرض؛ لأن هذه الملاحظة تمثل تجربة عامة إلى أبعد حد. ومع ذلك فإن الميكانيكا العلمية بدأت بقانون سقوط الأجسام، وبالمثل فإن الفهم العلمي لمشكلة الموضوعات غير الملاحظة يبدأ بالتعبير عن إمكان وصف الموضوعات غير الملاحظة بواسطة نظام سوي.
فكيف نعلم أن هذا الوصف ممكن؟ إن كل ما يمكننا قوله هو أن تجارب أجيال البشر قد أثبتته. ومع ذلك ينبغي ألا نعتقد بأن من الممكن البرهنة على هذا الإمكان بقوانين منطقية؛ فالأمر الواقع - لحسن الحظ - يشهد بأن عالمنا يمكن أن يوصف بقدر من البساطة لا ينجم عنه فارق بين الموضوعات الملاحظة والموضوعات غير الملاحظة، وهذا كل ما يمكننا القول به.
لقد كنا نتحدث حتى الآن عن البيوت غير الملاحظة. على أن جزيئات المادة هي بدورها موضوعات غير ملاحظة، فلنر كيف يمكن تطبيق نتائجنا عليها.
إن عالم الذرة، شأنه شأن عالم الحياة اليومية، يتضمن ما يمكن ملاحظته وما لا يمكن ملاحظته؛ فما يمكن ملاحظته هو الصدمات بين جزيئين، أو بين جزيء وشعاع ضوئي؛ إذ إن الفيزيائي قد استحدث أدوات عظيمة الدقة توضح كل صدمة منفردة. أما ما لا يمكن ملاحظته فهو ما يحدث خلال الفترة الواقعة بين صدمتين، أو في الطريق من مصدر الإشعاع إلى الصدمة. وإذن فهذه الحوادث هي الموضوعات التي لا تلاحظ في عالم «الكوانتم».
ولكن لم كان من المستحيل ملاحظتها؟ ولم لم يكن في استطاعتنا أن نستخدم نوعا أدق من الميكروسكوب، ونرقب الجزيئات في مسارها؟ إن المشكلة هي أن من الضروري، لكي نرى جزيئا، أن نضيئه. وإضاءة جزيء شيء يختلف كل الاختلاف عن إضاءة بيت؛ ذلك لأن الشعاع الضوئي عندما يقع على جزيء يخرج به عن طريقه، وإذن فما نلاحظه صدمة، وليس جزيئا يسير في طريقه دون أن يعترضه شيء. وتستطيع أن تدرك ذلك إذا تخيلت أنك تريد مراقبة كرة «بولنج»
1
تتدحرج في مسارها في قاعة مظلمة، ولكنك عندما تضيء النور، ويسقط النور على الكرة، فإنه يدفع الكرة بعيدا عن طريقها، فأين كانت الكرة قبل أن تضيء النور؟ هذا أمر لا يمكنك أن تحدده، ولكن من حسن الحظ أن هذا المثل لا ينطبق على كرات «البولنج»؛ فهي من الكبر بحيث إن اصطدام الشعاع الضوئي بها لا يحدث في مسارها أي تغير ملحوظ. أما في حالة الإلكترونات وغيرها من جزيئات المادة فإن الأمر يختلف، فعندما تلاحظها يكون عليك أن تغير مسارها؛ وبالتالي لا يكون في وسعك أن تعرف ماذا كانت تفعله قبل الملاحظة.
بل إن الملاحظة تحدث بعض التغيير حتى في عالمنا المعتاد بأحجامه الكبيرة؛ فعندما تتحرك سيارة الشرطة عبر المرور في شارع متسع، فإن رجال الشرطة الموجودين فيها يرون كل العربات المحيطة بهم تتحرك ببطء في حدود السرعة المطلوبة.
2
ولو لم يكن الشرطي من النوع الذي يرتدي في بعض الأحيان ملابس مدنية ويركب سيارة عادية، لا يستدل من ذلك على أن كل السيارات تسير طول الوقت بمثل هذه السرعة المعقولة. ولنقل إننا في اتصالنا بالإلكترونات لا نستطيع أن نرتدي ملابس مدنية؛ فكلما راقبناها غيرنا طريق مرورها على الدوام.
وربما اعترضت على ذلك قائلا: قد يكون من الصحيح أننا لا نستطيع أن نلاحظ كيف يتحرك الجزيء في مساره دون أن يؤثر فيه شيء، ولكن ألا نستطيع أن نحسب، عن طريق استدلالات علمية، ما يفعله عندما لا ننظر إليه؟ هذا السؤال يعود بنا إلى تحليلنا السابق للموضوعات غير الملاحظة؛ فقد رأينا أننا نستطيع أن نتحدث عن أمثال هذه الموضوعات بطرق شتى، وأن هناك فئة من الأوصاف المتكافئة، وأننا نفضل أن نختار لوصفنا نظاما سويا؛ أعني نظاما لا تختلف فيه الموضوعات الملاحظة عن غير الملاحظة. ومع ذلك فإن مناقشتنا لملاحظة الجزيئات قد أوضحت أنه لا يوجد لدينا نظام سوي بالنسبة إلى الجزيئات. فمن يلاحظ الإلكترونات ينبغي أن يكون مثل بروتاجوراس؛ إذ إنه ينتج ما يراه؛ لأن رؤية الإلكترونات تعني إحداث صدمات مع الأشعة الضوئية.
إن الحديث عن الجزيئات يعني أن نعزو إليها مكانا محددا وسرعة محددة بالنسبة إلى كل نقطة. مثال ذلك أن كرة التنس تحتل في كل لحظة مكانا معينا في مسارها، ولها في هذه اللحظة سرعة محددة؛ فمن الممكن قياس المكان والسرعة معا، في كل لحظة، بأدوات مناسبة. أما بالنسبة إلى الجزيئات الصغيرة، فإن التغيير الذي يحدثه الملاحظ يجعل من المستحيل، كما بين هيزنبرج، قياس القيمتين معا في نفس الوقت؛ ففي استطاعتنا أن نقيس موقع الجزيء أو سرعته، ولكنا لا نستطيع قياسهما معا. تلك هي النتيجة التي يؤدي إليها مبدأ اللاتحدد عند هيزنبرج. وهنا قد يتساءل المرء عما إذا كانت توجد طرق أخرى لتحديد المقدار غير المقيس؛ أعني طرقا نربط بها، على نحو غير مباشر، بين المقدار غير المقيس وبين المقادير الملاحظة. وهذا يكون ممكنا بالفعل إذا أمكننا أن نفترض أن المقادير غير الملاحظة تسير تبعا لنفس قوانين المقادير الملاحظة، غير أن تحليل ميكانيكا الكوانتم قد أدى إلى إجابة سلبية على هذا السؤال؛ فالموضوعات غير الملاحظة لا تخضع لنفس القوانين التي تخضع لها الموضوعات الملاحظة من حيث إنه ينشأ بينهما فارق نوعي فيما يتعلق بالسببية؛ فالعلاقات التي تتحكم في الموضوعات غير الملاحظة تخالف مصادرات السببية، وهي تؤدي إلى انحرافات في مجال السببية.
هذا الفارق يحدث عند إجراء تجارب تداخل؛ أعني تجارب يمر فيها شعاع من الإلكترونات أو شعاع ضوئي من خلال شق ضيق، ويحدث على شاشة أنموذجا تداخليا يتألف من شرائط سوداء وبيضاء. وقد كان التفسير الذي يقدم لهذه التجارب دائما مستمدا من الطبيعة التموجية للضوء، فيقال إنها نتيجة لوقوع قمم الموجات فوق سفوحها. غير أننا نعلم أننا عندما نستخدم إشعاعا ضئيل الكثافة جدا، فإن الأنموذج الناتج، وإن يكن له نفس التركيب عندما يستمر الإشعاع وقتا كافيا، يكون نتيجة عدد كبير جدا من الاصطدامات البسيطة على الشاشة؛ وعلى ذلك فإن الشرائط تنتج بواسطة عملية إطلاق شبيهة بإطلاق النار من البندقية السريعة الطلقات. هذه الصدمات الفردية لا يمكن تقديم تفسير معقول لها على أساس أنها موجات؛ فالموجة تصل على جبهة عريضة تغطي الشاشة، وعندئذ يحدث وميض في نقطة واحدة فقط من الشاشة، وتختفي الموجة بأكملها؛ إذ يبتلعها الوميض، إن جاز هذا التعبير، وهو حادث يتعارض مع قوانين السببية المألوفة، وتلك هي النقطة التي يؤدي فيها التفسير التموجي إلى نتائج غير معقولة، أو إلى انحراف سببي. أما إذا افترضنا، على عكس ذلك، أن الإشعاع يتألف من جزيئات، لكان من السهل تفسير الصدمات التي تحدث على الشاشة. ومع ذلك فإن الصعوبات تنشأ عندما يستخدم شقان؛ إذ يتعين على كل جزيء عندئذ أن يمر من خلال هذا الشق أو ذاك؛ وعندئذ يكون أنموذج التداخل ناتجا عن التأثير المتبادل بين الشقين، غير أن من الممكن إيضاح أن الدور الذي يسهم به كل شق في الأنموذج الكامل يختلف عن الأنموذج الذي يحدثه الشق لو أغلق الشق الآخر. وهذا يعني أن المسار فيما وراء الشق الذي اختاره الجزيء، يتأثر بوجود الشق الآخر؛ فالجزيء يعرف إن كان الشق الآخر مفتوحا أم لا، إن جاز هذا التعبير. وهذه هي النقطة التي يصل فيها التفسير الجزيئي إلى انحراف سببي؛ أي إلى خرق لقوانين السببية المعتادة. ولو أجريت هذه التجارب بأي ترتيب آخر، وقدم لها أي تفسير آخر ممكن، لأدت إلى خرق لهذه القوانين أيضا. وتصاغ هذه النتيجة في مبدأ للانحراف السببي يمكن استخلاصه من أسس ميكانيكا الكوانتم ذاتها.
ومن الواجب أن نميز بدقة بين مبدأ السببية في صورة انحرافات عن النمط السوي
anomalies ، وبين الامتداد الذي يعبر عنه الانتقال من القوانين السببية إلى القوانين الاحتمالية؛ ذلك لأن خضوع الحوادث الذرية لقوانين احتمالية، لا لقوانين سببية، يبدو نتيجة ضررها هين نسبيا إذا ما قورنت بالانحرافات السببية التي تحدثنا عنها الآن. فهذه الانحرافات تتعلق بمبدأ التأثير بالاتصال المباشر، وهو المبدأ الذي يعبر عن خاصية معروفة من خصائص الانتقال السببي، هي أن السبب ينبغي أن ينتشر باستمرار خلال المكان حتى يصل إلى النقطة التي يحدث فيها نتيجة معينة. فإذا ما بدأت قاطرة في التحرك، فإن عربات القطار لا تعقبها مباشرة، وإنما على فترات؛ إذ إن جذب القاطرة ينبغي أن ينتقل من عربة إلى عربة حتى يصل إلى الأخيرة في نهاية الأمر. وعندما يضاء نور كشاف، فإنه لا يضيء الموضوعات التي يوجه إليها فورا، وإنما ينبغي أن ينتقل الضوء في المكان الواقع بينه وبينها، ولو لم تكن سرعته هائلة للاحظنا الوقت اللازم لانتشار الإضاءة. فالسبب لا يؤثر في النتائج البعيدة فورا، وإنما ينتشر من نقطة إلى نقطة حتى يؤثر في الموضوع بالاتصال المباشر. هذه الحقيقة البسيطة تعد من أوضح سمات جميع الحالات المعروفة للانتقال السببي، ولا يمكن أن يتخلى الفيزيائي بسهولة عن الاعتقاد بأن هذه الخاصية تمثل عاملا لا يمكن الاستغناء عنه في التأثير السببي المتبادل، بل إن الانتقال إلى القوانين الاحتمالية لا يلزم عنه التخلي عن هذه الخاصية بالضرورة. فمن الممكن تكوين القوانين الاحتمالية على نحو ينتقل معه الاحتمال من نقطة إلى نقطة، فيسفر عن سلسلة احتمالية تماثل التأثير السببي بالاتصال المباشر؛ ولذا فإن اضطرارنا، نتيجة لتحليل الموضوعات غير القابلة للملاحظة في فيزياء الكوانتم، إلى التخلي عن مبدأ التأثير بالاتصال المباشر، وإلى القول بمبدأ الانحراف السببي، هو ضربة توجه إلى فكرة السببية، أقوى بكثير من الانتقال إلى القوانين الاحتمالية؛ ذلك لأن انهيار السببية على هذا النحو يجعل من المستحيل التحدث عن موضوعات غير ملاحظة في العالم الأصغر، بنفس المعنى الذي نتحدث به عن أمثال هذه الموضوعات في العالم الأكبر.
وهكذا نصل إلى فارق في النوع بين عالم الأشياء الكبيرة وعالم الأشياء الصغيرة؛ فكلا العالمين مبني على أساس الموضوعات الملاحظة بإضافة الموضوعات غير الملاحظة، غير أن هذه التكملة للظواهر الملاحظة لا تنطوي، في عالم الأشياء الكبيرة، على صعوبات؛ إذ إن الموضوعات غير الملاحظة تسير على نفس أنموذج الموضوعات الملاحظة. أما في عالم الأشياء الصغيرة، فلا يمكن تصور تكملة معقولة للموضوعات الملاحظة؛ ذلك لأن الموضوعات غير الملاحظة، سواء أدخلناها بوصفها جزيئات أم موجات، تسلك بطريقة غير معقولة، وتخرق قوانين السببية المقررة. وليس ثمة نظام سوي لتفسير هذه الموضوعات غير القابلة للملاحظة، كما أننا لا نستطيع الكلام عنها بنفس المعنى الذي نتكلم به عنها في عالم الحياة اليومية. ففي استطاعتنا أن ننظر إلى المركبات الأولية للمادة على أنها جزيئات أو موجات، وكلا التفسيرين يلائم الملاحظات بنفس القدر من الدقة أو من الافتقار إلى الدقة.
هذه، إذن، هي نهاية القصة؛ فقد تحول النزاع بين أنصار التفسير الموجي وأنصار التفسير الجسيمي إلى ازدواج في التفسير؛ ذلك لأن مسألة كون المادة موجات أو جزيئات، هي مسألة تتعلق بموضوعات غير قابلة للملاحظة، وتتميز هذه الموضوعات في عالم الأبعاد الذرية، على خلاف نظائرها في العالم المعتاد، بأن من المستحيل تحديدها بطريقة موحدة بواسطة افتراض نظام سوي؛ إذ لا يوجد نظام كهذا.
ولا بد أن نعد أنفسنا محظوظين؛ لأن عدم التحدد هذا يقتصر على الموضوعات الصغيرة. فهو يختفي بالنسبة إلى الموضوعات الكبيرة؛ لأن اللاتحدد الذي يقول به هيزنبرج بالنسبة إلى الحجم الصغير للكوانتم عند بلانك، لا يكون ملحوظا في الموضوعات الكبيرة، بل إن من الممكن تجاهل اللاتحدد بالنسبة إلى الذرة ككل؛ لأنها كبيرة إلى حد ما، ونستطيع أن نعامل الذرات على أنها جسيمات، متجاهلين المفاهيم التموجية. أما التركيب الداخلي للذرة، الذي تقوم فيه الجزيئات الأخف، كالإلكترونات، بدور رئيسي، فهو وحده الذي يقتضي ثنائية التفسير كما تقول بها ميكانيكا الكوانتم.
ولكي نفهم ما تعنيه الثنائية، فلنتخيل عالما تسري فيه مثل هذه الثنائية على الأجسام الكبيرة، ولنفرض أن عيارات بندقية سريعة الطلقات تمر من خلال نوافذ غرفة، ثم نجد فيما بعد أن الرصاصات قد استقرت في جدران الغرفة، بحيث يبدو لنا من الأمور التي لا يتطرق إليها الشك أن الطلقات تتألف من رصاصات، كذلك نفترض أن مرور الطلقات عبر النوافذ يسير تبعا لقوانين الموجات التي تمر خلال الشقوق. ففي توزيع الرصاصات على الجدران، تكون الرصاصات أنموذجا من الشرائط مشابها لأنموذج التداخل؛ أي إننا عندما نفتح نافذة أخرى، مثلا، يصبح عدد الرصاصات التي تصطدم بمكان معين من الجدار أقل لا أكثر؛ لأن الموجات تتدخل عند هذه النقطة. فإذا كان من المستحيل ملاحظة الرصاصة وهي تمر بمسارها مباشرة، فإننا نستطيع عندئذ أن نفسر الطلقات على أنها تتألف من موجات أو جسيمات، ويكون كلا التفسيرين صحيحا، وإن يكن كل منهما يستتبع نتائج معينة غير معقولة.
على أن انعدام المعقولية في مثل هذا العالم سيظل على الدوام قائما بالنسبة إلى النتائج وحدها، لا بالنسبة إلى ما يلاحظ؛ فالملاحظات المنفردة لن تكون مختلفة عما نراه في عالمنا، وإنما يؤدي مجموعها إلى نتائج تتناقض مع أسس مبدأ السببية. ومن حسن حظنا أن عالمنا المؤلف من أحجار وأشجار وبيوت وبنادق ليس من هذا النوع، بل إنه ليس من الأمور المستحبة أن يعيش المرء في بيئة كهذه، تخدعنا فيها الأشياء من وراء ظهورنا، بينما تسلك سلوكا معقولا ما دمنا ننظر إليها. غير أننا لا نستطيع أن نستنتج أن عالم الأشياء الصغيرة ينبغي أن يكون له نفس التركيب البسيط الذي يتصف به عالم الأشياء الكبيرة؛ فالأبعاد الذرية لا تخضع لتحديد موحد بالنسبة إلى ما فيها من موضوعات غير ملاحظة، وعلينا أن نتعلم أن من الممكن وصف هذه الموضوعات بلغات متعددة، وأنه لا سبيل إلى القول بأن إحدى هذه اللغات هي وحدها الصحيحة.
هذه الصفة المميزة لحوادث ميكانيكا الكوانتم هي التي تنطوي في رأيي على المعنى الأعمق لمبدأ التكامل عند «بور»؛ فهو عندما يسمي وصف الموجة الجزيء وصفا تكامليا، يعني أنه بالنسبة إلى المسائل التي يكون أحد هذين الوصفين تفسيرا كافيا لها، لا يكون الآخر تفسيرا كافيا، والعكس بالعكس. مثال ذلك، إننا إذا كنا بصدد ملاحظات عدادات جيجر، التي تكشف لنا عن صدمات فردية موضعية، فإنا نستخدم التفسير الجزئي. وينبغي أن يلاحظ أن لفظ «التكامل» لا يفسر، أو يزيل، الصعوبات المنطقية التي تنطوي عليها لغة ميكانيكا الكوانتم، وإنما هو مجرد تسمية لها فحسب؛ فمن الحقائق الأساسية أنه لا يوجد نظام سوي لتفسير الموضوعات غير الملاحظة في ميكانيكا الكوانتم، وأن علينا أن نستخدم لغات مختلفة عندما نرغب في تجنب الانحرافات السببية بالنسبة إلى الحوادث المختلفة؛ ذلك هو المضمون التجريبي لمبدأ التكامل. ومن الواجب أن نؤكد أن هذا الموقف المنطقي ليس له نظير في عالمنا الفعلي الكبير؛ لذلك أعتقد أنه ليس مما يؤدي إلى إيضاح مشكلة ميكانيكا الكوانتم أن يشير المرء إلى «تكاملات» مثل الحب والعدل، والحرية والحتمية، وما إلى ذلك، وإنما أوثر في هذه الحالة التحدث عن «استقطابات»، بحيث يدل تغيير الاسم في هذه الحالة على أن لهذه العلاقات المنتمية إلى عالمنا الكبير المعتاد تركيبها يختلف كل الاختلاف عن التكامل في ميكانيكا الكوانتم. فليست لها علاقة بالتوسع في اللغة حين تمتد من الموضوعات الملاحظة إلى الموضوعات غير الملاحظة؛ وبالتالي فلا شأن لها بمشكلة الواقع الفيزيائي.
على أن هناك طريقة مختلفة لمعالجة المشكلة، استعين فيها بمراجعة المنطق؛ فبدلا من القول بثنائية لغوية، أو تكامل لغوي، وضعت لغة من نوع أشمل، يبلغ تركيبها المنطقي من الاتساع حدا يتيح الملاءمة بينها وبين الخواص المميزة للعالم الأصغر كما تقول به ميكانيكا الكوانتم؛ ذلك لأن لغتنا المعتادة مبنية على منطق ثنائي القيم؛ أي على منطق قيمتي الحقيقة «الصدق» و«الكذب»، ولكن من الممكن تكوين منطق ثلاثي القيمة، فيه قيمة متوسطة هي اللاتحدد، وفي هذا المنطق تكون القضايا إما صادقة، وإما كاذبة، وإما لا محددة، وبواسطة مثل هذا المنطق يمكن كتابة ميكانيكا الكوانتم بنوع من اللغة المحايدة، التي لا تتحدث عن الموجات أو الجزيئات، بل تتحدث عن الاتفاقات؛ أي الصدمات، وتترك مسألة ما يحدث في الطريق بين الصدمات أمرا غير محدد. مثل هذا المنطق يبدو أنه هو الصورة النهائية لفيزياء الكوانتم، بالمعنى البشري لهذا التعبير.
لقد كان الطريق طويلا من ذرات ديمقريطس إلى ثنائية الموجات والجسيمات. وقد تبين أن جوهر الكون - بالمعنى الذي يستخدمه العالم الفيزيائي، لا بالمعنى المجازي عند الفيلسوف الذي وحد بينه وبين العقل - ذو طبيعة مشكوك فيها إلى حد ما، إذا ما قورن بالجزيئات الصلبة التي ظل الفيلسوف والعالم يؤمنان بها قرابة ألفي عام. واتضح أن مفهوم الجوهر الجسمي، المشابه للجوهر الملموس كما يظهر في الأجسام التي نتعامل معها في بيئتنا اليومية، هو فكرة مقحمة من مجال التجربة الحسية. وتبين أن ما بدا شرطا عقليا في فلسفة المذهب العقلي - مثلما فعل «كانت» حين وصف تصور الجوهر بأنه تركيبي قبلي - هو نتاج لتعود أو تكيف مع البيئة. وإن التجارب التي تتيحها الظواهر الذرية لتحتم التخلي عن فكرة الجوهر الجسمي، وتقتضي إعادة النظر في طريقة الوصف التي نصور بها الواقع الفيزيائي. وباختفاء الجوهر الجسمي يختفي طابع اللغة المرتكز على قيمتين، بل يتضح أن أسس المنطق إنما هي نتاج للتكيف مع البيئة البسيطة التي ولد فيها البشر. والحق أن الفلسفة التأملية ذاتها لم تكشف أبدا عن قدرة على التخيل مماثلة لذلك العمق الذي أبدته الفلسفة العلمية مسترشدة بالتجارب العلمية والتحليلات الرياضية؛ فطريق الحقيقة مرصوف بتلك الأخطاء التي ارتكبتها فلسفة كانت أضيق من أن تتصور تنوع التجارب الممكنة.
الفصل الثاني عشر
التطور
يبدو في نظر المشاهد الذي يفتقر إلى الخبرة، أن ثمة فارقا باطنا بين الكائنات العضوية الحية وبين الطبيعة غير العضوية؛ فكل أشكال الحياة الحيوانية تقريبا تكشف عن قدرة على الحركة المستقلة، ويدل سلوكها على نشاط مخطط يستهدف تحقيق مصلحة الكائن العضوي ذاته، وقد يكشف هذا النشاط المخطط، لا في البشر فحسب، بل في بعض أنواع الحيوان أيضا، عن استباق طويل المدى لحاجات المستقبل؛ فالطيور تبني أعشاشها لتحمي نفسها في الليل، وليكون فيها مكان للتفريخ، والفأر يحفر لنفسه مأوى في الأرض، ويملؤه بمواد يقتات بها في الشتاء، والنحلة تفرز كميات من الرحيق. وهناك قدر كبير من السلوك المخطط يتجه دائما إلى هدف التناسل، وهو العملية الآلية العجيبة التي تعمل على بقاء النوع بعد موت الأفراد.
أما النباتات فلا تظهر فيها أنواع من النشاط الذي نحب أن نسميه تخطيطا، ومع ذلك فهي قطعا تؤدي وظائفها على نحو يجعل ردود أفعالها تحقق هدف تغذية الفرد وحفظ النوع؛ فجذورها تنمو في الأرض وتتغلغل فيها بالعمق الذي يكفي للوصول إلى الماء، وأوراقها الخضراء تتحول إلى الشمس التي يحتاج النبات إلى أشعتها لتكون مصدرا للطاقة الحيوية، كما أن عملية التكاثر الآلية فيها تضمن ظهور ذرية وفيرة.
إن الكائن العضوي الحي نظام يعمل في سبيل هدف حفظ الذات وحفظ النوع، وهذا الحكم لا يصدق فقط على تلك المظاهر الواضحة للحياة، التي نسميها «سلوكا»، بل يصدق أيضا على العمليات الكيميائية للجسم، وهي العمليات التي تعد أساسا لكل سلوك؛ فالعملية الكيميائية المتعلقة بهضم الغذاء وأكسدته منظمة على نحو من شأنه أن تمد الكائن العضوي بالوحدات الحرارية اللازمة لأوجه نشاطه، بل إن النباتات قد استحدثت لنفسها عملية تتيح لها أن تنتفع مباشرة، بمساعدة جزيئات الكلوروفيل، من طاقة الشمس المشعة لمصلحتها الخاصة.
وهكذا يبدو كأن هناك خطة تتحكم في أفعال الكائنات العضوية الحية، وهدفا محددا يوجهها، إذا ما قورنت بالمسلك الأعمى للعالم غير العضوي، كسقوط الأحجار وتدفق الماء وهبوب الرياح. فالعالم غير العضوي يخضع لقوانين السبب والنتيجة؛ إذ يتحكم الماضي في المستقبل عن طريق الحاضر. أما بالنسبة إلى الكائنات الحية فيبدو أن هذه العلاقة تنعكس؛ فما يحدث الآن مرتب على نحو من شأنه أن يخدم غرضا مستقبلا، ويبدو أن المستقبل، لا الماضي، هو الذي يتحكم في أحداث الحاضر.
مثل هذا التحديد على أساس المستقبل يسمى غائية
teleology . وقد جعل أرسطو للغائية، في تصوره للعلة الغائية، مكانة موازية لمكانة العلية في وصف العالم الفيزيائي. ومنذ عهد أرسطو أصبحت تواجه العالم هذه الطبيعة الثنائية للعالم الفيزيائي؛ فعلى حين أنه رأى الطبيعة غير العضوية خاضعة لقوانين العلة والمعلول، فقد بدت له الطبيعة العضوية خاضعة لقانون الغاية والوسيلة. وهكذا أصبحت للغائية مكانة توازي مكانة العلية، وبدا أن الأولى لا تقل أهمية عن الثانية، واتهم عالم الفيزياء، الذي لا يفكر في الطبيعة إلا من خلال العلة والمعلول، بأنه ضحية مغالطة التعصب المهني، التي تعمي المرء عن إدراك مقتضيات البحث خارج نطاق تخصصه الضيق.
وعلى الرغم من أن فكرة التوازي بين العلية والغائية تبدو أشبه بحكم صادر عن ملاحظ محايد، فإننا نستمع إلى ادعاءاتها على مضض، ولا نستطيع أن نمتنع عن الشعور بأن في موقفها شيئا باطلا في أساسه؛ فالفيزياء ليست علما موازيا للبيولوجيا، وإنما هي علم أكثر أولية، وقوانينها لا تقف عاجزة أمام الأجسام الحية، وإنما تشتمل الأجسام الحية وغير الحية معا، على حين أن البيولوجيا تقتصر على دراسة تلك القوانين الخاصة التي تسري، مع القوانين الفيزيائية، على الكائنات الحية. فليس في البيولوجيا استثناء معروف للقوانين الفيزيائية؛ ذلك لأن الأجسام الحية تهوي كالأحجار إن لم ترتكز على شيء، وهي لا يمكن أن تنتج طاقة من لا شيء، وإنما تتحقق جميع قوانين الكيمياء في عملياتها الهضمية. فليس ثمة قانون فيزيائي ينبغي أن يكون مقرونا بشرط مثل: «ما لم تحدث العملية في كائن عضوي حي.»
أما أن الكائنات الحية تتميز بخواص تقتضي صياغة قوانين خاصة تضاف إلى قوانين الفيزياء، فهو أمر لا يدعو إلى الاستغراب؛ فنحن نعلم أن الأجسام الساخنة تظهر فيها خواص لا ترد إلى الميكانيكا، وأن السلك الذي يمر فيه تيار كهربائي تظهر فيه خواص لا تستطيع الميكانيكا ولا الديناميكا الحرارية تعليلها. فليس ثمة صعوبة منطقية في أن ننسب إلى المادة عندما تكون في حالمة أعقد، خواص لا تتكشف في المادة عندما تكون في حالة أبسط، ولكن يبدو من غير المقبول أن نفترض أن للمادة الحية خواص تتناقض مع خواص المادة غير العضوية.
والواقع أن الغائية تناقض العلية؛ فإذا كان الماضي يتحكم في المستقبل، فإن المستقبل لا يتحكم في الماضي، أو على الأقل لا يتحكم فيه بالمعنى الذي استخدمنا به عبارة «يتحكم» في العبارة السابقة. وهناك معنى سكوني للفظ، يمكن أن يكون التحكم فيه متبادلا. مثال ذلك أن العدد «س» يتحكم في مربعه «س
2 »، والمربع «س
2 » يتحكم في جذره الموجب «س». غير أن العلية تحكم بالمعنى التوليدي؛ فالرياح تتحكم في شكل الشجرة الملتوي، لا العكس. صحيح أننا نستطيع أن نستدل من الشكل الملتوي للشجرة على الاتجاه الغالب للرياح، ولكننا إذا قلنا إن شكل الشجرة يتحكم بهذا المعنى في اتجاه الرياح، لكنا نستخدم لفظ «التحكم» بالمعنى السكوني، معنى التضايف المحض؛ ذلك لأن الشجرة الملتوية تدل على الرياح، ولكنها لا تنتجها، على حين أن الرياح تنتج الشكل الملتوي للشجرة. وليس من الضروري أن تفهم كلمة «ينتج» على أساس أنها لا تخضع للتحليل المنطقي؛ فقد أوضحت من قبل (في الفصل العاشر) أن من الممكن إيجاد صيغة منطقية لطابع العلية الذي تكون بمقتضاه ذات اتجاه واحد. فإذا شئنا أن يكون للتصور الذي نكونه عن مجرى الزمان أي معنى، فمن الواجب عندئذ أن توضع العلية في مقابل الغائية؛ إذ إن التحكم بالمعنى التوليدي لا يمكن أن يحدث إلا في اتجاه واحد فحسب. أما التفسير الذي تكون الحياة بمقتضاه مختلفة أساسا عن العمليات الفيزيائية، وتكون خاضعة للغاية لا للعلة، فإنه تفسير لا يتمشى مع فكرة اتجاه الزمان. وعلى العالم البيولوجي الذي يهيب بالفهم العادي للإنسان لكي يجد فيه مؤيدا لادعاءاته بوجود هذه الثنائية المزعومة، عليه أن يتذكر أنه يناقض الفهم العادي في ميدان آخر؛ إذ إنه يتخلى عن مفهوم الصيرورة.
ولو مضينا في التحليل أبعد من ذلك لوجدنا أن نصير فكرة الغائية لا يجد دفاعا مقنعا يتخلص به من هذا المأزق؛ فكلما كان الأمر متعلقا بسلوك غرضي، لم يكن ما يتحكم في السلوك هو الحادث المقبل، وإنما استباق الكائن الحي للحادث المقبل. فنحن نغرس البذرة لكي نزرع الشجرة، وما يتحكم في سلوكنا ليس هو الشجرة المقبلة، وإنما الصور التي نكونها في الحاضر لشجرة المستقبل، وهي الصور التي نستبق بها وجودها المقبل . ومما يثبت أن هذا هو التفسير المنطقي الصحيح، أن من الممكن تدمير النبتة النامية، بحيث لا تظهر شجرة في المستقبل؛ وعندئذ لا يقع الحادث المتوقع في المستقبل أبدا، على حين أن السلوك الحاضر، وهو غرس البذرة، يظل كما هو دون تغيير. ومن المحال أن يكون ما لا يحدث أبدا متحكما فيما يحدث الآن؛ فالتحكم التوليدي ينتقل من الماضي إلى المستقبل، لا العكس. أما الفعل الغرضي الملاحظ في السلوك البشري فيساء تفسيره إذا ما نظر إليه على أنه تحكم توليدي للمستقبل في الماضي؛ فلا يمكن أن يقبل الفهم العادي ولا العلم تحكما توليديا يتناقض مع العلية. وإذن فالموازاة بين الغائية والعلية نتيجة لسوء فهم منطقي.
فما الذي يتبقى من الغائية إذن؟ إذا شئنا أن تكون الغاية متمشية العلية، فلا يمكن أن يكون المستقبل هو الذي يتحكم في الحاضر، وإنما ينبغي أن يكون ذلك تحكما أو تحديدا على أساس خطة. على أن الخطة لا يمكن أن تحدث آثارا إلا بتوسط كائن عضوي ما، لديه القدرة على التفكير. ومع ذلك فإن غائية التنظيم العضوي تتجاوز بكثير نطاق النوع البشري العاقل؛ فليس في وسعنا القول إن الفأر يتبع خطة عندما يختزن غذاءه، كما أن أحدا لن يقبل القول بأن النبات ينفذ خطة تكاثر نوعه عندما ينثر بذوره على الأرض. ولا بد من إعداد صيغة دقيقة تتجنب التشبيهات الإنسانية؛ فأوجه نشاط الكائنات العضوية تمثل أنموذجا من النوع الذي ينبغي أن تتبعه هذه الكائنات لو كانت تسلك وفقا لخطة. أما الانتقال من هذه الحقيقة إلى القول بوجود خطة، تتحكم على نحو صوفي غامض في سلوك الكائنات العضوية، فيعني تفسير العالم العضوي بأكمله عن طريق تشبيه بالسلوك البشرى؛ أي إنه يعني وضع تشبيه محل التفسير. فالغائية نزعة تشبيهية، وتفسير وهمي، وهي تنتمي إلى الفلسفة التأملية، ولكن ليس لها مكان في الفلسفة العلمية.
فما هو التفسير الصائب إذن؟ سيظل من الصحيح أن نشاط الكائن العضوي يمثل نمطا يبدو كما لو كانت هناك خطة تتحكم فيه، فهل نسجل هذه الحقيقة على أنها مجرد اتفاق؛ أي على أنها نتاج للصدفة؟ إن ضمير العالم الإحصائي يثور على هذا الفهم؛ فاحتمال حدوث هذا الاتفاق يبلغ من الضآلة حدا لا نستطيع معه أن نقبل هذا التفسير. وهكذا يبدو أن الرغبة في الوصول إلى تفسير سببي قد وصلت إلى طريق مسدود، فكيف يمكن أن تتخذ العلية، على أي نحو، مظهر السلوك الغائي؟
إن من ينظر لأول مرة إلى الحصى الملقى على الشاطئ، قد يظن بالفعل أنه موضوع في مكانه هذا وفقا لخطة معينة؛ فالحصى الكبير يوجد بقرب البحر، ويغطي الماء بعضا منه، ويعقبه بعد قليل حصى أصغر، وتلي هذه طبقات الرمال، التي تبدأ أولا بالحبيبات الخشنة، وتتحول بعد ذلك إلى حبيبات الرمال الدقيقة التي تميز الأجزاء المتباعدة من الشاطئ. وهكذا يبدو كأن شخصا قد قام بتنظيف الشاطئ، واختار الحصى والرمال بعناية حسب الحجم، غير أننا نعلم أنه لا ضرورة لافتراض مثل هذا التفسير التشبيهي بالإنسان؛ فالماء ينقل الحصى ويلقي بالأخف منه مسافة أبعد في الشاطئ؛ وبذلك يوزع الحصى آليا حسب الحجم. صحيح أن الصدمات الفردية للأمواج تسير تبعا لأنموذج الصدفة غير المنتظم، ولا يستطيع أحد أن يتنبأ بالمكان الذي ستستقر فيه حصاة معينة آخر الأمر، غير أن هناك عملية انتقال تحدث؛ فكلما حملت الموجة الواحدة حصاة كبيرة وأخرى صغيرة، استطاعت أن تحمل الصغيرة مسافة أبعد قليلا؛ فالصدفة مقترنة بالانتقاء تحدث النظام.
ولقد كان الكشف العظيم الذي توصل إليه تشارلس دارون
Charles Darwin
هو أن الغائية الظاهرية للكائنات العضوية الحية يمكن أن تفسر على نحو مشابه، عن طريق الجمع بين الصدفة وبين الانتقاء. وقد استبق مبدأ الانتقاء عن دارون في عصور سابقة، شأنه شأن معظم الأفكار الكبرى؛ فقد سبق أن وضع الفيلسوف اليوناني أنبادقليس
Empedocles
نظرية مؤداها أن الأجسام الحية تنمو من الأرض كأجزاء مبتورة، ثم تحركت الأطراف والرءوس والأجسام الفردية، واتحدت بالصدفة في تكوينات شاذة، لم يكتب البقاء إلا للأصلح منها. غير أن الفكرة الجيدة التي ترد في إطار نظري غير كاف تفقد قدرتها التفسيرية، ويسدل عليها ستار من النسيان حتى يعاد كشفها وتدمج في نظرية مقنعة. وقد استطاع دارون أن يتوصل إلى مبدأ الانتقاء الطبيعي وبقاء الأصلح عن طريق أبحاث علمية، وعرضهما في إطار نظرية شاملة للتطور؛ ولهذا السبب أصبح لفظ «الدارونية» معبرا عن فكرة التطور بالانتقاء الطبيعي، وكان اتساع نطاق جهوده العلمية مبررا لتفضيله على معاصره الأصغر سنا «ولاس
Wallace »، الذي توصل إلى فكرة الانتقاء الطبيعي مستقلا عن دارون، وإن لم تكن أعماله العلمية تقارن بأعمال دارون في اتساع نطاقها.
إننا عندما نصنف الأنواع الموجودة تبعا لدرجة التنوع أو التعقيد في تركيبها، بحيث ننتقل على الدوام من نوع إلى النوع الذي هو الأقرب شبها إليه في التركيب التشريحي والبنيان العضوي، نصل إلى ترتيب منظم؛ أي إلى سلسلة تؤدي فيها علاقات التشابه إلى إعطاء كل نوع مكانه في السلم؛ فعند نهاية الخط نجد النوع البشري، ومن بعده تأتي القرود، ثم تعقبها بقية الثديات، ويستمر الخط مارا بالطيور والزواحف والأسماك، ثم مختلف الحيوانات البحرية، حتى يصل إلى الطرف الأدنى، وهو الكائنات العضوية الحية ذات الخلية الواحدة؛ أي الأميبا. وقد استنتج دارون أن الترتيب المنظم للأنواع الموجودة معا يمثل الترتيب التاريخي لظهورها، وأن الحياة بدأت بالأميبا ذات الخلية الواحدة، وانتقلت خلال ملايين السنين إلى أشكال تزداد علوا على الدوام.
مثل هذا الاستنتاج سليم من وجهة نظر المنطق الاستقرائي؛ إذ إن كل شخص على استعداد لتطبيقه على حالات أبسط. فلنتخيل أن ذبابة مايو
May fly
التي تعيش يوما واحدا، تشاهد أنواعا من البشر؛ أي إنها ترى مواليد رضعا، وأطفالا، ومراهقين، وبالغين، ومسنين، ولكنها لا تلاحظ أي نمو أو تغير في الأشخاص المنفردين؛ فإذا ما ظهرت بين ذباب مايو ذبابة مثل دارون، فإن مثل هذه الذبابة الممتازة قد تستنج أن ما تلاحظه من مراحل مختلفة للبشر، متعايشة معا، تمثل في واقع الأمر تعاقبا تاريخيا. ومع ذلك فإن ذبابة مايو في مركز أفضل منا بكثير، من حيث النسب الزمنية؛ إذ إن النسبة بين عمر الإنسان وبين طول مدة التطور، أقل بكثير من النسبة بين عمر ذبابة مايو الذي يدوم يوما واحدا، وبين أطول حياة بشرية؛ فلا عجب إذن أننا لا نستطيع أن نلاحظ التغير التطوري، الذي تعد الآلاف الستة من سنوات التاريخ البشري المسجل مجرد فترة ضئيلة جدا بالقياس إليه. وعلى ذلك فلا بد أن نعتمد دائما على استدلال لكي ننتقل من الترتيب المنظم إلى الترتيب التاريخي؛ أي على استدلال ينتقل من ترتيب التزامن إلى ترتيب التعاقب.
وهناك، بطبيعة الحال، أدلة أخرى يمكن الإتيان بها تأييدا لهذا الاستدلال. فهناك الكشوف الجيولوجية؛ إذ إن مختلف الطبقات الجيولوجية تحتوي على حفريات من أنواع متباينة، ولكنها مرتبة بحيث توجد الأنواع الأكثر تفاضلا (أو تعقدا) في الطبقات العليا. ويبدو أن لنا الحق في التوحيد بين الترتيب المكاني للطبقات وبين الترتيب الزمنى لترسبها. وهكذا فإن الجيولوجيا تحتفظ بسجل لحالة الحياة الحيوانية التي تم الوصول إليها في أي وقت نبحثه. وفضلا عن ذلك فإن الحفريات تمدنا بعينات لكثير من الأنواع التي تفوتنا في الترتيب المنظم للأنواع الموجودة؛ مما يؤدي إلى سد الثغرات القائمة في هذا الترتيب. وقد تم العثور، بوجه خاص، على الحلقة المفقودة بين الإنسان والقرد، في بعض عينات الجماجم التي تجمع بين جحوظ حواف العينين، المعروف عن القرود، وبين اتساع للجمجمة أكبر مما هو معروف في القرود، وإن يكن أقل مما هو في الإنسان؛ إذ إن الجبهة المتراجعة لم تكن تترك إلا حيزا ضئيلا للفص الأمامي من المخ. ولقد كان مخ هذا الإنسان القرد يتيح له القيام ببعض الأعمال الذهنية، وإن لم يكن قد اكتسب إلا قدرا محدودا جدا من القدرة على الانتفاع من التجارب عن طريق تذكر نتائج الاستجابات السابقة للتجارب، وهي القدرة التي توجد في الفص الأمامي للمخ. وبهذه المناسبة فإن الإنسان القرد يعد الآن الأصل الذي انحدر منه الإنسان والقرود الحالية، بحيث إن القرود تمثل فرعا جانبيا، لا أصلا للإنسان.
فإذا ما نظرنا إلى الأدلة التي أشرنا إليها على أنها قاطعة، فعلينا أن نعترف بحدوث تطور في الحياة من الأميبا إلى الإنسان، ولكن يظل أمامنا بعد ذلك السؤال عن سبب هذا التطور. فلماذا تطورت الحياة إلى أشكال أعلى؟ إن التطور يبدو أشبه بعملية تتم وفقا لخطة، بل إن المرء قد يميل إلى القول إن التطور هو أقوى ما يمكن تصوره من الأدلة المؤيدة للغائية.
وهنا يأتي دور الكشف الأعظم الذي توصل إليه دارون؛ فقد رأى أن من الممكن تفسير تقدم التطور على أساس السببية، وأن التطور لا يحتاج إلى أية مفاهيم غائية؛ فالتنوعات العشوائية التي تحدث عند التكاثر تؤدي إلى إيجاد فروق بين الأفراد تستتبع اختلافا في القدرة على التكيف من أجل البقاء، وفي الصراع من أجل الحياة يبقى الأصلح، ولما كان أصلح الأفراد ينقلون قدراتهم الأرفع إلى ذرياتهم، فإن هذا يؤدي إلى تغير تدريجي نحو أشكال تزداد علوا باستمرار. فالأنواع البيولوجية ترتب، كالحصى على الشاطئ، عن طريق سبب انتقائي، والصدفة مقترنة بالانتقاء تولد النظام.
ولقد دارت مناقشات مستفيضة، وأجريت تعديلات كثيرة على نظرية الانتقاء عند دارون، ولكن أسسها لم تتزعزع أبدا. وكان دارون يؤمن بوراثة الصفات المكتسبة، متأثرا في ذلك بسلفه العظيم لامارك
Lamarck ، فاعتقد أن التكيف الوظيفي، الذي يكتسبه الفرد بالمران، ينقل إلى ذريته. وقد دار خلاف كثير حول هذه النقطة، وحول دور هذه الفكرة في تصور دارون لنظريته. ومع ذلك، فهناك أمران نستطيع اليوم أن نقررهما على نحو قاطع؛ أولهما أن جميع الشواهد التجريبية المتوافرة اليوم تكذب القول بوراثة الصفات المكتسبة، وثانيهما أن «الدارونية» لا تحتاج إلى أية مسلمة من هذا النوع. وقد استطاعت البيولوجيا الحديثة، عن طريق الجمع بين فكرة دارون في الانتقاء الطبيعي وبين كشوف تجريبية معينة، أن تقدم تفسيرا مرضيا للتغير الوراثي «الموجه»؛ وبذلك تحررت من «اللاماركية» (أي نزعة لامارك).
هذا التفسير مبني على الإثبات التجريبي للتحولات
mutations ؛ أي التغيرات في المادة الوراثية للأفراد. مثل هذه التحولات يمكن إحداثها صناعيا بأشعة إكس أو بالحرارة، وهي تحدث في الطبيعة بفعل أسباب عشوائية، ولا ترجع أي تكيف للفرد مع ظروف حياته. وعندما تحدث هذه التحولات يكون الكثير منها معدوم القيمة، ولكن إذا حدثت تحولات مفيدة، فإنها تكسب الفرد قدرات أعظم على البقاء. وعندما يتم إثبات وجود تحولات وراثية راجعة إلى أسباب عشوائية، فإن الباقي يترك لقوانين الاحتمال التي تؤدي بمضي الوقت، على الرغم من بطء تأثيرها، إلى إيجاد أشكال للحياة تزداد علوا بالتدريج.
ولا يمكن أن يؤدي أي نقد إلى التشكيك في صحة هذا البرهان. فإذا اعترض بأن معظم التحولات ضئيلة إلى حد أنها لا تؤدي إلى ميزة ملموسة فيما يتعلق بالبقاء، فإن الباحث النظري في الاحتمالات يرد بأن التنوعات العشوائية ستحدث عندئذ في جميع الاتجاهات، إلى أن تتجمع في اتجاه واحد، بمحمض الصدفة، بحيث تؤدي إلى ميزة ملحوظة تساعد على البقاء؛ فضآلة التحولات يمكن أن تؤخر عملية التطور، ولكنها لا يمكن أن توقفها. وإذا اعترض بأن كثيرا من التحولات لا فائدة منه، كان الجواب هو أنه يكفي أن تكون هناك بالفعل تحولات مفيدة؛ فالانتقاء عن طريق الصراع من أجل الوجود هو حقيقة لا يمكن تفنيدها، والصدفة مقترنة بالانتقاء تولد النظام، هذا مبدأ لا مفر منه. وهكذا فإن نظرية دارون في الانتقاء الطبيعي هي الأداة التي ترد بها الغائية الظاهرية للتطور إلى السببية. وقد درس علماء الوراثة المحدثون مشكلات التحول والوراثة بكل تفاصيلها، وما زال هناك الكثير مما ينبغي دراسته، غير أن مبدأ دارون يقضي على الحاجة إلى الغائية.
إن نظرية التطور بأسرها مبنية على أدلة غير مباشرة، فهل سيكون من الممكن في أي وقت إيجاد أدلة مباشرة لها، عن طريق إنتاج إنسان في أنبوبة اختبار مثلا.
قد يبدو أننا نطلب أكثر مما ينبغي إذا أردنا أن نحاكي في الوقت القصير الذي تستغرقه تجربة معملية، عملية استغرقت الطبيعة مليون سنة للقيام بها، لولا أن الطبيعة ذاتها قد أمدتنا بنسخ قصيرة الأجل لهذه العملية في نمو كل جنين بشري. هذا النمو يبدأ بمرحلة الخلية الواحدة، وينتقل إلى مراحل أشد تعقيدا، تعيد تلخيص التاريخ الكامل للتطور، ولكن في صورة موجزة، كما بين «هيكل
Haeckel »؛ فهناك مثلا مرحلة تظهر فيها للجنين البشري زعانف خيشومية، ولا يكاد مظهره الخارجي يتميز فيها عن جنين السمكة. وعلى ذلك يبدو أنه ليس من الإسراف الاعتقاد بإمكان وضع البويضة المخصبة لإحدى الثديات في أنبوبة اختبار وتطويرها إلى فرد كامل، ولكن مثل هذه التجربة لا تثبت الشيء الكثير؛ لأن المادة الأصلية، وهي البويضة المخصبة، ستكون عندئذ نتاجا طبيعيا، وليست من صنع مركب كيميائي. أما أنه سيصبح من الممكن في أي وقت إنتاج البويضات والحيوانات المنوية للثديات بطريقة صناعية، فهو أمر مشكوك فيه إلى حد بعيد. وإن عالم البيولوجيا الحديث ليشعر بالاغتباط لو أنه استطاع أن ينتح أميبا بعمليات صناعية.
غير أن مثل هذه التجربة الأخيرة، لو تمت، لكانت قاطعة إلى حد بعيد؛ فالدليل غير المباشر على التطور من الأميبا إلى الإنسان يبلغ من القوة حدا لا تكاد تدعو الحاجة معه إلى التوسع فيه بتجارب مباشرة. وأكثر المشكلات إلحاحا، بالنسبة إلى العالم البيولوجي الذي يريد أن يجعل نظرية التطور كاملة، هي إنتاج خلية واحدة من مادة غير عضوية. وقد لا يكون إجراء تجربة ناجحة كهذه أمرا بعيدا كل البعد؛ فقد دلت دراسة الكروموزومات (الصبغيات) على أن الجينات (أو المورثات
genes )، وهي تلك الأجزاء القصيرة من تركيب الكروموزوم الذي هو أشبه بالخيط، التي تنتقل بها الخواص الفردية، ليست أكبر من الجزيئات الكبيرة في المادة الزلالية. وأغلب الظن أن علماء البيولوجيا سيتمكنون يوما ما من تركيب جزيئات زلالية صناعية من نوع الجينات ومن نوع البروتوبلازم، ثم يجمعون بينهما، فينتجون بذلك مركبا له جميع خواص الخلية الحية. ولو نجحت هذه التجربة، لأثبتت على نحو قاطع أن أصل الحياة يمكن إرجاعه إلى المادة غير العضوية.
إن مشكلة الحياة لا تتناقض مع مبادئ الفلسفة التجريبية. تلك هي النتيجة التي يؤدي إليها علم البيولوجيا في القرن التاسع عشر؛ فمن الممكن تفسير الحياة مثلما تفسر كل الظواهر الطبيعية الأخرى، وليس علم البيولوجيا بحاجة إلى مبادئ تخالف قوانين الفيزياء. أما الغائية الظاهرية للكائنات الحية فهي قابلة لأن ترد إلى السببية. وليست الحياة في حاجة إلى وجود جوهر لا مادي، أو قوة حيوية، أو كمال
entelechy ، أو غير ذلك من الأسماء التي اقترحت لمثل هذا الكيان العالي على الطبيعة. ومن هنا فإن فلسفة المذهب الحيوي
vitalism ، التي تقول بوجود جوهر حيوي خاص من هذا النوع، ينبغي أن تصنف على أنها وريثة للمذهب العقلي؛ فهي تنبثق من فلسفة تضفي على العقل قدرة على التحكم في الكون، وتبحث عن علم بيولوجي يفسر أصل العقل عن طريق جوهر لا يخضع لقوانين العالم الفيزيائي. أما النزعة التجريبية فلا تتجلى في التركيبات التي يقوم بها الفيلسوف فحسب، وإنما تتجلى أيضا في الموقف الذي يتابع به العالم بحوثه التجريبية. وبهذا المعنى تكون البيولوجيا الحديثة تجريبية النزعة، حتى على الرغم من أن بعض خبرائها يحاولون الجمع بين عملهم العلمي وبين فلسفة حيوية النزعة.
على أن تطور الحياة ليس إلا الفصل الأخير في قصة أطول، هي قصة تطور الكون؛ فقد ظلت مشكلة كيفية ظهور الكون تخلب لب الإنسان منذ ظهرت آراء القدماء الخيالية في منشأ الكون. على أن العلم الحديث قد توصل، باستخدام مناهجه الدقيقة في الملاحظة والاستدلال، إلى إجابة أشد إغراقا في الخيال من كل ما كان يحلم به الأقدمون. وأود أن أقدم عرضا موجزا لهذه النظريات، التي تكشف عن قوة المنهج العلمي في ميدان حقق فيه هذا المنهج واحدا من أعظم منجزاته.
كان من الضروري أن تكون هناك أولا خطوة منطقية؛ فبدلا من التساؤل عن كيفية ظهور هذا الكون، أصبح العالم يتساءل كيف أصبح الكون على ما هو عليه الآن. فهو يبحث عن تطور من حالات سابقة إلى الحالة الراهنة، ويحاول الرجوع بهذا التاريخ إلى الوراء على قدر استطاعته. أما إذا كان قد تبقى بعد ذلك شيء ينبغي السؤال عنه، فتلك مسألة سأناقشها بعد قليل.
إن الإجابة الأولى تقدمها إلينا نتائج الأبحاث الجيولوجية، التي تبين أن قشرة هذه الأرض قد تكونت عن طريق البرودة التدريجية لكرة غازية متوهجة، وما زال باطن الأرض متوهجا. أما القشرة الأصلية فتتضح في صخور الجرانيت التي رسبت المحيطات فوقها طبقات من الرواسب تكون الجزء الأكبر من سطح قاراتنا. ومن العجيب أن مدة عملية تكوين القشرة تقاس بنوع من الساعة الجيولوجية، عرف العلم كيف يقرأ إشاراتها. فالعناصر المشعة، كاليورانيوم والتوريوم وما إليها، تخمد بمعدلات معلومة، بحيث تتحول إلى مادة أكثر دواما، وينتهي بها الأمر إلى أن تصبح رصاصا. وبقياس النسبة بين كمية المواد الإشعاعية وبين كمية الرصاص كما توجد على سطح الأرض في المرحلة الراهنة، يستطيع الجيولوجي تحديد الوقت الذي استغرقه تحويل كل هذه المواد من عناصر إشعاعية بحتة. فإذا افترضنا أن العناصر الإشعاعية تكونت في الحالة الغازية للأرض، على حين أنه لم تكن هناك مواد مختلفة في ذلك الحين، فإن عالم الجيولوجيا يستطيع تحديد عمر الأرض على أساس هذا الوقت. وعلى هذا النحو تبين أن عمر الأرض يبلغ حوالي ألفي مليون سنة.
أما الإجابة الثانية فتتعلق بالنجوم؛ فمن الواضح أن النجم الثابت، مثل شمسنا، يمر بتطور، فيطلق إشعاعات بسرعة هائلة، ولا بد أن تكون له مصادر من الطاقة لتعويض ما يفقد من الطاقة باستمرار، ومن هذه المصادر الجاذبية، كما أدرك هلمولتس
Helmholtz . فالنجم ينكمش، والمادة المتحركة نحو مركزه تحول سرعتها إلى حرارة، وهناك مصدر أقوى للطاقة، هو تحول العناصر، كما يحدث في العمليات الانفجارية للقنبلة الذرية. وفي تلك الحرارة العالية التي توجد في باطن النجم، والتي تقدر في حالة الشمس بعشرين مليون درجة مئوية عند مركزها، تستمر عمليات التماسك والتحلل النووي على الدوام، وتتحول الكتلة إلى طاقة. وقد حلل بيته
Bethe
وجاموف
Gamov
وغيرهما هذه العمليات في ضوء الكشوف القريبة العهد، المتعلقة بتكوين النويات الذرية. أما المصدر الأكبر للطاقة فهو تكوين الهليوم من الهيدروجين، الذي يطلق كميات هائلة من الطاقة، على حين تكون كتلة المادة المفقودة صغيرة نسبيا (وهذه هي العملية التي يعتزم محاكاتها في مشروع القنبلة الهيدروجينية المزمع تنفيذه).
1
وتدل الحسابات التي أجريت على الشمس على أن الوقت الذي سيظل الهيدروجين موجودا فيه إلى أن يستنفد نهائيا، يتيح لها عمرا يبلغ حوالي اثني عشر ألف مليون سنة، انقضى منها بالفعل ألفا مليون. ففي خلال هذه العملية، ستصبح الشمس أسخن ببطء، حتى يتم الوصول إلى حد أعلى، وبعد هذه المرحلة ستبرد الشمس بسرعة.
وتتأيد نظرية تطور النجم بفضل استدلالات من نوع مختلف تماما، تشبه الاستدلالات المستخدمة في نظرية التطور عند دارون؛ فقد اكتشف الفلكيون ترتيبا منظما لمجموع النجوم المرئية في السماء ليلا، وهو ترتيب يمكن النظر إليه على أنه يمثل الترتيب التاريخي للمراحل التي يمر بها كل فرد. وهنا أيضا تتضح قوة الاستدلال من الترتيب المنظم للأشياء المتزامنة على ترتيب التعاقب الزمني. على أن تطبيق هذا الاستدلال في حالة النجوم كان أصعب منه في حالة النظم البيولوجية؛ لأن الترتيب المنظم للنجوم ليس مما يسهل رؤيته. ولقد كان أساس هذه الأبحاث رسما بيانيا إحصائيا توصل إليه الفلكيان ه. ن. رسل
H. N. Russell
وإ. هرتسبرونج
E. Hertzprung . في هذا الرسم البياني تصنف النجوم على أساس النمط الطيفي؛ أي بالنسبة إلى خطوط معينة يكشف المطياف
Spectroscope
في الضوء المنبعث عن النجوم، وتدل على حرارتها. فإذا جمعنا بين النمط الطيفي وبين درجة بريق النجم، أمكن الوصول إلى ترتيب معين للنجوم في سلسلة. فإذا ما نظر إلى الترتيب المنظم الذي تم تكوينه على هذا النحو، على أنه يعبر عن متوسط التعاقب التاريخي لمراحل عمر النجم، كان هذا التفسير مطابقا للنتائج المستمدة من الأبحاث الخاصة بتولد الحرارة في باطن النجوم. فالنجوم الحديثة التكوين كرات غازات ذات حجم هائل، ومادة ضئيلة الكثافة جدا، وضوءهما ميال إلى الحمرة؛ لأن حرارتها ليست عالية جدا. أما النجوم القديمة فإن امتدادها أقل، ولكن كثافة مادتها كبيرة. وما دامت حرارتها تظل عالية، فإن ضوءها يكون أبيض، إلى أن تبرد آخر الأمر ولا تعود مرئية. وهكذا يمتد تاريخ حياة النجم ما بين مرحلتي العملاق الأحمر والقزم الأبيض. أما النهاية فلا تبشر بخير كثير؛ إذ إن شمسنا ستغدو أسخن بعض الوقت، وتجعل المحيطات تغلي، بحيث إنه قد يتعين على البشر أن يهاجروا إلى كوكب أبعد، ولكنها ستبرد آخر الأمر، وتصبح قطعة من المادة باردة ميتة لا وجود للحياة في بيئتها. ولما كان هذا المصير ذاته ينتظر كل النجوم الأخرى ، فإن الكون سيموت آخر الأمر ميتة التعادل الحراري التي تنبأ بها المبدأ الثاني للديناميكا الحرارية (انظر الفصل العاشر).
أما الإجابة الثالثة فتتعلق بتاريخ المجرات. والمجرة مجموعة مؤلفة من مئات الملايين من النجوم؛ فشمسنا ومجموعتها الكوكبية تنتمي إلى المجرة التي نرى محيطها في السماء ليلا، ونطلق عليه اسم درب التبانة
Milky way . وهناك مجرات أخرى توجد في السدم الحلزونية، وهي تبعد عن مجرتنا ملايين السنين الضوئية، ويفصلها فضاء هائل عنا وعن بعضها البعض. وتدل الملاحظات المطيافية التي كان هبل
Hubble
أول من قام بها، على أن جميع المجرات تقريبا تبتعد عنا بسرعة هائلة، بحيث تزداد السرعة كلما كان السديم الحلزوني أبعد عن مجموعتنا. فإذا افترضنا أن كل مجرة كانت تتحرك على الدوام في مسارها بسرعة واحدة، فإننا نستطيع أن نحسب من أين أتت. وتدل الأرقام على أن جميع المجرات كانت، منذ حوالي ألفى مليون سنة، متجاورة في مكان واحد، وكانت تكون على الأرجح كرة غازية هائلة ذات حرارة شديدة الارتفاع.
ولا شك أن ظهور الرقم «ألفي مليون سنة» في كل هذه الحسابات هو أمر ملفت للنظر إلى أبعد حد؛ إذ يبدو أن بداية كوننا، وشمسنا، وأرضنا، كانت منذ حوالي ألفى مليون سنة. ويظهر في مجال الفلك تطور يشير إلى وجود بداية مشتركة في عهد سحيق، تشهد بها أرقام علم الطيف وعلم الجيولوجيا، بل إن قطع الشهب، التي تصل إلى أرضنا في طريقها عبر الكون، تدل على نفس التاريخ منطبعا على مادتها، وذلك على أساس انحلال مادتها الإشعاعية. وإذن فقد كانت هناك، في قديم الزمان، كرة غازية متوهجة هائلة، هي الأميبا التي انبثق منها الكون. على هذا النحو تبدأ قصة التطور.
فهل هذا كل ما يمكننا أن نسأل عنه؟ لقد تتبع العلم تاريخ الكون إلى وقت يرجع إلى الوراء ألفي مليون سنة، فما الذي كان هناك قبل هذا التاريخ؟ وهل يحق لنا أن نتساءل عن كيفية ظهور الكرة الغازية الأولى إلى الوجود؟
إن من يسأل هذا السؤال يكون قد دخل أرض الفلسفة، والعالم الذي يحاول الإجابة عن هذا السؤال يتحول إلى فيلسوف؛ لذلك أود أن أوضح ما ينبغي أن يجيب به الفيلسوف الحديث.
لقد أجاب الفلاسفة التأمليون على هذا السؤال بابتداع مذهب في نشأة الكون كان يضع الخيال محل العلم؛ أن يفترض فعلا للخلق من لا شيء. وهي إجابة لا تعدو أن تكون تعبيرا عن الجهل بالموضوع، مختبئا خلف قناع لا يصعب استشفاف ما وراءه. أما إذا مضينا أبعد من ذلك، وبنينا هذه الإجابة على أساس أننا سنظل إلى الأبد جاهلين، فإننا نكون بذلك قد نسبنا إلى أنفسنا - متنكرين في ثياب التواضع - قدرة كاملة على استباق التطورات العلمية المقبلة.
أما الفيلسوف الحديث فيتخذ موقفا مغايرا؛ فهو يأبى تقديم إجابة قاطعة تؤدي إلى إعفاء العالم من مسئوليته، وكل ما يمكنه أن يفعله هو أن يوضح ما الذي يمكنه أن يوجهه من الأسئلة ذات المعنى، ويضع الخطوط العامة لعدة إجابات ممكنة، تاركا للعالم مهمة تحديد الإجابة الصحيحة في يوم ما. والواقع أن الفيزياء الحديثة قدمت مواد كثيرة تفيد في هذه المهمة المنطقية، وسوف تهتدي إلى وسائل لحلول أخرى، إذا اتضح أن الإجابات الممكنة المعروفة حاليا غير كافية.
إن السؤال عن كيفية تولد المادة من لا شيء، أو البحث عن علة أولى، علة الحادث الأول، أو الكون في مجموعه، ليس سؤالا ذا معنى؛ ذلك لأن التفسير على أساس العلل أو الأسباب يعني الإشارة إلى حادث سابق يرتبط بالحادث اللاحق من خلال قوانين عامة؛ فلو كان ثمة حادث أول، لما كان له سبب، ولما كان هناك معنى لطلب تفسير له، ولكن ليس من الضروري أن يكون هناك حادث أول؛ ففي استطاعتنا أن نتخيل أن يكون كل حادث مسبوقا بحادث أسبق، وأن الزمان ليست له بداية. ففكرة لا نهائية الزمان، في كلا الاتجاهين، لا تثير صعوبات أمام الذهن؛ إذ إننا نعلم أن سلسلة الأعداد لا نهاية لها، وأن لكل عدد عددا أكبر منه، ولو أدرجنا الأعداد السلبية، لم تكن لسلسلة الأعداد بداية بالمثل؛ إذ إن لكل عدد عددا أصغر منه . وقد عالجت الرياضيات بنجاح السلاسل اللانهائية، التي لا توجد لها بداية ولا نهاية، ولم تجد فيها شيئا ممتنعا. أما الاعتراض بأن من الضروري وجود حادث أول، أي بداية في الزمان، فيعبر عن موقف الذهن غير المدرب. فالمنطق لا ينبئنا بأي شيء عن تركيب الزمان، وهو يمدنا بوسائل معالجة السلاسل اللامتناهية التي ليست لها بداية ، مثلما يمدنا بوسائل معالجة السلاسل المتناهية التي لها بداية. فإذا كانت الشواهد العلمية تؤيد القول بزمان لا نهائي، صادر عن اللانهائية وصادر إلى اللانهائية، فليس للمنطق اعتراض على ذلك.
إن من الحجج الأثيرة لدى الفلسفات المضادة للعلم، القول إن التفسير ينبغي أن يتوقف عند نقطة ما، وإنه ستظل هناك أسئلة لا إجابة لها. غير أن الأسئلة التي يقصدونها عندئذ إنما هي أسئلة تكونت نتيجة لسوء استخدام الألفاظ. فالألفاظ التي يكون لها معنى في تجمع معين قد لا يكون لها معنى في تجمع آخر، فهل يمكن ثمة أب لم يكن له ابن أبدا؟ إن كل شخص لا بد أن يسخر من الفيلسوف الذي يرى في هذا السؤال مشكلة جدية. ومع ذلك فإن السؤال عن سبب الحادث الأول، أو سبب الكون في مجموعه، ليس أفضل من ذلك؛ فكلمة «سبب» تعبر عن علاقة بين شيئين، وهي لا تعود منطبقة عندما يكون الكلام منصبا على شيء واحد. وعلى ذلك فليس للكون في مجموعه سبب؛ لأنه لا يوجد، حسب التعريف، شيء خارجه يمكن أن يكون سببا له. والواقع أن هذا النوع من الأسئلة إنما هو لغو لفظي خاو، وليس مناقشة فلسفية.
أما العلم، فبدلا من أن يسأل عن أصل الكون، فإنه لا يستطيع أن يسأل إلا عن سبب الحالة الراهنة للكون، ومهمته تنحصر في الرجوع تدريجيا بالتاريخ الذي يمكنه على أساسه أن يصف الكون من خلال قوانين الطبيعة. وفي يومنا هذا يبلغ هذا التاريخ ألفي مليون عام، وهي مدة زمنية طويلة، من المؤكد أن استخلاصها من ملاحظات فلكية يعد عملا علميا من الطراز الأول، وقد يحدد هذا التاريخ يوما بالرجوع إلى الوراء ألفي مليون عام أخرى.
أما السبب الذي نود من أجله الرجوع بهذا التاريخ إلى الوراء، فهو أن الكرة الغازية الساخنة التي يحيط بها فضاء، ليست حالة مناسبة لتكون نقطة بداية، وإنما هي تقتضي تفسيرا من خلال تاريخ أسبق، ولا يمكن أن تكون هذه حالة استمرت طويلا؛ لأنها ليست حالة متوازنة. ومن الجائز أن الكرة الغازية ستفسر يوما على أنها سديم في كون أعظم، مر بتطور مماثل لتطور كوننا، فلسنا نعلم ماذا ستنبئنا به مناظير الغد الفلكية؛ فربما نقلت إلينا رسالة من سدم حلزونية أبعد لا تنتمي إلى نظامنا الكوني المتمدد (انظر الهامش الأخير من هذا الفصل).
على أن نظرية النسبية عند أينشتين تأتينا بتفسير أفضل لكرة الغاز الأصلية؛ ففي رأي أينشتين أن الكون ليس لا متناهيا، وإنما هو مكان من النوع الذي تسري عليه هندسة ريمان، ذو شكل كروي. وليس معنى ذلك أن الكون مقفل بنوع من القشرة الكروية، توجد بدورها في فضاء لا متناه، وإنما معناه أن مجموع المكان متناه، دون أن تكون له حدود. فحيثما كنا، نجد على الدوام مكانا محيطا بنا في الاتجاهات، ولا تبدو للعيان نهاية له، ولكنا إذا تحركنا قدما في خط مستقيم، فسوف تعود يوما ما إلى نقطة بدايتنا من الاتجاه الآخر. ونستطيع أن نشبه خواص المكان الثلاثي الأبعاد هذه بالخصائص الملاحظة لسطح أرضنا الثنائي الأبعاد، الذي يتمثل في جميع أرجائه على أنه سطح مستو تقريبا. على حين أن مجموعة من المساحات كلها مقفل، بحيث إن من يسير في خط مستقيم يعود آخر الأمر إلى نقطة بدايته. فالمكان المقفل، شأنه شأن كل المفاهيم الأخرى في الهندسة اللاإقليدية، يمكن تصويره بصريا، على الرغم من أن هذا التصور البصري يقتضي بعض المران من أجل التخلص من تعودنا على بيئة هندسية أبسط.
وقد قام العالمان الرياضيان فريدمان
Friedmann
ولوميتر
Lemaitre
بإدخال تعديل على آراء أينشتين هذه، بحيث أصبحت تقوم على افتراض أن مجموع المكان المتناهي ليس له حجم ثابت، وإنما هو يتمدد. ونستطيع أن نشبه هذا التمدد بامتداد سطح «بالون» من المطاط أثناء نفخه. فمنذ حوالي ألفي مليون عام، كان المكان الكوني صغيرا إلى حد ما، وكان يملؤه كله الغاز الأول، ولكنه منذ ذلك الوقت يتمدد بالسرعة التي تدل عليها سرعة المجرات المتباعدة. وإنه لمن الحقائق الهامة أن رياضيات النظرية النسبية تفتح المجال للقول بمثل هذا الكون المتمدد، وإن لم تكن تؤدي إلى إجابة لا لبس فيها ولا غموض؛ فمعادلات أينشتين هي ما يسميه الرياضي بالمعادلات التفاضلية، ومثل هذه المعادلات تقبل كثرة من الحلول المختلفة. ويحاول العالم الفيزيائي أن يختار الحل الذي يلائم نتائج الملاحظات على أفضل وجه؛ ففي الوقت الراهن ما زالت الملاحظات الفلكية أقل من أن تسمح بإجابة قاطعة.
ولا شك أن حل مشكلة بداية الكون كان يغدو أفضل بكثير لو أننا استطعنا أن نضع صيغة تحدد حالة سابقة بالنسبة إلى كل حالة فعلية؛ وبالتالي تتحكم في التطور الكامل لمدة لا نهائية في الماضي، بدلا من أن نترك على الدوام للعلم في مرحلة جديدة منه مهمة الرجوع بتاريخ الخطوة الأولى إلى الوراء أكثر من ذلك. والواقع أن القول بتمدد الكون يحقق هذا الإمكان؛ لأن هناك حلولا للمعادلات النسبية من شأنها أن يكون الكون قد استغرق زمنا لا نهائيا لكي ينمو من حجم الصفر إلى الحجم الصغير الذي كان عليه منذ ألفي مليون سنة. كذلك يمكن تنويع الحل إلى حد ما، بحيث يكون للمرحلة الأصلية في الماضي اللانهائي حجم متناه صغير. ونستطيع أن نضيف إلى هذه الصيغة الرياضية التفسير التالي: كان الغاز الذي يملأ الكون في حالة ثابتة، طوال الوقت الذي ظل فيه الكون صغيرا، ولم يبدأ الغاز في الانقسام إلى أجزاء منفردة تحولت بقوة الجاذبية إلى نجوم إلا بعد أن بلغ حجما معينا. والواقع أن في استطاعة الصيغة الرياضية للكون المتمدد، مقترنة بهذا التفسير، أن تجيب على جميع الأسئلة التي يكون من المعقول توجيهها، وفي هذه الحالة لن تقول إن الكون كان له في أي وقت حجم الصفر، أو حجم يبلغ الحد الأقصى من الصغر، ما دام كل ما تقول به هو وجود وحدة اتجاه متقاربة في البداية، وإن كانت ستجيب دفعة واحدة عن جميع الأسئلة من نوع «ماذا كان سبب هذه الحالة» بأن تعزو إلى كل حالة معطاة حالة سابقة؛ وعندئذ تكون الإجابة على السؤال عن أصل الكون مماثلة للإجابة على السؤال عن العدد الأصغر؛ فصيغة التمدد تقول إنه ليس للكون أصل، وإنما توجد سلسلة لا نهاية لها من الحالات التي يمكن حسابها، والمرتبة في الزمان. وبقي علينا أن نرى إن كان هذا التفسير متمشيا مع المعطيات الفلكية.
وقد قال إدنجتن
Eddington
برأي مخالف إلى حد ما، وإن كان يسير في نفس الاتجاه؛ فهو يرى أن الكون الصغير المقفل، الذي يملؤه غاز متوهج، يمكن أن يدوم وقتا طويلا؛ وبذلك يكون في حالة اتزان، على خلاف كرة الغاز المعلقة في كون لا نهائي، غير أنه لا يكون في حالة توازن ثابت من حيث إن أبسط اضطراب يحدث فيه يؤدي إلى بدء حركة تمدد، تفضي إلى التطور الذي يدوم اثني عشر ألف مليون من السنين، وهو التطور الذي تقول به قوانين الفيزياء الفلكية. ومن الممكن إثبات أن عدم الاستقرار الذي يشير إليه هذا الفهم، هو نتيجة للمعادلات النسبية. وبعد فترة التطور يصل الكون مرة أخرى إلى حالة التوازن، ولكنه يكون ميتا؛ نظرا إلى التدهور الديناميكي الحراري. وهذا معناه أن التوازن ثابت، وأن الاضطرابات البسيطة لا تستطيع أن تؤدي إلى بدء أي تغير هام. والواقع أن هذه الصورة مشابهة إلى حد يدعو إلى الدهشة لنظرية ديمقريطس وأبيقور في الذرات التي ظلت تتحرك بانتظام في الفضاء زمنا لا متناهيا، حتى حدث اضطراب بسيط، أدى عن طريق سلسلة من ردود الأفعال إلى تحويل الحركة المنتظمة إلى خليط مضطرب، تطورت منه التركيبات المعقدة لعالمنا. ويبدو أن الفيزياء القائلة باللاتحدد تقبل افتراض أبيقور الذي يقول بحدوث اضطراب بسيط لا سبب له، وهو الافتراض الذي قوبل في كثير من الأحيان بهجوم من أنصار الحتمية الدقيقة؛ فميكانيكا الكوانتم خليقة بأن تنظر إلى الغاز الأول على أنه يتعرض لتقلبات تحكمها قوانين الصدفة، وليس ثمة صعوبة في افتراض أنه قد مر وقت طويل قبل أن تنتج الصدفة حالة متغيرة تبلغ من الضخامة حدا يكفي لبدء التمدد في الكون. فالتخلي عن الحتمية يجعل من الممكن تصور بداية للتطور لا تكون خلقا، وإنما تكون نتاجا للصدفة. وتتميز تلك البداية بأنها متدرجة؛ لأن الانتقال من التغيرات التي تحدث بالصدفة إلى الاضطراب (الذي يبدأ به التطور) مستمر، ولا يمكن أن يعزى إلى نقطة زمنية معينة.
وهناك أيضا احتمال لحل مختلف كل الاختلاف؛ فدراسة الترتيب الزمني قد أفضت بنا إلى النتيجة القائلة إن اتجاه الزمان مستمد من عدم قابلية العمليات الديناميكية الحرارية للانعكاس؛ وهو بالتالي مسألة إحصائية (انظر الفصل العاشر). ومن المحتمل جدا - وإن لم يكن من المؤكد على نحو مطلق - أن الطاقة تسير في خط هابط من أشكال أعلى إلى حالة من الحرارة المتجانسة؛ وعلى ذلك فإن هذا المسار الهابط للكون هو مسألة إحصائية، وليس من المستحيل أن تحدث عمليات عكسية، وأن يسير الكون في مسار صاعد وقتا ما. والواقع أن العبارة «وقتا ما» في هذه الجملة معنى مشكوك فيه؛ لأنه إذا كان الكون يتجه في مسار صاعد، فإن ما نسميه باتجاه الزمان يكون اتجاها عكسيا؛ وعندئذ ينظر البشر الذين يعيشون في فترة كهذه إلى هذا الاتجاه العكسي على أنه اتجاه «الصيرورة». والواقع أن هذا الاحتمال الذي نشير إليه، والذي تصوره بولتسمان
Boltzmann
لا يعني أقل من أنه لا يوجد تعاقب زمني في خط واحد بالنسبة إلى الكون بأسره، وإنما ينحل الزمان إلى خيوط متفرقة، لكل منها ترتيب متسلسل، على حين أنه لا يوجد زمان أعلى يمكن ترتيب الخيوط ذاتها على أساسه. فالزمان في كل خيط يستنفد نحو كلا الطرفين، دون أن ينتهي في نقطة فاصلة محددة المعالم، وكأنه نهر يصب في صحراء. وقد يكون الامتداد الزمني الذي يعزوه الفلكيون إلى كوننا، من ألفي مليون سنة في الماضي إلى عشرة آلاف مليون سنة في المستقبل قد يكون واحدا من هذه الخيوط الزمنية . والواقع أنه لم تجر أبحاث كثيرة حول طبيعة هذا الزمان المتقطع، ولكن ليس من شك في أنه يمدنا بأحد الأشكال الممكنة لحل مشكلة الزمان.
وبهذه المناسبة، فمن الواجب الربط بين رأي إدنجتن في بداية العالم بدوره وبين مثل هذا التحليل للزمان؛ فكما يقول إدنجتن، فإن فترة التطور هي وحدها التي يمكن، تبعا لهذا الرأي ، أن تعد ذات زمان، أما فترتا التوازن الطويلتان قبل هذا الخيط الزماني وبعده فلا يمكن أن يقال إن لهما ترتيبا زمنيا؛ لأنهما لا تمثلان عملية غير قابلة للانعكاس؛ وعلى ذلك فليس ثمة فارق كبير بين النظر إليهما على أنهما متناهيتان أو على أنهما لا متناهيتان. فالقول بأنهما متناهيتان، والسؤال عما كان قبل الفترة الراكدة الأولى، أو ما سيكون بعد الثانية؛ يعني استخدام زمان أعلى
Supertime . رأينا من قبل أن من المستحيل تعريفه على نحو ذي معنى. ويبدو أنه ليس ثمة سبب لوصف الكون على أساس مقياس زماني لا متناه، هو على أية حال صيغة رياضية أكثر منه نتيجة يؤيدها الواقع الفيزيائي. فمن الممكن دائما تفسير الظواهر الملاحظة على أساس خيط زماني متناه، يمتد من حالة لا زمانية إلى أخرى دون نقطة بداية أو نقطة نهاية محددة المعالم.
هذه بعض الإجابات الممكنة للسؤال عن أصل الكون. أما الإجابة الحقيقية فسوف يقررها العلم يوما ما. وما زال الجدل يثور حول مشكلة الكون الذي هو مقفل ولكنه متمدد؛ إذ إن الأدلة الفلكية المتوافرة بشأنها الآن ليست قاطعة، ولا بد للوصول إلى حل من انتظار مواد مستمدة من الملاحظة، تزيد بكثير عما هو موجود.
2
وعلى الرغم من صعوبة الاهتداء إلى إجابة، فليس ثمة سبب يدعو إلى إقفال باب المناقشة في موضوع التطور بتأكيد قطعي نجزم فيه بأننا «لن نعرف أبدا». فأولئك الذين يؤمنون أن الكلمة الأخيرة ينبغي أن تكون من هذا النوع، يتعين عليهم أن يعيدوا اختبار أسئلتهم، وسيجدون أن ما كانوا يسألون عنه لا معنى له؛ فليس مما له معنى أن يتساءل المرء عن سبب الكون، بل إن كل تفسير ينبغي أن يبدأ بأمر واقع معين. وكل ما يستطيع العلم أن يفعله هو أن يعود بالأمر الواقع إلى موضع منطقي معين يكون فيه قادرا على تقديم أقصى حد من التفسير.
إن استبعاد الأسئلة التي لا معنى لها من مجال الفلسفة أمر عسير؛ لأن هناك نوعا معينا من العقلية يسعى إلى البحث عن أسئلة لا يمكن الإجابة عنها. على أن الرغبة في إثبات أن للعلم قدرة محدودة، وأن أسسه النهائية تعتمد على نوع من الإيمان لا على المعرفة، هي رغبة يمكن تفسيرها على أساس علم النفس والتربية، ولكنها لا تجد تأييدا من المنطق؛ فهناك علماء يشعرون بالفخر عندما تنتهي محاضراتهم عن التطور بدليل مزعوم على أنه ستبقى هناك أسئلة يعجز العالم عن الإجابة عليها. وكثيرا ما يستشهد الناس بآراء هؤلاء العلماء بوصفها دليلا على عدم كفاية الفلسفة العلمية. ومع ذلك فكل ما تثبته هذه الآراء هو أن الإعداد العلمي لا يكفي في كل الأحيان لإكساب العالم القدرة على مقاومة إغراء تلك الفلسفة التي تدعو إلى الاستسلام لنوع من الإيمان. أما من كانت الحقيقة ضالته المنشودة فعليه ألا يستسلم لتخدير الاعتقادات المسلم بها؛ حتى لا تهدأ في نفسه سورة البحث؛ ذلك لأن العلم سيد نفسه، وهو لا يعترف بسلطة تخرج عن حدوده.
الفصل الثالث عشر
المنطق الحديث
أصبح تكوين المنطق الرمزي سمة من أبرز سمات الفلسفة العلمية؛ فهذا المنطق، الذي كان في الأصل شفرة سرية لا تفهمها إلا جماعة صغيرة من الرياضيين، قد أخذ يجذب انتباه دارسي الفلسفة على نحو متزايد، لهذا فإن تقديم عرض موجز للتطور الذي أدى إلى ظهور المنطق الرمزي، ولمشكلاته وحلوله، قد يكون أمرا يرحب به كل من يتوافر لديهم الوقت الكافي للقيام بدراسة متخصصة لهذا الفرع الفلسفي الجديد.
إن علم المنطق اكتشاف يوناني. وليس معنى ذلك أنه لم يكن هناك تفكير منطقي قبل اليونانيين، إذ إن التفكير المنطقي قديم قدم التفكير ذاته، وكل فعل فكري ناجح يخضع لقواعد المنطق. غير أن تطبيق هذه القواعد دون وعي في عمليات التفكير العملي شيء، وصياغتها بصورة واضحة من أجل جمعها على شكل نظرية شيء آخر. ولقد كان هذا البحث المخطط في القواعد المنطقية هو الذي بدأ على يد أرسطو.
وقد ركز أرسطو أبحاثه في ميدان أصبحنا نعلم اليوم أنه باب خاص جدا من أبواب المنطق. فقد صاغ قواعد الاستدلال الخاص بالفئات، أي الاستدلال المتعلق بعضوية الفئات. والمقصود بالفئة كل أنواع المجموعات أو الكليات؛ مثل فئة البشر، أو القطط، فكون سقراط إنسانا هو بالنسبة إلى المنطق، مثال لعضوية الفئة؛ إذ إن سقراط عضو في فئة الناس، ويسمى الاستدلال المتعلق بعضوية الفئة قياسا. مثال ذلك أن نستدل من المقدمتين «كل إنسان فان» «وسقراط إنسان» على النتيجة «سقراط فان».
هذا النوع من الاستدلال يبدو لأول وهلة ضئيل القيمة، غير أن مثل هذا الحكم ليس فيه إنصاف لأرسطو. فما كشفه أرسطو هو أن للاستدلال صورة ينبغي التمييز بينها وبين مضمونه. فالعلاقة بين المقدمتين والنتيجة، كما تتمثل في الاستدلال المتعلق بسقراط، مستقلة عن الفئات الخاصة المشار إليها، وهي تظل سارية على غيرها من الفئات والأفراد المناسبين أيضا، وبفضل دراسة أرسطو للصور المنطقية، اتخذ الخطوة الحاسمة التي أدت إلى قيام علم المنطق. وقد صاغ بوضوح بعض المبادئ الرئيسية للمنطق؛ مثل مبدأ الهوية ومبدأ التناقض.
غير أن أرسطو لم يقم إلا بالخطوة الأولى؛ فمنطقه لا يسري إلا على بعض الصور الخاصة للعمليات الفكرية. ولكن هناك، إلى جانب الفئات، علاقات. والعلاقة ليس لها أعضاء أفراد، وإنما تشير إلى أزواج من الأعضاء (أو إلى مجموعات ثلاثية، أو إلى مجموعات تضم عددا أكبر). فكون إبراهيم أبا إسحق هو حقيقة تتعلق بإبراهيم وإسحق، وبالتالي تحتاج للتعبير عنها إلى العلاقة «أبو ...» وبالمثل إذا كان زيد أطول من عمرو، فإن علاقة «أطول من» تسري فيما بين هذين الشخصين. فالاستدلالات الخاصة بالعلاقات لا يمكن التعبير عنها في منطق الفئات؛ مثال ذلك أن منطق أرسطو لا يستطيع أن يثبت أنه إذا كان إبراهيم أبا إسحق، فإن إسحاق ابن إبراهيم،
1
فمنطقه لا يملك وسيلة التعبير عن صورة هذا الاستدلال.
وإن المرء ليميل إلى الاعتقاد بأنه لم يكن من العسير على مكتشف منطق الفئات أن يمتد بعمله إلى منطق العلاقات، ما دامت اللغة التي كان يتكلمها لم تكن تقل تطورا عن لغتنا، وكانت لها كل الصور النحوية اللازمة لمعالجة العلاقات. وفضلا عن ذلك فقد عرف أرسطو بوجود العلاقات، ففي كتابه عن المقولات يشرح بوضوح تام أن علاقة مثل «أكبر من» تقتضي شيئين تسري فيما بينهما. ولكنه لا يمتد بنظريته في الاستدلال بحيث تشمل العلاقات. وقد يكون السبب هو أن اهتمام واضع منطق الفئات بالمسائل الأقرب إلى الطابع الميتافيزيقي كان أعظم من أن يتيح له الوقت اللازم لإكمال عمله المنطقي. ولكن إذا صح ذلك فقد كان في استطاعة واحد من تلاميذه أن يضع منطقا للعلاقات. غير أن العجيب أن شيئا من ذلك لم يحدث، ويبدو أن أرسطو لم يدرك أبدا أن لمنطقه حدودا لم يستطع أن يتعداها. ولم يضف تلاميذه إلا تفصيلات قليلة، ولكنهم لم يتجاوزوا عمل أستاذهم في أي موضوع أساسي. ولم يطرأ تغير إلى الأحسن في القرون التالية. وهكذا تتمثل في تاريخ المنطق صورة عجيبة لعلم ظل طوال أكثر من ألفي عام في نفس المرحلة الأولية التي تركه فيها مؤسسه.
فما هو تفسير هذه الحقيقة التاريخية؟ إن تاريخ المنطق يبدو، بالقياس إلى التقدم الهائل الذي أحرزته الرياضة وأحرزه العلم خلال هذه الأعوام الألفين، أشبه ببقعة جرداء في بستان المعرفة. فما السبب الذي يمكننا أن نعلل به هذا الركود؟
إن المنطق يحتاج، أكثر من أي مبحث آخر في الفلسفة، إلى معالجة فنية متخصصة لمشكلاته. فالمشكلات المنطقية لا تحل بلغة مجازية، وأيضا تقتضي دقة الصياغة الرياضية، بل إن مجرد التعبير عن المشكلة يكون في كثير من الأحيان مستحيلا بدون مساعدة لغة تماثل في دقتها لغة الرياضيات. ولقد كان الفضل الذي ينبغي أن ينسب إلى أرسطو ومدرسته هو أنهم هم الذين وضعوا الأسس الأولى للغة فنية دقيقة للمنطق، وهي لغة أضافت إليها العصور الوسطى بضعة عناصر ضئيلة القيمة. ولكن ذلك كل ما تم في هذا الاتجاه خلال ألفي عام. وعلى حين أن كبار الرياضيين قد استحدثوا لعلمهم أسلوبا فنيا ذا كفاءة عالية، فإن التجاهل كان من نصيب أسلوب المنطق، بل إن المنطق التقليدي يتمثل على الصورة الهزيلة لعلم لم يكن أبدا مجالا لعمل رجل عظيم. فيبدو أن أولئك الذين وهبوا أعظم قدرة على التفكير المجرد لم يجذبهم المنطق، وإنما اجتذبهم العلم الرياضي الذي كان يتيح لهم فرصا أعظم للنجاح. وهذا الحكم يصدق حتى على عهد أرسطو؛ إذ إن التحليل المنطقي الذي مارسه رجال مثل فيثاغورس وإقليدس في ميدان الرياضة يفوق بكثير تلك الكشوف التحليلية التي تم الوصول إليها في منطق أرسطو. ولولا مساعدة العقل الرياضي، لظل المنطق محكوما عليه بالبقاء في مرحلة الطفولة. وعلى الرغم من أن «كانت» لم يستطع أن يستحدث منطقا أفضل، فإنه قد أصدر حكما صحيحا على الموقف عندما أعرب عن دهشته لأن المنطق هو العلم الوحيد الذي لم يحرز أي تقدم منذ بداية عهده.
ولقد كان أول رياضي عظيم اتجه اهتمامه صوب المنطق هو ليبنتس. وكانت النتائج التي توصل إليها ثورية؛ إذ كان هو أول من وضع برنامج التدوين الرمزي، ولو كان قد أبدى في تنفيذ هذا البرنامج نفس الجهد والعبقرية اللذين أبداهما في اختراعه لحساب التفاضل، لعجل بظهور المنطق الرمزي قبل مائة وخمسين عاما من موعد ظهوره الفعلي. غير أن عمله ظل غير مكتمل، وغير معروف في عصره، وكان لزاما على كتاب القرن التاسع عشر أن يجمعوه من رسائله ومن مخطوطاته غير المنشورة. وكانت نقطة التحول في تاريخ المنطق هي منتصف القرن التاسع عشر، عندما شرع رياضيون مثل بول
Boole
ودي مورجان
de Morgan
في التعبير عن مبادئ المنطق بلغة رمزية من نوع التدوين الرياضي. واستمر بناء المنطق الرمزي على أيدي رجال مثل بيانو
G. Peano
وبيرس
C. S. Peirce
وشرودر
E. Schroeder
وفريجه
G. Frege
ورسل
B. Russell
الذين بدأ بفضلهم نوع جديد من الفيلسوف، هو المنطقي الرياضي، يدخل ساحة التاريخ.
ويتميز المنطق الجديد، شأنه شأن فلسفة المكان والزمان، بأنه لم يحقق نموه من داخل الفلسفة التقليدية ، بل من ميدان الرياضيات؛ فقد اكتشف الرياضيون مجالا ظل تفكيرهم يتجاهله طويلا، يتيح فرصا لمعالجة فنية شبيهة بالمعالجة الفنية للرياضيات. وبفضل بناء المنطق الرمزي أسهم القرن التاسع عشر بنصيب آخر في الفلسفة. ولو نظرنا إلى موقع القرن التاسع عشر في تاريخ الفكر على النحو الذي أوضحناه من قبل، لبدا مثل هذا التطور طبيعيا، فقد طبقت على مجال المنطق تلك المحاولة التي ترمي إلى إيجاد أسلوب فني قابل للتطبيق عمليا، وهي المحاولة التي أحرزت نجاحا كبيرا في جميع العلوم. وفي الوقت ذاته تبين أن الأسلوب الفني للمنطق يكون أداة للبحث في أسس المعرفة، وهو بدوره بحث يبدو نتيجة طبيعية لتعقد التفكير العلمي وازدياد دقته، وهكذا بدأت البقعة الجرداء في بستان المعرفة تحرث بذلك الأسلوب الرياضي الذي كان قد أحرز تقدما عظيما.
ولكن لماذا يعد إدخال التدوين الرمزي أمرا له كل هذه الأهمية بالنسبة إلى علم المنطق؟ إن له تقريبا نفس أهمية التدوين الرياضي الجيد. فلنفرض أن أمامك مسألة مثل: «لو كان زيد أصغر خمس سنوات، لكان سنه ضعف سن عمرو عندما كان هذا الأخير أصغر بست سنوات، ولو كان زيد أكبر بتسع سنوات، لكان سنه ثلاثة أضعاف سن عمرو عندما كان هذا الأخير أصغر بأربع سنوات» فإذا حاولت أن تحل هذه المسألة مباشرة بإجراء عمليات الجمع والطرح والبحث في كل حالات «لو»، لوصلت بعد فترة قصيرة إلى نوع من الدوار وكأنك تركب أرجوحة. ولكن لتأخذ بعد ذلك قلما وورقة، وترمز إلى سن زيد بالحرف «س» وإلى سن عمرو بالحرف «ص»، ولتكتب المعادلات الناتجة وتحلها بالطريقة التي تعلمتها في المدرسة الثانوية، وعندئذ ستدرك قيمة أسلوب التدوين الجيد، وينطوي المنطق بدوره على مشكلات مماثلة. فلنتأمل المثال الآتي: «إن من المؤكد أن كليوباترا لم تكن حية في عام 1938 ولم تكن متزوجة من هتلر ولا من موسوليني.» فما الذي تعنيه هذه المجموعة من العبارات؟ إن المنطقي الرياضي يوضح لك كيفية كتابتها بالرموز، ثم يحول التعبير عن طريق عمليات مماثلة لتلك التي تعلمت أن تستخدم بها «س» و«ص»، وينبئك أخيرا بأن الجملة تعني أنه «لو كانت كليوباترا حية في عام 1938 لتزوجت من هتلر أو موسوليني.» وأنا لا أود أن أقول إن التصريح الذي كشفنا عنه ذو أهمية سياسية كبرى، غير أن المثل يوضح فائدة الأسلوب الفني الرمزي. وليس في وسعنا أن نوضح هنا كيفية تطبيق التدوين على مشكلات لها أهمية أعظم، ومع ذلك فمن الواضح أن التدوين على مشكلات لها أهمية أعظم، ومع ذلك فمن الواضح أن التدوين الرمزي يفيد أيضا إذا طبق على صياغة المسائل الفنية في العلوم.
وليس التدوين الرمزي أداة لحل المشكلات فحسب، بل إنه أيضا يوضح المعاني ويزيد من القدرة على ممارسة التفكير المنطقي. وإني لأذكر أن أحد تلاميذي كان قد أصيب في حادث سيارة أثر على مخه تأثيرا بسيطا، فكان يشكو من صعوبة في فهم الجمل المعقدة، فأعطيته تمرينات من النوع الذي أشرت إليه من قبل، واستطاع أن يحلها بمساعدة التدوين الرمزي، وبعد أسبوع أو اثنين أخبرنا أن تفكيره قد طرأ عليه تحسن كبير.
وفضلا عن ذلك فقد وجد المنطق الرمزي ميدانا هاما تطبق نتائجه عليه، هو التحليل النحوي للغة. ذلك لأن النحو الذي تعلمناه في المدارس قد نشأ من المنطق الأرسططالي، وهو لا يصلح للتعبير بدقة عن تركيب اللغة. ولقد أدى عجز أرسطو المؤسف عن الانتقال إلى منطق للعلاقات - أدى بالنحويين إلى الأخذ بالفكرة القائلة أن كل جملة ينبغي أن يكون لها مبتدأ أو خبر، أو فعل وفاعل، وهو تفسير غير كاف بالنسبة إلى عدد كبير من الجمل. صحيح أن الجملة «زيد طويل» فيها مبتدأ هو «زيد» وخبر هو «طويل». ولكن الجملة «زيد أطول من عمرو» فيها اسمان متساويان في أهميتهما، هما «زيد» و«عمرو»، ما دام الخبر، وهو «أطول من» علاقة. وهكذا فإن سوء فهم التراكيب اللغوية، الناشئ عن التمسك بالمنطق الأرسططالي، أدى إلى إلحاق ضرر بالغ بعلم اللغة.
والحق أن التعاون بين المنطقي وعالم اللغة يبشر بخير كثير. مثال ذلك أن طبيعة الصفة والحال وإعراب الأسماء والأفعال والجمل الموصولة وكثير غيرها من السمات اللغوية، تظهر في ضوء جديد عندما ينظر إليها بأعين المنطقي.
2
وأن الدراسة المقارنة للغات المختلفة لتفتح أمامها آفاق جديدة عندما يصبح المحور الذي تدور حوله نظاما محايدا، هو اللغة الرمزية للمنطق، التي تتيح لنا الحكم على مختلف وسائل التعبير في كل لغة على حدة.
ولقد اقتصر حديثي حتى الآن على الفائدة العملية للتدوين الرمزي. ومع ذلك فإن للتدوين الجيد فائدة نظرية أيضا، فهو يتيح للمنطقي كشف وحل مشكلات لم يكن يستطيع أن يدركها من قبل.
لقد أتاح بناء المنطق الرمزي البحث في العلاقات بين المنطق والرياضة من زاوية جديدة. فلماذا يوجد لدينا علمان مجردان للبحث في نواتج الفكر؟ قام برتراند رسل وألفرد نورث وايتهد
A. N. Whitehead
بدراسة هذه المسألة، وتوصلا إلى الإجابة القائلة أن الرياضة والمنطق آخر الأمر شيء واحد، وأن الرياضة ليست إلا فرعا للمنطق وجهت فيه عناية خاصة إلى التطبيقات الكمية. وقد عرضا هذه النتيجة في كتاب ضخم، كتب بأكمله تقريبا بطريقة التدوين الرمزي للمنطق. وكانت الخطوة الحاسمة في البرهان على هذا الرأي هي تعريف رسل للعدد، فقد بين رسل أن الأعداد الصحيحة، وهي 1، 2، 3 ... إلخ، يمكن تعريفها من خلال التصورات الأساسية للمنطق فحسب. ومن الواضح أن مثل هذا البرهان لم يكن من الممكن الإتيان به دون مساعدة من التدوين الرمزي؛ إذ إن لغة الكلمات أشد تشابكا وتداخلا من أن تعبر عن علاقات منطقية تتصف بهذا القدر من التعقيد.
وبإرجاع رسل الرياضة إلى المنطق على هذا النحو، فقد أكمل تطورا بدأ بالتغيير الذي طرأ على الهندسة، وهو التغيير الذي وصفته من قبل بأنه قضاء على المعرفة التركيبية القبلية، ذلك لأن «كانت» كان يعتقد أن الحساب، لا الهندسة فقط، له طبيعة تركيبية قبلية. ولكن رسل أوضح، بإثباته أن أساسيات الحساب يمكن أن تستمد من المنطق الخالص، أن الضرورة الرياضية ذات طبيعة تحليلية. فليس ثمة عنصر تركيبي قبلي في الرياضيات.
ولكن إذا كان المنطق تحليليا، فإنه فارغ، أي أنه لا يعبر عن خصائص الموضوعات الفيزيائية. ولقد حاول الفلاسفة العقليون مرارا أن ينظروا إلى المنطق على أنه علم يصف بعض الخصائص العامة للعالم، أعني علما للوجود، أو أنطولوجيا. وهم يعتقدون أن مبادئ مثل «كل شيء في العالم في هوية مع ذاته» تنبئنا بخصائص عن الأشياء. ولكن فاتهم أن كل المعلومات التي تمدنا بها هذه الجملة إنما تنحصر في تعريف يحدد شروط استخدام كلمة «الهوية»، وأن ما نعرفه من الجملة ليس صفة للأشياء، وإنما هو قاعدة لغوية. فالمنطق يصوغ قواعد اللغة ولهذا كان المنطق تحليليا وفارغا.
وأود أن أوضح بمزيد من الدقة تلك الطبيعية التحليلية للمنطق، والسبب الذي يوصف المنطق من أجله بأنه فارغ. فالمنطق يربط جملا على نحو من شأنه أن يكون التجمع الناتج صحيحا على نحو مستقل عن صحة الجمل المنفردة. مثال ذلك أن التجمع الآتي للجمل: «لو أن نابليون أو قيصر لم يبلغا سن الستين، فإن نابليون لم يبلغ سن الستين» هذا التجمع صحيح سواء أكان نابليون، أو قيصر، قد مات بالفعل قبل سن الستين أم لم يكن، وعلى ذلك فإن هذا التجمع لا ينبئنا عن السن الذي بلغه الشخصان المشار إليهما، وهذا هو المقصود بكون المنطق فارغا، ومن جهة أخرى، فإن المثل يوضح لماذا كانت العلاقات المنطقية صحيحة بالضرورة؛ فهي صحيحة لأن أية ملاحظة تجريبية لا يمكنها أن تكذبها، فلو رجعنا إلى أحد القواميس ووجدنا أن نابليون مات في سن الرابعة والخمسين، فإن هذه النتيجة لا تكذب التجمع السابق للجمل، وكذلك فإننا لو وجدنا أن نابليون مات في سن الخامسة والستين، لما أدت هذه النتيجة بدورها إلى تكذيبه. فالضرورة المنطقية والفراغ صفتان متلازمتان، وهما معا تؤلفان الطابع التحليلي للمنطق، أو صفة تحصيل الحاصل فيه. فكل العبارات المنطقية البحتة تحصيل حاصل، كالمثل الذي أوردناه من قبل، وهي لا تقول شيئا، وبالتالي فإن ما تنبئنا به لا يزيد ولا ينقص عما ينبئنا به تحصيل الحاصل الآتي: «غدا ستمطر السماء أو لا تمطر.» ومع ذلك فليس من السهل دائما كشف الطابع التحليلي لتجمع من الجمل. فلنتأمل مثلا التجمع الآتي: «إذا كان أي شخصين يحب كل منهما الآخر أو يكره كل منهما الآخر، فإما أن يكون هناك شخص يحب الناس جميعا، وإما أن يكون لكل شخص شخص آخر يكرهه.» إن المنطق يثبت أن هذا التجمع تحليلي، وإن لم يكن الطابع التحليلي واضحا على الإطلاق.
ولقد أثار رأي رسل في الطابع التحليلي للرياضيات اهتماما عظيما، وأبدى بعض الرياضيين نفورا من ذلك التفسير الذي يقدمه رسل لعلمهم، والذي لا تختلف فيه النظريات الرياضية، من حيث فراغها، عن مبادئ المنطق. ولكن هذا الحكم يكشف عن سوء فهم لطبيعة المنطق؛ إذ إن وصف الرياضيات بأنها تحليلية لا ينطوي على أي إقلال من شأنها. بل إن فائدة التفكير الرياضي ذاتها إنما تستمد من طبيعته التحليلية. فكون النظريات الرياضية فارغة، هو ذاته الذي يجعلها مضمونة على نحو مطلق، ويسمح باستخدامها في العلوم الطبيعية. ولكن لا يمكن تكذيب أية نتيجة علمية باستخدام الرياضة، لأن الرياضة لا تستطيع أن تضيف إلى العلم مضمونا خفيا لم يتم إثباته. ومع ذلك فالقول إن العلاقات الرياضية فارغة لا يعني أن من السهل الاهتداء إليها، فكشف العلاقات الفارغة، كما أوضحنا من قبل، يمكن أن يكون عملا شديد الصعوبة، وإن مقدار الجهد والبراعة اللازمين في الرياضة لدليل على الأهمية البالغة للبحث الرياضي.
ولقد استخدم المنطق الرمزي على نطاق واسع في وضع مبحث رياضي جديد أرسيت دعائمه في القرن التاسع عشر: هو نظرية المجموعات
sets . وكلمة «المجموعة» لها نفس معنى كلمة «الفئة
Class » الذي أوضحناه من قبل في صدد المنطق الأرسططالي. ولكن ما أعظم الفارق بين نظرية المجموعات كما وضعها رياضيو القرن التاسع عشر، وبين حساب الفئات في المنطق الأرسططالي! الحق أنه من غير المفهوم أن يظل منطق الفئات يملأ الكتب المدرسية في المنطق، في وقت يختلف عن عهد أرسطو بقدر ما تختلف القطارات الحديدية عن العربة التي تجرها الثيران.
غير أن المنطق الرمزي لم يجلب النجاح لعالم المنطق على الدوام؛ فقد أوقعه أيضا في صعوبات كشف عنها رسل وصاغها في نقائض منطق الفئات. ولنضرب مثلا نوضح به المشكلة.
إننا نستطيع، عندما نتأمل صفة، أن نتساءل عما إذا كانت هذه الصفة ذاتها لديها نفس الصفة، ولكن الأمر عادة لا يكون كذلك؛ فالصفة أحمر ليست حمراء. ولكن الأمر يختلف في صفات أخرى: فصفة «القابلية للتخيل» يمكن تخيلها، والصفة «محدد» هي ذاتها محددة، والصفة «قديم» هي ذاتها قديمة؛ إذ إن من المؤكد أنها موجودة حتى في عصر ما قبل التاريخ. فلنستخدم اسم «القابل للحمل
» للدلالة على هذا النوع الثاني من الصفات، أما الصفات الأخرى فسوف نسميها «غير القابلة للحمل
impredicable ». وهنا نجد تصنيفا جامعا مانعا؛ فكل صفة إما أن تكون قابلة للحمل وإما ألا تكون. فضمن أية فئة إذن ينبغي أن نصنف الصفة «غير قابل للحمل»؟
لنفرض أن الصفة «غير قابل للحمل» قابلة للحمل، وعندئذ تكون متصفه بالصفة التي تدل عليها، مثل «قابل للتخيل»، ومن ثم تكون الصفة «غير قابل للحمل» غير قابلة للحمل، ولكن لنفرض أن الصفة «غير قابل للحمل» غير قابلة للحمل. والفرض الذي قلنا به يقرر أن «غير قابل للحمل» لها نفس الصفة التي تدل عليها، وعلى ذلك فإن «غير قابل للحمل» قابلة للحمل، وهكذا فإننا كيفما صنفنا الصفة «غير قابل للحمل»، وصلنا إلى تناقض.
هذا النوع من النقائض يمثل مشكلة خطيرة. ولو شئنا أن يكون المنطق موثوقا به على نحو مطلق، فلا بد أن يكون لدينا ضمان بأنه لن يؤدي إلى متناقضات. وإنه لمن الحقائق الطريفة أن المناطقة القدماء ذاتهم قد وضعوا نقائض، اشتهرت من بينها مفارقات زينون. ومع ذلك فإن النظرية الحديثة في الفئات تؤدي إلى استبعاد معظم هذه المفارقات، وذلك عن طريق تحليل تصور «اللامتناهي» على نحو أدق. أما نقيضة رسل فتحتاج إلى علاج أجرأ. فهي تدل على أنه ليس كل تجمع للكلمات يمكن أن يقبل على أنه عبارة ذات معنى، وتدل على أن بعض التجمعات، وإن كانت تتخذ صورة جملة، ينبغي أن تعد تجمعات لا معنى لها، مثال ذلك أن الجملة (الصفة «محدد» محددة)، وإن كانت تبدو معقولة لأول وهلة، ينبغي أن تستبعد من مجال الجمل التي لها معنى. وقد صاغ رسل قيود اللغة هذه في نظريته في الأنماط
theory of types ، وبمقتضاها تكون صفة الصفة من نمط أعلى من صفة الشيء. هذا التمييز يجعل صياغة النقيضة مستحيلا، وبذلك يخلص المنطق من المتناقضات.
فهل نحن على ثقة من أن المناطقة لن يكتشفوا أبدا أنواعا أخرى من النقائض؟ وهل لدينا ضمان بأن المنطق بريء من التناقض؟ هذه المشكلة شغلت الرياضي الألماني «هلبرت
Hilbert »، وهو من أعظم الرياضيين في عصرنا. فبدأ سلسلة من الأبحاث التي كانت تهدف إلى إيجاد برهان على أن المنطق والرياضة بريئان من التناقض. وقد واصل آخرون عمله، غير أن البرهان لم يقدم حتى الآن إلا بالنسبة إلى نظم منطقية بسيطة إلى حد ما. وقد نشأت صعوبات من تطبيق هذا البرهان على ذلك النظام المعقد للرياضيات، الذي يستخدمه الرياضي الحديث، وما زال من الأمور غير المؤكدة إن كان البرنامج الذي وضعه هلبرت للبرهنة على الاتساق أمرا يمكن تنفيذه أم لا. أما ما سيكونه الجواب، فتلك مشكلة من مشكلات المنطق الحديث التي لم تحل. وقد يكون في وجود أمثال هذه المشكلات دليل على أن المنطق الحديث ما زال في حاجة إلى مزيد من الأبحاث، فما زال من الواجب القيام بقدر هائل من التحليل، من نوع لم يكن يمكن تصوره في ظل المنطق التقليدي.
ولقد أدت دراسة النقائض ونظرية الأنماط إلى تمييز له أهميته العظمى: هو التمييز بين اللغة واللغة البعدية
metalanguage (واللفظ
meta
الذي يسبق الكلمة الإنجليزية من أصل يوناني بمعنى «ما بعد»). فعلى حين أن اللغة المعتادة تتحدث عن أشياء، فإن اللغة البعدية تتحدث عن اللغة. وعلى ذلك فإننا عندما نضع نظرية في اللغة فإنما نتحدث «لغة بعدية». ومن الوسائل المألوفة في التعبير عن الانتقال إلى اللغة البعدية استخدام علامات الاقتباس
quotation marks . فعندما نتحدث عن اللفظ «زيد» نضعه بين هذه العلامات، ونوضح بذلك أننا لا نتحدث عن الشخص. فنحن نقول مثلا إن «زيد» لها ثلاثة حروف على حين أن زيدا يلعب الكرة. ولو حدث خلط بين اللغتين ، لنتجت نقائض معينة، ومن هنا كان التمييز بين مستويات اللغة شرطا ضروريا للمنطق. فالجملة «ما أقوله الآن كذب» تؤدي إلى متناقضات؛ لأنها لو كانت صادقة، لكانت كاذبة، ولو كانت كاذبة، لكانت صادقة، ولكن من الواجب النظر إلى مثل هذه الجمل على أنها لا معنى لها؛ لأنها تتحدث عن ذاتها، وتخالف التمييز بين مستويات اللغة .
ولقد أدت دراسة اللغة البعدية إلى نظرية عامة في العلامات، يطلق عليها في كثير من الأحيان اسم «علم المعاني
Semantics or Semiotics » وهو مبحث يختص بدراسة خواص جميع أشكال التعبير اللغوي، ويشتمل هذا اللفظ على علامات مثل علامات المرور، أو على صور، تستخدم كاللغة اللفظ على علامات مثل علامات المرور، أو على صور، تستخدم كاللغة المنطوقة بوصفها أدوات لتوصيل المعاني إلى أشخاص آخرين. وتقوم نظرية العلامات، مستعيذة بعلم النفس الحديث، بدراسة الارتباطات الانفعالية الشديدة لأنواع مختلفة من اللغات، كالشعر أو اللغة الخطابية. فالمنطق لا يبحث إلا في الاستخدام المعرفي للغة، أما البحث في اللغة بوصفها أداة أو وسيلة، فيقتضى علما آخر، هو علم المعاني
semantics
وهكذا فإن ظهور المنطق الحديث قد أدى إلى بعث الحياة في علم آخر، يعالج الخصائص اللغوية التي تستبعد، وينبغي أن تستبعد، في التحليل المنطقي.
وإلى جانب فائدة المنطق الرمزي في الرياضيات، فقد اكتسب أهمية بالنسبة إلى علوم أخرى. فعندما اكتشف الفيزيائيون أن ميكانيكا الكوانتم تؤدي إلى عبارات معينة لا يمكن التحقق من صدقها أو كذبها (انظر الفصل الحادي عشر)، أمكن إدراج أمثال هذه القضايا في إطار منطق ثلاثي القيم، أعني منطقا يضع. «اللاتحدد» بين قيمتي الصدق والكذب، وقد أمكن بناء هذا المنطق بأساليب المنطق الرمزي حتى قبل أن يفكر أي شخص في تطبيقه على الفيزياء. وبالمثل فقد وضعت أشكال أخرى في المنطق المتعدد القيم
multivalued logic
وأحد هذه الأشكال يستخدم في تفسير القضايا الاحتمالية، وهو يستعيض عن قيمتي الصدق والكذب بسلم متصل من الاحتمالات، يتراوح بين صفر وواحد.
وفضلا عن ذلك فقد طبق المنطق الرمزي في تحليل البيولوجيا، وهو يبشر بنتائج مثمرة في دراسة العلوم الاجتماعية. بل أن من الممكن استخدامه في صياغة المشكلات المنطقية على نحو من شأنه أن يتيح «تغذية» آلة حاسبة إلكترونية بها. وقد يتمكن عقل آلي حديث كهذا، في يوم ما، من حل مشكلات منطقية تتحدى قدرات المخ البشري، مثلما يحل هذا العقل الآن بالفعل مشكلات رياضية. ولقد سبق أن أعرب ليبنتس من الرأي القائل أن المنطق الرمزي لو أحرز تقدما كافيا، لزالت الخلافات العلمية؛ إذ إن العلماء، بدلا من أن يتجادلوا، سيقولون: «فلنحسبها»
calculamus . أما المنطقي الحديث فليس متفائلا إلى هذا الحد؛ ذلك لأنه يعلم أن عمليات الآلة ستقتصر على المنطق الاستنباطي، وبذلك ستكون نتائجها متوقفة على نوع المقدمات التي يغذيها بها الإنسان الذي يستخدمها، بذلك فإن المنطقي المعاصر يشعر بالرضا لو أمكن على الأقل حل بعض خلافات على هذا النحو.
إن المنطق هو الجزء الفني (التكنيكي) في الفلسفة، ولهذا السبب فإنه كان شيئا لا غناء عنه للفيلسوف. أما فيلسوف الطراز القديم الذي يخشى دقة الأسلوب الفني، فإنه يؤثر استبعاد المنطق الرمزي من مجال الفلسفة، وتركه للرياضي. غير أنه لا يحرز في هذا الصدد نجاحا كبيرا؛ ذلك لأن الجيل الجديد، بقدر ما تعلم التدوين الرمزي في الدروس الأولية للمنطق، يعرف قيمة هذا الشكل الجديد للمنطق، ويصر على تطبيقه وقد يبدو المنطق الرمزي لأول وهلة معقدا ومحيرا للطالب، شأنه في ذلك شأن أي أسلوب فني في التدوين، ولا بد من بعض التدريب لكي يدرك الطالب أن هذا الأسلوب الجديد أداة تيسر الفهم المنطقي وتوضح الأفكار. ولقد تبين لي، من تجربتي في تدريس المنطق الرمزي، أن معظم الطلاب يخافون التدوين الرمزي ويكرهونه في البداية، ولكن بعد تدريب يدوم حوالي أسبوعين. تتغير الصورة، وتنتشر بينهم حماسة عجيبة للرمزية، ولا يتبقى بعد ذلك إلا عدد قليل من الطلاب الذين لا يفهمونه أبدا فهما كاملا، ويظلون كارهين للرمزية على الدوام.
ويبدو أن المنطق الرمزي مكتوب عليه أن يقابل إما بالكراهية وإما بالترحاب الشديد. وعلى أية حال فإن أولئك الذين لا يمكنهم بلوغ المرحلة الثانية، يمكنهم أن يحققوا المزيد في ميادين أخرى للفلسفة العلمية، ويصلوا إلى النجاح في تطبيقات أقل تجريدا لقدرات الفكر البشري.
الفصل الرابع عشر
المعرفة التنبئية
إن المنطق الرمزي الذي تحدثنا عنه في الفصل السابق منطق استنباطي، فهو لا يبحث إلا في العمليات الفكرية التي تتصف بالضرورة المنطقية. غير أن العلم التجريبي، وإن كان يستخدم العمليات الاستنباطية على نطاق واسع ، يحتاج بالإضافة إليها إلى نوع ثان من المنطق، يسمى بالمنطق الاستقرائي، نظرا إلى استخدامه للعمليات الاستقرائية.
والصفة التي تميز الاستدلال الاستقرائي عن الاستدلال الاستنباطي هي أن الأول ليس فارغا، أي أنه يؤدي إلى نتائج ليست متضمنة في المقدمات. فالنتيجة القائلة إن كل الغربان سوداء ليست متضمنة منطقيا في المقدمة القائلة إن كل الغربان التي لوحظت حتى الآن سوداء، وقد تكون النتيجة كاذبة على حين تكون المقدمة صادقة. والاستقراء هو أداة المنهج العلمي الذي يرمي إلى كشف شيء جديد، أعني شيئا يزيد عن كونه مجرد تلخيص للملاحظات الساقة، فالاستدلال الاستقرائي هو أداة المعرفة التنبئية.
ولقد كان بيكن هو الذي أدرك بوضوح ضرورة الاستدلالات الاستقرائية في المنهج العلمي، وله في تاريخ الفلسفة منزلة نبي الاستقراء (انظر الفصل الخامس) غير أن بيكن أدرك أيضا نواحي الضعف في الاستدلال الاستقرائي، وافتقار منهجه إلى الضرورة، وإمكان الوصول إلى نتائج كاذبة. ولم تحرز محاولاته لتحسين الاستدلال الاستقرائي نجاحا كبيرا؛ إذ إن الاستدلالات الاستقرائية التي تتسم بتركيب أعقد كثيرا، كتلك المستخدمة في المنهج الفرضي الاستنباطي الذي يتبعه العالم (انظر الفصل السادس)، تتميز بأنها أرفع بكثير من استقراء بيكن البسيط، غير أن هذا المنهج بدوره لا يمكنه أن يأتينا بضرورة منطقية؛ إذ إن نتائجه قد تكون كاذبة، ولا يمكن أن تكتسب المعرفة التنبئية طابع الضمان المطلق الذي يتسم به المنطق الاستنباطي.
ولقد ناقش الفلاسفة والعلماء كثيرا ذلك المنهج الفرضي الاستنباطي، أو الاستقراء التفسيري
explanatory ، ولكن طبيعته المنطقية قد أسيء فهمها في كثير من الأحيان. فلما كان الاستدلال من النظرية على الوقائع الملاحظة يتم عادة بوسائل رياضية، فقد اعتقد بعض الفلاسفة أن من الممكن تفسير وضع النظريات من خلال المنطق الاستنباطي. غير أن هذا رأي لا يمكن قبوله؛ إذ إن الأساس الذي يتوقف عليه قبول النظرية ليس الاستدلال من النظرية على الوقائع، وإنما هو العكس، أي الاستدلال من الوقائع على النظرية، وهذا الاستدلال ليس استنباطيا، بل هو استقرائي. فما هو معطى هو الوقائع الملاحظة، وهذه هي التي تكون المعرفة المقررة التي ينبغي تحقيق النظرية على أساسها.
وفضلا عن ذلك فإن الطريقة التي يتم بها هذا الاستدلال الاستقرائي بالفعل قد أدت ببعض الفلاسفة إلى ضرب آخر من ضروب سوء الفهم. فالعالم الذي يكتشف نظرية يسترشد في كشفه بالتخمينات عادة، وهو لا يستطيع أن يحدد منهجا اهتدى إلى النظرية بواسطته، وكل ما يمكنه أن يقوله هو أنها بدت له معقولة، أو أن إحساسه كان مصيبا، أو أنه أدرك بالحدس أي الفروض هو الذي يلائم الوقائع. وقد أساء بعض الفلاسفة فهم هذا الوصف النفسي للكشف، فاعتقدوا أنه يثبت عدم وجود علاقة منطقية تؤدي من الوقائع إلى النظرية، وزعموا أن من المستحيل إيجاد تفسير منطقي للمنهج الفرضي الاستنباطي. فالاستدلال الاستقرائي في نظرهم عملية تخمينية تظل بمنأى عن التحليل المنطقي. وغاب عن هؤلاء الفلاسفة أن نفس العالم الذي اكتشف نظريته بالتخمين لا يعرضها على الآخرين إلا بعد أن يطمئن إلى أن الوقائع تبرر تخمينه. وفي سبيل الوصول إلى هذا التبرير يقوم العالم باستدلال استقرائي؛ لأنه لا يود أن يقتصر على القول بأن الوقائع يمكن أن تستخلص من نظريته، وإنما يود أن يقول أيضا إن الوقائع تجعل نظريته مرجحة وتشهد بقدرتها على التنبؤ بمزيد من الوقائع الملاحظة. فالاستدلال الاستقرائي لا يستخدم في الاهتداء إلى نظرية، وإنما يستخدم في تبريرها على أساس المعطيات الملاحظة.
والواقع أن التفسير الصوفي للمنهج الفرضي الاستنباطي بأنه تخمين لا عقلي، إنما ينبعث عن الخلط بين سياق الكشف وسياق التبرير. فعملية الكشف تعدو على التحليل المنطقي؛ إذ لا توجد قواعد منطقية يمكن بواسطتها صنع «آلة للكشف» تحل محل الوظيفة الخلاقة للكشف العبقري. ولكن تعليل الكشوف العلمية ليس من مهمة رجل المنطق، وكل ما يستطيع أن يفعله هو أن يحلل العلاقة بين الوقائع المعطاة وبين النظرية التي تقدم إليه زاعمة أنها تفسر هذه الوقائع. وبعبارة أخرى فالمنطق لا يهتم إلا بسياق التبرير. وتبرير النظرية على أساس المعطيات الملاحظة هو موضوع نظرية الاستقراء.
وتنتمي دراسة الاستدلال الاستقرائي إلى نظرية الاحتمالات؛ إذ إن كل ما تستطيع الوقائع الملاحظة أن تفعله هو أن تجعل النظرية محتملة أو مرجحة. ولكنها لا تجعلها ذات يقين مطلق أبدا. ومع ذلك، فحتى عندما يعترف باندماج الاستقراء في نظرية الاحتمال على هذا النحو، تنشأ ضروب أخرى من سوء الفهم؛ إذ ليس من السهل إدراك التركيب المنطقي للاستدلال الاحتمالي الذي نقوم به من أجل تأكيد النظريات بالوقائع. وقد اعتقد بعض المناطقة أنهم يجب أن يتصوروا هذا التأكيد على أنه عكس الاستدلال الاستنباطي؛ أي إنه إذا كان في إمكاننا أن نستمد الوقائع من النظرية بالاستنباط، ففي استطاعتنا أن نستمد النظرية من الوقائع بالاستقراء. فير أن هذا التفسير مفرط في التبسيط. فلكي نقوم بالاستدلال الاستقرائي، ينبغي أن تشتمل معرفتنا على ما يزيد بكثير عن العلاقة الاستنباطية من النظرية إلى الوقائع.
وهناك ظاهرة بسيطة توضح التركيب المعقد للاستدلال المؤدي إلى تأكيد النظريات. فمجموعة الوقائع الملاحظة يمكن دائما أن تدخل في أكثر من نظرية واحدة، وبعبارة أخرى فهناك عدة نظريات يمكن أن تستخلص منها هذه الوقائع. ويستخدم الاستدلال الاستقرائي من أجل إعطاء درجة من الاحتمال لكل من هذه النظريات، ثم تقبل أقوى النظريات احتمالا. ومن الواضح أنه لا بد، من أجل التفرقة بين هذه النظريات، من معرفة تتجاوز نطاق العلاقة الاستنباطية بالوقائع، وهي العلاقة التي تسري على كل هذه النظريات.
فإذا ما أردنا أن نفهم طبيعة الاستدلال التأكيدي، كان علينا أن ندرس نظرية الاحتمالات. وقد تمكن هذا المبحث الرياضي من وضع طرق تسري على مشكلة الدلالة غير المباشرة
indirect evidence
في عمومها، وهي المشكلة التي يعد الاستقراء الذي يحقق ضجة النظريات العلمية مجرد حالة خاصة منها. ولكي أضرب مثلا للمشكلة العامة، أود أن أتحدث عن الاستدلالات التي يقوم بها ضابط المباحث في بحثه عن مرتكب جريمة. فبعض المعطيات تكون موجودة، كمنديل ملوث بالدم، وأزميل، واختفاء أرملة ثرية، وتظهر عدة تفسيرات لما حدث بالفعل. ثم يحاول ضابط المباحث تحديد أقوى التفسيرات احتمالا، فيسير في أبحاثه تبعا للقواعد الاحتمالية المقررة؛ إذ يحاول، مستخدما كل الشواهد الواقعية وكل معرفته بنفسية الناس، أن يصل إلى استنتاجات، يختبرها بدورها بملاحظات جديدة خططت لهذا الغرض بالذات، ويؤدي كل اختبار، مبني على معطيات جديدة، إلى تقوية أو إضعاف احتمال التفسير، ولكن لا يمكن أبدا النظر إلى التفسير الذي تم الوصول إليه على أنه يتصف باليقين المطلق. والواقع أن المنطقي الذي يحاول أن يعبر عن الصبغة الاستدلالية التي سار عليها ضابط المباحث، يجد كل العناصر المنطقية اللازمة للحساب الدقيق للاحتمالات، فإنه يستطيع على الأقل أن يطبق صيغ الحساب بمعنى كيفي. وبطبيعة الحال لا يمكن بلوغ النتائج الحسابية الدقيقة، إذا لم تكن المادة المعطاة تسمح إلا بتقديرات احتمالية تقريبية.
ونفس هذه الاعتبارات تسري على مناقشة احتمال النظريات العلمية، التي ينبغي أن تختار بدورها من بين عدة تفسيرات ممكنة للمعطيات الملاحظة. ويتم الاختيار باستخدام البناء العام للمعرفة، الذي تبدو بعض التعريفات إزاءه أرجح من بعضها الآخر، وعلى ذلك فإن الاحتمال الأخير نتاج لمجموعة من احتمالات متعددة. ويقدم حساب الاحتمالات صيغة مناسبة من هذا النوع في قاعدة بايز
rule of Bayes
وهي صيغة تنطبق على المشكلات الإحصائية مثلما تنطبق على استدلالات ضابط المباحث أو الاستدلال التأكيدي.
لهذه الأسباب كانت دراسة المنطق الاستقرائي تفضي إلى نظرية الاحتمالات. فمقدمات الاستدلال الاستقرائي تجعل نتائجه احتمالية، لا يقينية، ولا بد أن نتصور الاستدلال الاستقرائي على أنه عملية تدخل في إطار حساب الاحتمالات. والواقع أن هذه الاعتبارات، مقترنة بالتطور الذي حول القوانين العلية إلى قوانين احتمالية، توضح السبب في الأهمية القصوى لتحليل الاحتمال في فهم العلم الحديث؛ ذلك لأن نظرية الاحتمال تمدنا بأداة المعرفة التنبئية، فضلا عن صورة القوانين الطبيعية، وموضوعها هو عصب المنهج العلمي ذاته.
وقد يميل المرء إلى الاعتقاد بأن نظرية الاحتمال كانت على الدوام وقفا على المذهب التجريبي. غير أن تاريخ هذه النظرية يثبت أن الأمر على خلاف ذلك. ذلك لأن المذهب العقلي الحديث، حين أدرك مدى أهمية الأفكار الاحتمالية، قد حاول وضع نظرية عقلية في الاحتمال. ومن المؤكد أن برنامج ليبنتس الذي يهدف إلى وضع منطق للاحتمال في صورة منطق كمي لقياس درجات الحقيقة ، لم يكن يقصد منه أن يكون حلا تجريبيا لمشكلة الاحتمال. وواصل تحقيق هذه الرسالة مناطقة كانت في متناول أيديهم موارد المنطق الرمزي. وربما كان من الواجب تصنيف منطق الاحتمالات عند بول
Boole
على أساس أنه ينتمي إلى الجانب العقلي. ومن المؤكد أن نظرية كينز
Keynes
الرمزية في الاحتمال تنتمي إلى هذا الجانب، بما تنطوي عليه من محاولة لتفسير الاحتمال على أنه مقياس للاعتقاد العقلي. على أن هذه الأفكار قد اعتنقها مناطقة معاصرون لا يقبلون أن يدرجوا ضمن العقليين، وإن كانت أعمالهم تؤدي بالفعل إلى إدخالهم ضمن هذه الفئة، وذلك بالنسبة إلى تفسيرهم للاحتمال على الأقل.
إن صاحب المذهب العقلي يرى أن درجة الاحتمال نتاج للعقل في حالة انعدام الأسباب المعقولة. فإذا ألقيت قطعة نقود، فهل ستظهر الصورة أم الكتابة؟ هذا أمر لا أعلم عنه أي شيء، وليس لدى من الأسباب ما يجعلني أومن بإحدى النتيجتين دون الأخرى، لذلك أنظر إلى الإمكانين على أنهما متساويان في درجة احتمالهما، وأعزو إلى كل منهما احتمالا مقداره «نصف». وهكذا ينظر إلى انعدام الأسباب المقبولة للعقل على أنه سبب لافتراض تساوي الاحتمالات، هذا هو المبدأ الذي يرتكز عليه تفسير المذهب العقلي للاحتمال، ويرى صاحب المذهب العقلي أن هذا المبدأ، الذي يعرف باسم مبدأ السوية أو مبدأ انعدام السبب الذي يبرر الموقف المضاد، هو مصادرة منطقية. وهو يبدو له واضحا بذاته، شأنه شأن المبادئ المنطقية.
غير أن الصعوبة في تفسير الاحتمال على هذا النحو هي أنه يؤدي إلى التخلي عن الطابع التحليلي للمنطق ويدخل عنصرا تركيبيا قبليا. والواقع أن القضية الاحتمالية ليست فارغة، فعندما نلقي بقطعة نقود ونقول إن احتمال ظهور الصورة في الجانب العلوي نصف، فإننا نقول شيئا عن حوادث مستقبلة. وربما لم يكن من السهل صياغة ما نقول، ولكن ينبغي أن تنطوي هذه القضية على إشارة معينة إلى المستقبل، ما دمنا نستخدمها مرشدا للسلوك، مثال ذلك أننا نعتقد أن من المستحسن المراهنة بنسبة خمسين في المائة على ظهور الصورة، ولكنا لا ننصح أحدا بأن يراهن عليها بنسبة أعلى من هذه. والواقع أننا نستخدم القضايا الاحتمالية لأنها تتعلق بحوادث مقبلة. فكل عملية تخطيطية تقتضي معرفة معينة بالمستقبل، وإذا لم تكن لدينا معرفة ذات يقين مطلق، فإنا نقبل استخدام المعرفة الاحتمالية بدلا منها.
ويؤدي مبدأ السوية إلى إيقاع المذهب العقلي في الصعوبات المألوفة التي عرفناها من خلال تاريخ الفلسفة. فلم كان ينبغي على الطبيعة أن تسير وفقا للعقل؟ ولم كان يتعين على الحوادث أن تكون متساوية في احتمالها، إن كانت معرفتنا بها تتساوي في كثرتها أو قلتها؟ وهل الطبيعة متطابقة مع الجهل البشري؟ إن أمثال هذه الأسئلة لا يمكن الإتيان برد إيجابي عليها وإلا لكان على الفيلسوف أن يؤمن بوجود انسجام بين العقل والطبيعة؛ أي بالمعرفة التركيبية القبلية.
ولقد حاول بعض الفلاسفة أن يأتوا بتفسير تحليلي لمبدأ السوية، وتبعا لهذا التفسير لا يعني القول بأن درجة الاحتمال نصف أي شيء عن المستقبل، وإنما يعبر فقط عن أن معرفتنا عن وقوع هذا الحادث لا تزيد عن معرفتنا عن وقوع الحادث المضاد. وفي هذا التفسير يسهل بطبيعة الحال تبرير الحكم الاحتمالي، ولكنه يفقد طابعه بوصفه مرشدا للسلوك. وبعبارة أخرى، فصحيح أن الانتقال من الجهل المتساوي إلى الاحتمال المتساوي يكون عندئذ تحليليا، ولكن يظل علينا أن نفسر الانتقال التركيبي. فإذا كانت الاحتمالات المتساوية تعني جهلا متساويا، فلماذا ننظر إلى الاحتمالات المتساوية على أنها تبرر المراهنة بنسبة خمسين في المائة؟ في هذا السؤال تعود نفس المشكلة التي قصد من التفسير التحليلي لمبدأ السوية أن يتجنبها.
إن من الواجب النظر إلى التفسير العقلي للاحتمال على أنه بقية من مخلفات الفلسفة التأملية، ولا مكان له في فلسفة علمية؛ ذلك لأن فيلسوف العالم يصر على إدماج نظرية الاحتمال في فلسفة لا تضطر إلى الالتجاء إلى المعرفة التركيبية القبلية.
وتبنى الفلسفة التجريبية في الاحتمال على التفسير الترددي
frequency interpretation ؛ فالأحكام الاحتمالية تعبر عن ترددات نسبية للحوادث المتكررة، أي عن ترددات تحسب بوصفها نسبة مئوية من مجموع. وهي تستمد من ترددات لوحظت في الماضي، وتنطوي على افتراض أن نفس الترددات سوف تسري تقريبا في المستقبل. وهي تتكون عن طريق استدلال استقرائي. فإذا نظرنا إلى احتمال ظهور الصورة عند رمي العملة على أنه احتمال النصف، كان معنى ذلك أن الرميات المتكررة للعملة ستؤدي إلى ظهور الصورة في خمسين في المائة من الحالات. وفي هذا التفسير يسهل إيضاح قواعد المراهنة؛ فالقول إن نسبة خمسين في المائة تعد احتمالا معقولا لظهور أي وجه من وجهي العملة عند رميها يعني أن استخدام هذه القاعدة سيؤدي في المدى الطويل إلى أن يتساوى الطرفان المتراهنان في الفوز. ولا شك أن مزايا هذا التفسير واضحة، ولكن ما ينبغي علينا دراسته هو الصعوبات التي يثيرها. والواقع أن التفسير الترددي يثير صعوبتين أساسيتين:
أما الصعوبة الأولى فهي استخدام الاستدلال الاستقرائي؛ فصحيح أن درجة الاحتمال هي في التفسير الترددي مسألة تجربة وخبرة، لا مسألة عقل. ولو لم نكن قد لاحظنا أننا نصل بمضي الوقت، عند رمي قطعة العملة، إلى تردد متساو للوجهين، لما تحدثنا عن احتمالات متساوية، فليس مبدأ السوية إلا سوء تأويل عقلي لمعرفة اكتسبت من التجربة. ويذكرنا سوء التأويل هذا بمغالطات مماثلة وقع فيها المذهب العقلي، كالتفسير القبلي
a priorist
لقوانين الهندسة، ولمبدأ العلية، التي أثبت العلم الحديث بالمثل أنها نتاج للتجربة. غير أن تأكيد أن تردد تكرار الحوادث المتشابهة خاضع لأنماط عددية منظمة، هو أمر لا يمكن إثباته باستخدام الاستدلالات الاستقرائية، ويبدو أنه ينطوي على مبدأ لا يستمد من التجربة. ففيما بين الفلسفة التجريبية وحل مشكلة الاستقراء يقف نقد هيوم للاستدلال الاستقرائي، وهو النقد الذي يبين أن الاستقراء ليس قبليا ولا بعديا (انظر الفصل الخامس).
والصعوبة الثانية في التفسير الترددي تتعلق بإمكان انطباق الحكم الاحتمالي على حالة منفردة. فلنفرض أن أحد أقربائي مصاب بمرض خطير، وسألت الطبيب عن احتمال بقاء قريبي حيا، فأجاب الطبيب أن المريض لا يموت في 75 في المائة من حالات هذا المرض. فكيف يمكن أن ينفعني هذا الحكم الاحتمالي؟ أنه قد يفيد الطبيب، الذي يعالج مرضى كثيرين؛ لأنه يحدد له أية نسبة مئوية من مرضاه لن تموت بهذا المرض. غير أن ما يهمني هو هذا الشخص بعينه فحسب، وأود أن أعرف مقدار احتمال نجاته هو ذاته من الموت، وهكذا يبدو أنه لا معنى للتعبير عن احتمال حادث منفرد على أساس النسب الترددية.
وسوف أرد على هذين الاعتراضين واحدا بعد الآخر، بادئا بالاعتراض الثاني. فصحيح أننا كثيرا ما ننسب احتمالا إلى حادث منفرد، ولكن لا يترتب على ذلك أن المعنى الذي ننسبه عادة إلى ألفاظنا هو دائما تفسير صحيح. فلنتأمل المناقشة التي قمنا بها من قبل لمعنى اللزوم (الفصل العاشر)؛ ففي المثال الذي ذكرناه عندئذ، وهو «إذا سرى تيار كهربائي في السلك انحرفت الإبرة الممغنطة» - في هذا المثال نعتقد أن علاقة «إذا كان ... فإن ...» لها معنى بالنسبة إلى هذا الحادث المنفرد، وأن التيار الكهربائي يؤدي بالضرورة إلى انحراف الإبرة. على أن التحليل المنطقي يثبت لنا أن هذا التفسير غير صحيح، وأن ضرورة اللزوم إنما تستمد من عموميته فحسب، وإن كل ما نعنيه بالارتباط الضروري بين الحادثين هو أنه إذا حدث أحدهما، حدث الآخر دائما، أما في حالة المثال المنفرد فإننا ننسى هذا التحليل ونعتقد أننا نستطيع أن نتحدث عن لزوم متعلق بهذا المثل وحده. «فإذا فتحت هذا الصنبور، فسيتدفق الماء.» في هذه الحالة يبدو من الواضح تماما أننا لا نتحدث إلا عن هذا المثل الفردي، وأن فتح هذا الصنبور يؤدي إلى تدفق الماء. وعندما يشرح لنا المنطقي أن هذا الحكم ينطوي على إشارة إلى العمومية، وأننا نتحدث عن جميع الصنابير في العالم، فإننا لا نكون على استعداد لتصديقه - ومع ذلك يتعين علينا أن نقبل تفسيره إذا أردنا أن يكون لكلماتنا أي معنى يمكن تحقيقه.
والواقع أن تفسير الحكم الاحتمالي ينتمي إلى نفس النوع. فنحن نعتقد أن القول بأن هناك احتمال 75 في المائة في أن يعيش «س»، هو قول له معنى، ومع ذلك فإن كل ما يقال في هذه الحالة يتعلق بفئة من الأشخاص مصابة بنفس المرض. وقد تكون لدينا رغبة شديدة في أن نعرف شيئا عن الحالة الفردية - غير أن «س» سيعيش أو لا يعيش، ولا معنى لأن ننسب درجة من الاحتمال إلى حادث فردي؛ لأن الحادث الواحد لا يمكن قياسه حسب درجات. فلنفرض أن «س» سيعيش على الرغم من مرضه - فهل تؤدي هذه الحقيقة إلى تحقيق التنبؤ الذي أشار إلى وجود احتمال بنسبة 75 في المائة؟ من الواضح أنه لا يؤدي إلى ذلك، لأن الاحتمال يظل ساريا في حالة وقوع الحادث وفي حالة عدم وقوعه. ولو بحثنا عددا كبيرا من الحوادث، لأمكن أن تعبر الملاحظة عن نسبة ال 75 في المائة، وبالتالي أن تحققها. أما الحادث المنفرد فلا يمكن أن يحدث بدرجة معينة. فالحكم المتعلق باحتمال حادث واحد هو حكم لا معنى له.
ومع ذلك فإن أمثال هذه الأحكام ليست بعيدة عن العقل إلى الحد الذي تبدو عليه بعد هذا التحليل المنطقي. فقد يكون من العادات المفيدة أن نعزو معنى إلى حكم احتمالي متعلق بحادث منفرد، إذا كانت التجربة اليومية تقدم إلينا عددا من الحالات المماثلة. فالشخص الذي يعتقد أنه إذا فتح الصنبور، فلا بد أن يتدفق الماء، قد كون في نفسه عادة مفيدة؛ لأن اعتقاده سيؤدي به إلى إصدار أحكام صحيحة عن المجموع الكلي للحوادث المماثلة. وبالمثل فإن الشخص الذي يعتقد أن احتمالا بنسبة 75 في المائة ينطبق على حادث منفرد، قد كون عادة مفيدة؛ لأن اعتقاده سيؤدي به إلى القول أنه لو كان هناك عدد كبير من الحالات المماثلة، فإن 75٪ منها ستكون لها النتيجة المشار إليها. بل إن هذا الرأي يظل صحيحا حتى لو لم تكن تجربتنا اليومية تمدنا بحوادث مماثلة، وإنما بعدد من الحوادث من أنواع متباينة ودرجات متفاوتة من الاحتمال . فقد تواجهنا اليوم حالة مرضية تكون نسبة احتمال النجاة فيها 75 في المائة، ويواجهنا غدا تنبؤ بأن احتمال تحسن الجو 90٪، وبعد غد تنبؤ بأن نسبة الاحتمال المتعلقة بأسعار البورصة 60٪؛ فإذا كنا في جميع هذه الحالات نفترض أن الحادث الأقوى احتمالا هو الذي سيحدث، فسوف نكون على حق في معظم الحالات. فالحوادث العديدة للحياة اليومية تكون سلسلة، قد تكون بالفعل مفتقرة إلى التجانس، ولكنها تقبل التفسير الترددي للاحتمال، ولهذا فإن القول بأن للاحتمال معنى حتى بالنسبة إلى الحادث المنفرد هو قول لا ضرر منه، بل هو عادة مفيدة، لأنه يؤدي إلى تقويم صحيح للمستقبل بمجرد أن تترجم هذه اللغة إلى حكم متعلق بسلسلة من الحوادث.
ولا يتحتم على المنطقي أن يغضب لأمثال هذه العادات اللغوية؛ فلديه وسيلة يعطي بها لمثل هذه العادات مكانا في المنطق. فهو ينظر إلى التعبيرات من هذا النوع على أن لها معنى خياليا، وعلى أنها تمثل طريقة ملتوية في الكلام، اكتسبت حياة ظاهرية خاصة بها، وإن لم يكن لها معنى إلا لأن من الممكن ترجمتها إلى عبارة من نوع آخر. إن المنطقي يسمح للرياضي بالكلام عن النقطة اللامتناهية في بعدها، التي يتقاطع عندها متوازيان، لأنه يعلم أن كل ما يعنيه هذا الحكم هو أن الخطين لا يتقاطعان في مسافة متناهية. كذلك فإن المنطقي ينبغي أن يسمح للشخص بالكلام عن لزوم ضروري في حالة منفردة، أو عن احتمال في حالة منفردة، وينظر إلى هذه الطريقة في الكلام على أنها تمثل معنى متخيلا. وهو يتحدث، مستخدما اصطلاحا فنيا، عن نقل للمعنى من الحالة العامة إلى الحالة الخاصة. فحينما كانت العادات اللغوية مفيدة، استطاع المنطقي دائما أن يقدم لها إيضاحا.
أما الاختلافات فلا تنشأ في لغة الحياة اليومية، وإنما تنشأ عندما نتحدث عن معنى أمثال هذه الأحكام. وهذه الاختلافات تهم الفلسفة. أما المنطقي الذي يرى أن الأحكام الاحتمالية تشير إلى تردد
frequency . فإنه يصل إلى تقويم خاص للأحكام الاحتمالية يفرق بينها وبين غيرها من الأحكام. وأود الآن أن أشرح هذا الفارق شرحا أدق.
لنفرض أن شخصا ما ألقى بزهر النرد، وطلب إليك أن تتنبأ إن كان الرقم «ستة» هو الذي سيظهر أم لا. في هذه الحالة تفضل أن تتنبأ بأن الوجه «ستة» لن يظهر، لماذا؟ إنك لست متأكدا من السبب، ولكن احتمال «غير الستة» في نظرك أقوى من احتمال الستة؛ إذ إن نسبة الاحتمال الأول 6/5 وليس في استطاعتك أن تزعم أن تنبؤك سيتحقق، ولكن هذا التنبؤ أكثر فائدة لك من التنبؤ المضاد؛ لأنك ستكون على صواب في العدد الأكبر من الحالات.
مثل هذا الحكم أسميه ترجيحا
. والترجيح حكم ننظر إليه على أنه صحيح وإن لم نكن نعرف أنه كذلك. ونحن نحاول أن نختار ترجيحاتنا على نحو من شأنه أن تتضح صحتها في أكبر عدد ممكن من الحالات. وتمدنا درجة الاحتمال بنسبة معينة للترجيح؛ أي إنها تنبئنا بمدى صلاحيته. وهذه هي الوظيفة الوحيدة للاحتمال. فإذا كان علينا أن نختار بين ترجيح نسبته 6/5 وترجيح نسبته 3 / 2، لفضلنا الأول، لأن هذا الترجيح يكون أصح في حالات أكثر. وهكذا نرى أن درجة الاحتمال لا شأن لها بصحة الحكم المنفرد، وإنما تقوم بمهمة النصح المتعلق بطريقة اختيارنا لترجيحاتنا.
وتستخدم طريقة الترجيح في جميع أنواع الأحكام الاحتمالية. فإذا قيل لنا إن احتمال سقوط المطر في الغد 80٪، رجحنا أن المطر سيسقط، وتصرفنا على هذا الأساس، فننبئ البستاني مثلا بأنه لا داعي لحضوره في الغد لكي يروي حديقتنا. ولو كانت لدينا معلومات بأن أسعار البورصة يحتمل أن تهبط، فإننا نبيع أسهمنا. وإذا أخبرنا الطبيب بأن التدخين يحتمل أن يؤدي إلى تقصير عمرنا، فإننا نكف عن التدخين. وإذا قيل لنا إن من المحتمل أن نحصل على وظيفة بمرتب أعلى إذا تقدمنا بطلب خاص بمركز معين، فإننا نقدم هذا الطلب. وعلى الرغم من أن جميع هذه الأحكام المتعلقة بما سيحدث لا يقال بها إلا على سبيل الاحتمال، فإننا ننظر إليها كما لو كانت صحيحة، ونسلك على هذا الأساس، أي أننا نستخدمها بمعنى أنها ترجيحات.
والواقع أن مفهوم الترجيح
هو مفتاح فهمنا للمعرفة التنبئية ؛ فالحكم المتعلق بالمستقبل لا يمكن أن يصدر مقترنا بادعاء أنه؛ إذ إننا نستطيع أن نتصور دائما أن العكس هو الذي سيحدث، وليس هناك ما يضمن لنا أن التجربة المقبلة لن تحقق ما هو اليوم مجرد خيال. هذه الحقيقة ذاتها هي الصخرة التي تحطم عليها كل تفسير عقلاني للمعرفة. فالتنبؤ بالتجارب المقبلة لا يمكن التعبير عنه إلا بمعنى أنه محاولة، وينبغي أن نعمل حسابا لاحتمال كذبه، فإذا اتضح خطأ التنبؤ، كنا على استعداد لمحاولة أخرى. وهكذا فإن طريقة المحاولة والخطأ هي الأداة الوحيدة الموجودة للتنبؤ. والحكم التنبئي ترجيح، فبدلا من أن نعرف حقيقته، نعرف نسبته فقط، وهي النسبة التي تقاس على أساس احتماله.
والواقع أن تفسير الأحكام التنبئية بأنها ترجيحات يحل آخر مشكلة تظل باقية في وجه الفهم التجريبي للمعرفة: وأعني بها مشكلة الاستقراء. فالتجريبية قد انهارت أمام نقد هيوم للاستقراء؛ لأنها لم تكن قد تحررت من مصادرة أساسية من مصادرات المذهب العقلي، وأعني بها ضرورة البرهنة على صحة كل معرفة. ففي نظر هذا الرأي لا يمكن تبرير المنهج الاستقرائي؛ إذ لا يوجد دليل على أنه سيؤدي إلى نتائج صحيحة. ولكن الأمر يختلف عندما تعد النتيجة التنبئية ترجيحا. ففي ظل هذا التفسير لا تكون في حاجة إلى برهان على صحتها، وكل ما يمكن أن يطلب هو برهان على أنها ترجيح جيد، أو حتى أفضل ترجيح متوافر لدينا. وهذا برهان يمكن الإتيان به، وبذلك يمكن حل المشكلة الاستقرائية.
ويقتضي هذا البرهان مزيدا من البحث، فلا يمكن الاكتفاء في تقديمه بالقول أن النتيجة الاستقرائية لها درجة عالية من الاحتمال. بل إنه يستلزم تحليلا للمناهج الاحتمالية، وينبغي أن يكون مبنيا على أسس هي ذاتها مستقلة عن هذه المناهج. أي أن تبرير الاستقراء ينبغي أن يقدم خارج مجال نظرية الاحتمالات، لأن هذه النظرية الأخيرة تفترض استخدام الاستقراء. وسوف يتضح بعد قليل معنى هذه القاعدة.
إن البرهان لا بد أن يسبقه بحث رياضي؛ فحساب الاحتمالات مركب على صورة نظام للبديهيات، مشابه لهندسة إقليدس. وهذا التركيب يوضح أن جميع بديهيات الاحتمالات هي نظريات رياضية خالصة، وبالتالي أحكام تحليلية، وذلك إذا ما قبلنا التفسير الترددي لفكرة الاحتمال، والنقطة الوحيدة التي يتدخل فيها مبدأ غير تحليلي هي التأكد من درجة الاحتمال عن طريق استدلال استقرائي؛ فنحن نجد ترددا نسبيا معينا لسلسلة من الحوادث الملاحظة، ونفترض أن نفس التردد سوف يسري كما هو تقريبا على بقية السلسلة هذا هو المبدأ التركيبي الوحيد الذي يبنى عليه تطبيق حساب الاحتمالات.
ولهذه النتيجة أهمية عظمى، فمن الممكن التعبير عن الصور المتعددة للاستقراء، وضمنها المنهج الفرضي الاستنباطي، من خلال مناهج استنباطية، مع إضافة الاستقراء التعدادي وحده. وإن منهج البديهيات ليقدم إلينا الدليل على أن جميع أشكال الاستقراء يمكن أن ترد إلى استقراء تعدادي؛ أي إن الرياضي في عصرنا يثبت ما كان هيوم يأخذه قضية مسلما بصحتها.
وقد تبدو هذه النتيجة مثيرة للدهشة، لأن منهج وضع فروض تفسيرية، أو الإثبات غير المباشر، يبدو مختلفا إلى حد بعيد عن الاستقراء التعدادي البسيط، ولكن لما كان من الممكن تصور جميع أشكال الإثبات غير المباشر على أنها استدلالات يسري عليها الحساب الرياضي للاحتمالات، فإن هذه الاستدلالات متضمنة في نتيجة البحث الخاص بمنهج البديهيات. وفي استطاعة نظام البديهيات أن يتحكم، بقوة الاستنباط، في أبعد تطبيقات الاستدلالات الاحتمالية، مثلما يستطيع المهندس أن يتحكم في قذيفة بعيدة بالموجات اللاسلكية، بل إن نفس التراكيب الاستدلالية المتشابكة التي يستخدمها ضابط المباحث أو العالم، يمكن تفسيرها على أساس البديهيات. والسبب الوحيد الذي يجعل هذه التراكيب أعلى من الاستقراء التعدادي البسيط، هو أنها تنطوي على قدر كبير من المنطق الاستنباطي - غير أن مضمونها الاستنباطي يمكن أن يوصف على نحو جامع مانع بأنه شبكة من الاستقراءات من النوع التعدادي.
ولأضرب مثلا أوضح به كيف يمكن الجمع بين الاستقراءات التعدادية في شبكة معقدة؛ فقد ظل الأوروبيون قرونا طويلة لا يعرفون إلا الإوز الأبيض وحده، واستدلوا من ذلك على أن الإوز في العالم كله أبيض. وفي ذات يوم كشفت إوزة سوداء في أستراليا، وهكذا اتضح أن الاستدلال الاستقرائي قد أدى إلى نتيجة باطلة. فهل كان من الممكن تجنب هذا الخطأ؟ من الأمور الواقعة أن الأنواع الأخرى من الطيور تتنوع ألوان أفرادها إلى حد بعيد. وعلى ذلك فقد كان من واجب المنطقي أن يعترض على الاستدلال بالحجة القائلة أنه إذا كان اللون يختلف في أفراد الأنواع الأخرى، فقد يختلف أيضا بين أفراد الإوز . ويدل هذا المثل على أن من الممكن تصحيح استقراء باستقراء آخر. والواقع أن جميع الاستدلالات الاستقرائية تقريبا لا يتم كل منها بمعزل عن الأخريات، وإنما تتم داخل شبكة قوامها كثير من الاستقراءات. وقد أنبأني عالم بيولوجي ذات مرة أنه أجرى تجارب على وراثة تغير بيولوجي مصطنع في أجيال متعددة، وتأكد تبعا لذلك من أنه تغير أصيل. وعندما سألته عن عدد الأجيال التي أجرى عليها الاختبار، قال إنه اختبر خمسين جيلا من الذباب. مثل هذا العدد قد يبدو قليلا في نظر الخبير الإحصائي للتأمينات، الذي اعتاد التعامل مع ملايين الحالات قبل القيام باستدلال استقرائي. ولكن ما هو العدد الكبير؟ من المستحيل تقديم الإجابة إلا على أساس استقراءات أخرى، تنبئنا بما ينبغي أن يكون عليه العدد الكبير لكي نستطيع أن نتوقع استمرار تردد ملاحظ فبالنسبة إلى اختبار متعلق بالوراثة، نجد أن خمسين جيلا عدد كبير. وعندما يجري طبيب على مريضه اختبار فاسرمان
Wassermann ،
1
لكي يتأكد من إصابته أو عدم إصابته بمرض الزهري، فإنه لا يقوم إلا بملاحظة واحدة، وعلى ذلك فإن العدد «واحد» يكون في هذه الحالة عددا كبيرا لإجراء استدلال استقرائي. والدليل على ذلك مستمد من الاستدلالات الاستقرائية الأخرى، التي أثبتت أنه إذا كان الاختبار الواحد إيجابيا أو سلبيا، فإن كل الاختبارات التالية (التي تجرى على الشخص نفسه) ستكون مثله. فعندما أقول أن جميع الاستدلالات الاستقرائية يمكن أن ترد إلى استقراء تعدادي، أعنى أن من الممكن التعبير عنها بشبكة من الاستقراءات البسيطة من هذا النوع. ومن الممكن أن تكون الطريقة التي تجمع بها هذه الاستدلالات الأولية تركيبا أعقد بكثير من ذلك الذي استخدم في الأمثلة السابقة.
ولما كان من الممكن إرجاع جميع الاستدلالات الاستقرائية إلى استقراء تعدادي، فإن كل ما هو مطلوب لجعل الاستدلالات الاستقرائية مشروعة هو تبرير الاستقراء التعدادي. ويكون هذا التبرير ممكنا عندما ندرك أن النتائج الاستقرائية لا يدعي أنها أحكام صحيحة، وإنما تقال على أنها ترجيحات
فحسب.
فعندما نحصي التردد النسبي لحادث ما، نجمد أن النسبة المئوية التي نتوصل إليها تختلف تبعا لعدد الحالات الملاحظة، ولكن الاختلافات تتلاشى بازدياد العدد. مثال ذلك أن إحصاءات المواليد تدل على أن 49٪ من كل ألف من المواليد ذكور، وبزيادة عدد الحالات نجد أن الذكور يمثلون نسبة 52٪ بين 5000 مولود، ويمثلون 51٪ بين 10000 مولود، فلنفرض مؤقتا أننا نعلم أننا لو واصلنا الزيادة فسوف نصل آخر الأمر إلى نسبة مئوية ثابتة - وهي ما يطلق عليه الرياضي اسم حد التردد - فما هي القيمة العددية التي نفترضها بالتسمية إلى هذه النسبة المئوية النهائية؟ إن أفضل ما يمكننا عمله هو أن ننظر إلى القيمة الأخيرة التي وصلنا إليها على أنها هي القيمة الدائمة وأن نستخدمها على أنها هي الترجيح الذي نقول به. فإذا أثبتت الملاحظات التالية أن الترجيح باطل، فسوف نصححه، ولكن إذا اتجهت السلسلة نحو نسبة مئوية نهائية، فلا بد أن نصل بمضي الوقت إلى قيم قريبة من القيمة النهائية. وهكذا يتضح أن الاستدلال الاستقرائي هو أفضل أداة للاهتداء إلى النسبة المئوية النهائية، أو درجة احتمال الحادث، إن كانت هناك مثل هذه النسبة المئوية الحدية على الإطلاق، أي إذا كانت السلسلة تتجه صوب حد.
فكيف نعرف أن للتردد حدا؟ ليس لدينا دليل على هذا الافتراض بالطبع. غير أننا نعلم أنه إذا كان ثمة حد كهذا، فسوف نتوصل إليه بالمنهج الاستقرائي. وعلى ذلك فإذا شئت أن تهتدي إلى حد التردد، فلتستخدم الاستدلال الاستقرائي إذ إنه أفضل أداة لديك؛ لأنه إذا كان من الممكن بلوغه، فإن محاولتك تكون قد ذهبت هباء، ولكن كل محاولة أخرى ستخفق بدورها في هذه الحالة.
إن من الممكن تشبيه من يقوم باستدلالات استقرائية بصياد يرمي شباكه في جزء مجهول من البحر فهو لا يعلم إن كان يصطاد سمكا، ولكنه يعله أنه إذا أراد أن يصطاد سمكا فعليه أن يرمي شباكه. وإن كل تنبؤ استقرائي لهو أشبه برمي شبكة في بحر الحوادث الطبيعية: فلسنا نعلم إن كنا سنقتنص صيدا طيبا، ولكنا نحاول على الأقل، ونستخدم في محاولتنا أفضل الوسائل المتوافرة لدينا.
إننا نحاول لأننا نريد أن نسلك - ومن يريد أن يسلك لا يستطيع أن ينتظر حتى يصبح المستقبل معرفة قابلة للملاحظة. ذلك لأن السيطرة على المستقبل، وتشكيل أحداث المستقبل وفقا لخطة، يفترض مقدما معرفة تنبئية بما سيحدث إذا تحققت شروط معينة، وإذا لم نعرف الحقيقة بشأن ما سيحدث، فسوف نستعيض عن الحقيقة بأفضل ترجيحاتنا؛ فالترجيحات هي أداة الفعل حيث لا تتوافر الحقيقة، وتبرير الاستقراء هو أنه أفضل أداة للفعل معروفة لنا.
ويتسم هذا التبرير للاستقراء بالبساطة الشديدة، فهو يبين أن الاستقراء هو أفضل وسيلة لبلوغ هدف معين. والهدف هو التنبؤ بالمستقبل - ومن الممكن التعبير عن الهدف نفسه بصيغة أخرى فنقول إنه هو الاهتداء إلى حد التردد
limit of frequency . ولهذه الصيغة نفس المعنى؛ إذ إن المعرفة التنبئية معرفة احتمالية، والاحتمال هو حد التردد. فالنظرية الاحتمالية في المعرفة تتيح لنا إيجاد تبرير للاستقراء، وهي تمدنا بدليل على أن الاستقراء أفضل وسيلة للاهتداء إلى نوع المعرفة الوحيد الذي يمكننا بلوغه. فكل معرفة هي معرفة احتمالية، ولا يمكن تأكيدها إلا بمعنى أنها ترجيحات، والاستقراء هو أداة الاهتداء إلى أفضل الترجيحات.
2
ولا شك أن هذا الحل لمشكلة الاستقراء سيزداد وضوحا إذا ما قورن بالنظرية العقلية في الاحتمال. فمبدأ السوية، الذي يحتل مركزا منطقيا مشابها لمركز مبدأ الاستقراء لأنه يستخدم في تحديد درجة الاحتمال، يعد في نظر صاحب المذهب العقلي مبدأ منطقيا واضحا بذاته، وهكذا يصل إلى وضوح ذاتي تركيبي. أي إلى منطق تركيبي قبلي. وبهذه المناسبة فإن مبدأ الاستقراء التعدادي يعد في كثير من الأحيان مبدأ واضحا بذاته أيضا، وهذا الفهم يمثل صيغة أخرى للمنطق الاحتمالي المرتكز على المعرفة التركيبية القبلية. أما الفهم التجريبي للمنطق الاستقرائي فهو يختلف عن ذلك اختلافا أساسيا؛ فمبدأ الاستقراء التعدادي، الذي يكون مبدؤه التركيبي الوحيد، لا يعد واضحا بذاته، أو مصادرة يستطيع المنطق تحقيق صحتها. إن ما يستطيع المنطق إثباته هو أن من المستحسن استخدام المبدأ إذا كان في ذهننا هدف معين، هو هدف التنبؤ بالمستقبل، هذا البرهان، أي تبرير الاستقراء، مبني على اعتبارات تحليلية. فمن حق التجريبي أن يستخدم مبدأ تركيبيا، لأنه لا يؤكد أن المبدأ صحيح أو ينبغي أن يؤدي إلى نتائج صحيحة، أو إلى احتمالات صحيحة أو أي نوع من النجاح، بل إن كل ما يؤكده هو أن استخدام المبدأ هو خير ما يمكنه أن يفعله. وهذا العزوف عن أي ادعاء للحقيقة يتيح له أن يدمج عنصرا تركيبيا قبليا في منطق تحليلي، وأن يفي بهذا الشرط، وهو أن يكون كل ما يؤكده على أساس منطقه حقيقة تحليلية فحسب. وهو لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا لأنه لا يؤكد نتيجة الاستدلال الاستقرائي، وإنما يرجحها فقط، وما يؤكده هو أن ترجيح النتيجة وسيلة لغايته. وهكذا يكتمل تطبيق المبدأ التجريبي القائل أن العقل لا يستطيع أن يقوم إلا بدور تحليلي في المعرفة، وأنه لا يوجد وضوح ذاتي تركيبي.
لقد كانت صعوبات المذهب التجريبي، التي صيغت في مذهب الشك عند هيوم، نتيجة لتفسير باطل للمعرفة، وهي تختفي إذا ما فسرت المعرفة تفسيرا صحيحا تلك هي النتيجة التي تفضي إليها فلسفة نمت من تربة العلم الحديث. أما فيلسوف المذهب العقلي فإنه لم يكتف بأن يقدم للعالم سلسلة من مذاهب الفلسفة التأملية التي لا يمكن قبولها، بل إنه قد عمل أيضا على تسميم التفسير التجريبي للمعرفة، بأن حث الفيلسوف التجريبي على التماس أهداف لا يمكن بلوغها. ولقد كان لا بد لتطور العلم من تجاوز النظرة إلى المعرفة على أنها نسق من الأحكام التي يمكن البرهنة على صحتها؛ وذلك قبل أن يتسنى الاهتداء إلى حل لشكلة المعرفة التنبئية. وكان لا بد أن يختفي السعي إلى اليقين في داخل أكثر علوم الطبيعة دقة. أي الفيزياء الرياضية، قبل أن يستطيع الفيلسوف تقديم تفسير للمنهج العلمي.
والواقع أن صورة المنهج العلمي كما ترسمها الفلسفة الحديثة مختلفة كل الاختلاف عن المفاهيم التقليدية. فقد اختفى المثل الأعلى لعالم يخضع مساره لقواعد دقيقة، أو لكون متحدد مقدما، يدور كما تدور الساعة المضبوطة، واختفى المثل الأعلى للعالم الذي يعرف الحقيقة المطلقة. واتضح أن أحداث الطبيعة أشبه برمي الزهر منها بدوران النجوم في أفلاكها؛ فهي خاضعة للقوانين الاحتمالية. لا للعلية. أما العالم فهو أشبه بالمقامر منه بالنبي؛ فهو لا يستطيع أن ينبئك إلا بأفضل ترجيحاته - ولكنه لا يعرف مقدما أبدا إن كانت هذه الترجيحات ستتحقق. ولكنه مع ذلك مقامر أفضل من ذلك الذي يجلس أمام المائدة الخضراء. لأن مناهجه الإحصائية أفضل، والهدف الذي يسعى إليه أسمى بكثير وهو التنبؤ برميات الزهر الكونية، فإذا ما سئل عن أسباب اتباعه لمناهجه. وعن الأساس الذي يبني تنبؤاته عليه، لم يكن في وسعه أن يجيب بأن لديه معرفة بالمستقبل تتصف باليقين المطلق، بل إنه يستطيع فقط أن يقدم أفضل ترجيحاته. ولكن في وسعه أن يثبت أن هذه بالفعل هي أفضل الترجيحات، وأن القول بها هو أفضل ما يمكنه عمله - وإذا كان المرء يعمل أفضل ما يمكنه عمله، فهل يستطيع أحد أن يطلب منه المزيد؟
الفصل الخامس عشر
فاصل: هملت يناجي نفسه
أن أكون أو لا أكون - هذا ليس سؤالا. وإنما هو تحصيل حاصل. إني لا أعبأ بالعبارات الفارغة، بل أود أن أعرف حقيقة حكم تركيبي؛ أود أن أعرف إن كنت سأكون. وهذا معناه أنني أود أن أعرف إن كانت ستواتيني الشجاعة للانتقام لأبي.
ولكن، لم كنت في حاجة إلى الشجاعة؟ صحيح أن زوج أمي، الملك، رجل قوي، وأنني سأخاطر بحياتي. ومع ذلك فلو استطعت أن أوضح للجميع أنه قتل أبي، فسيكون الجميع في صفي. ولكن هذا لن يحدث إلا إذا استطعت أن أوضحه للجميع. وهو على الأقل واضح لي.
لكن لم كان واضحا؟ إن لدي أدلة قوية. فقد كان الشبح مقنعا تماما في الحجج التي أدلى بها. ولكنه مجرد شيخ. فهل هو موجود؟ ليس من السهل أن أسأله. وربما كنت أحلم. ولكن هناك دليلا آخر؛ فلدى هذا الرجل دافع قوي إلى قتل أبي؛ فهي فرصة رائعة لكي يصبح ملكا للدانمرك! وهناك أيضا ذلك التعجل الذي تزوجته به أمي. كما أن أبي كان على الدوام رجلا صحيح الجسم. فهذا إذن دليل غير مباشر معقول.
ولكنه لا يعدو أن يكون كذلك - دليلا غير مباشر. فهل يحق لي أن أومن بما هو احتمالي فحسب؟ تلك هي النقطة التي أفتقر فيها إلى الشجاعة. فليست المسألة هي أنني أخشى الملك الحالي، بل إنني أخشى أن أفعل شيئا على أساس احتمال صرف. إن المنطقي ينبئني بأن الاحتمال لا معنى له بالنسبة إلى حالة فردية. فكيف إذن أستطيع أن أتصرف في هذه الحالة؟ هذا ما يحدث عندما تلتمس الإجابة لدى المنطقي. فاللون النضر للعزم والتصميم يعتل ويصفر بفعل الظل الشاحب للفكر. ولكن ماذا لو بدأت أفكر بعد الفعل ووجدت أنه لم يكن ينبغي أن أفعله؟
هل المنطقي شخص لا فائدة منه إلى هذا الحد؟ أنه ينبئني بأنه إذا كان هناك شيء محتمل، فمن حقي أن أرجحه وأسلك كما لو كان صحيحا. وحين أفعل ذلك أكون على صواب في العدد الأكبر من الحالات، ولكن هل سأكون على صواب في العدد الأكبر من الحالات.
إنني أرى مخرجا. فسأجعل الشواهد أقوى مما هي عليه، إنها لفكرة رائعة حقا، وسوف أنفذها. ستكون هذه تجربة حاسمة، فلو كانا قد قتلاه فلن يتمكنا من إخفاء انفعالاتهما. هذا فهم صحيح لنفسية الناس. فإذا كانت نتيجة التجربة إيجابية، فسأعلم القصة بأكملها علم اليقين. أتفهم ما أعني؟ إن في السماء والأرض أكثر مما حلمت به في فلسفتك، أيها المنطقي العزيز.
فهل سأعلم ذلك عن يقين؟ أنى أرى ابتسامتك الساخرة. ليس ثمة يقين. وإنما سيقوى الاحتمال، وستكون لترجيحي نسبة أعلى. وأستطيع أن أضمن نسبة مئوية أعظم من النتائج الصحيحة. هذا كل ما يمكنني بلوغه. لا مفر لي من القيام بترجيح. إنني أريد اليقين، ولكن كل ما يملكه المنطقي لي هو أن ينصحني بالقيام بترجيحات.
ها أنا ذا، هملت الخالد. فيم يجديني أن أسأل المنطقي، إن كان كل ما ينبئني به هو أن أقوم بترجيحات؟ إن نصيحته تؤكد شكي بدلا من أن تمنحني الشجاعة التي أحتاج إليها من أجل فعلي. إن المنطق ليس لي. وعلى المرء أن يكون أشجع من هملت لكي يسترشد دائما بالمنطق.
الفصل السادس عشر
الفهم الوظيفي للمعرفة
عرضنا في الفصول السابقة عددا من نتائج الفلسفة العلمية. كما استعرضنا الأداتين الرئيسيتين للمعرفة، وهما المنطق الاستنباطي والمنطق الاستقرائي، من حيث مناهجهما ونتائجهما. وأود أن أقدم في هذا الفصل موجزا لأعم أجزاء الفلسفة العلمية، الذي ظهر فيه فهم جديد للمعرفة، وقدم فيه حل علمي لمشكلة الواقع الفيزيائي. ولكي أوضح طبيعة هذا الفهم الجديد للمعرفة فسوف أقارنه بذلك الفهم الذي ظل سائدا بدرجات متفاوتة من الوضوح، في المذاهب الفلسفية التقليدية.
إن الفلسفة التأملية تتميز بالفهم المتعالي
1
للمعرفة، الذي تعلو فيه المعرفة على الأشياء الملاحظة وتتوقف على استخدام مصادر أخرى غير الإدراك الحسي، أما الفلسفة العلمية فقد توصلت إلى فهم وظيفي للمعرفة، يرى في المعرفة أداة للتنبؤ، ويؤكد أن الملاحظة الحسية هي المعيار الوحيد المقبول للحقيقة غير الفارغة. وأود أن أعرض كلا الرأيين بمزيد من التفصيل لكي أواجه كلا منهما بالآخر.
لقد كان التعبير الرمزي الكلاسيكي عن الفهم المتعالي للمعرفة هو تشبيه الكهف عند أفلاطون. فأفلاطون يصور كهفا يمشي فيه أشخاص عديدون، ولدوا فيه ولم يغادروه أبدا. هؤلاء الأشخاص مقيدون بسلاسل إلى أماكنهم بحيث يواجهون الجدار الخلفي للكهف ولا يستطيعون تحريك رءوسهم. وأمام مدخل الكهف توجد نار تلقى بأشعة من الضوء داخل الكهف وعلى الجدار الخلفي. وبين النار والمدخل يمشى أناس وتسقط ظلالهم على الجدار الخلفي للكهف، فيرى سكان الكهف هذه الظلال، ولكنهم لا يرون أبدا الناس الموجودين بالفعل، لأنهم لا يستطيعون أن يديروا رءوسهم، فيتوهمون أن الظلال هي الأشياء الحقيقية، ولا يعلمون أبدا أن هناك عالما في الخارج، لا يرون منه إلا الظلال. ويقول أفلاطون إن المعرفة التي يكونها البشر عن العالم الطبيعي إنما هي معرفة من هذا النوع. فعالم الإدراك الحسي أشبه بالظلال التي تتحرك على جدار الكهف. والفكر وحده هو الذي يستطيع أن يكشف لنا عن وجود حقيقة أعلى، لا تعد الموضوعات المنظورة بالنسبة إليها إلا صورا هزيلة.
ولقد ظل تشبيه الكهف، طوال ألفي عام، يرمز لموقف الفيلسوف التأملي. فهو يعبر عن رأي شخص لا يقنع بنتائج التجربة الحسية على الإطلاق، وتتملكه رغبة قوية في تجاوز مجال الموضوعات الملاحظة، وما يمكن أن يستخلص منها بالاستقراء. وهو يصور المعرفة التجريبية في صورة بديل هزيل لمعرفة أفضل لا يصل إليها إلا الاستبصار العقلي، وتظل وقفا على الرياضي والفيلسوف. وتلك هي النزعة المتعالية في أنقى صورها؛ ففيها يبدأ اتجاه في التفكير الفلسفي بلغة قمته في التمييز بين الظواهر والأشياء في ذاتها. ولقد أسفر ذلك المركب الشامخ للفلسفة العقلية، الذي وضعه كانت، عن تكرار للتقسيم الثنائي إلى عالم هنا وعالم «هناك»، وهو التقسيم الذي بدأ به المذهب العقلي مسيرته الظافرة طوال تاريخ الحضارة الغربية - والذي يرتبط من الوجهة النفسية ارتباطا وثيقا بالثنائية الدينية بين هذه الحياة الأرضية والحياة السماوية المقبلة.
وليس في وسع الفلسفة العلمية أن تقول الكثير لأولئك الذين يرفضون التخلي عن هذه الثنائية. فالمذهب العقلي إنما هو ميل انفعالي متحيز نحو عالم من الخيال، وهو سخط على الواقع الفيزيائي ينبثق عن دوافع غير منطقية، ولا يمكن شفاؤه إلا بوسائل خارجة عن مجال المنطق. وفي استطاعة عالم المنطق في أيامنا هذه أن يبين أن هدف النزعة العقلية لا يمكن بلوغه، وأن المعرفة المستمدة من العقل وحده فارغة، وأن العقل لا يستطيع أن يدلنا على قوانين الطبيعة. غير أن التخلي عن الرغبة في بلوغ ما لا يمكن بلوغه، وأن المعرفة المستمدة من العقل وحده فارغة، وأن العقل لا يستطيع أن يدلنا على قوانين الطبيعة. غير أن التخلي عن الرغبة في بلوغ مالا يمكن بلوغه يقتضي إعادة نظر في القيم الانفعالية. والواقع أن الرمز المعبر عن المثالي العقلي ليس هو ذلك الشخص الذي يكشف الأسباب غير الملاحظة للظواهر الملاحظة؛ إذ إن هذا هو ما يفعله العالم، الذي سرعان ما يتوصل بطريقة البرهان غير المباشر. لو قيد في كهف أفلاطون، إلى أن للظلال الملاحظة أسبابا خارجية.
2
فتجاوز نطاق الموضوعات الملاحظة بالاستدلال العلمي هو المنهج المشروع الذي يتبعه التجريبي. أما رمز المثالي فهو ذلك الشخص الذي يلجأ إلى أحلام اليقظة لأنه لا يستطيع أن يستمتع بالواقع مع كل ما فيه من نقائص أخلاقية وجمالية. فالمثالية هي المظهر الفلسفي للنزعة الهروبية، وقد كانت تزدهر على الدوام في أوقات الكوارث الاجتماعية التي زعزعت أسس المجتمع البشري. وعلى الرغم من صعوبة التغلب على الإرضاء التخديري للرغبات في الأحلام، فإن هناك وسائل للتخلص من الاعتقاد العقلاني بالأشياء في ذاتها، التي هي نقية خالصة، وغير ملاحظة، وتتجاوز الوجه السطحي للمظاهر، فقد يكون من الممكن أحيانا تحقيق عملية إعادة التكيف الانفعالي هذه بدراسة العلوم الوضعية، والشعور بالرضا الانفعالي الناتج عن السيطرة على الموضوعات الملاحظة والتنبؤ الناجح بسلوكها. ولكن قد يحتاج الأمر أحيانا إلى تدخل التحليل النفسي.
ولقد كانت الرسالة التاريخية التي تعين على التجريبية تحقيقها هي القضاء على الثنائية العقلانية؛ إذ حاولت التجريبية، منذ أيام الذريين والشكاك القدماء، أن تضع فلسفة لهذا العالم، رافضة أن تعترف بما يتجاوزه. ولم يكن من الممكن أن تنجح إلا بعد أن نفض العلم عن نفسه مظهره المتنكر في ثياب عقلانية. وهكذا فإن التحليل الرياضي للطبيعة، الذي كان يبدو في الأصل انتصارا للمناهج العقلانية، وقد اتضح بمضي الوقت أنه أداة لمعرفة تبني ما تدعيه من حقيقة على الإدراك الحسي، وأنه أداة فقط، وليس مصدرا للحقيقة. وبذلك أصبح القرنان التاسع عشر والعشرون، اللذان ندين لهما بهذا التطور، مهدا لنزعة تجريبية جديدة تكتف بمهاجمة المذهب العقلي، بل كانت لديها أيضا وسائل التغلب عليه. ونظرا إلى التجاء هذه النزعة التجريبية إلى مناهج المنطق الرمزي في تحليل المعرفة، فإنها تسمى أيضا بالنزعة التجريبية المنطقية
logical empiricism .
ونستطيع أن نسمي فلسفة النزعة التجريبية الجديدة باسم «الفهم الوظيفي للمعرفة»، في مقابل الفهم المتعالي للمعرفة. وتبعا لهذا التفسير لا تشير المعرفة إلى عالم آخر، وإنما تقدم عرضا للأشياء في هذا العالم، بغية أداء وظيفة تخدم غرضا، هو التنبؤ بالمستقبل. وأود الآن أن أناقش هذا الفهم، الذي أصبح مبدأ من مبادئ التجريبية المنطقية.
إن البشر أشياء ضمن سائر الأشياء الطبيعية، وهم يتأثرون بالأشياء الأخرى بتوسط أعضائهم الحسية. هذا التأثر يحدث أنواعا شتى من ردود الأفعال في الجسم البشري، أهمها رد الفعل اللغوي، أي تكوين نسق من العلامات. وقد تكون العلامات منطوقة أو مكتوبة، وعلى الرغم من أن الشكل المكتوب قد يكون أقل أهمية بالنسبة إلى أغراض الحياة من الشكل المنطوق، فإنه أرفع منه من حيث إنه يخضع لنظام من القواعد أدق، ويكشف بمزيد من الأحكام عن المضمون المعرفي للغة.
فما هو هذا المضمون المعرفي؟ إنه ليس شيئا يضاف إلى نسق العلامات، وإنما هو خاصية لنظام العلامات. فالعلامات أشياء فيزيائية، كخطوط المداد على الورق، أو الموجات الصوتية، تستخدم في علاقة تناظر مع أشياء فيزيائية أخرى، وهذا التناظر الذي لا يرتكز على أي تشابه، مبني على اصطلاح؛ مثال ذلك أن لفظ «البيت» يناظر البيت، ولفظ «أحمر» يناظر صفة الاحمرار، وتتجمع العلامات على نحو من شأنه أن تكون تجمعات معينة لها، تسمى بالجمل، مناظرة لحالات واقعة في العالم الفيزيائي. وفي هذه الحالة توصف تجمعات العلامات هذه بأنها صحيحة؛ مثال ذلك أن الجملة «البيت أحمر»، إذا كانت تناظر حالة واقعة فعلية، تسمى صحيحة. وهناك تجمعات أخرى للعلامات، يمكن تحويلها بإضافة العلامة «لا» إلى جمل صحيحة، تسمى تجمعات باطلة. ويسمى تجمع العلامات الذي يمكن بيان صحته أو بطلانه تجمعا ذا معنى ولهذا التصور أهميته؛ إذ إننا كثيرا ما نهتم بتجمعات للعلامات لا يمكن تحديد صحتها أو بطلانها في الوقت الراهن، ولكن يمكن تحديدها في وقت لاحق. وإلى هذا النوع تنتمي كل عبارة غير محققة، مثل «سيكون الغد يوما مطيرا».
وتعد الإشارة إلى القابلية للتحقيق عنصرا ضروريا في نظرية المعنى. فالجملة التي لا يمكن تحديد صحتها من ملاحظات ممكنة هي جملة لا معنى لها. وعلى الرغم من أن العقلانيين قد اعتقدوا أن هناك معاني في ذاتها، فإن التجريبيين في جميع العصور قد أكدوا أن المعنى يتوقف على القابلية للتحقيق. والواقع أن العلم الحديث إنما هو سجل حافل يؤيد هذا الرأي. ففي التحليل الذي قدمناه من قبل للمكان والزمان والعلية وميكانيكا الكوانتم، كان توقف المعنى على قابلية التحقيق واضحا، ولو لم يؤمن المرء بهذا الرأي لظلت الفيزياء الحديثة مستغلقة على فهمه. فنظرية المعنى من حيث هو قابلية التحقيق هي جزء لا يتجزأ من الفلسفة العلمية.
ولو قلنا: الجملة ذات معنى
the sentence is meaningful
لكان ذلك أفضل من قولنا الجملة لها معنى
the sentence has a meaning ؛ إذ إن الصيغة الأولى تظهر بمزيد من الوضوح أن المعنى صفة للعلامات وليس شيئا يضاف إليها. وترجع أهمية تجمعات العلامات ذات المعنى إلى أنها تتيح لنا الكلام عن حوادث لا نعرفها، ولا سيما حوادث المستقبل. فالأمر الذي يتيح الاستخدام النظري للمعرفة هو توسيع اللغة من جمل صحيحة إلى جمل ذات معنى، أي إن هذا التوسيع يتيح لمن يستخدم العلامات أن يصف عدة حوادث ممكنة، ويختار من بين صياغاته تلك التي يبدو أنها هي الأجدر بأن تعد صحيحة.
ومن الممكن تحقيق الجمل على أنحاء متعددة؛ فأبسط طرق التحقيق هي الملاحظة المباشرة، غير أن هذه الطريقة لا تسمح إلا بتحقيق مجموعة محدودة من الجمل، مثل «المطر يهطل» أو «زيد أطول من عمرو»، فإذا كانت الجملة المبنية على الملاحظة تشير إلى الماضي، فإننا نرى التحقيق ممكنا حتى لو لم يكن هناك ملاحظ. مثال ذلك أن الجملة «كان الثلج يسقط على جزيرة مانهاتن (في مدينة نيويورك) في الساعة الرابعة صباحا من يوم 28 نوفمبر.» هي جملة قابلة للتحقيق، وبالتالي ذات معنى؛ لأنه كان من الممكن وجود ملاحظ عندئذ، ولكن هناك جملا أخرى لا يمكن تحقيقها مباشرة. فالجملة القائلة إنه قد أتى على الأرض وقت كان يسكنها فيه حيوان «الديناصور»، ولم يكن الجنس البشري قد وجد فيه بعد، أو القائلة أن المادة تتألف من ذرات، لا يمكن تحقيقها إلا بطريق غير مباشر، بواسطة استدلالات استقرائية مبنية على ملاحظات مباشرة. ولكن لهذه الجمل معنى لأنها تقبل التحقيق غير المباشر. ويقدم إلينا حساب الاحتمالات القواعد الخاصة بهذا النوع من التحقيق. والجملة التي تحقق على هذا النحو تقال على أساس أنها ترجيح
. فإذا كانت متعلقة بالمستقبل، أمكن استخدامها مرشدا لأفعال مقبلة. ويتميز تركيب نسق العلامات المبني على هذا التعريف للمعنى بأن من الممكن استخدامه أداة للتنبؤ. وهذه هي وظيفته بالنسبة إلى من يستخدم العلامات. فإذا حقق هذا الفرض، سمي معرفة.
ولقد اعترض البعض بقولهم إن للمعنى طبيعة ذاتية، وإن أحدا لا يستطيع أن يقول لشخص معين ما يعنيه، وإن من الواجب السماح لكل شخص باستخدام ألفاظه بالمعاني التي تبدو له ملائمة. وعلى أساس هذا الاعتراض يكون إصرار الفيلسوف العلمي على استبعاد الجمل غير القابلة للتحقيق، أو على ضرورة جعل الملاحظة الحسية، مقترنة بالاستدلالات الاستقرائية أو الاستنباطية، أساسا للتحقيق - يكون هذا الإصرار تعسفا لا مبرر له في استخدام اللغة. ومع ذلك فإن هذا الاعتراض ينطوي على سوء فهم للطبيعة المنطقية للنظرية القائلة إن المعنى هو قابلية التحقيق. فليس المقصود من هذه النظرية أن تكون ضربا من الأمر الأخلاقي، بل إن الفيلسوف العلمي متسامح، وهو يدع كل شخص يعني ما يشاء. غير أنه يقول له: إذا استخدمت معاني لا يمكن تحقيقها، فإن كلماتك لن تستطيع أن تقدم وصفا لأفعالك. ذلك لأن ما تفعله موجه دائما إلى المستقبل، ولا يمكن ترجمة الأحكام المتعلقة بالمستقبل إلى تجارب ممكنة إلا بقدر ما يكون من الممكن تحقيقها. فالنظرية التجريبية في المعنى لا تقدم وصفا للمعاني الذاتية لدى الشخص، وإنما هي قاعدة تقترح بالنسبة إلى صورة اللغة، وهي قاعدة يستحسن اتباعها لأسباب مقنعة؛ فهي تحدد نوع المعنى الذي لو افترضناه لكلمات شخص معين لجعل كلماته متمشية مع أفعاله. وهذه الصفة الأخيرة هي كل ما يكون من المعقول اشتراطه بالنسبة إلى نظرية للمعنى. فأولئك الذين يتخذون من القابلية للتحقيق معيارا للمعنى يتكلمون لغة تتمشى مع سلوكهم، واللغة بالنسبة إليهم تؤدي وظيفة لا يمكن الاستغناء عنها في القيام بالأفعال، وهي ليست نسقا فارغا منقطع الصلة بعالم التجربة.
إن الفهم الوظيفي للمعرفة يخلص اللغة من جميع الأسرار التي أقحمها فيها المذهب العقلي طوال ألفي عام. وهي تؤدي إلى جعل طبيعة اللغة غاية في البساطة، ولكن الحل البسيط كثيرا ما يكون الاهتداء إليه هو الأصعب؛ فقد كان على ذرية المعرفة أن تتحرر أولا من وهم التركيبية القبلية، وهو الأثر المتخلف عن اتجاه صوفي نحو عالم من الكيانات التي تتجاوز الأشياء الملاحظة، قبل أن تشرع في التعبير عن المعرفة بوضوح على أنها وظيفية. ولم يكن من الممكن تقديم الدليل على أن المعرفة وظيفية وعلى أنها أفضل أداة للتنبؤ، قبل الاهتداء إلى تفسير مرض للاحتمال. فطوال الوقت الذي ظلت فيه التجريبية عاجزة عن تفسير استخدام الاستدلالات الاستقرائية والاحتمالات، كانت مجرد برنامج، لا نظرية فلسفية. ولم يكن من الممكن تنفيذ برنامج التجريبية، أعني المبدأ القائل أن كل حقيقة تركيبية تستمد من الملاحظة، وأن كل ما يسهم به العقل في المعرفة ذو طبيعة تحليلية، إلا بعد أن هيأ العلم في القرنين التاسع عشر والعشرين الوسائل الضرورية لذلك. فعصرنا هذا أول عصر يشهد نزعة تجريبية متسقة مع ذاتها.
إن النظرية القائلة إن المعنى هو قابلية التحقيق هي الأداة المنطقية التي يستطيع بها المذهب التجريبي أن يتغلب على ثنائية عالم المظاهر وعالم الأشياء في ذاتها. فهي تستبعد الأشياء في ذاتها لأنها تؤكد أن الكلام عن أشياء لا تقبل المعرفة من حيث المبدأ هو كلام لا معنى له. وبدلا من أن يتحدث التجريبي عن أشياء لا تقبل المعرفة، فإنه يتحدث عن أشياء لا تقبل الملاحظة، غير أن المعرفة تستطيع الوصول إلى هذه الأشياء الأخيرة، كما أن من الممكن التحدث عنها بطريقة ذات فالأحكام المتعلقة بأشياء لا تقبل الملاحظة يمكن أن يكون لها معنى بقدر ما يكون من الممكن استخلاصها من ملاحظات، وهي تكتسب معنى عن طريق التحويل، أي بفضل علاقتها بأشياء يمكن ملاحظتها. وقد نوقشت هذه العلاقات في الفصل الحادي عشر في صدد مشكلات فيزياء الكوانتم. ولا بد لنا من دراستها بمزيد من التفصيل، وفي صدد جميع ضروب المعرفة.
إن مشكلة الواقع، أي مسألة ما إذا كان العالم واقعيا، تنشأ من تجربة نفسية مألوفة: هي التمييز بين الحلم واليقظة. وهذا التمييز، بالطبع، ذو معنى، ولكن من الضروري بيان معناه وأصله بمزيد من الوضوح، لكي نتغلب على النتائج الباطلة الكثيرة التي استخلصها الفلاسفة منه.
فلنتخيل شخصا غير شاعر بالفرق بين الحلم واليقظة، ويكتب تقارير عن كل ما يلاحظه، مثل هذا الشخص سيكتب جملا مثل: «هناك كلب» و«زيد أتى لرؤيتي» و«السيارة لم يدر محركها» و«الفتاة وقفت في إناء الحساء»، وما إلى ذلك. ومن الواضح أن العبارة الأخيرة تشير إلى ما نسميه «حلما»، ولكن يوميات مثل هذا الشخص لا تتضمن إشارة صريحة إلى الحلم. ولم يكن من الممكن أن تكون هناك إشارة صريحة لأن ظواهر الحلم، في الوقت الذي تمر فيه بتجربتنا، لا تختلف من حيث الكيف عن الملاحظات الفعلية. وبعبارة أخرى فلا يمكن أن يعرف أي شخص، أثناء حلمه، أنه يحلم، ونستطيع أن ننظر إلى اليوميات الكاملة من هذا النوع، التي تجمع تقارير عن جميع ملاحظاتنا، ولكنها تفعل ذلك دون نقد. وتمتنع عن استخلاص استدلالات تتجاوز ما يجرب بالفعل - نستطيع أن ننظر إلى هذه اليوميات على أنها هي الأساس المنطقي للمعرفة البشرية. وعلى الفيلسوف. لكي يدرس بناء المعرفة، أن يبحث في الاستدلالات التي تؤدي من هذا الأساس إلى أحكام عن الموضوعات الفيزيائية، والأحلام، وكل أنواع التراكيب العلمية. كالكهرباء، أو المجرات، أو عقدة الذنب. فلنتخيل إذن شخصا يحاول بناء نسق للمعرفة من الجمل التي يسجلها في تقاريره المتضمنة في يومياته الكاملة هذه.
إنه سيحاول إيجاد نظام في هذه الجمل، بترتيبها في جماعات. وصياغة قوانين عامة تسري عليها؛ مثال ذلك أنه سيكتشف القانون الآتي: حيثما كانت هناك جملة تقرر أن الشمس مشرقة، توجد جملة لاحقة تقرر أن الجو يزداد دفئا. فيصوغ هذه النتيجة بعد ذلك على أنها علاقة بين الأشياء؛ فكلما أشرقت الشمس أصبح الجو أدفأ. ومع ذلك فإنه سرعان ما يكتشف أن هناك مجموعة معينة من الجمل، كالجملة المتعلقة بوجود الفتاة في إناء الحساء، ينبغي عزلها عن الأخريات، فهو لا يستطيع إدراجها في النسق المنظم؛ لأنها لا تؤدي إلى تنبؤات صحيحة، وبالتالي لا تؤدي إلى قوانين عامة. مثال ذلك أنه سيجد تبريرا يقول له إنه كلما وضع إصبعه في إناء الحساء ابتل ذلك الإصبع، ولكن يبدو أن أرجل الفتاة لم تظهر فيها هذه النتيجة بعد خروجها من إناء الحساء. وعلى ذلك فهو يسمي هذه المجموعة من التقارير التي تكون جزيرة منطقية، باسم الأحلام.
فالنتيجة المنطقية التي يؤدي إليها هذا التحليل هي أن من الممكن تحقيق الفارق بين الحلم واليقظة عن طريق فوارق تركيبية في مجموعة التقارير، وهذا فارق ذو معنى؛ لأن من الممكن ترجمته إلى علاقات قابلة للتحقيق؛ فالأحلام لا تمدنا بملاحظات تتيح التنبؤ بتجارب أخرى. هذه النتيجة تؤدي إلى تصنيف للجمل الواردة في تقاريره إلى جمل ذات صحة موضوعية وجمل ذات صحة ذاتية فحسب. ولكي يكون لدينا اسم ينطبق قبل القيام بهذا التمييز، فسوف أصف جميع الجمل الواردة في تقاريره بأنها ذات صحة مباشرة؛ أي إن من المفترض أنها ليست أكاذيب. وتنقسم الصحة المباشرة إلى صحة موضوعية وصحة ذاتية، نتيجة لإجراءات التنظيم الداخلي، أي لتنظيم لا يتجاوز نطاق الجعل الواردة في اليوميات الكاملة.
ومن الجمل ننتقل إلى الأشياء؛ فالتقارير التي تتصف بالصحة الموضوعية، يقال عنها إنها تشير إلى أشياء موضوعية. والتقارير التي لا تتصف إلا بالصحة الذاتية وحدها يقال عنها إنها تشير إلى أشياء ذاتية. وهكذا يكون لدينا الآن نوعان من الأشياء كلها تعد أشياء مباشرة. ولكن الأولى وحدها هي الأشياء الموضوعية أو الواقعية. فما هي الثانية؟
لكي نبحث في هذه الأشياء الأخيرة سنخترع مفهوم «جسمي». فنقول إن موضوعا من بين الموضوعات الفيزيائية يسمى «جسمي» يتأثر سببيا بالأشياء الفيزيائية الأخرى، وتكون له نتيجة لذلك حالة فسيولوجية خاصة، فحيثما كان هناك شيء موضوعي ورد في اليوميات كان «جسمي» في حالة معينة . ولكنه قد يكون في هذه الحالة حتى لو لم يكن هناك شيء موضوعي. وفي هذه الحالة الأخيرة نتحدث عن شيء ذاتي. وعلى ذلك فإن الأشياء الذاتية. وإن لم تكن واقعية، تدل على أشياء واقعية من نوع آخر؛ فهي تدل على حالات لجسمي.
هذه العبارة الأخيرة تبدو أشبه بمغالطة منطقية: فإذا كان هناك شيء غير موجود يدل على شيء موجود. فلا بد أن يكون بدوره موجودا. ولا بد لكي نتغلب على هذه المفارقة من أن نصوغ استدلالاتنا بصورة أدق. وهذا ما يتحقق بالرجوع إلى الجمل الواردة في اليوميات؛ فقد رأينا أن هذه الجمل ليست كلها صحيحة موضوعيا. والآن نجد أنه إذا لم تكن إحدى جمل التقرير صحيحة موضوعيا، ففي استطاعتنا أن نستدل، لا على أن هناك موضوعا فيزيائيا مناظرا. بل على أن هناك حالة لجسمنا يمكن أن تحدث بدورها لو كان هناك موضوع مناظر. وإذ نتحدث عن جمل، فإننا نتجنب ألفاظا مثل «الأشياء الذاتية». وبالعكس، فلما كان من الممكن إجراء هذه الترجمة إلى لغة تتحدث عن جمل، فإن من المسموح به أيضا استخدام أمثال هذه الألفاظ، وعلى ذلك فإن لنا أن نقول إن الأشياء الذاتية لها وجود ذاتي، وبذلك نستخدم كلمة الوجود بمعنى وهمي. فأمثال هذه التعبيرات مباحة لا لشيء إلا لأن من الممكن استبعادها.
وهكذا فإن تقسيم عالم التجربة إلى أشياء موضوعية وأشياء ذاتية، يتم عن طريق استدلالات صحيحة، ويعبر عنه بطريقة مشروعة في الكلام. فإذا افترضنا أن جميع الجمل التقريرية صحيحة موضوعيا، سنجد أن بعضها ليس كذلك. وهذا استدلال صحيح من النوع الذي يطلق عليه المنطقي اسم «برهان الخلف
reductio ad absurdum »، وهو يعني أن افتراض كون جميع الجمل التقريرية صحيحة موضوعيا «يرد إلى حالة الخلف أو الامتناع». ولكي ندرج هذه الجمل التقريرية التي ليست صحيحة موضوعيا في عالم فيزيائي متسق، فإنا نفترض وجود الملاحظ البشري، الذي يمكن أن يكون جسمه في حالات ملاحظة دون أن تكون هناك أشياء موضوعية. وهكذا ترتبط جمل الحلم بجمل اليقظة عن طريق علاقات نظامية. وفي استطاعتنا وضع قوانين نفسية تفسر الأحلام، وبالفعل استحدث التحليل النفسي طرقا تربط تجارب الحلم سببيا بتجارب سابقة في حالة اليقظة. وهكذا تفقد مجموعات جمل الحلم طابعها المنعزل، وتدمج في النسق الكلي، ومع ذلك فإن التفسير الذي نفهمها به في هذه الحالة يختلف اختلافا بينا عن تفسير الجمل الأخرى.
وعلى ذلك فإن وسيلة إدخال الملاحظ البشري وحالاته الجسمية هي فرض فيزيائي. ولا بد لنا من أن نقوم باختبار أدق للاستدلالات التي أدت إلى هذا الفرض؛ فعندما نحاول تشييد نسق مترابط من القوانين للأشياء الفيزيائية، نضطر في كثير من الأحيان إلى افتراض وجود أشياء فيزيائية أخرى معينة لا يمكن أن تلاحظ مباشرة. مثال ذلك أننا، لكي نصف الظواهر الكهربائية، نفترض أن ثمة كيانا فيزيائيا يسمى بالكهرباء، يسري في الأسلاك أو يسير كالأمواج في المكان المفتوح. ونحن في هذه الحالة نلاحظ ظواهر مثل انحراف الإبرة الممغنطة، أو صدور الموسيقى عن جهاز الاستقبال اللاسلكي، ولكن الكهرباء لا تلاحظ أبدا بطريقة مباشرة. وأود أن أستخدم للتعبير عن هذه الكيانات الفيزيائية اسم «المستنبطات
illata »، أي الأشياء المستدل عليها. وهي تتميز عن «العينيات
concreta » التي تؤلف عالم الأشياء الملاحظة. كما أنها تتميز عن «المجردات
abstracta » التي هي تجمعات للعينيات، ولا يمكن ملاحظتها مباشرة لأنها كليات شاملة؛ مثال ذلك أن لفظ «الرخاء» يشير إلى مجموع من الظواهر الملاحظة، أي العينيات، ويستخدم بوصفه تعبيرا مختصرا يلخص كل هذه الموضوعات الملاحظة في علاقاتها المتبادلة، أما المستنبطات فليست تجمعات للعينيات، وإنما هي كيانات منفصلة يستدل عليها من العينيات، ووجودها لا يعدو أن يكون أمرا ترجحه العينيات.
فالحالات الداخلية للجسم البشري مستنبطات
illata
لأننا لا نستطيع أن نلاحظ إلا ردود أفعال الجسم، لا حالاته الداخلية، وضمنها مختلف حالات المخ.
ولكي نصف هذه الحالات نستخدم طريقة غير مباشرة في الكلام، فنتحدث مثلا عن «الحالة التي تحدث لو رأى الشخص كلبا.» هذه الطريقة في الكلام تسمى «لغة المنبه
stimulus language » فنحن نميز حالة جسمية عن طريق وصف نوع المنبه الذي يؤدي إلى إحداث هذه الحالة.
ومن الممكن إيضاح هذا النوع من اللغة بمثل مستمد من الفيزياء. فعداد السرعة يقيس سرعة السيارة تبعا لحركة إبرة. ولهذا الغرض يتم الاتصال بين العجلات الدائرة للسيارة وبين الإبرة عن طريق تروس ومحور مرن على نحو من شأنه أن تؤدي زيادة السرعة إلى انحراف زاوية الإبرة، وهكذا يسجل على لوحة الأرقام السرعة المناظرة لكل موقع من مواقع الإبرة. فما تدل عليه الإبرة مباشرة هو حالة داخلية لعداد السرعة، ولكنه يدل على هذا النحو، بطريق غير مباشر، على سرعة، تقوم بدور أشبه بدور «المنبه»، فتجعل الآلة في هذه الحالة. وقد كنا نستطيع أن نستخدم الأرقام الموجودة على اللوحة لإيضاح الحالات الداخلية لعداد السرعة، بدلا من استخدامها مقياسا لسرعة السيارة. أي أننا نستطيع أن نقول، حين ننظر إلى الأرقام المسجلة على اللوحة، «إن عداد السرعة في حالة ستين ميلا في الساعة.» وهكذا فإننا نصف حالة الآلة بطريق غير مباشر، بلغة المنبه.
هذا المثل يساعد على توضيح طبيعة الأشياء الذاتية؛ فالأشياء التي ترى في حلم لها نوع الوجود الذي يكون لسرعة الستين ميلا في مثال عداد السرعة الذي ينظر إليه بمعزل عن السيارة. وفي هذه الحالة يكون للكلام عن الوجود ما يبرره بوصفه طريقة في الكلام، غير أن الوجود الفيزيائي يقتصر على حالات عداد السرعة التي توصف على هذا النحو وصفا غير مباشر؛ فثنائية حالة اليقظة وحالة الحلم لا تشكل صعوبات للفلسفة التجريبية. وهي لا تحتاج إلى إدخال أشياء «تتجاوز» عالم الأشياء الفيزيائية، ولا تفتح الطريق أمام النزعة المتعالية. بل إن من الممكن تفسيرها تفسيرا كاملا في إطار فلسفة متعلقة «بهذا العالم». ومن الممكن ترجمة معنى الأحكام المتعلقة بأشياء موجودة في الحلم، إلى معنى أحكام متعلقة بأشياء موضوعية.
هذا التحليل يتيح لنا إيضاح معنى السؤال عما إذا كان العالم واقعيا. فمن الممكن تفسير هذا السؤال على أنه يعني: هل نحن الآن في حالة يقظة أم في حلم؟ وهذا دون شك سؤال ذو معنى. بل إننا قد مررنا في الواقع بحالات حلم تساءلنا فيها هذا السؤال، واستنتجنا في إجابتنا أننا أيقاظ، ثم اكتشفنا فيما بعد أننا كنا على خطأ، أي أننا كنا لا نزال نحلم. فهل يمكن أن يكون نفس الشيء حادثا الآن؟ إننا لا نستطيع أن نستبعد احتمال أننا سنكتشف، بعد وقت معين، أننا كنا نحلم الآن، ونحن نشعر شعورا شبه مؤكد بأن هذا لن يحدث، ولكن ليس لدينا ضمان مطلق بأنه لن يحدث.
فإذا عدنا الآن إلى المثال المنطقي الذي ضربناه من قبل، وهو مثال اليوميات الكاملة، فإننا نستطيع صياغة هذه الفكرة على النحو الآتي: من الممكن أن نميز، داخل جملنا التقريرية، بين جمل الأحلام التي هي أشبه بجزر منعزلة. وبين بقية الجمل، لأن المجموع الباقي يسمح بتكوين ترتيب من خلال قوانين السببية. ولكنا لا نستطيع أن ندعي على وجه اليقين أن هذا الترتيب سيكون ممكنا على الدوام. فلتتخيل أنك درست الجمل الخمسمائة الأولى في اليوميات، واكتشف أن مجموع الجزر فيها 30 جملة، ونجحت في ترتيب الجمل الباقية، البالغ عددها 470 جملة. ثم تقول الآن: «إنني يقظ»، وبعد ذلك تستمر اليوميات، وتجد بعد ذلك 1000 جملة أخرى لا يمكن الجمع بينها وبين ال 470 جملة. وإنما يمكن ترتيبها فيما بينها ترتيبا معقولا. وسوف تستنتج من ذلك أن ال 470 جملة كانوا جزيرة. أي إنك كنت تحلم، ولم تصبح يقظا بحق إلا الآن. فهل أنت الآن واثق من أن الأمر لن يستمر على هذا النحو؟ ألا يجوز أن يظهر ألفا جملة أخرى ترغمك على أن تنظر إلى حالتك الراهنة على أنها حلم؟ ألا يجوز أن تتكرر نفس هذه التجربة المدمرة على الدوام؟
من حسن الحظ أن أمثال هذه التجارب لا تحدث، ولكننا لا نستطيع أن نستبعدها بحجة منطقية. وعلى ذلك فليس في استطاعتنا أن نقول إن أمثال هذه التجارب مستحيلة، ولو حدثت بالفعل، وانقطع خيط التجارب المرتبة، ثم عاد إلى الالتئام، ولكنه يعود على الدوام إلى الانقطاع؛ فعندئذ لن يمكننا الحديث عن عالم فيزيائي موضوعي. وهكذا فإن القضية القائلة إن ثمة عالما فيزيائيا موضوعيا لا يمكن الأخذ بها إلا على أساس أنها قوية الاحتمال ، لا على أساس أنها ذات يقين مطلق؛ فلدينا دلائل استقرائية قوية على وجود عالم فيزيائي - غير أن هذا هو كل ما يمكننا القول به. والكلام عن عالم فيزيائي موضوعي هو كلام ذو معنى لأن القضايا المتعلقة بمثل هذا العالم يمكن استخلاصها استقرائيا من الملاحظات.
ولنلاحظ أن اللغة التي نتحدث بها عن العالم الفيزيائي لا تتحدد بالملاحظات وحدها، فهي معرضة لمظاهر الغموض التي أشرنا إليها في الفصل الحادي عشر منسوبة إلى شخصية خيالية أطلقنا عليها اسم الفيلسوف اليوناني بروتاجوراس، فهناك كثرة من الأوصاف المتكافئة، وليست اللغة الواقعية المعتادة التي نصف بها العالم الفيزيائي إلا واحدا من هذه الأوصاف، هو ذلك الذي أطلقت عليه اسم «النظام السوي
normal system »، ولا تستطيع الاستدلالات الاستقرائية أن تثبت الصورة المألوفة للأحكام المتعلقة بعالم خارجي إلا بعد أن نكون قد وضعنا القاعدة القائلة بهوية القوانين فيما بين الموضوعات الملاحظة والموضوعات غير الملاحظة. ولهذه القاعدة طبيعة تعريف يحدد صورة اللغة، ومن الممكن تسميتها بقاعدة امتداد
extension rule ، لأنها تزودنا بوسيلة الامتداد باللغة إلى مجال موضوعات أوسع، يشمل الموضوعات غير الملاحظة. غير أن كون القاعدة قابلة للتطبيق، ووجود نظام سوي لوصف العالم الفيزيائي للحياة اليومية، هو واقعة تجريبية، أو هو بعبارة أدق واقعة مستمدة بواسطة استدلالات استقرائية. وبهذا المعنى يكون القول بوجود واقع فيزيائي فرضا يرتكز على أساس استقرائي متين.
ولنقل بتعبير آخر إن من الممكن إيجاد تمييز واضح بين القضية القائلة «أن هناك عالما فيزيائيا» وبين القضية القائلة «ليس هناك عالم فيزيائي»، لأننا نستطيع أن نستشهد بتجارب تجعل إحدى القضيتين محتملة والأخرى بعيدة الاحتمال. والقضيتان تختلفان في مضمونهما التنبئي؛ فالنظرة الوظيفية إلى المعرفة تنسب معنى قابلا للتحقيق إلى الفرض القائل بوجود عالم فيزيائي.
وأود أن أقارن بين هذا التحليل وبين المناقشة التقليدية لمذهب «الذات الوحيدة
solipsism » فالنظرية الفلسفية التي تقول بالذات الوحيدة ترى أن كل ما يمكننا تأكيده هو أن لدينا تجارب، ولكننا لا نستطيع أبدا أن نتجاوز نطاق هذا التأكيد ونثبت أن هناك واقعا موضوعيا. وعلى الرغم من أننا لا نكاد نجد أحدا يتخذ هذا الموقف بالفعل، فقد بنى عليه بعض الفلاسفة مذهبا فلسفيا، ومن هؤلاء جورج باركلي
G. Berkeley
وماكس شتيرنر
M. Stirner
وعندما أقول إن هذين المفكرين ذاتهما لم يؤمنا بهذه النظرية بالفعل، أشير إلى واقعة أنهما ألفا كتبا تعرض نظريتهما، وهي واقعة لا يمكن تفسيرها لو لم يكونا يعتقدان بوجود أشخاص آخرين يمكنهم قراءة هذه الكتب . وكثيرا ما قيل إن نظرية الذات الوحيدة، على الرغم من بعدها التام عن كل ما هو معقول، لا يمكن أن تفند بحجج منطقية، لأن كل ما تثبته تجاربنا هو أن لدينا تجارب، لا أن هناك عالما فيزيائيا.
ولست أعتقد أن الموقف ميئوس منه إلى هذا الحد؛ فالقائل بالذات الوحيدة يرتكب خطأ أساسيا؛ إذ يعتقد أنه يستطيع إثبات وجود شخصه هو. ولكن كشف «الأنا»، أي شخصية الملاحظ، مبني على استدلالات من نفس النوع الذي يبنى عليه كشف العالم الخارجي. والجزر الموجودة في اليوميات تفسر بأنها حالات جسمية للملاحظ بنفس الطريقة التي تعد بها الجمل الباقية دليلا على وجود عالم فيزيائي، بل إن الجزر في الواقع تدمج على هذا النحو في تفسير فيزيائي شامل، ما دام الملاحظ جزءا من العالم الفيزيائي. ولقد قلنا من قبل إن افتراض الملاحظ وحالاته الجسمية يؤدي إلى فقدان الجمل التي تمثل جزرا لطابع الجزر فيها، وتغدو جملا تصف العالم الفيزيائي، من حيث إنها تعد جملا تصف الملاحظ، وهكذا فإننا إذا استطعنا أن نثبت وجود الأنا، نستطيع أيضا أن نثبت وجود العالم الفيزيائي، وضمنه وجود الأشخاص الآخرين. فالقائل بمذهب الذات الوحيدة يغفل هذا التوازي بين الاستدلالات، وهو يصف الأنا وتجاربه بأنه معرفة مطلقة، ثم يعجز عن استخلاص العالم الخارجي، غير أن عجزه هذا نابع من منطقه الهزيل.
ولقد كان التحليل الصحيح للموقف هو ذلك الذي قدمناه من قبل؛ فليس لدينا دليل قاطع بصورة مطلقة على أن هناك عالما فيزيائيا وليس لدينا دليل قاطع بصورة مطلقة أيضا على أننا موجودون. ولكن لدينا دليلا استقرائيا قويا على الأمرين معا، وباستخدام نتائج تحليل الاستدلال الاستقرائي، نستطيع أن نقول: إن لدينا أسبابا قوية لترجيح وجود العالم الخارجي فضلا عن أشخاصنا؛ ذلك لأن كل معرفة لنا إنما هي ترجيحات، وعلى ذلك فإن أعم معرفة لدينا، أعني معرفتنا بوجود العالم الفيزيائي وبوجودنا نحن البشر في داخله، هي ترجيح.
والواقع أن إدماج الملاحظ البشري في العالم الفيزيائي هو سمة من أهم السمات المميزة للفلسفة التجريبية ؛ فالنظرة المتعالية إلى المعرفة تحدث انشقاقا بين الواقع الفيزيائي وبين الذهن البشري، وبذلك تصل إلى مشكلات لا تحل، مثل مشكلة الطريقة التي يمكننا أن نستدل بها على الواقع من معطيات ذهنية. وعلى الرغم من أن الوجود الذهني يسمى عادة وجودا فكريا أو مثاليا، ويميز من وجود الحلم، فمن الواجب التماس الأصل النفسي للمثالية في تجارب الحلم والصور التي يمكننا بعثها بإرادتنا في حالة اليقظة. والتحليل غير السليم لهذه الصور هو الذي يؤدي إلى النظر إلى الذهن على أنه كيان مستقل، ونوع من الجوهر المشابه للجوهر الفيزيائي. وأن يكن له حقيقة خاصة به. ولا يمكن أن يأتي الرد على الفلسفة التأملية ذات الطابع المثالي إلا بواسطة فلسفة تجريبية تستعين بما في متناول يدها من أدوات المنطق الحديث، فتنظر إلى المعرفة على أنها ترجيحات استقرائية مبنية على جعل تقريرية مباشرة. وهكذا فإن الفهم الوظيفي للمعرفة، وإرجاع المعنى إلى قابلية التحقيق، هو الذي يؤدي إلى القضاء على النزاع التقليدي بين المثالية والواقعية. أو المادية.
ومن الغريب حقا أن النظرة المثالية إلى الأنا على أنه مشيد العالم الفيزيائي قد وجدت في الآونة الأخيرة تأييدا جديدا في بعض تفسيرات ميكانيكا الكوانتم وهي تفسيرات تقوم باستخدام غير مشروع لفكرة هيزنبرج القائلة إن عملية الملاحظة تغير طبيعة الموضوع الملاحظ، ولفكرة التكامل
complementarity
عند بور
Bohr . فتبعا لهذه التفسيرات، يؤدي مبدأ اللاتحدد عند هيزنبرج إلى النتيجة القائلة إن من المستحيل وضع حد فاصل بين الملاحظ وبين الموضوع الفيزيائي. فلما كان الملاحظ يغير العالم بعملية الملاحظة، فليس في استطاعتنا أن نحدد ماذا يمكن أن يكون عليه العالم في ذاته، مستقلا عن الملاحظ البشري. وقد أوضح التحليل الذي قدمناه من قبل (في الفصل الحادي عشر) أن هذا تفسير باطل لميكانيكا الكوانتم. فعدم تحدد الموضوعات غير القابلة للملاحظة لا وجود له إلا بالنسبة إلى الانتقال من العالم الأكبر إلى العالم الأصغر، ولكن لا يوجد عدم تحدد من هذا النوع عند بحث الانتقال من الموضوعات الملاحظة لبيئتنا إلى الموضوعات الكبيرة غير الملاحظة. بل إن هناك، بالنسبة إلى هذا الانتقال الأخير، نظاما سويا، يتيح لنا أن نتحدث عن عالم خارجي باللغة الواقعية المعتادة. فليس للاتحدد الخاص بميكانيكا الكوانتم شأن بالعلاقة بين الملاحظ البشري وبيئته. وهو لا يبدأ بالقيام بدوره إلا في مرحلة تالية، عندما يتعين الاستدلال على عالم الموضوعات الصغرى من عالم الموضوعات الكبيرة.
هذه الحقيقة تظهر بوضوح تام عندما نفترض أن كل أدوات الملاحظة مركبة كأدوات تسجيل، تعرض نتائج القياسات في صورة أرقام مطبوعة على شريط من الورق. فعندما ينظر الملاحظ إلى شرائط الورق، فمن المؤكد أنه لا يغيرها؛ إذ إن ملاحظته عملية تنتمي إلى العالم الأكبر. وهكذا يستطيع أن يستدل بالطريقة المعتادة على أن هناك عمليات قياس معينة تحدث. ولا يبدأ اللاتحدد في التدخل في قياساته إلا عندما ينتقل إلى الاستدلال من عمل الآلات على أن هناك حوادث دقيقة معينة تحدث، يستطيع تفسيرها إما بأنها موجات وإما بأنها جزيئات. هذه الفكرة الشديدة البساطة تؤدي إلى استبعاد جميع التفسيرات المثالية لفيزياء الكوانتم. وهي تبين أن التجربة لا ينبغي لها أن تخشى شيئا من كشوف الفيزيائي، وأن النكسات الحديثة التي تعود بنا إلى المثالية لا تجد تأييدا من الفيزياء الحديثة - وذلك إذا ما تحرر تحليل الفيزياء من اللغة الغامضة وأجرى يدقه المنطق الحديث.
وبعد مناقشة الاستدلالات التي أدت إلى بناء الأنا على أساس التقريرات المباشرة، سيكون من المفيد أن نناقش بشيء من التفصيل كيف يعالج تصور العقل في فهم وظيفي للمعرفة، يطبق مصادرة قابلية التحقيق على القضايا المتعلقة بالعقل.
فلنفرض أن العلماء نجحوا في صنع إنسان آلي كامل، يكون في استطاعته أن يتكلم، ويجيب على الأسئلة، ويفعل ما يؤمر به، ويقدم جميع أنواع المعلومات المطلوبة، فمن الممكن مثلا إرساله إلى محل البقالة وجعله يسأل البقال عن سعر البيض اليوم، ثم يعود بالجواب. فهي إذن ستكون آلة كاملة، ولكن ليس لها عقل. فكيف تعرف أنه ليس لها عقل؟
ستقول إن السبب هو أنها لا تستجيب كالبشر في النواحي الأخرى. فهي لا تقول لك أن الجو بديع اليوم، ولا تشكو أبدا من ألم في الضرس. ولكن ماذا تقول لو كانت تفعل ذلك؟ لنفرض أن سلوكها يماثل سلوك البشر في كل النواحي - فهل تستطيع أن تظل تؤكد أنها آلة بلا عقل؟
إننا نستطيع أن نوجه هذا السؤال بالطريقة الآتية أيضا؛ فلنفرض أنك انتزعت العقل مؤقتا من إنسان، بحيث يكون له في بعض الأوقات عقل ويتصرف كالمعتاد، ولا يكون له في فترات أخرى عقل، ولكنه يتصرف كما كان تماما. ولست أعني بذلك أنه سيكون مثل دكتور جيكل ومستر هايد، لأن مستر هايد يسلك بطريقة تختلف تماما عن دكتور جيكل، وإنما أعني أنه سيكون مماثلا لدكتور جيكل فقد عقله مؤقتا، ولكنه ظل دائما هو دكتور جيكل نفسه، فكيف تعرف أنه ليس لديه عقل في تلك الفترات؟
من الواضح، تبعا لما قلناه عن معنى الجمل، أن السؤال لا معنى له. فهو من قبيل الأسئلة القائلة أن الأشياء جميعا، وضمنها أجسامنا، أصبح حجمها عشرة أضعاف ما كان عليه عندما نمنا مساء أمس، فليس ثمة فارق يمكن تحقيقه بين حالتي الشخص، وإذا افترضنا أن لديه عقلا في إحدى الحالتين، فينبغي أن نسلم بأن لديه عقلا في الحالة الأخرى؛ فالعقل لا ينفصل عن حالة معينة للتنظيم الجسمي، ويترتب على ذلك أن العقل والتنظيم النفسي الذي هو من نوع معين هما شيء واحد.
ونستطيع أيضا أن نقول إن لفظ «العقل» هو اختصار يعبر عن حالة جسمية تدل على أنواع معينة من الاستجابات. أما الاعتقاد بأن العقل أكثر من ذلك، فيذكرنا بالرجل الذي كانت لديه سيارة قوتها 130 حصانا وأحس بخيبة أمل شديدة عندما فك محرك السيارة ولم يجد المائة والثلاثين حصانا؛ فالاعتقاد بالوجود المستقل للعقل هو مغالطة تنشأ عن سوء فهم الألفاظ المجردة. ذلك لأن اللفظ المجرد يمكن ترجمته إلى عدد كبير من الألفاظ العينية، والموضوع الذي يسدل عليه ليس إلا مجموع كل الموضوعات العينية المتعلقة به. وإذن فمسألة وجود العقل هي مسألة استخدام صحيح للألفاظ، وليست مسألة وقائع.
على أن القول بالوجود المستقل للعقل هو عصب المذهب المتعالي، فهذا المذهب ينظر إلى الظواهر العقلية (أو الذهنية) على أنها مظاهر لوجود غير فيزيائي، ولا توجد إلا خطوة واحدة بين هذا التفسير وبين الاعتقاد بحقيقة أعلى، تكون الأشياء المنظورة مجرد ظلال لها. غير أن مشكلة العقل والجسم لا تعد مشكلة فلسفية إلا لأن صياغتها المعتادة تعاني من صعوبات لغوية، أدت بالفيلسوف إلى الوقوع في ورطة منطقية شديدة. فاللغة التي نصف بها الظواهر الذهنية والانفعالية لم تصنع لهذا الغرض، وهي لا تحقق هذا الغرض إلا باستخدام تراكيب منطقية معقدة إلى حد ما. فلغة الحياة اليومية - وهي اللغة التي نستخدمها في الأوصاف النفسية - قد ارتبطت في نموها بالموضوعات العينية المحيطة بنا، وهي لا تسمح إلا بوصف غير مباشر للظواهر النفسية أنها لغة منبه، بالمعنى الذي أوضحناه من قبل. فنحن نقول مثلا إن لدينا صورة لشجرة في ذهننا، غير أن كلمتي «صورة» و«شجرة»، في معنييهما الأصليين، تشيران إلى موضوعات عينية، ولا يمكن أن تعبرا عما نعنيه إلا بطريق غير مباشر. ولو شئنا أن نأتي بصيغة أدق لهذه الفكرة نفسها لوجب أن نقول أن جسمنا في حالة من ذلك النوع الذي ينجم لو أن الأشعة الضوئية المنبعثة عن شجرة وصلت إلى أعيننا، وإن لم تكن توجد في هذه الحالة الخاصة شجرة ولا أشعة ضوئية. فليس في لغتنا ألفاظ تشير مباشرة إلى الحالات الجسمية، وعلينا أن نستخدم وصفا غير مباشر من خلال الموضوعات الخارجية.
إن من الواجب ترجمة التقارير النفسية بدقة قبل أن يصبح من الممكن الإجابة على الأسئلة الفلسفية المتعلقة بالعقل، ولو أغفلت هذه القاعدة، لأدى ذلك إلى إثارة مشكلات وهمية. مثال ذلك أن يقال إننا لا نرى حالاتنا الجسمية، ولكنا نرى شجرة في حلم، على الرغم من عدم وجود شجرة. ولكن لا يوجد منطقي يزعم أننا نرى حالة جسمية. فكلمة «يرى» قد نحتت على نحو من شأنه أن تشير إلى موضوعات فيزيائية خارجية، وكل ما يقول به المنطقي هو أن الجملة الكاملة «أنا أرى شجرة» معادلة للجملة «جسمي في حالة فسيولوجية»، ولدى المنطق الحديث من الوسائل ما يمكنه من معالجة هذا النوع من المعادلات.
وهناك مشكلة وهمية أخرى يؤدي إليها السؤال: إذا وقعت أشعة ضوئية على العين البشرية ونقلت التأثيرات العصبية من الشبكة إلى المخ، فكيف وأين تتحول التأثيرات إلى إحساس باللون الأزرق؟ هذا السؤال مبني على فرض سابق باطل. فالتأثيرات لا تتحول إلى إحساس في أي مكان، بل إن الشخص الذي يكون في هذه الحالة يرى اللون الأزرق، غير أن اللون الأزق ليس في المخ أو في أي مكان آخر من الجسم. فرؤية اللون الأزرق ليست إلا طريقة غير مباشرة في وصف حالة جسمية. وهذه الحالة هي الناتج السببي للأشعة الضوئية وما يليها من تأثيرات عصبية، ولكن ليس هناك ناتج سببي يمثل لونا أزرق.
ولكي نضرب مثلا يوضح هذه العلاقات المنطقية، نفرض أن شخصا أخذ مبلغ 2000 جنيه أوراقا مالية إلى بنك وفتح حسابا. فهو الآن يملك ألفي جنيه على شكل حساب في البنك. فأين هذه الألفا جنيه؟ إنها لا تتألف من أوراق مالية؛ إذ إن الأوراق الأصلية تداولتها خلال هذا الوقت أيد كثيرة، وربما لم يعد البنك يملك معظمها. ولكن هناك ناتجا سببيا لها هو الأرقام المسجلة في دفاتر البنك إلى جوار اسم ذلك الرجل، غير أن الأرقام المسجلة على الورق ليست جنيهات، وهي لا تنتمي إلى الرجل وإنما إلى البنك، الذي يملك الدفاتر. وإذن فأين الألفا جنيه التي يملكها الرجل؟ إنها «أشياء غير ملموسة تنتهي إلى مجال آخر من مجالات الواقع.» ولكنها تبدو ناتجا عن أوراق الجنيهات الأصلية، التي كانت أشياء ملموسة. فكيف يمكن أن يكون شيء غير ملموس ناتجا سببيا لشيء ملموس ؟ إن كل شخص يستطيع أن يدرك في هذه الحالة أن السؤال لا معنى له. وأنه ناتج عن خلط في طريقة الكلام. فهناك حالة قوامها أرقام مكتوبة في دفاتر البنك، نتجت سببيا عن انتقال أوراق الجنيهات من يدي الرجل إلى يدي صراف البنك، هذه الحالة تميزها على نحو غير مباشر عبارة «الرجل يملك 2000 جنيه». غير أن هذه الجنيهات الألفين لا تدين بوجودها إلا لطريقة معينة في الكلام. أما في حالة الإدراكات الحسية، فما أكثر الفلاسفة الذين تساءلوا أسئلة من هذا النوع، مدافعين عن الرأي القائل إن هناك مشكلات لا تقبل الحل، وتعلو على فهم العقل البشري. مثل هذه الآفات الفلسفية لا يمكن شفاؤها إلا بدرس في المنطق.
وإذن، فلا يتعين علينا أن نتخلى عن الفهم الوظيفي للمعرفة عندما يكون الأمر متعلقا بمعرفة الظواهر النفسية. فكون الجهاز الجسمي يستطيع أن يتكلم عن ذاته ليس أمرا أغرب من كون آلة التصوير ذاتها تستطيع أن تصور عن طريق مرآة. والواقع أن حالة التخلف التي كان يتصف بها المنطق التقليدي هي السبب الرئيسي للخلط العجيب الذي عولجت به هذه المشكلات في الفلسفة التقليدية. وتلك إحدى النقاط التي استعانت فيها الفلسفة العلمية بالمنطق الحديث في سعيها إلى الوضوح والتحليل العلمي. وعن طريق هذه المناهج أمكن وضع نظرية في المعرفة حلت محل المبحث الذي يحمل نفس الاسم، والذي ادعت مذاهب الفلسفة التأملية أنها شيدته.
على أنني لم أعرض إلا الخطوط العامة لنظرية المعرفة هذه، أما إذا شاء القارئ، أن يدرس هذا الموضوع بمزيد من العمق، فلا بد لي أن أحيله على المؤلفات الموجودة؛ فقد اتضح للمنطقي أن بناء نظرية مفصلة للمعرفة ليس بالأمر الهين، وإنما يحتاج إلى قدر كبير من العمل الفني المتخصص. والواقع أن نظامنا الحالي في المعرفة إنما هو مزيج غريب من اللغات، أي من اللغة الفيزيائية، واللغة الذاتية، واللغة المباشرة، واللغة البعدية. ومن الواجب دراسة الارتباط والعلاقة المتبادلة بين هذه اللغات، بمساعدة الأسلوب الفني للمنطق الرمزي، الذي يشتمل على تعبيرات عن علاقات الاحتمال. وإن دارس الفلسفة الذي يحضر برنامجا دراسيا حديثا في نظرية المعرفة، ليشعر عادة بالدهشة إذ يجد أمامه صيغا منطقية تحل محل اللغة المجازية التي تستخدمها المذاهب التأملية. غير أن وجود هذه الصيغ يدل على أن الفلسفة قد انتقلت أخيرا من مرحلة التأمل إلى مرحلة العلم.
الفصل السابع عشر
طبيعة علم الأخلاق
كان العرض الذي قدمناه في الباب الثاني من هذا الكتاب متعلقا حتى الآن بمسائل المعرفة، وقد بينا بوجه خاص كيف استبعدت المبادئ التركيبية القبلية ميدان المعرفة. أما الفصل الحالي فسوف ينصب الاهتمام فيه على القيام بتحليل مماثل في ميدان الأخلاق؛ ذلك لأن فكرة المبادئ التركيبية القبلية لم تطبق على المعرفة فحسب، بل طبقت أيضا على الأخلاق، بل إن القول بوجود موازاة بين مجالي المعرفة والأخلاق كان أحد المصادر التي انبثقت منها فكرة التركيبية القبلية. وقد قدمنا في الفصل الرابع دراسة تاريخية للاتجاه الفكري الباطل الناشئ عن فكرة الموازاة هذه. أما في الفصل الحالي فإن المشكلة التي سنهتم بها هي مشكلة الاستعاضة عن الفهم المعرفي والقبلي للأخلاق بفهم يتمشى مع نتائج الفلسفة العلمية.
وهناك نتيجة نستطيع أن نستخلصها فورا من تحليل العلم الحديث - تلك هي أن الأخلاق لو كانت ضربا من المعرفة، لما كانت على نحو ما أرادها الفلاسفة الأخلاقيون أن تكون، أي لما كانت تقدم توجيهات أخلاقية. فالمعرفة تنقسم إلى قضايا تركيبية وقضايا تحليلية، والقضايا التركيبية تنبئنا عن الأمور الواقعة، أما القضايا التحليلية فهي فارغة. فأي نوع من المعرفة تكون الأخلاق؟ إنها لو كانت تركيبية، لكانت تنبئنا بمعلومات عن الأمور الواقعة. وإلى هذا النوع تنتمي بالفعل الأخلاق الوصفية التي تنبئنا عن العادات الأخلاقية لمختلف الشعوب والطبقات الاجتماعية، ومثل هذه الأخلاق تعد جزءا من علم الاجتماع، ولكن طبيعتها ليست معيارية. أما لو كانت الأخلاق معرفة تحليلية، لكانت فارغة، ولما استطاعت أيضا أن تدلنا على ما ينبغي عمله، مثال ذلك أننا لو عرفنا الرجل الفاضل بأنه رجل يختار دائما قاعدة سلوكه على نحو من شأنه أن يكون من الممكن اتخاذها مبدأ لتشريع عام، لعرفنا ما نعنيه بلفظ «الرجل الفاضل»، ولكننا لا نستطيع أن نثبت ضرورة سعينا إلى أن نكون أشخاصا فضلاء؛ فعندما تعرف عبارة رجل فاضل على هذا النحو، تكون مجرد اختصار للصيغة الكانتية المعقدة الخاصة بقاعدة السلوك. ومن الممكن الاستعاضة عنها بأي اسم آخر، أي بلفظ «الكانتي» مثلا، ولكن لم كان ينبغي أن نحاول أن نصبح كانتيين؟ إن القضايا الأخلاقية إذا كانت تحليلية، فإنها لن تكون توجيهات أخلاقية.
والواقع أن التحليل الحديث للمعرفة يجعل الأخلاق المعرفية مستحيلة؛ فالمعرفة لا تشتمل على أية أجزاء معيارية، وبالتالي لا تستطيع تفسير الأخلاق. ومن هنا فإن الموازاة بين الأخلاق والمعرفة تضر بالأخلاق؛ إذ إنه لو كان من الممكن المضي فيها، أعني لو كانت الفضيلة معرفة، لأدى ذلك إلى سلب القواعد الأخلاقية طابعها الآمر، وإذن فالبرنامج الذي يرجع إلى ألفي عام، والذي يرمي إلى إقامة الأخلاق على أساس معرفي، إنما هو نتيجة لسوء فهم للمعرفة، وللرأي الباطل القائل إن المعرفة تنطوي على جانب معياري. ولقد كان سوء تفسير الرياضة هو السبب الأول في هذا الخطأ، فقد رأينا أن الرياضة، منذ عهد أفلاطون حتى عهد «كانت»، كانت تعد نسقا من قوانين العقل يتحكم في العالم الفيزيائي، ولم يكن الأمر يحتاج إلا إلى خطوة بسيطة للانتقال من هذا الرأي القائل بمعرفة تركيبية قبلية، إلى القول بأن في استطاعة العقل أن يملي علينا توجيهات أخلاقية ذات صحة موضوعية، كتلك التي نسبت إلى قوانين الرياضيات. فإذا اتضح أن الرياضة ليست من هذا النوع، وأنها لا تقدم قوانين للعالم الفيزيائي، وإنما تقتصر على صياغة علاقات فارغة تسري على كل عالم ممكن، فعندئذ لا يعود هناك أي مجال لأخلاق معرفية. فالمعرفة لا تستطيع أن تمدنا بصورة الأخلاق لأنها لا تستطيع أن تقدم توجيهات.
ولقد أوضحت من قبل (في الفصل الرابع) أن مصدر التفسير المعرفي للأخلاق هو على الأرجح استخدام المنطق والمعرفة في استخلاص لوازم أخلاقية
moral implications
ومن قبيل هذه اللوازم التي تقبل برهانا معرفيا، إذا أردت هذا الهدف فلا بد لك أن تريد هذا وذاك أيضا. والمقصود بالبرهان المعرفي ذلك الذي يستخدم قوانين المنطق مقترنة بقوانين الفيزياء أو علم الاجتماع أو العلوم الأخرى، فإذا أردت مثلا أن تحصد فعليك أن تبذر، هذا اللزوم يبرهن عليه بمساعدة قوانين علم النبات. وهناك عدد كبير من الخلافات الأخلاقيات يتعلق بأمثال هذه اللوازم، وقد يكون هذا هو سبب الفكرة الباطلة القائلة إن جميع الاعتبارات الأخلاقية من النوع المعرفي. وتبدو المسألة في هذه الحالة كما لو كان من الممكن في أثناء مناقشة أخلاقية، أن نزيد بصيرتنا الأخلاقية حدة وعمقا، بنفس الطريقة التي يعتقد بها أفلاطون و«كانت» أننا نزيد بها استبصارنا بطبيعة المكان، وأن من الممكن وجود صور مختلفة للمكان، وأن البرهان الهندسي لا يزيد على كونه استخلاصا لقضايا من نوع «إذا كان ... فإن ...» أو علاقات بين البديهيات والنظريات. فليس ثمة ضرورة هندسية، بل هناك فقط ضرورة منطقية تتعلق بالنتائج التي تلزم من مجموعة معينة من البديهيات، وليس في استطاعة الرياضي أن يثبت أن البديهيات صحيحة.
ولو كان «اسبينوزا» قد تكهن بهذه النتيجة التي توصلت إليها فلسفة الرياضة الحديثة، لما حاول أن يشيد أخلاقه على نمط الهندسة. ولقد كان حريا بأن يجزع للفكرة القائلة بإمكان تشييد أخلاق غير اسبينوزية تتصف بنفس الأحكام الذي يتصف به مذهبه، وأنه إذا كانت بديهياته لها طبيعة البديهيات الهندسية، فإنها مما لا يمكن البرهنة عليه. ولم يكن مما يفيده أن يحولها إلى نتائج للتجربة، كبديهيات الهندسة؛ إذ لم يكن ما يريده هو الحقيقة التجريبية، وإنما أراد أن يضع بديهيات أخلاقية لا يتطرق إليها الشك، أي أنه أراد بديهيات ضرورية.
ولكن إذا أردنا أن يكون معنى لفظ «الضروري» مشابها على أي نحو لمعنى الضرورة المنطقية، فلا يمكن أن تكون هناك عندئذ ضرورة أخلاقية، فعندما نشعر أن بصيرتنا قد ازدادت حدة وعمقا خلال مناقشة أخلاقية، فمن الواجب ألا تعد هذه النتيجة دليلا على وجود بصيرة أخلاقية؛ فالأمر الذي ندركه على نحو أفضل بعد تحليل للمشكلات الأخلاقية، هو العلاقة بين الغايات والوسائل؛ إذ نكتشف أننا إذا أردنا تحقيق أهداف أساسية معينة، فلا بد أن نكون على استعداد للسعي وراء أهداف أخرى معينة تخضع للأولى بنفس المعنى الذي تخضع به الوسيلة لغاية. ومثل هذا الإيضاح له طبيعة منطقية، فهو يبين أنه، نظرا إلى قوانين فيزيائية ونفسية معينة، فإن الغاية تقتضي الوسيلة منطقيا. وليست هذه الحجة مجرد حجة موازية للبرهان المنطقي - بل إنها هي ذاتها. برهان منطقي. فالفلاسفة الذين يتحدثون عن بصيرة أخلاقية يخلطون بين الوضوح المنطقي لعلاقة اللزوم بين الغايات والوسائل، وبين الوضوح الذاتي المزعوم للبديهيات.
ومع ذلك، فعندما يتعين اتخاذ قرارات، لا تكون علاقة اللزوم بين الغايات والوسائل كافية لتحديد اختيارنا، وإنما ينبغي أولا أن نقرر اتخاذ غاية معينة. مثال ذلك أننا قد نتمكن من إثبات علاقة اللزوم الآتية: لو كانت السرقة مباحة، لما كان هناك مجتمع بشري مزدهر. فلكي نستخلص النتيجة القائلة إن السرقة ينبغي أن تمنع، فيجب أولا أن نقرر أننا نريد مجتمعا بشريا مزدهرا. ولهذا السبب كان علم الأخلاق في حاجة إلى مقدمات أو بديهيات ذات طبيعة أخلاقية. وتحدد الأهداف الأولية، على حين أن الوسائل تمثل الأهداف الثانوية. وعندما نسمي هذه بديهيات، فإننا ننظر إلى علم الأخلاق على أنه نسق منظم يمكن استخلاصه من هذه البديهيات، على حين أن البديهيات ليست مستخلصة في النسق. أما عندما نقصر البحث على حجة محددة، فإننا نستخدم لفظا أكثر تواضعا، هو «المقدمة». ولا بد أن تكون هناك قاعدة أخلاقية واحدة لا تستخلص من هذه الحجة. وقد تكون هذه المقدمة نتيجة لحجة أخرى، ولكننا حين نواصل السير في هذا الطريق، نظل في كل خطوة مرتبطين بمجموعة محددة من المقدمات الأخلاقية. فإذا نجحنا في ترتيب مجموع القواعد الأخلاقية في نسق سترابط. لوصلنا على هذا النحو إلى بديهيات علم الأخلاق الذي نضعه. ونستطيع أن نلخص هذا التحليل في الفكرة الآتية؛ إن الضرورة المنطقية لا تتحكم إلا في علاقات اللزوم بين البديهيات الأخلاقية وبين القواعد الأخلاقية الثانوية، ولكنها لا تستطيع أن تثبت صحة البديهيات الأخلاقية.
ولكن إذا لم تكن بديهيات الأخلاق حقائق ضرورية أو واضحة بذاتها فماذا تكون إذن؟
إن البديهيات الأخلاقية ليست حقائق ضرورية لأنها ليست حقائق من أي نوع. فالحقيقة صفة لقضايا أو أحكام، غير أن التعبيرات اللغوية الأخلاقية ليست قضايا أو أحكام وإنما هي توجيهات، والتوجيه لا يمكن تصنيفه على أساس أنه صواب أو خطأ؛ فمثل هذه الأوصاف الأخيرة لا تنطبق على التوجيه لأن الجمل التوجيهية لها طبيعة منطقية تختلف عن طبيعة الجمل الإخبارية أو القضايا.
فالأوامر، التي نستخدمها في توجيه أشخاص غيرنا، تمثل نوعا هاما من التوجيهات. فلنتأمل مثلا الأمر «أغلق الباب». هل هذا الأمر صواب أم خطأ؟ إن كل ما علينا هو أن ننطق بالسؤال لكي نرى مدى خلوه من المعنى، فالقول: «أغلق الباب» لا ينبئنا شيئا عن الأمر الواقع، كما أنه لا يمثل تحصيل حاصل، أي قضية منطقية. ولن نستطيع أن نقول ماذا يكون الحال لو كان القول: «أغلق الباب» صحيحا. فالأمر قول لغوي لا ينطبق عليه التقسيم إلى صواب أو خطأ.
فما هو الأمر إذن؟ إن الأمر قول أو تصريح لغوي نستخدمه بقصد التأثير في شخص آخر، وجعل الشخص الآخر يقوم بشيء نريده أن يقوم به أو يمتنع عن أداء شيء لا نريده أن يؤديه. من الأمور الواقعة أن من الممكن بلوغ هذا الهدف باستخدام الكلمات، على الرغم من أن هذه ليست هي الطريقة الوحيدة لبلوغه. فبدلا من أن نقول «أغلق الباب» نستطيع أن نمسك بيدي الشخص ونوجهها على نحو يؤدي إلى إغلاق الباب. ومع ذلك فإن هذا لن يكون من سوء الأدب فحسب، بل إنه لن يكون مريحا لنا؛ إذ إن من الأسهل في هذه. الحالة أن نقوم نحن أنفسنا بهذا العمل. لذلك نفضل أن ننتفع من تلك الصفة التي يتميز بها أقراننا من الناس، وهي أنهم مهيئون على نحو من شأنه أن يستجيبوا للكلمات بوصفها أدوات لإرادتنا. فلهجة الطلب التي يتصف بها الأمر تظهر بوضوح أن الأمر ليس عبارة تقريرية، حتى بالمعنى النحوي. ومع ذلك فنحن لا نعبر عن جميع الأوامر بلهجة الطلب. ففي استطاعتي أن أنطق بعبارة في الصيغة التقريرية، مثل «سأكون مسرورا لو أغلق الباب» بحيث يكون المعنى المقصود منها طلبا، بل أن هذه قد تكون وسيلة أفضل لبلوغ هدفي من الجملة التي صيغت في لهجة الطلب الآمر؛ إذ إن الأدب ليس طريقة الدبلوماسيين فقط، بل هو أيضا أمر مستحب في تلك المواقف الدبلوماسية البسيطة التي نواجهها في حياتنا اليومية. فتصريحنا هذا هو أمر متنكر في ثوب عبارة تقريرية.
ولكن أليس هذا التصريح: «سأكون مسرورا لو أغلق الباب» عبارة متعلقة برغباتي؟ إنه لكذلك بالفعل، وهو لا يستخدم على سبيل الأمر إلا في هذه الحالة وحدها. ومع ذلك فمن الصحيح أننا حيثما صرحنا بأمر كانت هناك عبارة أخرى متضايفة، تنبئنا عن إرادة شخص ما. وهكذا فإن الأمر «أغلق الباب» تناظرها العبارة التقريرية ««س» يرغب في أن يغلق الباب.» هذه العبارة قد تكون كاذبة أو صادقة، ومن الممكن تحقيقها، شأنها شأن غيرها من العبارات النفسية. وفي بعض الأحيان تستخدم العبارة المتضايفة محل الأمر، على أن من الأنسب، بالنسبة إلى أغراض التحليل المنطقي، أن نعبر عن الأوامر دائما بصيغة الأمر، وبالتالي أن نميز بينها وبين العبارات التقريرية تمييزا نحويا.
وعلى الرغم من أن الأوامر ليست صادقة ولا كاذبة، فإن الأشخاص الآخرين يفهمونها، وبالتالي يكون لها معنى، يمكن أن يسمى «معنى أداتيا
instrumental meaning ». ومن الواجب التمييز بين هذا المعنى وبين «المعنى المعرفي
cognitive meaning » الذي تتصف به العبارات التقريرية. وهو المعنى الذي عرفناه عند الكلام عن النظرية القائلة إن المعنى هو قابلية التحقيق (الفصل السادس عشر). وفضلا عن ذلك فإن لكل أمر متضايفا معرفيا تحدده العبارة التقريرية المتضايفة.
إن التوجيهات المتعلقة بأفعالنا الخاصة، شأنها شأن الأوامر، إنما هي تعبيرات عن الرغبة أو الإرادة، وهي بهذا الوصف ليست صادقة ولا كاذبة؛ وبالتالي فهي تنتمي إلى الأقوال أو التصريحات المعبرة عن الإرادة. ومن الممكن أن تتعلق الأفعال الإرادية بموضوعات متباينة؛ فنحن نرغب في الطعام والمسكن والأصدقاء واللذة وما إلى ذلك. ووجود الأفعال الإرادية فينا هو أمر واقع، فهي تتميز عن الإدراكات الحسية أو القوانين المنطقية بأنها تظهر كنواتج لنا نحن، في موقف يترك لنا اختيارا. ففي استطاعتي أن أذهب إلى المسرح أو لا أذهب، وإرادتي هي التي تجعلني أذهب، وفي استطاعتي أن أساعد شخصا آخر أو لا أساعده، وإرادتي هي التي تجعلني أساعده، أما مسألة أن لدينا حرية اختيار بحق أم لا، فتلك مسألة أخرى؛ ذلك لأنه يكفي، من أجل تعريف الفعل الإرادي، أن نؤمن على الأقل بأن لدينا القدرة على الاختيار، ولذلك فإن الكلام عن مصدر الأفعال الإرادية لا علاقة له بهذا التعريف، ولسنا في حاجة إلى أن نسأل في الوقت الحالي عما إذا كانت البيئة التي ننشأ فيها هي التي تهيئنا لرغباتنا الإرادية، أم أن هذه الرغبات تنبثق عن دوافع أساسية معينة، كالدافع الجنسي أو الدافع إلى حفظ الذات. فلنكتف إذن بالاعتراف بأن اتخاذنا قرارات إرادية توجه سلوكنا هو حقيقة نفسية واقعة.
ولا يتخذ القرار الإرادي صورة الأمر إلا عندما يكون متعلقا بأفعال يتعين على الآخرين القيام بها، وفي بعض الأحيان نصرح بالأمر مع التهديد بأن نستخدم في تنفيذه القوة، مثل قوة السلطات الحكومية أو سلطة الضابط على الجند، وفي هذه الحالة يسمى ذلك أمرا ملزما، وهناك أوامر أخرى تعبر عن رغبات، وتتخذ أيضا صورة الأمر، كما يحدث عندما نقول: «أعطني سيجارة من فضلك.»
فإذا ما وجه إلينا الأمر، أو أعرب عن الرغبة لنا، أي بعبارة أخرى إذا كنا في الجانب المتلقي للأمر، فقد تكون استجابتنا له إيجابية أو سلبية. ويكون قوام الاستجابة الإيجابية فعلا إراديا من جانبنا، متجها إلى تنفيذ الأمر، بل قد يتضمن استعدادا لإعطاء أوامر مناظرة لأشخاص آخرين، أما الاستجابة السلبية فقوامها فعل إرادي متجه ضد تنفيذ الأمر، ونحن نعبر عن هذا التقابل بلفظي «الصواب» و«الخطأ» (بالمعنى الأخلاقي). فإذا قيل لي «ينبغي أن تذهب لترى زيدا» فقد أجيب «هذا صواب» ثم أبدأ استعداداتي لزيارة زيد. وهكذا فإن الاستجابة الإيجابية لفعل إرادي يعبر عنه أمر، يكون قوامها فعلا إراديا ثانيا من نوع مشابه، يتولد لدى متلقي هذا الأمر، أما إذا كانت الاستجابة سلبية، فإن الفعل الإرادي الثاني يكون مضادا للأول. على أن الاستخدام اللغوي لا يميز دائما بمثل هذا الوضوح بين الطرفين؛ نعم ولا، أو «صواب» و«خطأ»، وإنما يستخدم كل منهما محل الآخر. ومع ذلك قد يبدو أن لنا الحق في النظر إلى التمييز المشار إليه من قبل على أنه تفسير صحيح لهذه الألفاظ.
وعلى حين أن لدينا الصيغة النحوية للأمر بالنسبة إلى التوجيهات التي تتجه إلى الأشخاص الآخرين، فلا توجد صيغة لغوية مماثلة للتوجيه الذي يتجه إلينا نحن. ولهذا السبب فإنا نعبر عن هذه التوجيهات في صورة جملة إخبارية تتحدث عن البناء الذي يتميز به التوجيه، كما في الجملة «سأذهب إلى المسرح». وفي بعض الأحيان نخاطب أنفسنا كما لو كنا نتحدث مع شخص مختلف، فنستخدم صيغة الأمر، كأن نقول لأنفسنا «يا صاحبي، يجب أن تكتب الخطاب.» وبهذه الطريقة التي تبدو ازدواجية نتمكن من أن ننقل إلى أنفسنا التنبيه الذي ينطبق على الجانب المتلقي للأمر، وأن نتحدث عن أفعال إرادية ثانوية نثيرها في أنفسنا عن طريق أمر نوجهه إلى أنفسنا.
هذه الاعتبارات كفيلة بأن نوضح الفارق بين الجمل المعرفية وبين التوجيهات. فإذا ما قيلت لي جملة معرفية، أو عبارة تقريرية، ووافقت عليها، فإني أجيب «بنعم»، وأعني بذلك أنى أعد هذه العبارة صحيحة. مثال ذلك أنك إذا قلت لي إن المسافة من هنا إلى لندن طويلة، أجبت «نعم»، وأعني بذلك أن من الصحيح أن المسافة إلى لندن طويلة، أما إذا قلت أن البخل رذيلة، فإني أعبر عن موافقتي بقولي «هذا صحيح (صواب)». فما تقصده في هذه الحالة هو توجيه، وبالتالي تعبير عن إرادتك، أعني أنك تقول: وددت لو لم يكن هناك بخل. كما أن إجابتي هي أمر مناظر، وهي تعني أنني بدوري أود لو لم يكن هناك بخل؛ فالرد الإيجابي عني التوجيه ليس تأكيدا من النوع المعرفي، وإنما هو يتألف من فعمل إرادي ثان، يعبر عنه تصريح يوضح أن المستمع يشارك التحدث رغبته.
أن الإيضاحات التي قدمناها حتى الآن تتعلق بجميع أنواع التوجيهات فلندرس الآن التوجيهات التي تسمى توجيهات أخلاقية، أو أوامر أخلاقية.
من الصفات المميزة للتوجيه الأخلاقي إننا نعده أمرا، ونشعر بأننا في الجانب المتلقي لهذا الأمر. وهكذا ننظر إلى فعلنا الإرادي على أنه فعمل ثانوي، أي استجابة لأمر تصدره إلينا سلطة أعلى. أما ما هي هذه السلطة الأعلى، فهذا ما لا نعرفه دائما بوضوح؛ فالبعض يرى أنها الله، والبعض الآخر يرى أنها الضمير، أو جني خاص، أو القانون الأخلاقي في داخلهم. ولكن من الواضح أن هذه تفسيرات بلغة مجازية، ولو تحدثنا عن الأمر الأخلاقي من وجهة النظر النفسية لوجدناه يتميز بأنه فعل إرادي يقترن بشعور الالتزام، وهو شعور نعده منطبقا علينا وعلى الأشخاص الآخرين أيضا. وهكذا نشعر بأن علينا، وكذلك على كل شخص، التزاما بمساعدة المحتاجين حيثما يكون ذلك ممكنا. أما الأهداف الإرادية المغايرة للأهداف الأخلاقية، فلا يصحبها هذا الشعور بالالتزام. فإذا أراد شخص أن يصبح مهندسا، فإنه لا يشعر عادة بأنه ملزم باتخاذ قرار يتجه إلى تحقيق هذا الهدف، ولا يرغب في أن يكون للجميع هدف مماثل لهدفه. فالشعور بالالتزام العام هو ما يميز الأوامر الأخلاقية عن غيرها.
فكيف إذن نفسر هذه الحقيقة، وأعني بها أن الأفعال الإرادية الأخلاقية تبدو لنا أفعالا إرادية ثانوية، أي تعبيرا عن الالتزام؟ في اعتقادي أن التفسير هو أن هذه الأفعال الإرادية تفرضها علينا الجماعة الاجتماعية التي ننتمي إليها، أي أنها في الأصل تعبير عن إرادة جماعية، هذا الأصل هو الذي يعلل مكانتها التي تعلو على الأشخاص، وذلك الشعور بالخضوع، الذي نتخذ به القرار الأخلاقي. ومثل هذا الأصل مفهوم من الوجهة النفسية؛ فالقواعد التي تنهى عن السرقة وعن القتل، وما إلى ذلك، هي قواعد كان تنفيذها يعد ضروريا لحفظ الجماعة. وبانقضاء الأجيال اعتاد الأفراد هذه القواعد، كما أن نظام تربيتنا يخضعنا لعملية تعود من نفس النوع، فلا عجب إذن أننا نشعر بأنفسنا في الجانب المتلقي للأوامر الأخلاقية، فنحن نقع في هذا الجانب بالفعل. وعلى ذلك، فإذا كنا نعتقد أن الشعور بالواجب مميز للغايات الأخلاقية، فإن هذا الاعتقاد يعكس حقيقة واقعة هي أن الغايات الأخلاقية تغرس فينا بالقوة، سواء أكان ذلك عن طريق سلطة الأب أو المعلم أو ضغط الجماعة التي نعيش فيها.
فإذا كان أصل الأخلاق اجتماعيا، فكيف أمكن أن توجد أخلاق مضادة للنزعة الاجتماعية؟
إن الأخلاق التي نعدها مضادة للنزعة الاجتماعية يمكن أن تظل مع ذلك أخلاقا جماعية. فنحن نجد للمجرمين أخلاقا خاصة بجماعتهم؛ إذ إنهم في داخل هذه الجماعة لا يسرقون ولا يقتلون، بل يضعون جماعتهم هذه في مقابل الجماعة الأكبر التي نسميها بالمجتمع المهذب، ويتجاهلون جميع الالتزامات الأخلاقية بالنسبة إلى هذه الجماعة الأكبر، وتلاميذ الفصل الواحد في المدرسة الثانوية قد ينظرون إلى فصلهم على أنه جماعة مضادة للمعلم، ويجدون أن من حقهم أخلاقيا أن يخدعوا المعلم ويضايقوه. وعلى العكس من ذلك نجد أن هناك معلمين يكن لهم تلاميذهم احتراما شديدا، ونادرا ما يخدعونهم. مثل هذا المعلم يكون قد نجح في جعل التلاميذ يدخلونه في جماعتهم. وللطبقة العاملة أخلاق خاصة بها، وكذلك الحال بالنسبة إلى طبقة كبار الرأسماليين، أو الطبقة الأرستقراطية في البلدان التي لم تتخلص بعد من بقايا الإقطاع. بل إن الأخلاق النازية ذاتها كانت أخلاقا جماعية، وضعت بحيث تفي بحاجات «الجنس السيد» المزعوم. أما الأخلاق ذات الصبغة الفردية التامة عند نيتشه، وهي أخلاق الإنسان الأرقى، أو أخلاق الأمير عند ماكيافيلي، فهي حالة متطرفة تصبح فيها جميع الحقوق الأخلاقية قاصرة على شخص واحد. على أن أمثال هذه المذاهب الأخلاقية لم تر النور أبدا إلا على الورق. وهي تمثل مزيجا غريبا تنقل فيه السلطة المستمدة نفسيا من الإرادة الجماعية إلى شخص واحد، يعد هو الفرد الوحيد الذي ينبغي أن تحترم إرادته.
1
أما الأخلاق السائدة في حياتنا الاجتماعية والسياسية فهي خليط يجمع بين الأخلاق الجماعية لمستويات متباينة. فقد نشأت الأمم باندماج دول وجماعات اجتماعية، وأخذت بالقواعد الأخلاقية التي كانت سائدة في عهود أقدم، وذلك بوجه خاص عن طريق القانون المدون، الذي حفظت فيه النظم الأخلاقية للرومان، ولعصر الإقطاع، والكنيسة. فلا عجب إذن إن كانت النتيجة نظاما يفتقر إلى الاتساق. فالمواطن المطيع، الذي يحاول أن يمتثل لكل القواعد الأخلاقية الموجودة في المجتمع الشعبي الواسع، سرعان ما يجد نفسه يواجه صراعا أخلاقيا. فهل ينبغي عليه أن يساعد المحتاجين أم أن يستولي على قروشهم بأساليب التجارة البارعة؟ وهل ينبغي أن يعمل لصالح الأمة بالإسهام في قمع الإضرابات أم بتأييد العمال في كفاحهم من أجل ظروف أفضل للعمل؟ وهل يتعين عليه أن يدافع عن حرية الكلام أم يؤيد حكومة لا تسمح لجامعاتها بتدريس نظرية التطور عند دارون؟
2
وهل ينبغي عليه أن يدعو إلى مساواة جميع الأجناس في الحقوق أم يدافع عن نظم تدعو إلى التفرقة في أماكن الركوب بالسيارات العامة بين البيض والملونين؟ إن اهتداء المرء إلى طريقه وسط هذا الخليط المضطرب من القواعد الأخلاقية السائدة في المجتمع الحالي ليس بالأمر الهين.
فأين إذن نجد تلك الأخلاق التي تجيب على هذه الأسئلة جميعا؟ وهل تستطيع الفلسفة أن تمدنا بأي مذهب كهذا؟
ليس في استطاعة الفلسفة أن تفعل ذلك. هذه هي الإجابة التي ينبغي أن نعترف بها صراحة. ذلك لأن محاولات الفلاسفة صياغة الأخلاق كما لو كانت مذهبا في المعرفة قد انهارت. ولم تكن المذاهب الأخلاقية التي شيدت على هذا النحو إلا ترديدا لأخلاق جماعات اجتماعية معينة. أي المجتمع البورجوازي اليوناني، أو الكنيسة الكاثوليكية، أو الطبقة الوسطى في العصر السابق على عصر الصناعة، أو الطبقة العاملة في العصر الصناعي. ونحن نعلم السبب الذي تعين من أجله أن تخفق هذه المذاهب؛ فهو أن المعرفة لا تستطيع أن تقدم توجيهات. فعلى من يبحث عن قواعد أخلاقية ألا يحاكي منهج العلم. إذ إن العلم ينبئنا بما هو كائن، لا بما ينبغي أن يكون.
فهل يعنى ذلك أن نستسلم؟ وهل يعني أنه لا توجد توجيهات، أخلاقية وإن كل شخص يستطيع أن يفعل ما يحلو له؟
لست أظن أن الأمر كذلك. وإنما أعتقد أن المرء يسيء فهم طبيعة التوجيهات الأخلاقية لو استنتج أن عدم إمكان البرهنة على الأخلاق موضوعيا يعني أن في استطاعة كل شخص أن يفعل ما يحلو له.
ولكي نبحث هذه المشكلة، فلنقم بدراسة مفصلة للطبيعة الإرادية للتوجيهات الأخلاقية عن طريق إجراء تحليل نحوي لعبارة «ينبغي عليه»، العبارة التي يمكن أن توصف بأنها هي الصورة النحوية للتوجيه الأخلاقي؛ فقد رأينا أن العبارة لا يمكن أن تعني أن هناك قانونا أخلاقيا موضوعيا يمكن أن يستمد منه الأمر، فما الذي تعنيه إذن؟ لقد بقي لهذه الجملة معنيان ممكنان.
أولهما هو المعنى اللزومي
implicational ؛ فنحن نعرف أن الشخص المشار إليه قد اختار لنفسه هدفا معينا، ونود أن نقول إن هذا الهدف يلزم عنه السلوك موضوع البحث. مثال ذلك أننا نقول: «ينبغي ألا يدخن زيد.» ونعني بذلك أن من الممكن، نظرا إلى تركيب زيد الفسيولوجي، وباستخدام قوانين الفسيولوجيا، أن نستخلص من هدف الاحتفاظ بصحة جيدة أن زيدا ينبغي ألا يدخن. وبعبارة أخرى فإن قرار الاحتفاظ بصحة جيدة في الحياة يستتبع قرار عدم التدخين، لذلك فإنه يسمى قرارا مستتبعا
entailed decision
فالالتزام بالقرار المستتبع هو من النوع اللزومي
implicational
وهو لا يمثل التزاما أخلاقيا، بل منطقيا.
أما المعنى الثاني فهي معنى الأمر الذاتي، من جانب المتكلم؛ فأنا المتكلم، أريده أن يفعل هذا أو ذلك. وتبعا لهذا التفسير فإن التوجيهات الأخلاقية تشتمل على إشارة لا مفر منها إلى المتكلم، فهي تعبيرات عن قرار إرادي للمتكلم. فإذا قلنا بهذا الرأي، كان من المستحيل استبعاد المتكلم من معنى التوجيه الأخلاقي، بحيث إن عبارة «ينبغي عليه» تنطوي، بطريقة مستترة، على عبارة «أنا أريد»، وبذلك نصل إلى أخلاق إرادية
volitional .
وفي استطاعتنا أن نحلل الطبيعة المنطقية لهذا الفهم على النحو الآتي. فاستخدام تعبيرات مثل «ينبغي عليه ألا يكذب»، أو «الكذب شر من الوجهة الأخلاقية» هو طريقة في الكلام تزعم أنها موضوعية، على حين أن ما تعبر عنه بالفعل هو اتجاه أو موقف للمتكلم. فعبارة «ينبغي عليه» تشبه ألفاظا مثل «أنا» و«الآن»، وهي الألفاظ التي تشير إلى المتكلم، أو فعل الكلام، ويختلف معناها باختلاف الأشخاص الذين تصدر عنهم . مثل هذه الألفاظ تسمى «انعكاسية الإشارة
token-reflexive » فكلمة «إشارة
token » تدل على مثل فردي لعلامة من العلامات. فإذا ما نطق شخصان بنفس الكلمة، فإن كلا منهما ينطق بإشارة مختلفة، أو بمثل مختلف من أمثلة هذه الكلمة. ويكون للإشارات المختلفة عادة نفس المعنى. ومع ذلك، فإذا كانت الألفاظ انعكاسية الإشارة، فإن كلا من الإشارات يكون لها معنى مختلف. فإذا قال كل من شخصين «الرئيس فرانكلين د. روزفلت»، كانت الإشارتان تدلان على نفس الشخص. أما إذا قال كل منهما «أنا» فإن الإشارتين تدلان على شخصين مختلفين. وكلمة «انعكاسية» تدل على هذا الارتباط بين المعنى وبين الإشارة.
3
ولنلاحظ أن المعنيين؛ اللزومي، والانعكاسي الإشارة، يستخدمان معا. غير أن المعنى اللزومي لعبارة «ينبغي عليه» لا يمكن أن يستخدم بالنسبة إلى المقدمات الأخلاقية، أو البديهيات الأخلاقية، ما دامت هذه المقدمات لا تعبر عن حالات لزوم، وإنما هي توجيهات. وعلى ذلك فإنها تشتمل على عبارة «ينبغي عليه» بمعنى انعكاسي الإشارة. هذا المعنى للعبارة ينتقل - بالاستخلاص - من المقدمات إلى كل قاعدة أخلاقية. ولكي نفهم هذا الانتقال، نستطيع أن نتصور عمليات الاستخلاص التي تحدث في المجال المعرفي. والتي تؤدي إلى نقل حقيقة المقدمات إلى النتيجة. فإذا لم تؤكد المقدمات، لم يكن من الممكن تأكيد النتيجة. وبالمثل فإن المقدمات الأخلاقية إذا لم تقدم بوصفها توجيهات، أي بمعنى أنها عبارة من نوع «ينبغي عليه»، تتميز بأنها غير لزومية، وبالتالي بأنها انعكاسية الإشارة، لما أمكن أن يكون للنتيجة الأخلاقية طابع التوجيه.
وقد يحدث جمع بين معنيي عبارة «ينبغي عليه»، وفي هذه الحالة نؤكد لفظ «ينبغي» بالمعنى اللزومي، ويكون متعلقا بمقدمة يرد فيها لفظ «ينبغي» بمعنى انعكاسي الإشارة. ومن الواجب أن ندرك هذا المعنى المزدوج بوضوح. فكلمة «ينبغي»، بمعناها اللزومي، يصبح لها في هذه الحالة مفهوم أخلاقي، ولكن لا يكون لها مثل هذا المفهوم إلا لأن التوجيه الذي يتخذ مقدمة لدى الشخص المشار إليه هو أمر أخلاقي يؤيده المتكلم. مثال ذلك أننا نقول: «ينبغي على الدولة أن تفتح أبواب هذه البلاد للمهاجرين.» ونعني بذلك أن هدف مساعدة المهاجرين. الذي نعلم أن الدولة تؤمن به، والذي نؤيده نحن، يلزم عنه أن يكون فتح أبواب البلاد هي الوسيلة الوحيدة المتوافرة لتحقيق هذا الهدف. وعلى ذلك فإن المفهوم الأخلاقي للفظ «ينبغي» بالمعنى اللزومي يمكن إرجاعه إلى استخدام كلمة «ينبغي» بالمعنى الإرادي. فإذا لم يكن المتكلم يشارك في الاعتقاد بهذا التوجيه، فقدت كلمة «ينبغي عليه» طابعها الأخلاقي. فقد نقول «كان ينبغي على هتلر أن يغزو إنجلترا بدلا من أن يفتح باريس.» ونعني بذلك أنه كان من مصلحة هتلر أن يغزو إنجلترا، أي أننا نقصد التزاما لزوميا
implicational obligation
ولكن لما كنا لا نشارك هتلر أهدافه، فإن لفظ «ينبغي» لا يستخدم في هذه الحالة بوصفها أمرا أخلاقيا. هذا المثل يوضح أن الإشارة إلى المتكلم لا تنفصل من المعنى الأخلاقي لعبارة «ينبغي عليه» أي أن الاعتراف بأن عبارة «ينبغي عليه» في معناها الأخلاقي هي لفظ انعكاسي الإشارة، هو أساس لا غناء عنه في تحليل علمي للأخلاق.
ويحاول البعض أحيانا أن يأتي بتفسير ثالث لعبارة «ينبغي عليه»، بغية التخلص من الإشارة الذاتية للألفاظ الأخلاقية، وتبعا لهذا التفسير، يكون معنى هذه العبارة هو «الجماعة تريد منه أن يفعل هذا أو ذاك.» ويبدو أن هذا المعنى يؤدي إلى استبعاد الصبغة الذاتية من الالتزامات الأخلاقية. ومع ذلك فإن هذا التفسير لا يمكن قبوله. فعندما يكون الأمر متعلقا بإرادة الجماعة، لا نستخدم عبارة «ينبغي عليه» إلا إذا أمكن إرجاع معناها إلى واحد من التفسيرين الأولين. فنحن نستخدمها أولا عندما يكون الفعل لازما عن إرادة الشخص المختص، الذي تكون من مصلحته إطاعة إرادة الجماعة، ومنذئذ يكون للجملة المعنى اللزومي المتعلق بالتفسير الأول. وثانيا، فإننا نستخدم هذه العبارة عندما نشارك في إرادة الجماعة، وفي هذه الحالة وحدها يكون المقصود بالعبارة أن تعبر عن التزام أخلاقي؛ مثال ذلك أنه لو وشى مجرم بشركائه، فإننا نعلم أن جماعته تدين مثل هذا السلوك، لذلك فإن العضو في هذه الجماعة خليق بأن يقول «كان ينبغي عليه ألا يتكلم.» أما إذا كنا نحن الذين نستخدم هذه الجملة، فقد نستخدم لفظ «ينبغي» بالمعنى اللزومي، ونعرب عن الرأي القائل إن السكوت كان في مصلحة المجرم، الذي قد يتعرض لأعمال انتقامية من جماعته. ومع ذلك فإننا إذا قلنا هذه الجملة بمعنى أنها حكم أخلاقي، فإن ما نقصده هو أن ذلك الرجل ملزم أخلاقيا بحماية جماعته، وعندئذ تكون العبارة انعكاسية الإشارة، وتتضمن تعبير عن رقبة المتكلم.
وهكذا نصل إلى النتيجة القائلة أن للتوجيهات الأخلاقية طابعا إراديا
volitional ، وأنها تعبر عن قرارات تتجه إليها إرادة المتكلم، وقد تبدو هذه النتيجة لأول وهلة مخيبة للآمال، إذ يبدو أنه لم تعد هناك أرض صلبة نبني عليها نزعات إرادتنا. ومع ذلك فهل من الضروري أن نكون في الجانب الملتقي للأمر لكي نشعر بأن من حقنا اتباعه، ولكي نطالب الآخر باتباع نفس الأمر؟ لقد أساء الفلاسفة فهم الشعور بالالتزام، الذي ينشأ في الجانب المتلقي للإرادة الجماعية، فتصوروه مناظرا للضرورة المعرفية، أو نتيجة يحتمها قانون عقلي أو استبصار بعالم للمثل. ولما كنا قد اكتشفنا أن هذا التشبيه لا يقوى على الصمود، وأن الشعور بالالتزام لا يمكن أن يتحول إلى مصدر لصحة الأخلاق، فلندع جانبا إذن ما في الالتزام من جاذبية، ولنلق بعيدا بتلك «العكازات» التي كنا نحتاج إليها في المشي، ولنقف على أرجلنا نحن، ونثق بنزعات إرادتنا، لا لأنها نزعات ثانوية، بل لأنها نزعات إرادتنا نحن. ومن المؤكد أن الأخلاق التي تقول أن إرادتنا لا بد أن تكون شريرة إذا لم تكن تستجيب لأمر من مصدر آخر - مثل هذه الأخلاق لا بد أن تكون أخلاقا شوهاء.
وقد تجيب على ذلك بقولك: «إذا كانت التوجيهات الأخلاقية قرارات إرادية (أو معبرة عن رغبات)، فيبدو أن لكل شخص الحق في أن يضع توجيهاته الأخلاقية الخاصة. ولكن كيف يمكن أن يطلب شخص إلى الآخرين أن يتبعوا توجيهاته؟ إنك تناشدنا بأن نثق في رغباتنا الإرادية، وبألا نشعر بأنفسنا في الجانب المتلقي للأمر، وفي الوقت ذاته تطالب بحق كل شخص في أن يضع أوامر للآخرين. أليس هذا تناقضا؟ يبدو أن التفسير الإرادي للأوامر يؤدي إلى النتيجة القائلة إن في استطاعة كل شخص أن يفعل ما يشاء، أي أنه يؤدي إلى الفوضى.»
فلنبدأ بدراسة الاستدلال الذي تعبر عنه عبارتك الأخيرة. ولنفرض أنني وضعت أمرا يقضي على شخص معين بأن يسلك بطريقة معينة، فكان جوابك: «كلا، فليفعل ما يشاء.» ومن الواضح أن لفظ «فليفعل» في ردك هذا تعبير عن معارضتك للأمر الذي أصدرته. فأنت تريد أن تقول إنني، على الرغم من أن لي الحق في وضع أوامري الخاصة، فليس من حقي وضع التزامات شاملة، أي أوامر الآخرين. وعبارة ««س» ليس من حقه» ليست عبارة معرفية، وإنما هي أسر، معناه ««س» ينبغي ألا يفعل هذا أو ذاك.» وإذن فأنت قد أجبتني بأمر، وأنت تطالبني بألا أضع أوامر للآخرين. فعلى أي أساس تبني أمرك؟ إنك تضع إرادتك مقابل إرادتي، ولست أدري لم كان يتعين على أن أعترف بإرادتك وأتخلى عن وضع التوجيهات للآخرين.
على أن المشكلة التي أثارها استدلالك السابق تبلغ من الأهمية حدا يبرر فحصها بمزيد من الدقة. فلنبدأ أولا ببحث عبارة «لكل امرئ، حق.» إن هذه العبارة يمكن أن تعني أن السلطات القانونية لا تفرض قيودا على نشاط أي شخص. وهذه عبارة معرفية، ولكنها ليست هي ما تعنيه بالنتيجة التي توصلت إليها. ولكي أزيد ما أقصده إيضاحا، فلندمج المعنى المفترض للعبارة في التعبير الكامل، بحيث تصبح «إذا كان التوجيه الأخلاقي مسألة قرار يعبر عن رغبة إرادية، فإن السلطات القانونية لا تفرض قيودا على نشاط أي شخص.» غير أن هذا تعبير مشكوك في صحته، وهو ليس ما تود أن تقوله، وثانيا، فإن عبارة «لكل شخص الحق» يمكن أن تعني أنه ينبغي عدم فرض قيود على نشاط أي شخص. على أن كلمة «ينبغي» تدل على أمر، وتبعا للتحليل السابق، فمن الممكن أن يكون لها معنيان؛ أولهما معنى الأمر الصادر عن المتكلم الذي هو أنت، وعندئذ يكون معنى جملتك هو «إذا كان التوجيه الأخلاقي مسألة قرار إرادي، فإني أصر على ألا تفرض قيود على نشاط أي شخص .» فإذا كان هذا ما تعنيه، فإنك لا تقرر علاقة منطقية، بل تكتفي بالإعراب عن رغبة من جانبك، وبذلك لا تصل إلى استدلال. أما المعنى الثاني لكلمة «ينبغي» فهو معنى اللزوم المنطقي الذي يؤدي إلى أمر يمكن استخلاصه، متعلق بالشخص المشار إليه. وعندئذ يكون ما تعنيه هو: «إذا كان الشخص يؤمن بالمبدأ القائل إن التوجيه الأخلاقي مسألة قرار إرادي، فيلزم عن ذلك أنه يؤمن بالأمر القائل بأنه لا ينبغي فرض قيود على نشاط أي شخص.» ولكن هل هذا استدلال صحيح؟ لست أدري كيف يمكن استخلاص نتيجة كهذه منطقيا، لأنه لا تناقض على الإطلاق بين رغبة المرء في أهداف معينة، وبين رغبته في أن يحد من نشاط الآخرين في الأمور التي تحول بينه وبين تحقيق أهدافه هذه.
وأود الآن أن أعبر عن الحجة الأخيرة على نحو مختلف إلى حد ما. فأنت تود أن تبين أن المنطق يحتم على الأخذ بالقرار المستخلص مما سبق: «ينبغي عدم فرض قيود على نشاط أي شخص.» فإذا كان ذلك أمرا يمكن استنتاجه، فلا بد أن يكون مستنتجا من أوامر أخرى. غير أنني لم أصرح حتى الآن بأية أوامر، وإنما اقتصرت على التعبير عن العبارة المعرفية القائلة أن الأوامر الأخلاقية أمور تتعلق بقرار إرادي. وليس في استطاعتك أن تستنتج أوامر من أوامر أخرى، أو من أوامر مقترنة بجمل معرفية، ولكن لا يمكن أن تستنتجها من الجمل المعرفية وحدها. وعلى ذلك فإن استدلالك باطل.
وهكذا ترى أن التفسير الإرادي
volitional
للتوجيهات الأخلاقية لا يؤدي إلى النتيجة القائلة إن المتحدث ينبغي عليه أن يترك لكل شخص الحق في اتباع قراراته الخاصة، أي أنه لا يؤدي إلى الفوضوية. فإذا ما وضعت أهدافا إرادية معينة، وطالبت جميع الأشخاص باتباعها، فليس في استطاعتك أن ترد على حجتي إلا بوضع أمر آخر، كالأمر الفوضوي الآتي مثلا: «لكل شخص الحق في أن يفعل ما يشاء.» ومع ذلك فليس في وسعك أن تثبت أن مذهبي في الأخلاق الإرادية متناقض مع نفسه، وأن المنطق يرغمني على أن أترك لكل شخص الحق في أن يفعل ما يشاء. فالمنطق لا يرغمني على أي شيء كما أن التوجيهات التي أضعها نتائج لفهمي الخاص للأخلاق، فضلا عن أن المنطق لا ينبئني أي الأوامر ينبغي أن أعدها ملزمة لجميع الأشخاص. فأنا أضع أوامري بوصفها رغبات إرادية لي، كما أن التمييز بين التوجيهات الشخصية والتوجيهات الأخلاقية هو بدوره مسألة رغبة إرادية. ولعلك تذكر أن النوع الأخير من التوجيهات هو تلك التي أعدها ضرورية للجماعة، والتي أطالب كل شخص بإطاعتها.
ولا شك أنك أصبحت الآن في حالة يأس تام. ولا بد أنك سترد قائلا: «قد يكون ما تقوله صحيحا، من وجهة النظر المنطقية، ولكن هل تظن حقا - يا من ألفت كتابا في الفلسفة العلمية - أنك أنت الشخص الذي يعطي توجيهات أخلاقية للعالم بأسره؟ وما الذي يدفعنا إلى اقتفاء أثرك؟»
وردي على ذلك هو أنني آسف أيها الصديق، لأنني لم أقصد أن يفهم كلامي على هذا النحو، فقد كنت أبحث عن طريق الحقيقة، ولكن هذا السبب نفسه هو الذي يجعلني أمتنع عن إعطائك توجيهات أخلاقية. لا يمكن بحكم طبيعتها ذاتها أن تكون صائبة. فصحيح أن لدي توجيهاتي الأخلاقية، ولكنني لن أدونها هنا. فلست أرغب في مناقشة المسائل الأخلاقية، وإنما أود مناقشة طبيعة الأخلاق. بل إن لدي بعض التوجيهات الأخلاقية الأساسية التي أعتقد أنها لا تختلف كثيرا عن توجيهاتك. فكلانا نتاج لنفس المجتمع، وعلى ذلك فقد تشبعنا بالروح الديمقراطية منذ يوم مولدنا. قد نختلف في أمور كثيرة، كمسألة ما إذا كان من الواجب تخفيف قوانين الطلاق، أو ما إذا كان من الواجب إقامة حكومة عالمية للإشراف على استخدام الأسلحة الذرية. ولكننا نستطيع مناقشة أمثال هذه المشكلات إذا اتفقنا على مبدأ ديمقراطي أقول به في مقابل مبدئك الفوضوي، وأعني بهذا المبدأ الديمقراطي: «إن لكل شخص الحق في وضع أوامره الأخلاقية الخاصة، وفي أن يطالب الآخرين باتباع هذه الأوامر.»
هذا المبدأ الديمقراطي يشكل الصيغة الدقيقة للنداء الذي أتوجه به إلى كل شخص بأن يثق في رغباته الإرادية الخاصة، وهو النداء الذي رأيته أنت متناقضا مع رأيي القائل بأن لكل شخص أن يضع أوامر للأشخاص الآخرين. فلأبين الآن كيف أن هذا المبدأ ليس متناقضا مع نفسه. فلنفرض مثلا أنني وضعت الأمر القائل إنه إذا كانت هناك أكثر من حجرة لكل شخص في بيت ما، فمن الواجب فتح الحجرات الزائدة للأشخاص الذين لا يملكون حجرات خاصة بهم. أما أنت فتضع الأمر القائل إنه لا ينبغي إرغام أي شخص على أن يفتح باب بيته للآخرين. فلديك حجرة زائدة في بيتك، وأنا أطالب بفتحها لشخص يعاني من أزمة المساكن، ولو كانت لدى القدرة على تنفيذ طلبي من خلال سلطة الحكومة، وذلك بأن أجعل من هذه القاعدة قانونا عن طريق استفتاء مثلا، فإنني سأذهب إلى حد أن أنفذ ذلك فعلا. ومع ذلك فإن ما يحول بين مبدئي وبين أن يصبح تناقضا هو الفرق بين الحق في السلوك والحق في المطالبة بسلوك معين. فأنا أطالب بأن تسلك على نحو معين، ولكني لا أطالبك بالتخلي عن مطلبك العكسي. وهذه ديمقراطية صحيحة، وهي في الواقع تتمشى مع الطريقة الفعلية التي تواجه بها مشكلة اختلاف الإرادات في المجتمع الديمقراطي.
إنني لا أستمد مبدئي من العقل الخالص، ولا أعرضه على أنه نتيجة الفلسفة. وكل ما أفعله هو أنني أصوغ مبدأ هو أساس الحياة السياسية بأسرها في البلدان الديمقراطية، وأنا أعلم أنني أبدو، بالتزامي هذا المبدأ، نتاجا لعصري. ولكنني قد وجدت أن هذا المبدأ يتيح لي فرصة نشر رغباتي، وتحقيقها إلى حد بعيد، ومن ثم فإني أتخذ منه أمرا أخلاقيا لي. وأنا أزعم أنه ينطبق على جميع أشكال المجتمع. فلو وضعت أنا، الذي أعد نفسي نتاجا لمجتمع ديمقراطي، في مجتمع مخالف، فقد أكون على استعداد لتعديل مبدئي. ولكن لنختبر هذا المبدأ الذي يبدو أصلح المبادئ للمجتمع الذي أعيش فيه.
ليس هذا المبدأ مذهبا أخلاقيا، يجيب عن جميع الأسئلة المتعلقة بما ينبغي عمله، وإنما هو مجرد دعوة للقيام بدور إيجابي في الصراع بين الآراء. فالاختلاف بين الإرادات لا يمكن تسويته بالالتجاء إلى مذهب أخلاقي يضعه بعض أهل العلم. بل إن الوسيلة الوحيدة للتغلب على هذه الاختلافات هي تصادم الآراء، عن طريق الاحتكاك بين الفرد وبيئته، وعن طريق الجدل والخضوع لمنطق الموقف. والحق أن التقويمات الأخلاقية إنما تتكون خلال ممارستنا لنشاطنا، فنحن نسلك، ونفكر فيما فعلناه، ونتحدث مع الآخرين عنه، ونسلك ثانية على نحو نعتقد أنه أفضل. وما أفعالنا إلا محاولات للاهتداء إلى ما نريد، ونحن نتعلم من خلال الخطأ، وكثيرا ما يحدث أن نظل لا نعلم أننا نرغب في القيام بالقعل إلا بعد أن نكون قد قمنا به فعلا. فالغايات الإرادية لا تأتينا عادة بنفس الوضوح الذي ندرك به موضوعا للإبصار، بل إنها في أكثر الأحيان تكون خلفية لا شعورية أو نصف شعورية لاتجاهاتنا وميولنا، أما تلك تبدو منها واضحة ساطعة، كالنجوم التي تهدينا في طريقنا، فكثيرا ما تفقد كل ما فيها من جاذبية بمجرد أن نحققها.
وعلى ذلك، فإن على من يريد دراسة الأخلاق ألا يطرق باب الفيلسوف، وإنما ينبغي عليه أن يذهب حيثما يدور صراع حول المشكلات الأخلاقية العملية. فعليه أن يعيش وسط جماعة تتدفق حيوية بفضل التنافس بين الإرادات. سواء أكانت هذه جماعة سياسية، أم اتحادا عماليا، أم منظمة مهنية، أم ناديا رياضيا، أم جماعة يؤلف بينها الاشتراك في الدرس في قاعة محاضرات واحدة. هناك سيشعر بمعنى وضع المرء لإرادته في مقابل إرادات الآخرين. وبمعنى تكيف المرء مع إرادة الجماعة. ذلك لأن الأخلاق إذا كانت ممارسة للرغبات الإرادية، فهي أيضا تكيف لهذه الرغبات من خلال بيئة جماعية. ولا شك أن من يدعو إلى الفردية يكشف عن قصر نظره حين يغفل ذلك الرضاء الذي تشعر به الإرادة نتيجة للانتماء إلى جماعة، أما كوننا ننظر إلى تكيف الإرادات خلال الجماعة على أنه عملية نافعة أو ضارة، فذلك أمر يتوقف على تأييدنا أو معارضتنا للجماعة، ولكن ينبغي أن نعترف بأن تأثير الجماعة هذا موجود بالفعل.
فكيف إذن يتسنى تعديل الإرادات وتحقيق الانسجام بينها في الجماعة؟ وما هي العملية التي تؤدي إلى تكيف الإرادات؟
ليس من شك في أن هذه العملية هي، إلى حد بعيد، تعلم لعلاقات معرفية. ولقد قلت من قبل إن علاقات اللزوم بين الأوامر تقبل البرهنة المنطقية. والواقع أن الدور الذي تقوم به علاقات اللزوم هذه أعظم بكثير مما يقال به عادة. فكثيرا ما نخطئ، في العلاقات بين أهدافنا، فإذا كانت بعض الأهداف الأساسية متماثلة، تحول عدد كبير من المشكلات الأخلاقية إلى مشكلات منطقية. مثال ذلك أن مسألة كون الملكية الخاصة مقدسة لا تعود مسألة أخلاقية، بمجرد أن نعترف بهدف ضرورة ضمان حد أدنى من ظروف الحياة الضرورية لجميع المواطنين. وعندئذ يكون التفضيل بين نظام حرية الأعمال، ونظام ملكية الدولة لوسائل الإنتاج، من حيث قدرة كل منهما على تحقيق هذا الهدف، يكون ذلك التفضيل أمرا يختص به التحليل الاجتماعي. وإنما ترجع الصعوبات التي نصادفها عندئذ إلى الحالة القاصرة التي يتصف بها علم دراسة المجتمع؛ إذ إن هذا العلم لا يستطيع أن يقدم إجابات لا لبس فيها ولا غموض، مشابهة للإجابات التي تقدمها الفيزياء. فمعظم المشكلات السياسية يمكن أن ترد، عند أنصار الديمقراطية، إلى مجادلات معرفية. لذلك فإن الأمل معقود على أن تسوى هذه المشكلات بالمناقشة العامة والتجارب السلمية، بدلا من أن تسوى بالالتجاء إلى الحرب.
والواقع أن معظم القرارات الإرادية التي نواجهها هي قرارات مستخلصة من أهداف أكثر منها أساسية، نتخذها غايات لأنفسنا، ولهذا السبب كان للإيضاح المعرفي أهميته في المسائل الأخلاقية. ونستطيع أن نذكر في هذا الصدد، إلى جانب المسائل السياسية، المسائل التعليمية والصحية والحياة الجنسية والقانون المدني والقانون الجنائي ومعاقبة المجرمين. مثال ذلك أن مسألة ما إذا كان من الواجب وضع المجرم المحكوم عليه في إصلاحية، ليست مسألة أخلاقية، وإنما هي مسألة نفسية في نظر كل من يوافقون على أن تشريع الدولة ينبغي أن يسعى إلى تكوين أكبر عدد ممكن من المواطنين المتكيفين اجتماعيا. ولكن ما أكثر التجارب التي تشهد بأن الأشخاص الذين يخرجون من الإصلاحيات يكونون عادة مهيئين لعكس هذه الغاية!
ومع ذلك، فمن الحقائق النفسية المعترف بها أنه حتى عندما يتسم التوصل إلى إيضاح معرفي، يكون من العسير تغيير الاتجاهات الإرادية. فقد نعلم أننا ما كنا نرغب في هدف أساسي معين، فلا بد لنا أيضا من قبول قرار آخر معين، ومع ذلك نتردد في قبول هذا القرار. فقد نكون مقتنعين بأن المجرم ينبغي ألا يعاقب، وإنما يجب أن يوضع في بيئة تتيح له فرص إعادة التكيف من جديد. ومع ذلك فقد يكون من العسير التغلب على نداء العقاب، والرغبة في القصاص، وهي الرغبة التي أملت عددا كبيرا من النظم الشائعة في معاملة المجرمين. كذلك فإن أخلاق العلاقات الجنسية حافلة بعدد كبير من التحريمات، إلى حد أنه يصعب جدا التغلب على مظاهر التحامل المعتادة، حتى عندما تكون الاعتبارات النفسية قد أوضحت أن من واجبنا تغيير بعض تقويماتنا التقليدية إذا ما شئنا أن يكون الرجال والنساء في مجتمعنا أسعد وأصح. ففي كل هذه الحالات، ينغي أن تدعم النتيجة المعرفية بإعادة تكييف اتجاهاتنا الإرادية. وفي هذا الصدد تقوم التربية من خلال الجماعة بدور أساسي. فنحن لا نتعلم أننا نستطيع قبول التقويمات الجديدة إلا بالعيش في بيئة تطبق فيها هذه التقويمات، وفي مثل هذه البيئة وحدها تكتسب القوة التي تمكننا من أن نريد ما أثبت الاستنتاج المنطقي أنه نتيجة لأهدافنا الأساسية. فليست الحجج المنطقية بكافية لتسوية المشكلات النفسية المتعلقة بالاتجاهات الإرادية، بل إن المنطق، مقترنا بتأثير الجماعة، هو الذي يساعدنا على تنظيم تكويننا الإرادي.
فهل يكون من الممكن رد جميع المسائل الأخلاقية إلى أهداف أساسية مشتركة؟ الواقع أن كوننا جميعا من بني البشر، إنما هو شاهد يؤيد هذا الافتراض؛ إذ يبدو من المعقول أن تكون أوجه الشبه الفسيولوجية بين البشر منطوية على تشسه في الأهداف الإرادية. ولكن هناك وقائع أخرى تناهض هذا الافتراض؛ إذ إن هناك جماعات معينة، كالنبلاء في المجتمعات الإقطاعية، أو الرأسماليين في الدولة الرأسمالية، أو أعضاء الحزب المسيطرين على دولة تأخذ بنظام الحزب الواحد. تتمتع بمزايا واضحة نتيجة لاحتفاظها بامتيازات طبقتها.
وإني لأعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال ليست على هذا القدر من البساطة. فقد رأينا أن معرفة وجود علاقة لزوم بين الأهداف لا تؤدي بذاتها إلى تغيير في الاتجاهات الإرادية، أي أنه، إذا كان لهذه المعرفة أن تؤدي إلى إعادة نظر في القرارات، فلا بد أن تكون مصحوبة بتهيئة للرغبات الإرادية على نحو معين. فإذا كانت هذه التهيئة ضرورية وممكنة، فلا يهم كثيرا أن تكون متعلقة بقرارات أساسية أو بقرارات مستنتجة. فحتى الرغبات الأساسية تخضع لتأثير الجماعة، ومن الممكن أن تتغير نتيجة للقوة الإيحائية لبيئة تتمثل فيها رغبات أخرى ونتائجها.
وكثيرا ما يؤدي الإيمان بالأخلاق المطلقة إلى زيادة صعوبة عملية التكيف ضرورات الجماعة. فالشخص الذي يتشيع بتعاليم النظرية القائلة إن القواعد الأخلاقية تكون حقائق مطلقة، يصعب عليه إلى حد كبير أن يتخلى عن هذه القواعد، وقد يظل بمنأى عن تأثير عملية التكيف التي تمارسها الجماعة. وعلى العكس من ذلك، فإن الشخص الذي يعلم أن القواعد الأخلاقية ذات طبيعة إرادية
volitional ، يكون على استعداد لتغيير أهدافه إلى حد ما إذا رأى أن هذه هي الوسيلة الوحيدة التي يستطيع بها أن يتعامل مع الآخرين. فأساس التربية الاجتماعية هو تكييف المرء لأهدافه مع أهداف الآخرين. أما الأنانية الساذجة فتصادف مقاومة إذا ما وقفت في وجه أنانية الآخرين، وسرعان ما يكتشف الأناني أن من مصلحته التعاون مع الجماعة. فالأخذ والعطاء اللذان يتيحهما التعاون الاجتماعي يجلب رضاء أعمق بكثير مما يجلبه إصرار المرء بعناد على عدم التخلي عن أهدافه. وهكذا فإن الشخص الذي تربى في ظل نظرة تجريبية إلى الأخلاق، يكون أفضل استعدادا لكي يصبح عضوا متكيفا مع المجتمع ممن يؤمن بالمذهب المطلق.
وليس المقصود من ذلك أن التجريبي شخص يسهل عليه التلون حسبما يقتضيه الموقف. فهو على الرغم من استعداده للتعلم من الجماعة، يكون أيضا ميالا إلى توجيه الجماعة في اتجاه رغباته الإرادية الخاص. فهو يعلم أن التقدم الاجتماعي كثيرا ما يكون راجعا إلى مثابرة أفراد معينين كانوا أقوى من الجماعة. وهو يحاول مرارا وتكرارا أن يغير الجماعة على قدر استطاعته. ولهذا التفاعل بين الجماعة وبين الفرد تأثيره في الفرد والجماعة معا.
وعلى ذلك فإن التوجيه الأخلاقي للمجتمع البشري إنما هو حصيلة عملية تكيف متبادل. ولا يقوم الاعتراف بالعلاقات بين مختلف الأهداف إلا بدور محدود في هذه العملية. أما الدور الأكبر فتقوم به مؤثرات نفسية من نوع غير معرفي، تصدر من الأفراد لأفراد آخرين ، ومن الأفراد إلى الجماعة، ومن الجماعة إلى الأفراد. فالاحتكاك بين الإرادات والرغبات هو القوة الدافعة لكل تطور أخلاقي. لذلك كان من الممكن الاعتراف بأن القوة تقوم بدور رئيسي في تغيير التقويمات الأخلاقية وذلك إذا قيست القوة بأي شكل من أشكال النجاح في تأكيد رغبات المرء في مقابل رغبات الآخرين. على أن هذا المعنى، الذي هو أوسع المعاني، لهذا اللفظ، لا يقتصر على قوة السلاح؛ فمن الممكن أن تكون هناك صور أخرى للقوة لها نفس الفعالية، وربما أكثر؛ كقوة التنظيم الاجتماعي، وقوة طبقة اجتماعية اكتشفت مصالحها المشتركة، وقوة الجماعات المتعاونة، وقوة الكلمة المنطوقة والمكتوبة، وقوة الفرد الذي يشكل أنموذجا للجماعة عن طريق ضرب مثل رائع للسلوك. فالقوة حقا هي التي تتحكم في العلاقات الاجتماعية.
إن من واجبنا ألا نقع في خطأ الاعتقاد بأن الصراع على القوة خاضع لتحكم سلطة تعلو على مستوى البشر، تؤدي بهذا الصراع إلى غاية نهائية خيرة، كما ينبغي ألا نقع في خطأ آخر يرتبط بالخطأ السابق، وهو الاعتقاد بأن من الواجب تعريف الخير بأنه هو الأقوى؛ فقد رأينا أن ما نعده لا أخلاقية يحرز انتصارات كثيرة، وأن الخسة والأنانية الطبقية تحقق نجاحا كبيرا، ولكننا نحاول أن نحقق أهدافنا الإرادية، لا بتعصب المؤمن بحقيقة مطلقة، وإنما بإصرار الشخص الذي يثق في إرادته الخاصة. ولسنا ندرى إن كنا سنبلغ هدفنا. فمشكلة السلوك الأخلاقي، شأنها شأن مشكلة التنبؤ بالمستقبل، لا يمكن أن تحل بوضع قواعد تضمن النجاح؛ إذ إن مثل هذه القواعد لا وجود لها.
ولا وجود أيضا لقواعد نستطيع أن نكتشف بها هدفا أو معنى للكون. فهناك بعض الأمل في أن يكون تاريخ البشرية سائرا نحو التقدم، ومؤديا إلى مجتمع بشري أفضل تكيفا، على الرغم من أن هناك اتجاهات قوية تدل على عكس ذلك. أما الاعتقاد بأن العالم الفيزيائي يسير نحو التقدم بالمعنى البشري، فهو اعتقاد ممتنع. فالكون يسير تبعا لقوانين الفيزياء، لا تبعا لأوامر الأخلاق. وقد تمكنا، إلى مدى معين، من استغلال قوانين الفيزياء لمصلحتنا. وليس من المستبعد أن يجيء يوم نتمكن فيه من السيطرة على أجزاء أكبر من الكون، وإن لم يكن ذلك أمرا شديد الترجيح، وإنما الأرجح أن ينتهي الأمر بالجنس البشري إلى الفناء مع الكوكب الذي بدأت عليه حياته.
وإذن، فلو أتاك فيلسوف ينبئك بأنه اهتدى إلى الحقيقة النهائية، فلا تثق به. وإن قال لك إنه يعرف الخير الأسمى، أو لديه ما يثبت أن الخير لا بد أن يصبح حقيقة واقعة، فلا تثق به أيضا، فهو إنما يردد أخطاء ظل أسلافه يرتكبونها طوال ألفي عام. ولقد حان الوقت لوضع حد لهذا النوع من الفلسفة. فلتطلب إلى الفيلسوف أن يكون متواضعا كالعالم، وعندئذ قد يحرز من النجاح ما أحرزه رجل العلم. ولكن لا تطلب إليه أن ينبئك بما ينبغي عليك عمله، بل أنصت جيدا إلى صوت إرادتك، وحاول أن توحد بين إرادتك وبين إرادة الآخرين. فليس في العالم من الغايات أو من المعاني أكثر مما تضعه أنت ذاتك فيه.
الفصل الثامن عشر
مقارنة بين الفلسفة القديمة والجديدة
أود في هذا الفصل أن ألخص النتائج الفلسفية التي أسفر عنها تحليل العلم، وأن أقارنها بالمفاهيم التي نادت بها الفلسفة التأملية.
فقد كانت الفلسفة التأملية تسعى إلى اكتساب معرفة بالعموميات، أي بأهم المبادئ التي تحكم الكون. وأدى بها ذلك إلى تشييد مذاهب فلسفية تتضمن وصولا ينبغي أن نعدها اليوم محاولات ساذجة لتكوين فيزياء شاملة، أعني فيزياء تقوم فيها تشبيهات بسيطة بتجارب الحياة اليومية بمهمة التفسير العلمي. وقد حاولت هذه الفلسفة أن تقدم تفسيرا لمنهج المعرفة باستخدام تشبيهات مماثلة، وأجابت على الأسئلة الخاصة بنظرية المعرفة باستخدام لغة مجازية، لا باستخدام التحليل المنطقي. أما الفلسفة العلمية فإنها تترك للعالم مهمة تفسير الكون بأسرها، وتبني نظرية المعرفة عن طريق تحليل نتائج العلم، وتدرك عن وعي أن من المستحيل فهم فيزياء الكون أو فيزياء الذرة من خلال تصورات مستمدة من الحياة اليومية.
ولقد كانت الفلسفة التأملية تسعى إلى اليقين المطلق. فإن كان من المحال التنبؤ بالحوادث الفردية، فإن القوانين العامة المتحكمة في جميع الحوادث، على الأقل، تعد في نظرها قابلة للمعرفة، ومن الواجب استخلاص هذه القوانين بقوة العقل الخالص. فالعقل، وهو مشرع الكون، قد كشف للذهن البشري الطبيعة الكامنة للأشياء جميعا - ذلك رأي يكمن في أساس المذاهب التأملية بكل صورها. أما الفلسفة العلمية فهي ترفض أن تقبل أية معرفة بالعالم الفيزيائي على أنها تتصف باليقين المطلق. فليس من الممكن التعبير عن الحوادث الفردية، ولا عن القوانين التي تحكمها، بصورة مطلقة. بل إن المجال الوحيد الذي يمكن بلوغ اليقين فيه هو مبادئ المنطق والرياضة، غير أن هذه المبادئ، تحليلية وفارغة. فيقين أي مبدأ إذن لا ينفصل عن كونه فارغا، وليس ثمة معرفة تركيبية قبلية.
ولقد كانت الفلسفة التأملية تسعى إلى إقامة التوجيهات الأخلاقية بنفس الطريق التي تشيد بها معرفة مطلقة. فكانت تنظر إلى العقل على أنه هو الذي يسن القانون الأخلاقي مثلما يضع القانون المعرفي، ومن الواجب في نظرها كشف القواعد الأخلاقية بعملية تبصر، مشابه لذلك التبصر الذي يكشف القواعد النهائية للكون. أما الفلسفة العلمية فقد تخلت نهائيا عن خطة وضع قواعد أخلاقية. فهي تنظر إلى الغايات الأخلاقية على أنها نواتج لأفعال إرادية، لا للمعرفة، وكل ما يمكن أن تتناوله المعرفة هو العلاقات بين الغايات، أو بين الغايات والوسائل. أما القواعد الأخلاقية الأساسية فلا يمكن تبريرها من خلال المعرفة، وإنما السبب الوحيد للأخذ بها هو أن أناسا يريدون هذه القواعد ويريدون من الآخرين أن يتبعوها. فالإرادة لا يمكن استخلاصها من المعرفة، بل إن الإرادة البشرية هي التي تولد ذاتها وتحكم على ذاتها.
هذه هي الصورة الختامية المجملة للمقارنة بين الفلسفة القديمة والجديدة. أن الفيلسوف الجديد يتخلى عن الكثير جدا، ولكنه أيضا يكسب الكثير جدا. فما أعظم الفارق بين العلم المبني على أساس التجارب، وبين العلم المستمد من العقل وحده! وما أعظم الضمان الذي تمنحه لنا تنبؤات العالم، على الرغم من افتقارها إلى اليقين، بالقياس إلى تنبؤات الفيلسوف الذي كان يدعي أن لديه استبصارا مباشرا بالقوانين النهائية للكون! وكم يظهر بوضوح سمو الأخلاق التي لا تقيدها قواعد تمليها سلطة عليا مزعومة، عندما تطرأ ظروف اجتماعية جديدة لم تكن تدخل في حسبان المذاهب الأخلاقية القديمة!
ومع ذلك كله، فهناك فلاسفة يأبون أن يعترفوا للفلسفة العلمية بمكانة داخل الفلسفة، ويرون أن نتائجها ينبغي أن تكون منتمية إلى العلم بوصفها فصلا تمهيديا له، ويدعون أن هناك فلسفة مستقلة، لا شأن لها بالبحث العلمي، وتستطيع أن تصل إلى الحقيقة مباشرة. غير أن هذه الادعاءات تكشف، في رأيي، عن افتقار إلى القدرة على الحكم النقدي. فأولئك الذين لا يدركون أخطاء الفلسفة التقليدية لا يرغبون في التخلي عن مناهجها أو نتائجها، ويفضلون مواصلة السير في طريق تخلت عنه الفلسفة العلمية. وهم يحتفظون باسم الفلسفة لمحاولاتهم الباطلة في الوصول إلى معرفة تعلو على العلم، ويأبون الاعتراف بأن المنهج التحليلي الذي وضع على نمط البحث العلمي هو منهج فلسفي.
إن ما يلزم الفلسفة العلمية هو إعادة توجيه رغبات الفيلسوف وأهدافه. فما لم يعترف باستحالة بلوغ أهداف الفلسفة التأملية، فلن تفهم النتائج التي تحققها الفلسفة العلمية. إن لغة الصور هي الطريقة الطبيعية للتعبير عند الشاعر، أما الفيلسوف فينبغي عليه أن يتخلى عن استخدام الصور الإيحائية فيما يقدمه من تفسيرات؛ وذلك إذا شاء أن يفهم الفلسفة العلمية. وقد تبدو لنا الرغبة في بلوغ اليقين المطلق هدفا طموحا جديرا بالإعجاب، ولكن الفيلسوف العلمي ينبغي عليه أن يتجنب مغالطة النظر إلى العادات المألوفة على أنها مصادرات للعقل، ويجب أن يتعلم أن المعرفة الاحتمالية تكون أساسا يبلغ من المتانة حدا يكفي للإجابة عن جميع الأسئلة التي يكون من المعقول سؤالها. كذلك فإن الرغبة في إقامة التوجيهات الأخلاقية على أساس من المعرفة الأخلاقية تبدو رغبة مفهومة، ولكن على الفيلسوف العلمي أن يتخلى عن السعي إلى التوجيه الأخلاقي الذي ضلل الآخرين فجعلهم يتصورون الأخلاق نوعا من المعرفة التي تكتسب بتبصر يكشف لنا عالما أعلى. إن الحقيقة تأتي من الخارج؛ فملاحظة الموضوعات الفيزيائية تنبئنا بما يتصف بصفة الحقيقة. أما الأخلاق فتأتي من الداخل؛ فهي تعبر عما أريده، لا عما هو موجود بالفعل. هذه هي الوجهة الجديدة التي ينبغي أن تتخذهما الرغبات الفلسفية عند الفيلسوف العلمي. ولا بد أن يكتشف أولئك الذين يمكنهم التحكم في رغباتهم، أنهم يكسبون أكثر بكثير مما يخسرون.
والواقع أن الكسب ضخم بحق إذا ما قورن بنتائج المذاهب الفلسفية التقليدية. وأود أن أؤكد مرة أخرى إنني لا أنكر المزايا التاريخية لهذه المذاهب. فهناك شوط طويل لا بد من قطعه بين إدراك المشكلة لأول مرة وبين صياغتها بوضوح، وشوط طويل آخر بين صياغتها وبين حلها. وكثير من الحلول الحاضرة يمكن تتبعها إلى أصول في تلك التشبيهات واللفة المجازية التي كمان يقدمها فيلسوف قديم معين. وسع ذلك فلا شيء أخطر على الفهم النقدي للفلسفة من النظر إلى هذه المجازات والتشبيهات على أنها استباقات تنبئية للكشوف الجديدة. فكثيرا ما يكون الإدراك الأول للمشكلة نابعا عن الدهشة الساذجة، لا عن استبصار بما تنطوي عليه من أبعاد واسعة المدى. ومن الممكن أن يكون الجهد والعناء المبذول في التطور الذي أدى إلى الحل الحديث معادلا في ضخامته، وربما أضخم، من الدور الذي أسهم به من بدءوا هذا التطور. فالاحترام الواجب نحو القدماء ينبغي ألا يجعلنا نغفل الإنجازات التي حققها عصرنا. ولا بد من استقلال في الحكم ودقة في النقد من أجل كشف تلك القلة من المشكلات الأصيلة، من بين تلال التصورات الغامضة والثرثرات الدجماطيقية التي ورثناها عن الفلسفة التقليدية. ولا يمكن أن يكتسب الفيلسوف الأدوات اللازمة لحل هذه المشكلات إلا عن طريق الفهم العميق للمنهج العلمي الحديث.
ولقد حاولنا في هذا الكتاب أن نقدم عرضا للإجابات التي قدمتها الفلسفة العلمية الحديثة للمشكلات التي كان لها دور في الفلسفة التقليدية منذ بدايتها في التفكير اليوناني. فهناك مشكلة أصل المعرفة الهندسية، التي كانت الإجابة عنها هي التمييز بين الهندسة الفيزيائية، التي هي تجريبية، وبين الهندسة الرياضية، التي هي تحليلية. وهناك مسألة السببية والتحديد العام لجميع الحوادث الفيزيائية، وهي المسألة التي كانت الإجابة عنها سلبية: فالسببية قانون تجريبي، ولا يسري إلا على موضوعات العالم الكبير، على حين أنه ينهار في المجال الذري. وهناك مسألة طبيعة الجوهر والمادة، التي كانت الإجابة عنها هي ثنائية الموجات والجزئيات، وهو تصور أهرب من أي نوع من الخيال تمخضت عنه المذاهب الفلسفية في أي وقت، وهناك مسألة المبدأ المتحكم في التطور، وهو المبدأ الذي تم الاهتداء إليه في انتقاء إحصائي مقترن بالقوانين السببية. وهناك مسألة طبيعة المنطق، وهو المبحث الذي تبين أنه نظام لقوانين اللغة، لا يقيد أية تجارب ممكنة، وبالتالي لا يعبر عن أية خصائص للعالم الفيزيائي. وهناك مسألة المعرفة التنبئية، التي أجيب عنها بنظرية في الاحتمال والاستقراء، بمقتضاها تكون التنبؤات ترجيحات، وتكون هي أفضل الأدوات المتوافرة للتنبؤ بالمستقبل إن كان مثل هذا التنبؤ ممكنا. وهناك مسألة وجود العالم الخارجي والذهن البشري، التي تبين أنها مسألة متعلقة بالاستخدام الصحيح للغة، وليست مسألة «حفيفية متعالية». وهناك أخيرا مسألة طبيعة الأخلاق، التي أجيب عنها بالتمييز بين الأهداف وبين علاقات اللزوم بين الأهداف، وهي إجابة تؤدي إلى جعل علاقات اللزوم هذه هي وحدها التي تقبل حكما معرفيا، أما الأهداف الأولية فهي في نظرها قرارات نابعة عن الإرادة.
إن هناك مجموعة من النتائج الفلسفية أمكن إثباتها بواسطة منهج فلسفي لا يقل دقة وإحكاما عن منهج العلم، وفي استطاعة التجريبي الحديث أن يستشهد بهذه النتائج إذا ما طلب إليه أن يقدم الدليل على أن الفلسفة العلمية أرفع من التأمل الفلسفي. فهناك إذن معرفة فلسفية متراكمة. ولم تعد الفلسفة قصة أناس حاولوا عبثا أن «يقولوا ما لا يمكن أن يقال» بصور مجازية أو تراكيب لفظية لها صورة منطقية وهمية. بل إن الفلسفة هي التحليل المنطقي لجميع أشكال الفكر البشري ومن الممكن التعبير عما تود أن تقوله بعبارات مفهومة. وليس ثمة شيء «لا يمكن أن يقال» يتعين عليها أن تستسلم لشروطه، بل إن الفلسفة علمية في مناهجها؛ فهي تجمع النتائج التي تقبل البرهان، والتي يقبلها أولئك الذين اكتسبوا خبرة كافية في المنطق والعلم. وإذا كانت لا تزال تنطوي على مشكلة لم تحل، ما زالت تثير الجدل؛ فهناك أمل حقيقي في أن تحل في المستقبل بنفس الطرق التي أدت، في حالة مشكلات أخرى، إلى حلول يشيع قبولها اليوم.
والحق أن المرء ليدهش، حين يعقد هذه المقارنة الختامية بين الفلسفة القديمة والحديثة، من استمرار وجود كل هذه المعارضة للمنهج الفلسفي ونتائجه. وأود الآن أن أناقش الأسباب النفسية المحتملة لهذه المعارضة.
أول هذه الأسباب هو أنه لا بد من القيام بجهد فني معقد من أجل فهم الفلسفة الجديدة. ذلك لأن فيلسوف المدرسة القديمة هو عادة شخص اكتسب خبرة في ميدان الأدب والتاريخ، ولم يتدرب أبدا على المناهج الدقيقة للعلوم الرياضية، ولم يشعر باللذة التي تجلبها البرهنة على قانون طبيعي بتحقيق جميع نتائجه. ولو تأملنا التعليم الذي تقدمه المدارس الثانوية لما وجدناه يزيد على مدخل بسيط إلى الرياضة والعلوم - فمن يستطيع إذن أن يحكم على نظرية المعرفة إن لم يكن قد رأى المعرفة في أكثر صورها نجاحا؟
والحجة التي تقدم عادة دفاعا عن هذا الموقف هي أن الفلسفة العلمية موجهة أكثر مما ينبغي نحو العلوم الرياضية، ولا تعطي العلوم الاجتماعية والتاريخية حقا من الاهتمام. غير أن هذه الحجة ليست إلا دليلا جديدا على سوء فهم برنامج الفلسفة العلمية. فالفيلسوف العلمي يرحب بأية محاولة لبحث العلوم الاجتماعية بمنهج فلسفي قريب من ذلك المنهج الذي طبق بنجاح كبير في العلوم الطبيعية. ولكن ما يرفض قبوله هو تلك الفلسفة التي تضع حدا فاصلا بين العلوم الاجتماعية والطبيعية، والتي تدعي أن لتلك المفاهيم الأساسية، من أمثال مفهوم التفسير، أو القانون العلمي، أو الزمان، معاني مختلفة في كلا الميدانين. ذلك لأن مصدر هذه الادعاءات هو في كثير من الأحيان سوء فهم العلوم الرياضية . والواقع أن تحليل السببية، الذي يتم في الفيزياء، يقرب بين ذلك العلم وبين علم الاجتماع إلى حد لم يعرف من قبل على الإطلاق، إذ إن الاعتراف بأن القوانين الفيزيائية علاقات لزوم احتمالية، وليست قواعد يمليها العقل الخالص، لا بد أن يشجع عالم الاجتماع على صياغة قوانين حتى لو لم تكن قوانينه تسري إلا على غالبية الأمثلة. وأن التعقد الشديد للظروف الاجتماعية، الذي يجعل من المستحيل رؤية قانون اجتماعي يتحقق في حالة مثلى، ليذكر المرء بالوضع المماثل في علم فيزيائي هو علم الأرصاد الجوية. فعلى الرغم من أن التنبؤات الدقيقة بحالة الجو مستحيلة، فإن أحدا من علماء الفيزياء لا يشك في أن حالة الجو تخضع لقوانين الديناميكا الحرارية والديناميكا الهوائية. وعلى ذلك فحتى لو كان من الصعب إلى حد بعيد التنبؤ بالمناخ السياسي، فلماذا يرفض معظم علماء الاجتماع الاعتقاد بوجود قوانين لعلم الاجتماع؟
إن الحجة القائلة إن الحوادث متفردة، وأنها لا تتكرر، تنهار لأن نفس الحكم يصدق على الحوادث الفيزيائية. فالطقس في يوم ما لا يمكن أن يكون هو ذاته الطقس في يوم آخر. وحالة قطعة معينة من الخشب لا يمكن أن تكون هي ذاتها حالة أية قطعة أخرى. ولكن العالم يتغلب على هذه الصعوبات بإدماج الحالات الفردية في فئة، وبالبحث عن القوانين التي تتحكم في مختلف الظروف الفردية في معظم الحالات على الأقل. فلماذا يعجز عالم الاجتماع عن أن يفعل نفس الشيء؟
إن الزعم بأن هناك هوة لا تعبر بين العلوم الاجتماعية والطبيعية، يبدو أشبه بمحاولة ترك مكان خاص، في فلسفة العلوم الاجتماعية، لأولئك الفلاسفة الذين يخشون تطبيق الأسلوب المنطقي والرياضي الذي لم يعد من الممكن بناء نظرية في المعرفة بدونه. ولكن من حسن الحظ أن هناك أيضا مجموعة من العلماء الاجتماعيين يتطلعون إلى الفلسفة العلمية لكي تعينهم في صراعهم من أجل فهم منهج علمهم، ويعترفون بضرورة القيام بعملية تطهير واسعة قبل أن يتسنى بناء فلسفة للعلوم الاجتماعية. وإني لآمل أن تتمكن الفلسفة العلمية في المستقبل من اجتذاب أشخاص ينتمون إلى جميع مجالات المعرفة، يتحولون من البحث في ميادينهم الخاصة إلى الدراسة الفلسفية.
وهناك أسباب أخرى تدعو إلى الترحيب بمساعدة الباحثين النزيهين الذين ينتمون إلى مجالات العلوم غير الرياضية، والذين يتقدمون للمعاونة في هذا الميدان. فعلى الرغم من أن البحث الرياضي والمنطقي قد أسهم بالكثير في بناء الفلسفة الجديدة، فإن هذا العمل لا يرتبط في ذاته ضرورة بموقف فلسفي نقدي. فهناك رياضيون، بل مناطقة رياضيون، لم يشعروا أبدا بالحاجة إلى الامتداد بمناهجهم الدقيقة بحيث تطبق على التحليل المنطقي للمعرفة التجريبية، أو يعتقدون أن أي امتداد كهذا ينبغي إكماله بالإهابة بتبصر يعلو على التجربة، أعني تبصرا بحقيقة غير تحليلية. وهم يعدون الفلسفة ضربا من التخمين الذي لا يمكن أن يؤدي أبدا إلى نتائج جادة، أو ينظرون إلى تلك الأمور التي يقتنع بها الإنسان في موقفه الطبيعي على أنها شروط سابقة لا مفر منها للفلسفة، وينكرون إمكان نقدها، أو يعتقدون أن اللغة الغامضة الخيالية للفيلسوف التأملي هي الوسيلة الوحيدة لمعالجة المشكلات الفلسفية؛ ذلك لأن التمرس في الرياضيات ليس ضمانا لفهم المشكلات الفلسفية؛ ذلك لأن التمرس في الرياضيات ليس ضمانا لفهم مشكلات نظرية المعرفة الحديثة ومناهجها، وحتى لو أدركت المشكلات، فقد تظل الحلول تلتمس بتلك الطرق التي ظل التراث القديم العهد يمجدها، والتي لم يتعلم الطالب في جامعاتنا، خلال سنوات تنشئته على اكتساب المعرفة العلمية، أن ينتقدها.
إن الحد الفاصل بين الفلسفة القديمة والجديدة لا يؤدي إلى استبعاد الرياضة من الفلسفة التأملية، بل إنه يفصل بين الشخص الذي يحس بالمسئولية عن كل كلمة ينطقها، وبين الشخص الذي يستخدم الكلمات من أجل نقل تخمينات حدسية وتكهنات لم تخضع للتحليل، أعني بين ذلك الذي يكون على استعداد لتعديل فهمه للمعرفة، بحيث يتلاءم مع ضروب المعرفة التي يمكن بلوغها، وذلك الذي لا يستطيع التخلي عن الإيمان بحقيقة تعلو على التجربة، أو بين من يعتقد أن المناهج الرياضية الدقيقة يمكنها أن تسري على تحليل المعرفة، ومن ينظر إلى الفلسفة على أنها مجال خارج عن المنطق، متحرر من قيود الضوابط المنطقية، يتحكم فيه الرضاء الناتج عن استخدام الكلام المجازي وارتباطاته الانفعالية. فالتفرقة بين هذين النوعين من العقليات نتيجة لا مفر منها للفلسفة الجديدة.
أما السبب المحتمل الثاني لمعارضة الفلسفة العلمية فهو الرأي القائل إن الفيلسوف العلمي لا يفهم الجانب الانفعالي للحياة، وأن التحليل المنطقي بسلب الفلسفة دلالتها الانفعالية. فكم من دارس للفلسفة يقبل على محاضرات الفلسفة بحثا عن المواعظ والإرشادات، ويقرأ أفلاطون مثلما يقرأ الإنجيل أو شكسبير، ويشعر بخيبة الأمل حين يضطر، في درس للفلسفة، إلى سماع عرض للمنطق الرمزي أو نظرية النسبية. وكل ما أستطيع أن أقوله إزاء هذا الموقف هو أن على من يريدون مواعظ وإرشادات أن يحضروا دروسا في الإنجيل أو شكسبير، وليس لهم أن يتوقعوا الاهتداء إليها في مكان لا مجال لها فيه. إن الفيلسوف العلمي لا يود أن يقلل من قيمة الانفعالات، ولا يود أن يعيش بدونها، وقد لا تقل حياته، من حيث ما فيها من مشاعر وأحاسيس، عن حياة أي أديب غير أنه يرفض الخلط بين الانفعال والمعرفة، ويحب أن يستنشق الهواء النقي للبصيرة والعمق المنطقي. وإذا جاز لي أن أستخدم تعبيرا أقرب إلى الأمور الواقعة، فإني أقول أن طعم التحليل المنطقي مشابه لطعم المحار، من حيث إن على الإنسان أن يتعلم كيف يحبه. ولكن مثلما أن ذلك الذي يأكل المحار يقبل عن طيب خاطر كأسا من النبيذ، فإن دارس المنطق ليس في حاجة إلى التخلي عن نبيذ التجارب الانفعالية الذي تقدمه الاهتمامات ذات الطابع الأبعد عن المنطق.
والحق أن القول بأن العقلية الرياضية والمنطقية لا تقدر قيمة الفن إنما هو أسطورة. ذلك لأن رياضيا مشهورا قد قام بطبع مؤلفات شاعر غنائي، وكثير من مشاهير علماء الفيزياء يعزفون على «الفيولينه» في ساعات فراغهم، وهناك عالم بيولوجي مشهور كان مصورا، وتتضح مواهبه الفنية في تصويره لملاحظاته المجهرية. إن الفن والعلم لا يستبعد كل منهما الآخر، ولكن من الواجب الامتناع عن التوحيد بينهما. فالقول أن «الحقيقة هي الجمال، والجمال هو الحقيقة.» هو تعبير جميل ، ولكنه لا يعبر عن حقيقة، وبذلك يكون فيه تفنيد لمضمونه ذاته.
وربما قيل إن الحجة التي أقدمها لا تمس صميم الموضوع. فقد يعترض على بأن الموقف الشخصي للفيلسوف العلمي ليس هو موضوع المناقشة، ولن ينكر أحد أن الفيلسوف العلمي قد يكون صاحب ذوق سليم، ومتفتحا للمشاعر، ولكن ما يعاب عليه هو أنه لا يعزو مكانا للفن والانفعال في مذهبه الفلسفي، أما الفلاسفة التأمليون فكانوا ينسبون للفن مكانة رفيعة؛ إذ يضعون الفن على قدم المساواة مع العلم والأخلاق. فالحق والخير والجمال كانوا في نظرهم التاج الثلاثي لكل ما يسعى الإنسان إليه ويصبو إلى بلوغه. أما تاج الفيلسوف العلمي فيبدو أنه لا ينطوي إلا على درة واحدة. فلماذا نبذ الأخريين؟
إن ردي على ذلك هو أن السبب ينحصر في أن العلاقة بين الحقيقة والجمال ليست مسألة تيجان أو شرف، فمسألة كيفية تصنيف الفنون هي مسألة منطقية، وبالتالي فهي مسألة متعلقة بالحقيقة. ولكن مسألة الطبيعة المنطقية للتقويمات هي التي لا ينبغي أن تقدم الإجابة عنها من خلال تقويمات. أما كون الإجابة ترضي رغباتنا الانفعالية أو لا ترضيها فهي مسألة خارجة عن الموضوع.
إن الفن تعبير انفعالي، أي إن الموضوعات الجمالية رموز تعبر عن حالات انفعالية. والفنان، فضلا عن الشخص الذي يتطلع إلى العمل الفني أو يستمع إليه يضفي معاني انفعالية على موضوعات فيزيائية تتألف من طلاء موزع على قماش أو أصوات تحدثها آلات موسيقية. فالتعبير الرمزي عن المعاني الانفعالية هدف طبيعي، أي إنه يمثل قيمة نصبو إلى الاستمتاع بها. والتقويم هو صفة عامة لأوجه النشاط الهادفة لدى الإنسان، ومن المستحب دراسة طبيعته المنطقية في أهم صورها، دون اقتصار على تحليل الفن وحده.
والواقع أن كل نشاط بشري يخدم، بمعنى ما، هدفا معينا، سواء أكان قوامه أداء عمل لازم لكسب العيش، أم حضور اجتماع سياسي يريد المرء عن طريقه أن يسهم في اتخاذ قرارات سياسية معينة، أم زيارة قاعة فنية يريد المرء أن يرى فيها صورا لمناظر طبيعية أو لأشخاص أو صورا تجريدية من خلال عين الفنان، أو أداء رقصة والاستمتاع بالتأثير الانفعالي للإيقاع والموسيقى. ومع ذلك، ففي كل أوجه النشاط هذه، تكون هناك لحظات يتعين فيها القيام باختيار، وفي هذه اللحظات يكشف السلوك عن تقويم. وليس من الضروري أن يذكر التقويم صراحة، أو أن يتم بالتفكير الواعي والمقارنة، بل إنه قد يتحقق في ذلك الدافع التلقائي الذي يدعو الإنسان إلى قراءة كتاب أو رؤية صديق أو حضور حفل موسيقى. ولكننا نعبر في القرار الذي نتخذه من تفضيلاتنا، وبذلك يدل سلوكنا على النظام التقويمي الذي يكون خلفية أفعالنا.
ويتولى عالم النفس مهمة الدراسة الواعية لهذا النظام التقويمي. فهو يعرف أن هذا النظام لا يكون واحدا في جميع الحالات، وأن التفضيلات تتفاوت تبعا للظروف الوقتية، وللبيئة، وللسن. وفي استطاعته أن يحاول إيجاد نوع من النظام المتوسط، الذي يستدل عليه من الدراسة الإحصائية للسلوك الهادف. كما أنه يستطيع الانتقال إلى تصنيف السلوك الهادف إلى أنواع متباينة. فهناك الميل الفسيولوجي للغذاء والجنس والراحة، وهناك الميل إلى الاعتراف الاجتماعي والنفوذ الاجتماعي، بل إلى السلطة الاجتماعية. وهناك الميل الخلاق الذي يدفع الإنسان إلى تأليف كتاب أو صنع سور لحديقته بنفسه. وهناك الرغبة في لعب كرة القدم أو في مشاهدة الآخرين وهم يلعبونها. وهناك الميل إلى التعبير الانفعالي الذي يتمثل في الاستماع إلى رباعية وترية أو التطلع إلى الألوان الزاهية للشفق. وهناك الميل إلى المعرفة، الذي نرضيه بقراءة الكتب العلمية أو القيام بتجارب علمية. على أن أي تصنيف كهذا لا بد أن يكون ناقصا، ولا بد أن يشوب النقص محاولات تكوين نظام منطقي محكم، نتيجة لتداخل مختلف الأهداف في كل سلوك.
ومع ذلك فهناك سمة مشتركة يمكن الاهتداء إليها في جميع ضروب النشاط الهادف. فاختيار هدف ليس فعلا يشابه إدراك الحقيقة. صحيح أن هذا الاختيار ينطوي على عناصر معرفية، مثلما يقتضي هدف كسب الرزق تحمل المتاعب المهنية، غير أن اختيار الهدف ليس فعلا منطقيا، وإنما هو تأكيد تلقائي للرغبات أو الإرادات التي تأتينا مصحوبة بميول لا تقهر، أو بلذة متوقعة طاغية، أو بالانسياب الطبيعي للعادات التي نقبلها على علاتها، فلا جدوى من أن نطلب إلى الفيلسوف تبرير التقويمات، كما أنه لا يستطيع أن يقدم سلما متدرجا للنظام التقويمي، نميز فيه بين القيم العليا والدنيا؛ ذلك لأن مثل هذا السلم هو في ذاته تقويمي لا معرفي. وقد يستطيع الفيلسوف، بوصفه رجلا مثقفا ذا خبرة، أن يقدم نصيحة قيمة يشأن التقويمات، أي أن يؤثر في الأشخاص الآخرين لكي يقبلوا سلمه التقويمي إلى حد أعظم أو أقل. غير أن المشتغلين بالمهن الأخرى قد لا يقلون عنه قدرة على أداء هذه الوظيفة التعليمية. بل إنهم لو كانوا مربين أو علماء نفس متخصصين، لكان من الجائز أن يكونوا أقدر منه على القيام بها.
إن الفيلسوف العلمي لا ينظر إلى مشكلات التقويم على أنها خارجة عن نطاق اهتمامه؛ إذ إنها تهمه بقدر ما تهم أي شخص آخر. غير أنه يعتقد أنها لا يمكن أن تحل بوسائل فلسفية. فهي تنتمي إلى علم النفس، ومن الواجب تقديم تحليلها المنطقي في سياق التحليل المنطقي للتصورات النفسية بوجه عام.
أما السبب المحتمل الثالث لمعارضة الفلسفة العلمية فهو أن نتائجها لا تؤدي إلى أي إرشاد أو توجيه أخلاقي. وكم من طالب تهرب من تعاليم الفلسفة العلمية خوفا من ذلك التمييز القاطع بين الأخلاق والعلم. أو بين الإرادة والمعرفة فقد كان فيلسوف الطراز القديم يقدم إليه نصائح توجهه في طريقة حياته. ويعده بأنه إذا درس الكتب الفلسفية دراسة كافية، فسوف يعرف ما هو خير وما هو شر. أما الفيلسوف العلمي فيقول له صراحة أنه إذا أراد أن يعرف كيف يحيا حياة طيبة فليس له أن ينتظر من تعاليمه شيئا.
على أن مما يخفف من تأثير امتناع الفلسفة العلمية عن تقديم نصائح أخلاقية، أن هذه الفلسفة تشجع على استخدام التفكير المعرفي في دراسة العلاقات بين مختلف الغايات الأخلاقية؛ فعلاقات اللزوم بين الغايات والوسائل، وبين الغايات الأولية والثانوية، ذات طبيعة معرفية، وينبغي ألا ينسى المرء أن هذه الحقيقة تؤدي إلى تسوية قدر كبير من الخلافات الأخلاقية. فمعظم القرارات التي نواجهها لا تتعلق بغايات أولية، وإنما بغايات ثانوية، وكل ما نحتاج إليه هو تحليل الدور الذي سيؤديه القرار موضوع البحث في تحقيق غاية أساسية معينة. وتكاد القرارات السياسية أن تكون لها تقريبا من هذا النوع. مثال ذلك أن مسألة ضرورة تحديد الحكومة للأسعار هي مسألة يجاب عليها بالتحليل الاقتصادي ، أما الغاية الأخلاقية المتعلقة بإنتاج أكبر قدر ممكن من السلع بأقل سعر ممكن فليست في هذه الحالة موضوع بحث، غير أن الفيلسوف العلمي حين يصنف علاقات اللزوم الأخلاقية بأنها معرفية، يستبعد مناقشة هذه العلاقات من مجال الفلسفة، ويجعل لها مكانا داخل العلوم الاجتماعية. فالتحليل المنطقي للأخلاق، شأنها شأن علم الفيزياء، يدل على أن كثيرا من المسائل التي كانت تعد فلسفية ينبغي أن يجيب عنها العلم التجريبي. وأن تاريخ الفلسفة ليثبت مرارا وتكرارا أن الأسئلة التي توجه إلى الفيلسوف تنتقل إلى العالم، وفي هذه الحالة لا بد أن تصبح الإجابة أعمق وأقوى ضمانا. وعلى من يلتمسون لدى الفيلسوف توجيها في الحياة أن يشكروه إذا أحالهم إلى عالم النفس أو العالم الاجتماعي؛ إذ إن المعرفة المكتسبة في هذين العلمين التجريبيين تبشر بتقديم إجابات أفضل بكثير من تلك التي تكدست في كتابات الفلاسفة. فكثيرا ما تكون المذاهب الأخلاقية للفلسفة التأملية مبنية على الظروف النفسية والبناء الاجتماعي لعصور مضت، وهي - كالمذاهب النظرية - تعرض ما لا يعدو أن يكون نتاجا لمرحلة مؤقتة للمعرفة، على أنه نتائج فلسفية. أما الفيلسوف العلمي فيبتعد عن هذه الأخطاء؛ إذ يقصر الدور الذي يسهم به في الأخلاق على إيضاح تركيبها المنطقي.
وعلى الرغم من أن الفيلسوف العلمي يرفض تقديم النصح الأخلاقي، فإنه عند تنفيذه لبرنامجه يبدي استعداده لمناقشة طبيعة النصح الأخلاقي، وبالتالي للامتداد بطريقته في الإيضاح إلى دراسة الجائب المنطقي لهذا النشاط البشري. فمن الممكن تقديم النصح الأخلاقي على ثلاث صور. في الصورة الأولى يحاول مقدم النصح أن يقنع الشخص بقبول الغايات الأخلاقية التي يعدها مقدم النصح ذاته خيرا. وفي الصورة الثانية يسأل مقدم النصح الشخص الآخر عن غاياته، ثم ينبئه بالنتائج اللازمة التي تساعده على بلوغ غاياته. وفي الصورة الثالثة يكتسب مقدم النصح معلومات عن أهداف الشخص، لا عن طريق توجيه الأسئلة إليه، بل عن طريق ملاحظة سلوكه والاستدلال منه على الأهداف التي ينبغي أن يسعى إليها الشخص. وبعد ذلك يصوغ هذه الأهداف في ألفاظ، وينبئ الشخص، كما في الحالة السابقة، بالنتائج اللازمة لبلوغه هذه الأهداف.
ومن قبيل النوع الأول من النصح، ما يقدمه السياسيون وممثلو العقائد وغيرهم من دعاة أخلاق السلطة. أما في النوع الثاني، فإن مقدم النصح يقوم بوظيفة الباحث النفسي، كالمتخصص في التوجيه المهني، الذي يجيب على الأسئلة المتعلقة بالإعداد لمختلف المهن. وفي النوع الثالث يأخذ مقدم النصح على عاتقه مهمة تفسير سلوك المرء. فلما كان الناس لا يدركون أهدافهم، في كثير من الأحيان، بوضوح كامل، ويفعلون أمورا كثيرة دون تفكير في مقاصدهم، فإن مقدم النصح قد يتمكن أحيانا من أن ينبئ الشخص بما «يريده هو ذاته حقيقة». ومعنى ذلك أنه يستطيع تقديم تفسير متسق لسلوك الشخص، ويشجعه على أن يرغب صراحة في شيء لم يكن يرغب فيه حتى ذلك الحين على نحو صريح. وعلى هذا النحو يمكن أن يكون مقدم النصح ذا تأثير هائل في التكوين النفسي للشخص، ويساعده على إيضاح رغباته، وهي وظيفة مشابهة من بعض النواحي لإيضاح المعاني الذي يتم عن طريق التحليل المنطقي. هذا النوع من النصح هو أكثر الأنواع فعالية، وهو يقتضي مؤهلات رفيعة من مقدم النصح؛ إذ يتطلب فهما نفسيا، فضلا عن معرفة واسعة بالظروف الاجتماعية.
على أن العنصر الذاتي في النصح لا يظهر بوضوح إلا في النوع الأول، وإن كان هناك عادة عنصر ذاتي في النوعين الثاني والثالث بدورهما. فمقدم النصح لن يكون على استعداد لتعريف الشخص بوسائل بلوغ أهدافه إلا إذا كان يوافق على هذه الأهداف، إلى مدى معين على الأقل. مثال ذلك أن نصير الأخلاق الديمقراطية لن يستطيع تقديم النصح إلى حكومة شمولية حول طريقة تحقيقها لأهدافها، ما لم يكن قد «باع نفسه » وهو عمل يعده معظم الناس لا أخلاقيا. وعلى ذلك فإن النصح الأمين لا يمكن أبدا أن يكون موضوعيا خالصا، بل لا بد أن يكون مقدم النصح مشاركا بطريقة إيجابية في تكوين هذه الأهداف، وفاعلا أخلاقيا، وهو يقوم بدور تنفيذي إلى جانب الدور المعرفي في عمله.
وقد يقال أحيانا إن النصح موضوعي لأن متلقيه عندما يقبل النصيحة ويحققها في حياته الشخصية، يعترف في كثير من الأحيان بأنه أصبح يعرف الآن ما يريد، ويشعر بأنه أسعد مما كان من قبل. على أن مثل هذه النتيجة ليست دليلا على الموضوعية؛ ذلك لأن الشخصيات الإنسانية قابلة للتشكيل، وقد يخضع الشخص لتأثير مرشدين يوجهونه نحو أهداف مختلفة كل الاختلاف، ويظل مع ذلك يؤيد نصحهم بأن يحس أنه أصبح سعيدا وازداد استنارة. فكثيرا ما يكون أفراد المجتمع الشمولي مماثلين لأفراد المجتمع الديمقراطي في سعادتهم ووثوقهم بأنفسهم، ومع ذلك فهناك احتمال كبير في أن أحدا منهم لم يكن ليقبل الأهداف المضادة لو كان قد نشأ في البيئة المناظرة. يمكن تبرير النصح الأخلاقي على أساس نجاحه النفسي. وعلى مقدم النصح أن يعلم أنه يحض الشخص الآخر على القيام بشيء يمده مقدم النصح ذاته صوابا، وأن المسئولية إنما تقع على عاتق مقدم النصح، وأنه لا مفر من التزام المرء برغباته الإرادية الخاصة في الأخلاق الموضوعية، وهي الرغبات التي تتكشف من خلال الدراسات النفسية للسلوك البشري. ففي استطاعة علم النفس أن ينبئنا بما يريده الناس، ولكنه لا يستطيع أن ينبئنا بما ينبغي أن يريده الناس، إذا فهمت كلمة «ينبغي» بمعنى غير لزومي - كما أن كلمة «ينبغي» بمعناها اللزومي لا يمكن أن تؤدي إلى قيام أخلاق موضوعية؛ لأنها لا تستطيع إثبات الأهداف الأولية.
والواقع أن الحل الذي تقدمه الفلسفة العلمية لمشكلة الأخلاق يشبه في نواح متعددة الحل الذي توصلت إليه بالنسبة إلى مشكلة الهندسة. وقد أوضحنا هذا الحل في الفصل الثامن؛ فعلى حين أن الرياضيين القدماء كانوا ينظرون إلى الهندسة بأسرها على أنها ضرورة رياضية، فإن الرياضيين اليوم يقصرون الطابع الضروري على علاقات اللزوم بين البديهيات والنظريات، ويستبعدون البديهيات ذاتها من مجال التأكيدات الرياضية. وبالمثل فإن الفيلسوف العلمي يفرق بين البديهيات أو المقدمات الأخلاقية، وبين علاقات اللزوم الأخلاقية، ويرى أن هذه الأخيرة هي وحدها التي يمكن البرهنة عليها منطقيا. ومع ذلك فهناك فارق أساسي. فمن الممكن أن تصبح بديهيات الهندسة قضايا صحيحة إذا نظر إليها على أنها قضايا فيزيائية، مبنية على تعريفات إحداثية، وتثبتها الملاحظة، وعندئذ تكون لها حقيقة تجريبية. أما بديهيات الأخلاق فلا يمكن أن تعد فيه صحيحة، وإنما هي قرارات إرادية. وعندما ينكر الفيلسوف العلمي إمكان وجود أخلاق علمية، فهو إنما يشير إلى هذه الحقيقة. وهو لا يستطيع أبدا أن ينكر أن العلوم الاجتماعية تقوم بدور هام في جميع تطبيقات القرارات الأخلاقية. وهو لا يود أن يقول إن ما يسمى بالبديهيات هي مقدمات لا تتغير، تسري على كل العصور والظروف. فحتى المقدمات الأخلاقية العامة ذاتها قد تتغير بتغير البيئة الاجتماعية، وعندما تسمى بديهيات فإن كل ما يعنيه هذا اللفظ هو أنها لا توضع موضع الشك في السياق الذي يتعلق به البحث فحسب.
إن الأخلاق تشتمل على عنصر معرفي وعنصر إرادي، ولا يمكن أبدا أن تؤدي علاقات اللزوم المعرفية إلى استبعاد القرارات الإرادية استبعادا تاما، وإن كانت تستطيع أن تنقص عدد هذه القرارات وعلاقات اللزوم بوضوح من خلال التحليل الآتي: فلنفرض أن شخصا يريد كلا من الهدفين «أ» و«ب». ولكن العالم الاجتماعي يثبت له أن «أ» يلزم عنها لا-«ب». فهل يتعين عليه إذن أن يتخلى عن «ب»؟ كلا بالتأكيد؛ ففي استطاعته أيضا أن يتخلى عن «أ» ويختار «ب»، إذا كانت «ب» تبدو له الهدف الأفضل. وعلى ذلك فاللزوم الأخلاقي لا ينبئ الشخص بما ينبغي عمله، وإنما هو يواجهه باختيار فحسب. والاختيار مسألة ترجع إلى إرادته، ولا يمكن أن يعفيه أي لزوم معرفي من هذا الاختيار الشخصي.
فمثلا، قد يريد شخص السلام بين الدول، ولكنه يريد أيضا التحرر من الاستعباد. فيتضح له أن من المستحيل أحيانا التخلص من الاستعباد إلا بقوة السلاح. فهل يلزم عن ذلك أنه إذا حدثت هذه الظروف كان لا بد من الدعوة إلى الحرب ضد الاستعباد؟ مثل هذا الاستنتاج سيكون باطلا؛ إذ إن النتيجة التي تترتب على ما سبق هي أنه لا يستطيع أن يحصل على السلام وعلى الحرية معا، وعليه هو أن يحدد أي هذين الهدفين يفضل. فاللزوم المعرفي: «الحرية يلزم عنها الحرب» لا يؤدي إلى شيء سوى إلزامه بالقيام بهذا الاختيار، ولكنه لا ينبئه بما ينبغي عليه أن يختار.
هذا التحليل يوضح أيضا أنه لا توجد أهداف مطلقة، أعني أهدافا يسعى إليها الناس في جميع الظروف. فمن الممكن أن يحكم على كل هدف على أساس نتائجه. ولو كان الهدف يقتضي استخدام وسيلة نعدها ضارة بأهداف أخرى، وكانت هذه الأهداف في نظرنا أرفع من الأول، فإننا في هذه الحالة نتخلى عن الهدف الأول. فإذا كان صحيحا أن الغاية تبرر الوسيلة، فإن من الصحيح، على عكس ذلك، أن الوسيلة يمكن أن تقتضي رفض الغاية. فعلاقة اللزوم بين الغاية والوسيلة لا تقدم دليلا على أن من الواجب اتباع الوسيلة، وإنما هي تقتصر على إثبات ضرورة الاختيار بين أمرين. فهي تثبت أن علينا أن نطبق الوسيلة أو نتخلى عن الغاية. وهذا اختيار ينبغي على كل شخص أن يقوم به بنفسه.
وقد يكون من المفيد أحيانا أن نعرف مزيدا من علاقات اللزوم. فإذا كان يتعين الاختيار بين «أ» و«ب»، فقد يكون من المفيد أن نعرف أن «أ» لازم للهدف «ج»، وأن «ب» لازم للهدف «د». وبدلا من أن نقارن بين «أ» و«ب» فقد نقارن عندئذ بين «ج» و«د». فقد تعرض على شخص، مثلا، وظيفة ذات مرتب كبير، ولكنها تلزمه بتأييد آراء سياسية ظل حتى ذلك الحين يرفضها بشدة. على أنه يحتاج إلى المال لإكمال تعليم أبنائه، ومع ذلك فإنه لو أصبح عميلا سياسيا لفقد احترامه لنفسه واحترام أصدقائه له. وهكذا يرتد الاختيار الأصلي بين الوظيفة ذات المرتب الكبير والولاء لآرائه السياسية إلى اختيار بين امتلاكه للوسيلة اللازمة لتعليم أبنائه وبين احتفاظه بكرامته الشخصية. هذا المثل يوضح أن إرجاع القرارات إلى قرارات أخرى لا يكاد يخفف من صعوبة الاختيار بينها. وقد يكون الاختيار بين الهدفين «ج» و«د»، في حالات أخرى، أسهل من الاختيار بين الهدفين «أ» و«ب». ومع ذلك فمن الواضح أن أي رد أو إرجاع كهذا يجعلنا إزاء اختيار لا يمكن البت فيه بالوسائل المعرفية؛ فإرادتنا هي الأداة النهائية لاختيارنا.
وإني لأود أن أعرب عن الأمل في أن تؤدي هذه الصياغة التي قدمتها إلى فتح باب التفاهم مع الفلاسفة البرجماتيين الذين يؤكدون وجود أخلاق علمية. فالفارق بين صياغتهم وبين صياغتي ليس إلا فارقا لفظيا عندما يكون المقصود من تعبير «الأخلاق العلمية» أن يدل على أخلاق تستخدم المنهج العلمي في إثبات علاقات اللزوم بين الغايات والوسائل. وربما كان هذا هو كل ما يريد البرجماتيون أن يقولوه، ومع ذلك فسوف يكون من دواعي سروري العظيم أن أجد في كتابات البرجماتيين عبارة واضحة تدل على أنهم يحملون صراحة على جميع محاولات إثبات صحة الأهداف الأولية بوسائل معرفية، على أساس أنها محاولات غير علمية؛ فالبرجماتي يتحدث عن حاجات بشرية، ولكن وجود حاجات للناس لا يثبت أن هذه الحاجات خير. فإذا كان من الممكن الاستدلال على هذه الحاجات أو الأهداف من سلوك الإنسان، فقد يكون من المفيد إلى أبعد حد ذكر هذه الأهداف صراحة، ولكن من يقدم نصيحة يقصد منها إيضاح الحاجات وإشباعها ينم، من خلال سلوكه هو، على أنه لا يكتفي بأن يعد هذه الحاجات موجودة فحسب، بل هو يعدها خيرا. فإذا ظهر بوضوح أن لفظ «خير» المستخدم هنا يعني أن مقدم النصح يؤيد الأهداف التي كشف عنها، فإن من الواجب الترحيب بالبرجماتي حين يقوم بمهمة تقديم النصح الأخلاقي.
ولكن قد يحدث مثلا أن يصر من يقدم النصح، مع اعترافه بهذا التفسير صراحة، على ضرورة التزام الطبيب لسر مهنته، ما دام مما يضر بهدف الطبيب في شفاء المرضى ألا يكون المرضى واثقين من أن تاريخ أحوالهم الشخصية سيظل طي الكتمان. أو قد يقول إن البحث العلمي، وإن كان معرفيا تماما في منهجه، فإنه سعي وراء أهداف تنطوي في داخلها على التزامات اجتماعية، فالبحث عن الحقيقة لا يقدر له النجاح إلا في جو من الحرية والأمانة، والعالم الذي لا يكون على استعداد للدفاع عن هذه المصادرات الأخلاقية يعمل لغير صالح أبحاثه الخاصة . وهذه الحجة لا تعني أن النظريات العلمية تنطوي على أوامر أخلاقية، بل تعني أن الأهداف الأخلاقية التي يدل عليها نشاط العلم تنطوي على أوامر كهذه.
والواقع أن بناء أخلاق اجتماعية من هذا النوع إنما هو إسهام قيم يساعد الكيان الاجتماعي على أداء وظيفته؛ فهو يعني استخدام علم الاجتماع في وضع قواعد للسلوك مناسبة لمكانة الشخص في المجتمع البشري. وليس لدي اعتراض على تسمية هذا النظام الأخلاقي بالأخلاق العلمية، إن كان هناك اتفاق على أنه ليس علما. فهو علمي بنفس المعنى الذي يكون به الطب وصناعة الآلات علميين، وهو نوع من هندسة المجتمع، أي إنه نشاط ينتفع بواسطته من نتائج العلم المعرفي في سبيل تحقيق الأهداف البشرية. أما هذه الأهداف ذاتها فلا تثبت صحتها المعرفة ولا العلم، وإنما هي تعبر عن قرارات إرادية، وليس في وسع أي عالم أن يعفي أي شخص من مسئولية الاستماع إلى صوت إرادته، بل إن العالم لا يستطيع أن يقدم نصيحة أخلاقية بدون الاستماع إلى صوت إرادته هو؛ فهو حين يقوم بمهمة المرشد الأخلاقي يتجاوز نطاق العلم وينضم إلى أولئك الذين يشكلون المجتمع البشري تبعا لأنموذج يعتقدون أنه هو الصحيح.
إن الفلسفة العلمية لا تستطيع أن تقدم توجيها أخلاقيا، هذه إحدى نتائج تلك الفلسفة، وهي نتيجة لا يمكن أن تؤخذ عليها. فهل تريد الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة؟ إذن لا تطلب من الفيلسوف توجيهات أخلاقية. أما أولئك الفلاسفة الذين يبدون استعدادهم لاستخلاص توجيهات أخلاقية من فلسفاتهم فلا يقدمون إليك إلا دليلا باطلا. فلا تسع إلى أهداف يستحيل بلوغها.
وعلى ذلك فإن الإجابة على طلب التوجيهات الأخلاقية هي نفس الإجابة على طلب اليقين ؛ فكلاهما يطلب غايات لا يمكن بلوغها. ويمكن القول إن الفلسفة العلمية الحديثة، حين أوضحت أن هذه الأهداف لا يمكن بلوغها لأسباب منطقية، قد وصلت إلى نتيجة معرفية لها أهمية عظمى في توجيه الإنسان إزاء الأهداف الفلسفية التقليدية؛ فهي تطالبنا بالتخلي عن هذه الأهداف. ولكن التخلي عن المستحيل لا يعني الاستسلام، بل إن الحقيقة السلبية تستدعي توجيها إيجابيا هو: كيف أهدافك مع ما يمكن بلوغه. هذا التوجيه يترتب على رغبة المرء في بلوغ أهدافه؛ فهو يعبر عن علاقة لزوم واضحة كل الوضوح، هي: إذا أردت أن تبلغ أهدافك، فلا تسع إلى أهداف يستحيل بلوغها.
لقد كان معبد «ديلوس» في اليونان القديمة يضم مذبحا ذهبيا له شكل مكعب عظيم الدقة، وحدث في وقت ما أن تفشى الوباء، والتمس أهل ديلوس المشورة في النبوءات، فقيل لهم إن عليهم، من أجل إرضاء آلهتهم، أن يضاعفوا حجم المذبح الذهبي بدقة، بحيث يكون له مرة أخرى شكل المكعب. وتوجه الكهنة إلى الرياضيين بالسؤال عن كيفية حساب طول ضلع المكعب الذي يكون حجمه ضعف مكعب معلوم، ولكن الرياضيين عجزوا عن الاهتداء إلى حل صحيح للمشكلة، وأنا على ثقة من أن إلها كآلهة اليونان كان خليقا بأن يكتفي بمكعب يقترب من ضعف الحجم المطلوب، ومن المؤكد أنه كان في استطاعة صائغ يوناني أن يقرب كل الاقتراب من الحجم المطلوب. غير أن الرياضيين اليونانيين ما كانوا ليقبلوا حلا ناقصا كهذا، وإنما أرادوا الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة، وقد استغرق الاهتداء إلى الجواب الصحيح ألفي عام، وكان ذلك الجواب الصحيح سلبيا؛ فمن المستحيل مضاعفة حجم مكعب معين بدقة، عن طريق الوسائل الهندسية بمعناها المعتاد، فهل كان الرياضيون اليونانيون خليقين بأن يرفضوا هذه الإجابة لأنها سلبية؟ إن على من يريد الحقيقة ألا يخيب أمله عندما تكون الحقيقة سلبية. فخير للمرء أن يعرف حقيقة سلبية، من أن يطلب ما يستحيل بلوغه.
إن من المستحيل أن تكون للمرء معرفة بالعالم يكون لها يقين الحقيقة الرياضية، ومن المستحيل وضع توجيهات أخلاقية تكون لها تلك الموضوعية الملزمة التي تتصف بها الحقيقة الرياضية، أو حتى الحقيقة التجريبية. هذه إحدى الحقائق التي كشفت عنها الفلسفة العلمية؛ فحل مشكلة اليقين المطلق، فضلا عن حل مشكلة تشييد أخلاق على مثال المعرفة، هو حل سلبي، وهذه هي الإجابة الحديثة على سؤال قديم العهد. فإذا قال امرؤ إن الفلسفة العلمية قد خيبت أمله لأنها لا تأتيه باليقين، أو لا تقدم توجيهات أخلاقية، فلترو له قصة مكعب أهل ديلوس.
إن المقارنة بين الفلسفة القديمة والجديدة مسألة تخص المؤرخ؛ ولا بد أن تكون لها أهميتها عند كل من نشئوا في ظل الفلسفة القديمة ويودون أن يفهموا الفلسفة الجديدة. أما أولئك الذين يعملون في ميدان الفلسفة الجديدة فلا ينظرون إلى الوراء؛ إذ إن الاعتبارات التاريخية لن تفيد عملهم في شيء؛ فهم يماثلون أفلاطون أو «كانت» في ابتعادهما عن التاريخ؛ إذ إنهم لا يهتمون، شأنهم شأن هذين القطبين في فترة سابقة للفلسفة، إلا بالموضوع الذي يشتغلون به، لا بعلاقاته بالعهود الماضية. وليس معنى ذلك أنني أود الإقلال من شأن تاريخ الفلسفة، ولكن على المرء أن يذكر دائما أن هذا تاريخ، وليس فلسفة. ومن الواجب أن يتم البحث فيه، كما يتم كل بحث تاريخي آخر، من خلال المناهج العلمية والتفسيرات النفسية والاجتماعية، غير أن تاريخ الفلسفة لا ينبغي أن يعرض بوصفه مجموعة من الحقائق. ففي الفلسفة التقليدية من الخطأ أكثر مما فيها من الصواب، وعلى ذلك فإن أصحاب العقول النقدية هم وحدهم الذين يمكن أن يكونوا مؤرخين أكفاء. أما تمجيد الفلسفات الماضية، وعرض مختلف المذاهب كما لو كانت صيغا مختلفة للحكمة، لكل منها الحق في أن يوصف بهذه الصفة، فإنه أدى إلى إضعاف المقدرة الفلسفية لدى الجيل الحالي. وهو قد شجع الطالب على أن يأخذ بالنسبية الفلسفية، ويعتقد بأنه لا توجد إلا آراء فلسفية، ولكن لا توجد حقيقة فلسفية.
أما الفلسفة العلمية فإنها تحاول الابتعاد عن النزعة التاريخية والوصول عن طريق التحليل المنطقي إلى نتائج تبلغ من الدقة والإحكام والوثوق ما تبلغه نتائج العلم في عصرنا هذا. وهي تؤكد أن من الضروري إثارة مشكلة الحقيقة في الفلسفة بنفس المعنى الذي تثار به في العلوم. وهي لا تزعم أنها تملك حقيقة مطلقة؛ إذ إنها تنكر أن تكون للمعرفة التجريبية حقيقة من هذا النوع. وعلى قدر إشارة الفلسفة الجديدة إلى الحالة الراهنة للمعرفة، واستخلاصها لنظرية هذه المعرفة الموجودة الآن، فإنها هي ذاتها تعد فلسفة تجريبية، وتقنع بالحقيقة التجريبية. فليس في وسع الفيلسوف العلمي، شأنه شأن العالم، إلا أن يبحث عن أفضل ترجيحاته. ولكن ذلك هو ما يستطيع أداءه، وهو على استعداد لأدائه بروح المثابرة والنقد الذاتي والترحيب بالمحاولات الجديدة، التي لا غناء عنها للعمل العلمي، ولو عمل الناس على تصويب الخطأ كلما تكشف لهم بطلانه، لكان طريق الخطأ هو ذاته طريق الحقيقة.
Bilinmeyen sayfa