يمثل ذلك الجبرتي أصدق تمثيل؛ الرجل أمين ودقيق الفهم ومنصف، يعترف حتى للفرنسيين بمحاسنهم ولكنه حزين وناقم؛ حزين على زوال ما ألف، وناقم على ارتفاع أناس وانخفاض آخرين، يؤلمه خمول الفضلاء وتقدم من لا خلاق لهم، ولكن - نسأل - ماذا فعل؟ وماذا حاول، وهو أول من سجل حتى على إخوانه العلماء نواحي الضعف فيهم وفي عصرهم؟ ألا يستطيع أن يرى - وهو الطلعة المهتم بما يجري حوله - أن محمد علي حقيقة جمع في يديه كل شيء ولكنه أيضا أخذ يضطلع بكل شيء، بضبط الأمن والأعمال العامة والصناعة والتجارة والتعليم؟ نعم، رآه تماما فكتب عندما أتم محمد على إصلاح السد الأعظم الممتد من الإسكندرية، وقد كان اتسع أمره وتخرب من مدة سنين وزحف منه البحر المالح وأتلف أراضي كثيرة وخربت منه قرى ومزارع وتعطلت بسببه الطرق والمسالك وعجزت الدولة في أمره ولم يزل يتزايد في التهور وزحف المياه المالحة على الأراضي حتى وصلت إلى خليج الأشرفية التي يمتلئ منها صهاريج الإسكندرية، عندما أتم محمد علي إصلاح ما عجزت عنه الدول السابقة حتى تممه؛ كتب الجبرتي: «وكان له - أي لمحمد علي - مندوحة لم تكن لغيره من ملوك هذه الأزمان، فلو وفقه الله لشيء من العدالة على ما فيه من العزم والرياسة والشهامة والتدبير والمطاولة لكان أعجوبة زمانه وفريد أوانه.»
شيء من العدالة! هي في نظره عدم مس الحقوق المكتسبة على ما قامت عليه من غصب وتبديد وإسفاف وعبث رأينا شيئا منه في كلام الجبرتي نفسه، ولكن شاء الجبرتي أن يزداد انعزالا وأن يقف موقف الآسف الحزين نافثا مرارة فؤاده في قلمه، وابتلي في آخر أيامه بفقد ابنه قتيلا، فبكاه حتى فقد بصره ومات تاركا صغارا كفلهم صديقه حسن العطار ونالوا شيئا من نعمة محمد علي.
وحديث هذا الرجل الفاضل غير حديث الكثير من أقرانه وزملائه من أهل العلم، إن خلافهم مع محمد علي غير خلافه، وإن ابتعاد محمد علي عنهم غير ابتعاده عن أمثال الجبرتي، إنهم لم يكرهوا عمل التحقيق والفحص والضبط الذي قام به لذاته، إنما كرهوا أن يكون ذلك معهم أو - على الأقل - توهموا أن العمل ما هو إلا تكرار لاغتصابات الماضي لا بأس به إن شاركوا فيه، فلما اكتشفوا أنه ليس مقدمة مقاسمة جديدة بل هو بناء السلطة العامة تتولى الجمع لتتولى الإنفاق على المصالح العامة؛ نفروا واحتجوا، فلم يأبه محمد علي لنفورهم واحتجاجهم علما منه بما وراء ذلك النفور وذلك الاحتجاج، وسهل عليه فض الإجماع بشيء من الإخافة هنا وهناك وبشيء من فضلات الأرزاق هنا وهناك.
قال الجبرتي يصف تلك الحالة: «إن محمد علي عندما فرض فرضه المختلفة جعل ذلك عاما على جميع الالتزامات والحصص التي بأيدي جميع الناس حتى أكابر العسكر وأصاغرهم ما عدا البلاد والحصص التي للمشايخ خارجة عن ذلك ولا يؤخذ منها نصف ألفاظ ولا ثلثه ولا ربعه، وكذلك من ينتسب إليهم أو يحتمي فيهم»، وماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أنهم «أخذوا يأخذون الجعلات والهدايا من أصحابها ومن فلاحيهم تحت حمايتها ونظير صيانتها واغتروا بذلك واعتقدوا دوامه وأكثروا من شراء الحصص من أصحابها المحتاجين بدون القيمة»، أرأيت النتيجة؟
وبعد ... أيلام محمد علي على إلغاء ذلك الإعفاء الذي أسيء استعماله؟ أنلومه أن لم ير فيهم إلا «رجال أعمال» لا رجال علم؟ وهذا الجبرتي يقول: «إنهم هجروا مذاكرة المسائل ومدارسة العلم إلا بمقدار حفظ الناموس مع ترك العمل بالكلية، وصار بيت أحدهم مثل بيت أحد الأمراء الأقدمين، واتخذوا الخدم والمقدمين والأعوان، وأجروا الحبس والتعزير والضرب بالفلقة والكرابيج، واستخدموا كتبة الأقباط وقطاع الجرائم في الإرساليات للبلاد، وقدروا حق طرق لأتباعهم، وصارت لهم استعجالات وتحذيرات وإنذارات عن تأخر المطلوب مع عدم سماع شكاوى الفلاحين ومخاصمتهم القديمة مع بعضهم بموجبات التحاسد والكراهية المجبولة والمركوزة في طباعهم الخبيثة، وانقلب الوضع فيهم بضده، وصار ديدنهم واجتماعهم ذكر الأمور الدنيوية والحصص والالتزام وحساب الميري والفائض والمضاف والرماية والمراسلات والمرافقات والتشكي والتناجي مع الأقباط ...» إلى آخر ما قال.
أناس هذه حالهم لا يعطفون على الملك الجديد ولا يفهمونه، وكان لا بد من أن يمضي زمن قبل أن يكون محمد علي جيلا آخر، وأن يظهر أمثال رفاعة يفهمون النظام الجديد ويعملون في ظله ويسبكون قواعده وطرائقه وأهدافه في القالب النظري الفلسفي. •••
تغلب محمد علي على أصحاب الحقوق المكتسبة، ولكن التغلب التام على العشائر الألبانية وزعمائها لم يكن ميسورا بلا قوة حربية نظامية تحت أمره، ولا يستطاع خلق مثل هذه القوة في يوم وليلة، فاستخدم لكبح جماح العشائر الألبانية وزعمائها كل ما أوتي من سحر الشخصية ومن مقدرة على دفع بعض الأغاوات بالبعض الآخر وكل ما بيده من موارد المال، ولم ينجح في ذلك إلا نجاحا محدودا، فاستمر الألبانيون في نهبهم وتمردهم وتقاتلهم وفتنهم.
وأسوأ من ذلك أن زعماءهم هم الذين دبروا الغدر بالأمراء المصريين فلطخوا يديه - وهو الرجل الذي يمقت المذابح ويستنكر الوحشية والقوة في كل مظاهرها - بدمائهم في مذبحة القلعة في سنة 1811، ولما كان محمد علي أكبر من أن يحمل غيره مسئولية عمل تم بموافقته فقد التزم السكوت ولم يشر إلى أصل الغدر وحقيقته، إن ذلك الغدر كان الشرط الأساسي لقبول الزعماء الألبانيين السفر لمحاربة الوهابيين في بلاد العرب، فقد كانوا على وجلهم القديم من الأمراء، وكانوا لا يستطيعون الابتعاد عن القاهرة وقد أسسوا فيها البيوت واقتنوا ما اقتنوه تاركين منهوباتهم وحريمهم تحت رحمة الأمراء، ولما كانوا أعجز عن محاربة الأمراء في الميدان فقد ارتئوا الغدر والمكيدة - وهما عنصران أساسيان في نوع حربهم - وألزموا محمد علي بالموافقة، ونقول: إنه لو كان نصيب محمد علي في هذه الواقعة نصيب الآمر المنظم لما تم التنفيذ بالدقة التي تم بها.
إن عدم إفشاء سر المكيدة وحده - مع اشتراك عدد كبير في التدبير - يدل على أن المنظمين كانوا ينفذون تدبيرهم هم، وأن نصيب محمد علي لم يكن إلا الإذعان لما يأباه طبعه ويخالف ما جرى عليه حتى 1811 في حل مشكلة الأمراء.
انتهت بهذا الفصل الدموي السنوات الأولى من حكومة محمد علي، وهي سنوات كفاح وعنف وهدم وتبديل وتعديل، وهي سنوات لم يحبها هو وفي بعض وقائعها لا نحبها له.
Bilinmeyen sayfa