وتبنى الفلسفة التجريبية في الاحتمال على التفسير الترددي
frequency interpretation ؛ فالأحكام الاحتمالية تعبر عن ترددات نسبية للحوادث المتكررة، أي عن ترددات تحسب بوصفها نسبة مئوية من مجموع. وهي تستمد من ترددات لوحظت في الماضي، وتنطوي على افتراض أن نفس الترددات سوف تسري تقريبا في المستقبل. وهي تتكون عن طريق استدلال استقرائي. فإذا نظرنا إلى احتمال ظهور الصورة عند رمي العملة على أنه احتمال النصف، كان معنى ذلك أن الرميات المتكررة للعملة ستؤدي إلى ظهور الصورة في خمسين في المائة من الحالات. وفي هذا التفسير يسهل إيضاح قواعد المراهنة؛ فالقول إن نسبة خمسين في المائة تعد احتمالا معقولا لظهور أي وجه من وجهي العملة عند رميها يعني أن استخدام هذه القاعدة سيؤدي في المدى الطويل إلى أن يتساوى الطرفان المتراهنان في الفوز. ولا شك أن مزايا هذا التفسير واضحة، ولكن ما ينبغي علينا دراسته هو الصعوبات التي يثيرها. والواقع أن التفسير الترددي يثير صعوبتين أساسيتين:
أما الصعوبة الأولى فهي استخدام الاستدلال الاستقرائي؛ فصحيح أن درجة الاحتمال هي في التفسير الترددي مسألة تجربة وخبرة، لا مسألة عقل. ولو لم نكن قد لاحظنا أننا نصل بمضي الوقت، عند رمي قطعة العملة، إلى تردد متساو للوجهين، لما تحدثنا عن احتمالات متساوية، فليس مبدأ السوية إلا سوء تأويل عقلي لمعرفة اكتسبت من التجربة. ويذكرنا سوء التأويل هذا بمغالطات مماثلة وقع فيها المذهب العقلي، كالتفسير القبلي
a priorist
لقوانين الهندسة، ولمبدأ العلية، التي أثبت العلم الحديث بالمثل أنها نتاج للتجربة. غير أن تأكيد أن تردد تكرار الحوادث المتشابهة خاضع لأنماط عددية منظمة، هو أمر لا يمكن إثباته باستخدام الاستدلالات الاستقرائية، ويبدو أنه ينطوي على مبدأ لا يستمد من التجربة. ففيما بين الفلسفة التجريبية وحل مشكلة الاستقراء يقف نقد هيوم للاستدلال الاستقرائي، وهو النقد الذي يبين أن الاستقراء ليس قبليا ولا بعديا (انظر الفصل الخامس).
والصعوبة الثانية في التفسير الترددي تتعلق بإمكان انطباق الحكم الاحتمالي على حالة منفردة. فلنفرض أن أحد أقربائي مصاب بمرض خطير، وسألت الطبيب عن احتمال بقاء قريبي حيا، فأجاب الطبيب أن المريض لا يموت في 75 في المائة من حالات هذا المرض. فكيف يمكن أن ينفعني هذا الحكم الاحتمالي؟ أنه قد يفيد الطبيب، الذي يعالج مرضى كثيرين؛ لأنه يحدد له أية نسبة مئوية من مرضاه لن تموت بهذا المرض. غير أن ما يهمني هو هذا الشخص بعينه فحسب، وأود أن أعرف مقدار احتمال نجاته هو ذاته من الموت، وهكذا يبدو أنه لا معنى للتعبير عن احتمال حادث منفرد على أساس النسب الترددية.
وسوف أرد على هذين الاعتراضين واحدا بعد الآخر، بادئا بالاعتراض الثاني. فصحيح أننا كثيرا ما ننسب احتمالا إلى حادث منفرد، ولكن لا يترتب على ذلك أن المعنى الذي ننسبه عادة إلى ألفاظنا هو دائما تفسير صحيح. فلنتأمل المناقشة التي قمنا بها من قبل لمعنى اللزوم (الفصل العاشر)؛ ففي المثال الذي ذكرناه عندئذ، وهو «إذا سرى تيار كهربائي في السلك انحرفت الإبرة الممغنطة» - في هذا المثال نعتقد أن علاقة «إذا كان ... فإن ...» لها معنى بالنسبة إلى هذا الحادث المنفرد، وأن التيار الكهربائي يؤدي بالضرورة إلى انحراف الإبرة. على أن التحليل المنطقي يثبت لنا أن هذا التفسير غير صحيح، وأن ضرورة اللزوم إنما تستمد من عموميته فحسب، وإن كل ما نعنيه بالارتباط الضروري بين الحادثين هو أنه إذا حدث أحدهما، حدث الآخر دائما، أما في حالة المثال المنفرد فإننا ننسى هذا التحليل ونعتقد أننا نستطيع أن نتحدث عن لزوم متعلق بهذا المثل وحده. «فإذا فتحت هذا الصنبور، فسيتدفق الماء.» في هذه الحالة يبدو من الواضح تماما أننا لا نتحدث إلا عن هذا المثل الفردي، وأن فتح هذا الصنبور يؤدي إلى تدفق الماء. وعندما يشرح لنا المنطقي أن هذا الحكم ينطوي على إشارة إلى العمومية، وأننا نتحدث عن جميع الصنابير في العالم، فإننا لا نكون على استعداد لتصديقه - ومع ذلك يتعين علينا أن نقبل تفسيره إذا أردنا أن يكون لكلماتنا أي معنى يمكن تحقيقه.
والواقع أن تفسير الحكم الاحتمالي ينتمي إلى نفس النوع. فنحن نعتقد أن القول بأن هناك احتمال 75 في المائة في أن يعيش «س»، هو قول له معنى، ومع ذلك فإن كل ما يقال في هذه الحالة يتعلق بفئة من الأشخاص مصابة بنفس المرض. وقد تكون لدينا رغبة شديدة في أن نعرف شيئا عن الحالة الفردية - غير أن «س» سيعيش أو لا يعيش، ولا معنى لأن ننسب درجة من الاحتمال إلى حادث فردي؛ لأن الحادث الواحد لا يمكن قياسه حسب درجات. فلنفرض أن «س» سيعيش على الرغم من مرضه - فهل تؤدي هذه الحقيقة إلى تحقيق التنبؤ الذي أشار إلى وجود احتمال بنسبة 75 في المائة؟ من الواضح أنه لا يؤدي إلى ذلك، لأن الاحتمال يظل ساريا في حالة وقوع الحادث وفي حالة عدم وقوعه. ولو بحثنا عددا كبيرا من الحوادث، لأمكن أن تعبر الملاحظة عن نسبة ال 75 في المائة، وبالتالي أن تحققها. أما الحادث المنفرد فلا يمكن أن يحدث بدرجة معينة. فالحكم المتعلق باحتمال حادث واحد هو حكم لا معنى له.
ومع ذلك فإن أمثال هذه الأحكام ليست بعيدة عن العقل إلى الحد الذي تبدو عليه بعد هذا التحليل المنطقي. فقد يكون من العادات المفيدة أن نعزو معنى إلى حكم احتمالي متعلق بحادث منفرد، إذا كانت التجربة اليومية تقدم إلينا عددا من الحالات المماثلة. فالشخص الذي يعتقد أنه إذا فتح الصنبور، فلا بد أن يتدفق الماء، قد كون في نفسه عادة مفيدة؛ لأن اعتقاده سيؤدي به إلى إصدار أحكام صحيحة عن المجموع الكلي للحوادث المماثلة. وبالمثل فإن الشخص الذي يعتقد أن احتمالا بنسبة 75 في المائة ينطبق على حادث منفرد، قد كون عادة مفيدة؛ لأن اعتقاده سيؤدي به إلى القول أنه لو كان هناك عدد كبير من الحالات المماثلة، فإن 75٪ منها ستكون لها النتيجة المشار إليها. بل إن هذا الرأي يظل صحيحا حتى لو لم تكن تجربتنا اليومية تمدنا بحوادث مماثلة، وإنما بعدد من الحوادث من أنواع متباينة ودرجات متفاوتة من الاحتمال . فقد تواجهنا اليوم حالة مرضية تكون نسبة احتمال النجاة فيها 75 في المائة، ويواجهنا غدا تنبؤ بأن احتمال تحسن الجو 90٪، وبعد غد تنبؤ بأن نسبة الاحتمال المتعلقة بأسعار البورصة 60٪؛ فإذا كنا في جميع هذه الحالات نفترض أن الحادث الأقوى احتمالا هو الذي سيحدث، فسوف نكون على حق في معظم الحالات. فالحوادث العديدة للحياة اليومية تكون سلسلة، قد تكون بالفعل مفتقرة إلى التجانس، ولكنها تقبل التفسير الترددي للاحتمال، ولهذا فإن القول بأن للاحتمال معنى حتى بالنسبة إلى الحادث المنفرد هو قول لا ضرر منه، بل هو عادة مفيدة، لأنه يؤدي إلى تقويم صحيح للمستقبل بمجرد أن تترجم هذه اللغة إلى حكم متعلق بسلسلة من الحوادث.
ولا يتحتم على المنطقي أن يغضب لأمثال هذه العادات اللغوية؛ فلديه وسيلة يعطي بها لمثل هذه العادات مكانا في المنطق. فهو ينظر إلى التعبيرات من هذا النوع على أن لها معنى خياليا، وعلى أنها تمثل طريقة ملتوية في الكلام، اكتسبت حياة ظاهرية خاصة بها، وإن لم يكن لها معنى إلا لأن من الممكن ترجمتها إلى عبارة من نوع آخر. إن المنطقي يسمح للرياضي بالكلام عن النقطة اللامتناهية في بعدها، التي يتقاطع عندها متوازيان، لأنه يعلم أن كل ما يعنيه هذا الحكم هو أن الخطين لا يتقاطعان في مسافة متناهية. كذلك فإن المنطقي ينبغي أن يسمح للشخص بالكلام عن لزوم ضروري في حالة منفردة، أو عن احتمال في حالة منفردة، وينظر إلى هذه الطريقة في الكلام على أنها تمثل معنى متخيلا. وهو يتحدث، مستخدما اصطلاحا فنيا، عن نقل للمعنى من الحالة العامة إلى الحالة الخاصة. فحينما كانت العادات اللغوية مفيدة، استطاع المنطقي دائما أن يقدم لها إيضاحا.
Bilinmeyen sayfa