مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
مقدمة
Bilinmeyen sayfa
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
محمد علي الكبير
محمد علي الكبير
Bilinmeyen sayfa
تأليف
محمد شفيق غربال
مقدمة
مما ذاع بيننا نقلا عن المصطلح الفرنجي تقييد استعمال الكلمة «إسلامي»، فكما أن العلماء الأوروبيين لا يستخدمون في دراساتهم التاريخية الوصف «نصراني»، إلا على الأزمنة السابقة للعصور الحديثة والمعاصرة، أو لا يطلقونه إلا على ما يتصل بالعقائد، فإنا أيضا أخذنا عنهم تحديد طور «إسلامي» داخل أطوار نمو الأمم الإسلامية، هذا الاستعمال الفرنجي له ما يبرره عندهم؛ هو نتيجة الفصل بين ما سموه السياسة وما سموه الدين، أما عندنا، فما وجه تبريره؟ وما مقياس «الإسلامية»؟ أهو وقوع الشيء في عصر سابق للقرن الثالث عشر أو الرابع عشر الهجري مثلا؟ أو أن المؤثر الفلاني في حياة المسلمين كان مصدره أوروبيا معاصرا؟
إنا نعلم جميعا أن الحضارة الإسلامية التاريخية كانت مزيجا من عناصر متباينة، شرقية وغربية، فليس من سبب معقول لاستبعاد الوصف «إسلامي» عن الحياة الفكرية للمسلمين في دور تأثرها بفلسفة ديكارت أو سبنسر، بينما لا نجردها من هذا الوصف في دور تأثرها بفلسفة أفلاطون أو أرسططاليس، مثل ذلك يقال عن الحكومة الإسلامية، لا يمنعنا تأثرها بنظم الساسانيين أو الروم من أن نحتفظ لها بإسلاميتها، بينما ننزع عنها ذلك عندما يكون التأثير - كما هو حالنا الآن - مصدره الثورة الفرنسية أو البرلمانية الإنجليزية.
والواقع أننا لا نستطيع بحال أن نعتبر الحضارة الإسلامية أمرا طواه الزمان كما طوى حضارة الفراعنة طيا تاما، أو أن التطور الإسلامي قد وقف عند حد معين، بل - على العكس - نعتبره مستمرا متصل الأدوار، ويحق لنا - على هذا الأساس - أن نحاول الترجمة لمحمد علي، على الرغم من أنه عاش في القرن الثالث عشر الهجري، وعلى الرغم من أنه ولى وجهه صوب الحضارة الأوروبية؛ علما من أعلام الإسلام.
وكانت دار الإسلام وقت مولد محمد علي؛ أي في القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) قد اكتسبت مظاهرها الخارجية وحياة أهليها الداخلية حدودا ومعالم وصبغات يرجع أهمها لحوادث القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، ففي ذلك القرن الحافل في تاريخ دار الإسلام، وفي تاريخ أوروبا حدث في العالم الإيراني من دار الإسلام الانفجار الهائل الذي سببته ثورة الشاه إسماعيل الصفوي الدينية، وكان من جرائه تفكك أوصال ذلك العالم الإيراني، وانقطع عن أممه ودوله في الهند والأناضول والبلقان وفيما وراء النهر الدم الذي غذى ثقافة إيرانية إسلامية حية زاهرة.
وإيران نفسها اتخذت لحياتها منذ أيام إسماعيل أساسا مذهبيا ضيقا، وكان من جراء ذلك الانفجار أيضا طغيان الدولة العثمانية - وكانت حتى ذلك القرن جزءا هاما من العالم الإيراني - على العالم العربي وضمته لحكمها قسرا؛ ففسد أمر العثمانيين وفسد أمر العرب.
وفي القرن السادس عشر أيضا كان انفجار آخر أثر آثارا قوية في دار الإسلام، وكان من جراء حركة الكشف الجغرافي وانتشار النفوذ الأوربي، ولم يبسط الأوربيون حكمهم حتى نهاية القرن الثامن عشر إلا على مسلمي الهند وجزائر المحيط الهندي، ولم يمسوا بعد إلا الإمارات والشياخات والسلطنات الإسلامية القريبة من الطرق التجارية البحرية الكبرى، ولكن وضعت في خلال تلك القرون - من السادس عشر إلى الثامن عشر - أسس علاقات المستقبل بين دار الإسلام وأوروبا، وخرجت في أثناء تلك القرون دار الإسلام عن دور المساهمة والمشاركة في الحركات العالمية الثقافية والاقتصادية (دورها أيام عز الإسلام) إلى دور آخر: دور مناطق الاستغلال والاستعمار، دور الأمم التي تترقب من يوم لآخر نزول العدو.
ولم تستطع الدولة العثمانية ولا غيرها من دول دار الإسلام في خلال تلك القرون من السادس عشر للثامن عشر منع نزول تلك الكوارث، كما أنها لم تستطع إذ ذاك أن تحول من أنظمتها؛ بحيث تستطيع المساهمة في التطورات العالمية الجديدة، والواقع أن فتوح العثمانيين على عظمتها - وعلى الرغم من أنهم وضعوا أيديهم على مفاتيح الطرق الكبرى - حدثت متأخرة عن أوانها، ففاتتهم فرصة تعطيل الانقلاب التجاري الكبير؛ نزلوا بساحل الجزائر من أقطار المغرب الإسلامي فيما بين 1512-1519، ولو بكروا قليلا لاستطاعوا أن يمدوا أيديهم لشد أزر ما بقى للمسلمين في الأندلس، ولمنعوا بذلك انصراف فرديناند وإيزابلا إلى حركة الاستعمار الإسباني. وقصروا نفوذهم على الجزائر ولم يبسطوه على السواحل المراكشية، ولو فعلوا لاستطاعوا أن يعرقلوا تقدم البرتغاليين في اتجاه رأس الرجاء الصالح حول الساحل الإفريقي الغربي، كذلك كان فتحهم لمصر في 1517، وللعراق في 1534 متأخرا عن وقته، ولو بكروا فيه لسبقوا البرتغاليين إلى المحيط الهندي.
Bilinmeyen sayfa
مثل ذلك يقال عن فشلهم في الوصول في الوقت المناسب لما وراء النهر، وعن عدم انتفاعهم من ضعف إمارة موسكو لتثبيت أقدامهم في المناطق شمالي البحر الأسود، ولم تحاول الدولة العثمانية - فيما نعلم - أن تنتفع من امتلاكها أقصر الطرق بين الشرق وأوروبا للمشاركة في الحركة التجارية الكبيرة، ولكنها على العكس كانت تعمل على أن يكفي العالم العثماني نفسه بنفسه، وأن يقل الاتصال بينه وبين بقية الدنيا بقدر الإمكان.
وإذا بحثنا عن سر رضا العثمانيين عن أنفسهم واطمئنانهم إلى ما هم عليه نجده في نجاحهم الباهر في إنشاء أداة قوية للحكم والحرب، بهذه الأداة استطاعوا أن ينشئوا ملكا عريضا وأن يحافظوا عليه قرونا عديدة وأن يقودوا - كما يقود الراعي قطيعه - أمما وأقواما وقبائل من سلالات بشرية مختلفة وعلى أديان ومذاهب متعادية، وعلى درجات متفاوتة من الثقافة نحو الطاعة والانقياد.
حقيقة أنه مما سهل على السلطان العثماني وأعوانه قيادة رعاياه أن هؤلاء الرعايا كانوا عند دخولهم في طاعة السلطان على نوع من الإعياء؛ نتيجة للاضطراب الذي ساد أقطار الشرقين الأدني والمتوسط، على أثر انهيار الدولة العباسية ودولة الروم الشرقية، ولكن براعة القيادة العثمانية كانت أيضا حقيقة ينبغي التسليم بها، والظاهر أن مشقات الحرب والحكم استنفدت من السلاطين كل جهدهم، وأنهم خشوا عواقب التغيير والتعديل، فأوصدوا الأبواب دون كل فكرة سياسية اجتماعية جديدة ولم يتيحوا لرعاياهم العديدين المختلفين فرصة تنظيم علاقاتهم المختلفة فيما بينهم وفيما بينهم وبين دولتهم على غير ما عرفوا من المبادئ، فضاعت عليهم بذلك الإفادة مما كان لهذا الملك من موقع جغرافي فريد في نوعه، ومن ميزات اشتماله على أمم لها ما لها من نصيب وافر في تقدم الإنسانية.
الفصل الأول
وفي الأرض الأوروبية من العالم العثماني ولد ونشأ محمد علي.
وقد نقل الترك الإسلام إلى أوروبا الجنوبية الشرقية كما نقله العرب والبربر إلى أوروبا الجنوبية الغربية وإلى صقلية وجنوبي إيطاليا، وانتشر الإسلام في البلقان بين بعض أصحاب البلاد الأصليين من الألبانيين والصرب والبلغار واليونان، كما حل في البلقان أيضا جماعات من الترك استقرت في الإقطاعات الحربية وفي المدن المختلفة جندا وحكاما، وكان مسلمو البلقان ومسلمو الأناضول أكثر رعايا السلطان مساهمة في حكومة الدولة وحروبها.
كما أن الحياة الدينية الإسلامية في الجزيرة البلقانية والأناضولية قد اتسمت بسمات خاصة تجعلها مختلفة عن الحياة الدينية في العالم العثماني العربي؛ في روحها وفيما تتجلى فيه الروح الدينية من مظاهر، وقد شارك مسلمو البلقان في إعزاز الإسلام بسيوفهم ودمائهم، كما كان الكثير منهم مثالا حسنا للتقوى الشخصية والتمسك المطمئن بأوامر الدين ونواهيه؛ كل ذلك هادئ بسيط لا يتطرق إليه التحليل العقلي ولا يهيجه الهيام التصوفي، يميل للاعتدال والاتزان، ويستنكر الاندفاع والانزلاق من جانب الأفراد ومن جانب الجماعات، وينظر للمسائل بعين الحاكم المسئول الذي يخشى ما قد يجره الحماس أو الشذوذ من إثارة الحزازات، أو «يخدش الأذهان» في اصطلاح إدارة الأمن العام العثمانية.
وقد اختلف مسلمو البلقان فيما بينهم تبعا لاختلاف بيئاتهم؛ فمنهم الألبانيون؛ رجال حرب وعصابات تنظمهم قبائلهم ويقودهم رؤساؤهم؛ إما في خدمة الدولة أو في خدمة أنفسهم، ومنهم أصحاب الأرض وفلاحوها في بعض الأراضي البلغارية والصربية والمقدونية واليونانية، كما أن منهم سكان المدن المختلفة جنودا وحكاما وصناعا وتجارا.
في إحدى المدن الإسلامية البلقانية، في مدينة قولة - وهي مدينة بحرية صغيرة ذات أسوار - ولد محمد علي، وتاريخ مولده على المشهور سنة 1183 الهجرية/1769 الميلادية، وهو تركي عثماني مسلم، لا يمت للألبانيين ولا لصقالبة مقدونيا ويونانها بسبب ولا نسب، والثابت أن أباه «إبراهيم أغا» كان على رأس كتيبة من رجال الحفظ في المدينة، وأنه مات وابنه لا يزال صغيرا، وأن والي المدينة كفل محمد علي بعد موت أبيه؛ ونشأ محمد علي نشأة علمية صرفة: تعلم أصول دينه، وركوب الخيل، واستعمال السلاح، ولما ترعرع كان يشترك في التجريدات التي توجهها حكومة المدينة لتعقب قاطعي الطريق، أو لتحصيل أموال الدولة، وقد تولى قيادة بعض هذه التجريدات، وأظهر فهما لفن المباغتة، وإدراكا لصفات الرياسة، وقوة قلب، وقوة احتمال بدني يسترعي النظر.
ولما بلغ الثامنة عشرة من عمره، تزوج بسيدة من قريبات الوالي ورزقه الله منها بخمسة من أبنائه وبناته، ويقال: إنه عمل بعد زواجه في تجارة الدخان (والأرض حول قولة تنتج أفضل أنواع الدخان التركي)، تلك بعض حقائق حياة محمد علي في قولة، وكانت حياة مرح ونشاط ومغامرات وسعادة، وكان محمد علي - العاهل العظيم - كثير الحنين إلى سنوات الطفولة والشباب، وكان كثير الإشارة في أحاديثه إلى بعض وقائع تلك الأيام؛ أيام الحرية والبساطة والمغامرات، وقد زار - كما نعلم - عند اقتراب النهاية معالم صباه في قولة، وأغدق على أهلها وأنشأ فيها منشآت خيرية وحبس عليها مالا.
Bilinmeyen sayfa
وشاء القدر أن يخرج محمد علي من وطنه الأول في قولة إلى ميدان خليق بالأبطال؛ إلى مصر، وأن يدخلها في ساعة هي أيضا خليقة بالبطولة.
الفصل الثاني
وكان الآذن بذلك الخروج نزول جيش فرنسي يقوده الجنرال بونابرت بأرض مصر في صيف سنة 1798، وتصميم الدولة العثمانية على إجلائهم عنها.
ولم يكن ذلك الغزو أول إغارة للفرنسيين عليها؛ فقد حاولوا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر امتلاكها، وتلاقت صفوة فرسانهم بمماليك مصر في أكثر من موقعة.
ولكن شتان ما بين مصر بيبرس ومصر مراد وإبراهيم، وشتان ما بين فرنسيي الملك القديس لويس وفرنسيي الثورة الفرنسية وبونابرت!
مصر بيبرس محور ذلك العالم العربي الذي اكتسب مقوماته وانفرد بشخصيته على أثر انهيار الخلافة العباسية، وهو اجتماع يتركب من طوائف وجماعات لها شخصيتها وقانونها وعرفها ووظيفتها، فمن أصحاب السيوف إلى أصحاب الأقلام، ومن أهل الفلاحة للأصناف (أصحاب الصناعات)، ومن أرباب السجاجيد إلى هيئات التدريس وهلم جرا، ويكتسب ذلك الاجتماع الصاخب حيويته من حكم الجماعات نفسها بنفسها، كما يكتسب لونا من التنسيق والانسجام من شخصية السلطان، يدفع الناس بعضهم ببعض ويحاول أن يخضع الأهواء والمصالح لجهود عامة في تحقيق مثل عليا تهم الناس جميعا.
ولكن كانت آفة ذلك الاجتماع ما صحبه من سرف وتبديد كان من شأنهما - على توالي الزمن - وضع أعباء على الطوائف المنتجة من أهل الفلاحة والصناعة والتجارة، أنهكت قواها الحسية والمعنوية، وكانت آفته الأخرى - من أول الأمر - انصراف الناس نحو شئونهم الخاصة بأشخاصهم وجماعاتهم وابتعادهم عن الشئون العامة واعتبارهم إياها «سياسة عليا» كما نقول الآن، هي مما ينبغي النظر فيه للسلطان والأمراء، وليست مما ينبغي للرعية، وقد وجدوا في تعليم أئمتهم ما يبرر إيثارهم العافية.
هذا حجة الإسلام نفسه «الإمام الغزالي» يقول في رده المشهود على الباطنية: «إنا لسنا نقدم إلا من قدمه الله تعالى، فإن الإمامة عندنا تنعقد بالشوكة، والشوكة تقوم بالمبايعة، والمبايعة لا تحصل إلا بصرف الله تعالى القلوب قهرا إلى الطاعة والموالاة، وهذا لا يقدر عليه البشر، ويدلك عليه أنه لو أجمع خلق كثير لا يحصى عددهم على أن يصرفوا وجه الخلق عن الموالاة للإمامة العباسية عموما وعن المشايعة للدولة المستظهرية - أيدها الله على الدوام - خصوصا لأفنوا أعمارهم في الحيل والوسائل وتهيئة الأسباب والوصائل ولم يحصلوا بالآخرة إلا على الخيبة والحرمان.»
وهاك في موضع آخر من الرسالة نفسها وصف الإمام لاغتصاب الترك سلطان الخلافة، قال: «قد سخر الله رجال العالم وأبطالهم لموالاة هذه الحضرة وطاعتها حتى تبددوا في أقطار الدنيا - كما نشاهد ونرى»، إن ثمن الحرية - كما يقول الإنجليز - هو الكدح والدأب والمراقبة، ولما كانوا يكرهون النصب أكثر مما يحبون الحرية؛ فقد عاشوا يستبد بأمرهم كل ذي همة وعزيمة.
وبينما كان العالم العربي على هذه الحالة، حدث تحول التجارة الكبرى إلى الطرق البحرية، كما حدث أيضا انقسام العالم الإيراني على نفسه واستيلاء الدولة العثمانية على مصر وسوريا والجزيرة العربية والعراق والمغرب، والأمران لهما أسوأ الآثار في الأقطار العربية وأهليها، فالأول: أدى إلى نقصان الموارد، وأسوأ من هذا: أدى إلى ضيق الأفق - وهو شر من ضيق ذات اليد - إلى اعتزال الغير، إلى الركود، أما الثاني: فإن أهل مصر وسائر العرب لم يجدوا في الملك العثماني ما يعوضهم عما فاتهم: السلطان المستقل والمساهمة في الحياة الاقتصادية العامة، فلم يفتح لهم هذا الملك بابا لأي جديد نظير ما أضافه الفتح العثماني من أعباء إلى أعبائهم السابقة، وإن شقاء أهل الأقطار العربية بعد ذلك الفتح لا يرجع إلى أن سلاطين الدولة وأمراءها لم يرغبوا رغبة صادقة في إحقاق الحق وفعل الخير وتثبيت العدل.
Bilinmeyen sayfa
وهذا مؤرخ النظم العثمانية في مصر - وهو حسين أفندي من رجال الروزنامة، وقد كتب في أثناء الاحتلال الفرنسي لمصر - يقول عندما سئل عن انتفاع السلطان بملك مصر: إن هذه المملكة جميعها ملكة وإنه لا ينظر إلى الانتفاع منها، بل رتب مصرفها على قدر جبايتها، وقرر أن ما فاض من الجباية يبقى لينفق منه في عمارتها وما ينعم به على الناس، إنما يرجع سوء الحال إلى الركود وانعدام الحوافز، وهما مما اقتضته طبيعة الحكم العثماني، هذا إلى ما جره تراخي قبضة الحكومة السلطانية من نمو العصبيات المختلفة في مصر، وقد عاثت هذه العصبيات في البلاد فسادا، وزادت في فقر الأهلين، ونزلت بالمستويات الثقافية والفنية والمعنوية إلى أضعف ما عرفت مصر في تاريخها الطويل.
ولم تكن تلك العصبيات مما قصد السلطان سليم إلى خلقه بعد أن فتح مصر، كما يتوهم البعض عندما يزعمون أن ذلك السلطان أنشأ هيئة تسمى هيئة المماليك توازن باشا مصر العثماني من جهة، والحامية العثمانية من جهة أخرى، ولعل من يزعم ذلك اختلط عليه أمر عفو السلطان وإبقائه على بقايا مماليك السلطنة المصرية، وظن أن السلطان سليم وضع بذلك أساس هيئة المماليك.
والواقع أن النظم العثمانية لا تعرف شيئا عن هذا، إنما تعرف أن اختلال أمر الجند العثماني أتاح لكل من يملك مالا أن يجمع حوله عصابة من رجال الحرب، ولم يكونوا دائما مماليك يشتريهم بماله، بل ربما كان أكثرهم من مرتزقة بربر المغرب أو بدو الصحراء أو السودان أو اليونان أو البشناق، وما إلى ذلك، كما أن «المملوكية» لم تكن خاصة بالأمراء وعصاباتهم فهي سارية أيضا على رجال المناصب الحربية والإدارية الذين احتفظت السلطنة بحق إرسالهم من القسطنطينية نفسها، ويماثل هذا النوع من العصبيات العصبيات العربية القبلية المنبعثة في الصعيد والدلتا.
وقد توهم الأستاذ الشيخ محمد عبده في مقالة ظالمة عن محمد علي نشرها الشيخ في مجلة المنار في سنة 1902، وهي مقالة سياسية صرفة، يود كل مقدر له أن لو لم يخطها؛ توهم الأستاذ أن العصبيات السائدة في مصر عند الاحتلال الفرنسي تقابل بالضبط أمراء الإقطاعات الأوربية، وأن الأمراء المصريين اضطروا إلى أن يتخذوا من الأهلين أنصارا، وأن ذلك «أحدث بطبعه في النفوس شمما وفي العزائم قوة، وأكسب القوى البدنية والمعنوية حياة حقيقية مهما احتقرت نوعها، فكانت العناصر جميعها في استعداد لأن يتكون منها جسم حي واحد يحفظ كونه، ويعرف العالم بمكانته لولا محمد علي!»
هذا كله لا أصل له، لا في أوربا ولا في مصر، وقد غفل الأستاذ عن حقيقة مهمة: أن فعال تلك العصبات وفسادها في الأرض وقلة حيلتها في الحرب الجدية هي التي أغرت الفرنسيين بغزو مصر في 1798، وأن الذي أخرج الفرنسيين من مصر لم تكن العصابات بل الأسطول الإنجليزي والجيش الإنجليزي، وأن الذي خلق من مصر الجسم الحي هو محمد علي، وأن مصر محمد علي - لا مصر أبي الذهب ومراد وإبراهيم والشيخ همام والشيخ سويلم بن حبيب - هي التي بطل التفكير الأوروبي في امتلاكها بل وفي استغلالها في ظلال السلم! •••
اصطدم أمراء مصر في صيف 1798 بغربيين غير الغربيين الذين عرفهم السلاطين أيام الحروب الصليبية؛ ففي القرون الخمسة التالية لتلك الحروب تحول فارس العصور الوسطى - كما عرفه سان لويس وبيبرس - إلى الرجل الغربي الذي عرفه مراد والألفي والبرديسي في 1798، خمسة قرون زال فيها النظام الإقطاعي وما ترتب عليه من طرق الحكم والحرب وعلاقات طبقات الأمة بعضها ببعض، خمسة قرون رأت انفصام وحدة الغرب الدينية والسياسية وظهور مناهج العلم الحديثة وطرق التنظيم السياسي والاقتصادي الجديدة، ولم يبلغ أهل مصر عن انقلابات الغرب إلا أضعف الأنباء، ولكن سرعان ما رأى الأمراء أن لا أساس لما زعموه: من أنه إذا جاءت جميع الإفرنج لا يقفون في مقابلتهم وأنهم يدوسونهم بخيولهم، وتمكن الفرنسيون من احتلال مصر.
وقد حكم الفرنسيون مصر مدة تزيد قليلا على ثلاثة أعوام، وقد تخللت هذه المدة محاولة من جانبهم لفتح الولايات السورية، وضيق عليهم أثناءها حصار بحري إنجليزي، وقام المصريون ضدهم كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وأباد منهم الطاعون وغيره من الأمراض الوبائية عددا لا يستهان به، وظل مراد ومماليكه ومن انضم إليه من عرب مصر والجزيرة شهورا عديدة ينازعونهم ملك الصعيد شبرا شبرا، وأخدت تبطل التجارة البحرية ويقل ورود قوافل دارفور وسنار وفزان وبرقة وغيرهما من بلاد الغرب.
ولم تطب للفرنسيين الإقامة بمصر؛ فقد وجدوها دون ما توقعوا وشق عليهم البعد عن وطنهم وبخاصة بعدما بلغهم من تألب الدول الأوروبية - من جديد - ضد فرنسا وإرغامها على التخلي عن فتوحها في إيطاليا وغيرها، وحتى مصر نفسها عرفوا معرفة أكيدة أن السلطان قد اعتزم ألا يتخلى عنها، وأرسل نحوها من ناحيتي البحر والشام جموعا من جنده قد لا تكون قيمتها الحربية مما يأبه له الغربيون، ولكنها - ولا بد - لها مع الزمن أثر.
لا بد من تذكر هذه الظروف عند الحكم على الاحتلال الفرنسي، ولا بد إذن من الفصل بين أمرين مختلفين تماما: الحكم الفرنسي كما كان، والحكم الفرنسي كما يمكن أن يكون لو خلص مما انتابه من ظروف الحرب والفتن، واتسع له الزمن ليجري على أسس الاستعمار الحديث.
ولا يمكن الشك في أن الفرنسيين لو خلص لهم ملك مصر لحكموها كما ينتظر من حكومة جمهورية قائمة على قواعد الثورة الفرنسية، أتيح لها - في عصر بدأ فيه الانقلاب الاقتصادي الكبير - أن تحكم قطرا زراعيا خصبا ذا مركز جغرافي فذ، كوادي النيل، وأمة عربية إسلامية ذات تاريخ مفعم بعبر الدهر كالأمة المصرية، لو خلص لهم حكم مصر لبذلوا جهدا كبيرا في تنمية الموارد بتنظيم الرى وضبط النيل، وقد كتب بونابرت في مذكراته فصلا رائعا عن ضبط النيل بإنشاء قناطر على فرعيه عند رأس الدلتا، ولو دامت مدتهم لعملوا كل ما يستطيعون للاستفادة من مركز مصر الجغرافي، ولوصلوا بين البحرين الأحمر والمتوسط.
Bilinmeyen sayfa
واستعمار مصر كان لا بد له أن يؤدي إلى اتساع النفوذ الفرنسي إلى ساحلي البحر الأحمر وإلى ما وراء سيناء من ناحية فلسطين والشام، وأن يؤدي أيضا إلى التقدم نحو منابع النيل، وجعل مصر المدخل والمخرج لتلك الأرجاء الأفريقية الواسعة وحل اللغز الجغرافي القديم: أين ينبع النيل؟ وقد سجل التاريخ تحقيق الكثير من هذا على يد محمد علي وخلفائه؛ مما يدل على أن الكثير من خطط الحكومات إنما هي مما يمليه الواقع الجغرافي ويكرره التاريخ في أدواره المتباينة.
ولو دام الاحتلال الفرنسي لسلك نحو المصريين مسلكا يكون من أثره تحسين كثير من أحوالهم، ثم يعمد بعد هذا التحسين إلى إبطال النمو، أو إلى إبطاله في بعض النواحي وتوجيهه في الاتجاه الذي يريد، ولم يكن بد من اهتمام الفرنسيين بهذا التحسين الأبتر بحكم الإنسانية المشتركة وبحكم منفعتهم: يقاوم الأوبئة بإنشاء المستشفيات وما تستلزمه من مدارس الطب والمحاجر الصحية؛ حفظا للقوى العاملة في الإنتاج الزراعي الذي يغذي الخزانة العامة ويمون التجارة، ومنعا لانتقال المرض إلى الفرنسيين، يصلح الأداة الحكومية وينوع الإدارات صيانة للأمن وضبطا للأموال العامة.
ويستلزم هذا إصلاح نظام الضرائب والجباية، ويتبعه إلغاء الالتزام واستقرار ملكية الزارع للأرض، يفتح الأبواب لرءوس الأموال الفرنسية ولنظم التجارة والمعاملات الغربية، ويؤدي هذا لتنظيم القضاء على أسس غربية ولدخول القوانين الغربية، ويعنى بإعداد طائفة من أبناء البلاد تسد حاجة الإدارة من صغار الموظفين.
ولو دام الاحتلال الفرنسي لاعتمد بعض الاعتماد في الدفاع عن البلاد على جيش وطني من أبنائها.
ولو دام الاحتلال الفرنسي لاحتاط أشد الحيطة في كل ما له علاقة بالدين من المسائل الاجتماعية وموضوعات البحث العلمي، فالحاكم الغربي يحب أن تكون قواعد الإنتاج المادي غربية صرفة؛ لأن هذه القواعد تزيد الإنتاج والزيادة مما يهمه، ولكنه يكره من المحكومية الشرقيين الانقلاب الاجتماعي والبحث العلمي الحر، وذلك لأسباب: منها حرصه على أن لا يظهر للعامة في مظهر الهادم للعادات المشجع على التحرر من قواعد الدين، ومنها ظنه أن تلك الانقلابات لا بد وأن تؤدي في النهاية إلى الرغبة في الاستقلال، ومنها الميل إلى المحافظة على المظاهر الشرقية من قبيل الاحتفاظ باللطائف والتحف.
أما عن نظام الحكم فالمنتظر من الاحتلال الفرنسي - لو أن أيامه دامت - أن يبقي حكم القرى على ما عرفته مصر في عصورها المختلفة في أيدي العمد والمشايخ، وأن يعهد لفرنسيين في إدارة الأقاليم، وأن تسود المركزية الشديدة، وأن يبقي الفرنسيون الدواوين التي أنشأها فعلا بونابرت، ولم يرم بها إلى خلق النظام البرلماني - كما توهم البعض - فبونابرت لم يكن ممن يعجبون به أو يرتضيه لفرنسا، دع عنك مصر، بل رمى بها إلى إنشاء وسائل تمكنه من الاتصال بأعيان المصريين وتفهم ما يجري في أنفسهم وتفهيمهم حقيقة مشروعاته ونواياه حتى لا يبقى مجال لدس الدسائس وسوء الفهم.
هذا بعض ما نتصوره عن تطور الحكم الفرنسي في مصر لو استقام للفرنسيين أمرها، وليس هذا التصور مما لا يقوم على أساس من الواقع؛ فأكثره مستمد مما كتبه بونابرت وغيره عن نواياهم، ومما شرعوا في تحقيقه فعلا، ومما رأيناه من طرق الحكم الفرنسي في غير مصر من الأقطار الإسلامية، وليس هذا التصور مما يخلو من الفائدة التاريخية، فمن النافع حقا أن نضع في كفتي الموازنة معالجة الحاكم الفرنسي لمسائل مصر الداخلية والخارجية، ومعالجة الحاكم العثماني المسلم محمد علي لنفس المسائل.
ولكن الزمن لم يتسع للفرنسيين لتحقيق ما كانوا يأملون، ووجد القواد الثلاثة الذين تعاقبوا على حكم مصر - بونابرت وكليبر ومينو - أنفسهم مضطرين لتوجيه كل جهدهم للتغلب على الأخطار الداخلية والخارجية المحدقة بجيشهم وحكمهم، ولم يكن ما قام به أولهم بونابرت وثالثهم مينو من التجارب الإدراية الأداة الحقيقية لحكم البلاد، ولم تتغير - في أيامهم كلها - طرق الجباية ولا الضرائب ولا العمال، بل ظلت كما كانت قبل قدومهم.
ولذلك لم تكن الأعوام الثلاثة التي قضاها الفرنسيون في حكم مصر عهدا سعيدا لسكانها، حقيقة أن المصريين اعتادوا - قبل قدومهم - الانقلابات والاضطراب: اعتادها أهل الريف في بعض المناطق وأهل الحواضر، وعرفها - بصفة خاصة - أهل القاهرة، وكانت الانقلابات التي عرفوها مما يصحبه الشيء الكثير من اختلال الأمن وضروب العنف والتعسف وإعادة الطلب عليهم فيما أدوه من الضرائب والمغارم.
إلا أن هذه الانقلابات كلها كانت على نمط واحد، لا يأتي واحد منها بجديد ولا يصطدم بمألوف لديهم: فمثلا يتغلب علي بك الكبير على خصومه ويحكم البلاد كما حكمها خصومه، ثم يتغلب عليه أبو الذهب ويحكم كما حكم علي، وهكذا دواليك، ولم يكن للمصريين من نصيب في هذه الانقلابات إلا عمال الإدارة المالية من الأقباط ورؤساء العصابات العربية والشيوخ من العلماء. فالفريق الأول - بحكم اضطرار الأمراء جميعا لاستخدامه - يعمل للمنتصرين كما عمل للمنهزمين، ورؤساء العربان بسبب قوتهم الحربية قد يرجحون كفة طائفة من الأمراء على كفة خصومها، والشيوخ العلماء - بحكم تصدرهم ونفوذهم في الناس وتحلي بعضهم بصفات الفضل والاعتدال - يلجأ إليهم الناس للوساطة في رفع الحيف إذا ضاقوا به ذرعا، وقد يحتكم إليهم المتخاصمون من الأمراء، وكان تدخل الشيوخ عادة لرفع الضيم وإحلال الوئام محل الخصام أو للتخفيف من عنف الانقلابات.
Bilinmeyen sayfa
أما الحكم الفرنسي فكان انقلابا من نوع لم يعرفه المصريون؛ إذ لما زال حكم مراد وإبراهيم حل محلهما بونابرت ولم يكن مسلما ولا عثمانيا، كذلك ترك الباشا العثماني مصر عند قدوم الفرنسيين، وزال بغيابه مظهر التبعية للسلطان خليفة المسلمين وسمع المصريون عن تبعية بلادهم لدولة غربية فرنجية، سمي لهم نظامها السياسي بأسماء شتى لا تدلهم تجاربهم على معانيها ... فنشر عليهم منشور «من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية»، وأرخت لهم الحوادث بشهور غربية من سنة تبدأ «من انتشار الجمهور الفرنساوي.»
وكانت للفرنسيين طرقهم في مخالطة النساء، وكانت هذه الطرق مما كرهته الخاصة كرها شديدا، وأدى انتشار العسكر في أنحاء المدن والأقاليم، وتشتت شمل أسرات الأمراء وانطلاق جواريهم عقب تركهم القاهرة إلى ضروب غير مألوفة من الفساد والرذيلة، وفي أيام الاحتلال الفرنسي حرر غير المسلمين من وطنيين وأجانب أنفسهم من قيود مختلفة كان المسلمون - إذ ذاك - يعدونها شروطا من شروط بقاء الإسلام، وهذا التحرر كان مما يقتضيه حكم غربي جمهوري شعاره المساواة والحرية الدينية، هذا إلى حاجة الاحتلال الفرنسي لغير المسلمين: لأموالهم ودرايتهم بأحوال البلاد ونظمها وعادات أهلها ولإمكان الوثوق بهم بفضل اتفاق المنافع.
ولم يكن للحكم الفرنسي، في مدته القصيرة، وفي ظروف الحرب والفتن الملابسة له من المآثر ما يحمل الخاصة والعامة من أهل مصر على الإغضاء عما صحبه من الانقلاب الاجتماعي، فقد كان حكما عسكريا شديدا عنيفا، ولم يكن الإصلاح الذي فكر فيه الفرنسيون، وما استحدثوه من الدواوين وغيرها، والبحث العلمي الذي شرعوا في إقامة قواعده؛ مما يجتذب إليهم المحكومين إلا بعد زمان طويل؛ ذلك لأن النظم الحكومية التي اعتادها المصريون وغيرهم إذ ذاك كانت ترمي لأغراض ثلاثة أساسية: جمع الأموال المفروضة، والأيدي العاملة اللازمة لصيانة الأعمال العامة، واستتباب الأمن، وفيما عدا هذه الأمور الثلاثة لا تتدخل الحكومة في أحوال الرعية؛ بل تدع كل ما يتعلق من هذه الأحوال بأغراضها تنظمه الجماعات أو لا تنظمه كما جرت به العادات.
وإذا شئنا إجمال وصف ما اختص به نظام الحكم القائم قبل الاحتلال الفرنسي قلنا: إنه يمتاز بقلة التدخل الحكومي - كما نفهمه الآن - وبالعنف والتعسف، ويجب ألا يحملنا ما نراه من جنوح الحكام لهذا العنف والتعسف إلى تصور نظم الحكم على غير ما صورناها من ترك الرعية وشأنها في كل ما يتعلق بأغراض الحكومة الأساسية.
ويجب كذلك ألا يحملنا ما نسمع عنه من الظلم على الظن بأنه لم تكن أمام المحكومين وسائل مختلفة لتجنبه أو لتخفيفه، فإن ارتباك الإدارة الذي نجم عن الانقلابات المتتابعة وسوء ذمة العمال وفوضى السجلات، وما إلى ذلك؛ فتح للرعية أبواب الخلاص من الفرض شرعية وغير شرعية.
فلا ينبغي إذن أن ننتظر أن يرحب المصريون في سنة 1798 بالتدخل الحكومي وبما يصحبه من النظم الدقيقة، ولا أن يعدوها - كما نعدها الآن - ضمانا لحقوقهم ، فكرهوا ضبط الدفاتر واعتبروه اشتطاطا في الطلب، ولم يروا فيما اتخذته الحكومة من الوسائل لمنع الأمراض إلا استبدادا لا يطاق، وفضولا لا يفهم.
كره المصريون الحكم الفرنسي وقاوموه؛ ثار أهل القاهرة ثورتين عنيفتين، وقام الفلاحون في الريف كلما أتيحت لهم فرصة، وقد ذكرنا من الأسباب ما يكفي لتفسير هذا الكره دون أن نلجأ إلى تعليله بانتحال تعبيرات من استعمال أيامنا، والتاريخ الصحيح لا يجد في الفتن الشعبية بالقاهرة والأقاليم إلا باعثا إيجابيا واحدا، هو: العودة لما ألفه الناس. إن مصر أكرم على بنيها من أن يلتمسوا سندا لحقوقها في «الدفاتر القديمة». •••
وابتهج أهل مصر لما أخرج العثمانيون والإنجليز الجيوش الفرنسية من بلادهم، وسمى الجبرتي مؤلفه في حوادث الاحتلال الفرنسي وما سبقه: «مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس»، بل وسجل اعتقاده: «وإذا تأمل العاقل في هذه القضية يرى فيها أعظم الاعتبارات والكرامة لدين الإسلام، حيث سخر الطائفة الذين هم أعداء للملة هذه لدفع تلك الطائفة، ومساعدة المسلمين عليهم، وذلك مصداق الحديث الشريف وقوله
صلى الله عليه وسلم : «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر»، فسبحان القادر الفعال!»
ولكن عيني «الرجل الفاجر» انفتحتا واسعتين صوب مصر وما يجري في مصر، فلن يكون الأمر بعد 1798 ما كان قبلها.
Bilinmeyen sayfa
الفصل الثالث
تسلم مصر من الفرنسيين ممثلا الدولة الصدر الأعظم يوسف ضيا والقبطان باشا حسين، وسلطان الزمان - على حد تعبير الوقت - سليم الثالث، وهو السلطان الذي بدأ خطة الإصلاح التي سار عليها خلفاؤه سلاطين القرن التاسع عشر: محمود وعبد المجيد وعبد العزيز وعبد الحميد، ومحور الإصلاح عندهم إنشاء قوة عسكرية برية بحرية نظامية، مدربة على نمط الجيوش الأوروبية، وهذه القوة يستخدمونها في غرضين: في دفع الاعتداء الخارجي، وفي استرداد حقوق السلطان من مغتصبيها؛ أي في إقامة الحكومة المركزية المطلقة.
وها هي مصر شاءت العناية الإلهية أن تعود لصاحبها بعد أن قام الفرنسيون بعمل نافع؛ زحزحوا الأمراء وشردوهم، وانتزعوا ما كان في أيديهم، وفتكوا بالكثير منهم، أفيعقل بعد ذلك ألا يكمل الوزيران العثمانيان ما بدأه بونابرت بإقصاء الأمراء البارزين عن مصر؟ وبذلك يخلص للسلطان ملك مصر، وتكون قصتها بعد ذلك قصة غيرها من الولايات التي خلص ملكها للسلطان في القرن التاسع عشر إلى أن يأتي اليوم الموعود: يوم انحلال الملك العثماني.
وكاد تنفيذ تلك الخطة أن يتم لولا تدخل السلطات العسكرية الإنجليزية - ولم يكن الجيش الإنجليزي قد غادر مصر بعد - وقد تدخلت تلك السلطات وأرغمت ممثل السلطان على إطلاق سراح الأمراء؛ وكان تدخلها لأسباب: أحدها؛ الاشمئزاز من عنصري المكيدة والغدر اللذين قام عليهما القبض على الأمراء. وثانيها: الاعتقاد الراسخ بأن القوات العسكرية العثمانية سواء منها الآتية من الولايات الآسيوية أو الآتية من الولايات الأوروبية لا تصلح لشيء ما، بل إن عدمها خير من وجودها؛ فما هي إلا شراذم من النهابيين الهمج، وأن الدفاع عن مصر إذا ما حاول بونابرت إعادة الكرة عليها يقتضي إعادة الأمراء - وقد أعجب القواد الإنجليز مظهرهم وفروسيتهم - إلى ما كانوا عليه.
وثالثها: وعد سبق أن أعطاه القائد الإنجليزي في أثناء الأعمال الحربية ضد الجيش الفرنسي للأمراء بأن انضمامهم للحليفتين إنجلترة والدولة لن يضيرهم في شيء، بل على العكس يضمن لهم حقوقهم بعد الانتهاء من الحرب، وقد توهم الإنجليز - إذ ذاك - أن نظام الأمراء وقواتهم الخاصة عنصر أصيل في الحكومة المصرية، وما دروا أنه ليس من جوهرها في شيء، وأنه يكفي جدا لاجتثاثه من جذوره قطع التجارة في الرقيق الأبيض، وأن كل مشكلة الأمراء في مصر لم تكن البحث عن اتخاذهم أساسا لنظام حكومي مصري جديد - كما توهم الإنجليز - بل تنحصر في تدبير أمر أشخاص بالذات مدى أعمارهم الطبيعية، وهذا التدبير لا يستلزم أكثر من توفير العيش الهنيء لمن يريده من الأمراء - وأكثرهم لا يطلب القوة ولا يجمع الأتباع إلا لذلك - وفتح وظائف الجندية والإدارة لمن يريدها من تابعيهم، والضرب على أيدي من يأبى الاستقرار منهم.
ولو خلص الأمر لمحمد علي في السنوات الأولى من حكمه لتم حل المشكلة على هذا الوجه، ولكن جرى كل شيء على عكس ذلك تماما؛ فبينما رجال الدولة يدركون حقيقة مركز الأمراء فيعملون على منع إرسال الغلمان لأسواق الرقيق في القاهرة؛ نراهم في نفس الوقت يتعجلون حل المشكلة دفعة واحدة بالقبض على الأمراء لإقصائهم عن مصر، ولما أخفقوا في ذلك؛ لتدخل السلطات الإنجليزية عجزت القوات العسكرية العثمانية الباقية في مصر عن إخضاعهم، فكانت الحوادث الممهدة لبلوغ محمد علي باشوية مصر.
قدم محمد علي لمصر مع القوة العثمانية التي جمعت في تركية أوروبا، وقد اصطلح على تسميتها بالقوة الألبانية؛ لأن أكثر رجالها كان منهم، وخدم محمد علي في تلك القوة العثمانية الأوروبية وترقى سريعا في رتبها العسكرية، ولكنه لم يكن منها ولا فيها في أكثر من ذلك؛ فلا هو ألباني ولا ارتباط وثيق بيننا وبينهم، بل كان الارتباط الوثيق - قبل تولية محمد علي وبعد توليته إلى أن تلاشى أمر القوة الألبانية تماما - بين الألبانين وزعمائمم الطبيعيين من رجال العشائر الألبانية ورؤساء العصابات في بلادهم، أمثال: طاهر باشا وحسن باشا وصالح قوج ومن إليهم، وكان محمد علي وحيدا فريدا في أوانه، لم يصطنعه أمير ولا وزير، بل ولا سلطان، ولم يقدمه سفير أو قنصل، بل ولا إمبراطور، ولم يكن مخلوق حزب أو أداة جماعة:
نفس عصام سودت عصاما
وعودته الكر والإقداما
وصيرته ملكا هماما
Bilinmeyen sayfa
لم يدبر حوادث ارتقائه، ولم يرتب فصولها ترتيب المؤلف القطع المسرحية، ولم يداهن ولم يتظاهر بما ليس في نفسه ولا من طبعه، ولكنهم هم الذين يتجهون إليه، هم الذين يرون فيه رجل الموقف، ولكنهم أيضا إذا حدثتهم أنفسهم بأن يتخذوا منه وسيلة لغايات في أنفسهم، فسرعان ما تنكشف لهم الحقيقة وأن ما حدثتهم به أنفسهم من استخدام مواهبه لأغراضهم كان وهما؛ فقد قبل محمد علي إجماع الناس أو شبه إجماعهم عليه وتولى أمر الباشوية على مشقاتها وميزاتها، وذاق حلو السلطة ومرها ولكن على أن يسير فيها على نهج من وضعه هو، على أن يحمل كل مسئولياتها، على أن لا تزيحه عنها قوة بشرية: «ها هنا ثبتت قدمي، وها هنا سأبقى!»
كان أول ولاة مصر بعد جلاء الفرنسيين محمد خسرو باشا، وأصله من مماليك القبطان باشا، وكان هذا أول عهده بالمناصب، لم يصب بعد الشهرة التي اكتسبها في خدمة الدولة، ولم يفهم بعد من فن التنظيم العسكري أكثر من جمع «أنفار» من أخلاط الناس ووضع أبدانهم في ثياب «مقمطة» تشبها بالجيش الفرنسي، ومن فن الإدارة إلا قطع الرءوس وما إليه من قواعد «البوليتيقا».
ولم يقو خسرو على إعادة تنظيم شئون الإدارة المالية بعد الاضطراب والاختلال والحروب، كما أنه لم يقو على إخضاع الأمراء وقد وضعوا أيديهم على الصعيد بعد أن أطلق الإنجليز سراحهم، وعذره في ذلك العجز أن ما تحت إمرته من القوات العثمانية - آسيوية أو أوروبية - لا تملك فرسانا يستطيعون مقابلة الأمراء مقابلة الند للند؛ فملك الأمراء الصعيد وتطرق نفوذهم للدلتا؛ وأدى هذا إلى نقصان موارد خسرو المالية نقصانا كبيرا كما أدى إلى اختلال تموين أهل القاهرة، وكان من جراء ذلك أن اختل دفع مرتبات الجنود؛ فهاجوا وأنزلوا خسرو عن كرسيه، ولكنه استطاع أن يهرب وأن يستقر في دمياط مترقبا فرصة الرجوع، وتولى طاهر باشا كبير الألبانيين «قائمقامية» مصر انتظارا لقرار الدولة.
وطاهر هذا أصله من قطاع الطريق في بلاده، وصفه الجبرتي بأنه كان أسمر اللون، نحيف البدن، أسود اللحية، قليل الكلام بالتركي فضلا عن العربي ويغلب عليه لغة الأرنئوديه، وفيه هوس وانسلاب وميل للمسلوبين والمجاذيب والدراويش.
ولم تطل مدته أكثر من ستة وعشرين يوما؛ فقد وثب عليه رجلان من الإنكشارية وقطعا رأسه؛ انتقاما مما جرى لخسرو واحتجاجا على محاباته أبناء جنسه في أمر دفع المرتبات المتأخرة، إلا أن طاهر هذا أدرك في مدته القصيرة - على الرغم من هوسه وانسلابه - أن لا بد للألبانيين من حلفاء إذا أرادوا الاحتفاظ بثمرة ثورتهم على خسرو؛ فكاتب الأمراء في الصعيد وأعلن استعداده لفتح أبواب العاصمة لهم ومقاسمتهم مغانم الحكم، وقد قبل الأمراء المحالفة ودخلوا القاهرة قبل أن يتمكن رجال خسرو من استرداد الباشوية له أو لعثماني آخر من نوعه.
وفي أثناء مدة هذا التحالف بين الأمراء الألبانيين، اكتفى هؤلاء بجمع كل ما يستطيعون اغتصابه من الأموال العامة والخاصة، وتركوا للأولين أبهة السلطة ونكدها، وسرت نشوتها إلى رأس كبيرهم عثمان البرديسي فتوهم عودة العصر الذهبي وصفاء الأيام، فتحرك ضد خسرو في دمياط وحاصرها وعاد به أسيرا للقلعة، ثم لما عينت الدولة واليا جديدا على مصر، هو علي باشا الجزايرلي أو الطرابلسي - رجل قبيح السيرة، من رجال المغرب العثماني، صديق قديم للأمراء - استدرجه البرديسي نحو القاهرة وقتله في الطريق، ثم كانت عودة الألفي - زميله ومنافسه في الرياسة - من إنجلترة، وكان قد سافر إليها عند خروج الجيش الإنجليزي أملا في وساطة الحكومة الإنجليزية لدى الدولة لترضى عن الأمراء، وبدلا من الاتحاد به قرر الغدر بأخيه، ونجا الألفي من الكمين الذي أرصده له البرديسي بشق الأنفس، وأضاف إلى هذا كله الضغط الشديد على أهل القاهرة فقيرهم وغنيهم لأجل المال؛ ولما لم يبق له صديق تحرك الألبانيون ضده وأخرجوا الأمراء ورجالهم من القاهرة إخراجا شنيعا.
وقد نبهنا إلى أننا عندما نقول: «الألبانيون» لا يستدعي هذا «محمد علي» بالمرة، فهم - كما قدمنا - لهم كيانهم ولهم رياستهم الخاصة بهم، والواقع أنه في كل هذه الحوادث يقف وحده، لا وقفة المتفرج أو غير المهتم، على العكس، له مكانته، وله آراؤه، إنما نعني أنه منفصل عن الجميع ظاهرا وباطنا، لا يحرك جماعة ولا تحركه جماعة، وكان رأيه عند إخراج الأمراء من القاهرة إعادة الوالي الشرعي خسرو ورد الأمور إلى نصابها، ولكن الألبانيين أبوا ذلك، وأخيرا أقاموا حاكم الإسكندرية من قبل الباب العالي خورشيد قائمقاما إلى أن تقضي حكومة الدولة في الأمر.
وكانت صعوبات خورشيد هي بالضبط صعوبات سابقيه، وحلوله هي بالضبط حلول سابقيه. صعوباته: اكتساح الأمراء الصعيد، وعجز رجاله عن إخضاعهم، ونقصان الموارد باستيلاء الأمراء على الصعيد، وعبث الجنود وتمردهم واعتداؤهم على الأرواح والأموال، أما حلوله: فالتجريدات السخيفة، والمفاوضات الكيدية والدس والضغط على الرعية لأجل المال، والاستعانة بأشقياء من أكراد أعالي سوريا يدعون «الدلاة» أو «الدلاتية»، كانوا شر من رأى أهل مصر، وإذا قلنا ذلك أمكننا تصور حقيقتهم.
وقد أحس خورشيد بارتفاع شأن محمد علي واتجاه الأنظار إليه فنال له من الباب العالي ولاية جدة، وقبل محمد علي الأمر جريا على ما سار عليه، إلا أن الكوارث المتوالية أخرجت أهل القاهرة عن حد الاحتمال فالتفوا حول شيوخهم وأعيانهم وبخاصة نقيب الأشراف السيد عمر مكرم وانضموا إلى طوائف من الجند وطالبوا بوضع حد لسوء الحال. ثم انتهى الرؤساء إلى مطالبة الباشا باعتزال منصبه، ولما رفض حاصروه في القلعة وترامى الفريقان بالقنابل، وقد اعتبر السيد عمر مكرم وأصحابه الباشا معزولا بإرادة قادة الرأي.
وفي يوم الاثنين 13 من صفر سنة 1220 / 13 مايو سنة 1805 توجهت الجموع «وذهبوا إلى محمد علي، وقالوا له: إنا لا نريد هذا الباشا حاكما علينا ولا بد من عزله من الولاية، فقال: ومن تريدونه يكون واليا؟ قالوا له: لا نرضى إلا بك وتكون واليا علينا بشروطنا لما نتوسمه فيك من العدالة والخير؛ فامتنع أولا ثم رضى، وأحضروا له كركا وعليه قفطان، وقام إليه السيد عمر والشيخ الشرقاوي فألبساه إياه، وذلك وقت العصر، ونادوا بذلك في تلك الليلة في المدينة»، وكان هذا على الرغم من معارضة فريق الألبانيين الذين «يغرضون لصالح أغا قوج وعمر أغا»، وفي ربيع الثاني سنة 1220/يولية سنة 1805 «وصل مرسوم الدولة ومضمونه الخطاب لمحمد علي باشا والي جدة سابقا ووالي مصر حالا من ابتداء عشرين من ربيع الأول حيث رضي بذلك العلماء والرعية، وأن أحمد باشا خورشيد معزول عن مصر وأن يتوجه إلى الإسكندرية بالإعزاز والإكرام حتى يأتيه الأمر بالتوجه إلى بعض الولايات.»
Bilinmeyen sayfa
وهكذا بلغ محمد علي باشوية مصر، ولا جديد في هذه القصة؛ فإن مقدماتها ووقائعها تكاد تكون سنوية في تاريخ مصر منذ الفتح العثماني، والجديد تماما هو أن الذي تولى الباشوية كان محمد علي ولم يكن غيره، هذا وحده هو وجه الأهمية في الأمر كله؛ فقد أدرك محمد علي منذ أيامه الأولى في مصر أنه لم يتول أمر باشوية عثمانية عادية، بل جلس على عرش مملكة عظيمة كل ما حوله فيها يشهد بما كان لملوكها وسلاطينها ، وأن عناية الله سلمته حكم أمة واحدة يدر نيلها وأرضها الفيض العميم، وأن الميدان خليق بالأبطال.
كما أدرك بالفكر الثاقب الذي وهبه الله أن لا بد لحكم مصر من انتهاج مناهج جديدة وأن طرق الباشوات والأمراء وإنفاقهم العمر في جمع المال وبعثرته، وتوطيدهم أقدامهم بصلم الآذان وخزم الأنوف، وقطع الرءوس، لم تؤد إلا إلى الخراب الشامل؛ فهدته مواهبه لسياسة من نوع آخر، يحقق بها رجاء الناس فيه؛ فيصون أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، ويرتقي بهم درجات إلى ما لم يكونوا يعهدون.
وكانت الساعة أيضا حقيقة بالبطولة: فقد فتحت الحوادث أعين السياسة الأوروبية لمصر ولغيرها من البلاد الإسلامية، ألم يسبق توليته نزول الفرنسيين بمصر؟ ألم يكن إجلاؤهم عنها إلا بشق الأنفس وبفضل معاونة دولة أوروبية أخرى؟ ألم تتداع القوة الإسلامية في الهند نحو الانهيار النهائي؟ ألا يحس كل عثماني بضغط الدول الأوروبية على السلطنة العثمانية وتوغل الروسيين في اتجاه فارس والإمارات الإسلامية الآسيوية؟ فالأمر إذن لا يحتمل التأجيل، وإعزاز مصر والإسلام يتطلب: العمل السريع، الإصلاح الشامل، القوة التي تصون الكرامة؛ قوة الحديد والمال والعلم.
الفصل الرابع
جاشت في صدر محمد علي هذه المعاني ومثيلاتها من أول الأمر، وجال بصره في الميدان حوله فوجده ممتلئا بأنقاض الماضي، فكان لا بد له من شق طريقه بينها وحولها قبل أن يستطيع أن يزيح الأنقاض ويمهد الأرض للبناء.
وقد ورث محمد علي فيما ورث عن الماضي القريب والبعيد أن تكون مصر مما يهم بعض الدول امتلاكه ومما يهم البعض منع ذلك الامتلاك وقد خفي ذلك الوضع المؤلم الجارح للكرامة في السنوات الواقعة بين جلاء الفرنسيين عن مصر وولاية محمد علي أمرها (أي بين 1801 و1805)؛ ففي تلك السنوات كانت وقائع الكفاح بين فرنسا - وقد قبض الجنرال بونابرت على أزمة حكمها - وحلف أوروبي قوي يرمي إلى نقض ما أبرمه بونابرت في داخل فرنسا وخارجها، وانصرف جهد بونابرت كله إلى إفساد خطة أعدائه وتوطيد نظامه الجديد.
وقد نجح في ذلك نجاحا كبيرا؛ فتوج عمله الداخلي بإعلان الإمبراطورية، وهزم النمسا والروسيا هزائم مضعضعة، وربط فتوح فرنسا بشخصه عن طريق أقاربه، ولكن النجاح لم يكن تاما والتسوية لم تكن نهائية؛ فإنجلترة لم يتغلب عليها بعد (وما بقيت إنجلترة قائمة فلا سيادة لأحد على أوروبا)، وضرباته الحربية لأعدائه في القارة كانت مضعضعة ولكنها لم تكن قاتلة، ولم يظهر بعد أن أواصر الرحم بين الحاكمين أقوى على ربط الفتوح بفرنسا من اتفاق المصالح والعواطف بين المحكومين، وكان من شأن انهماك كل من فرنسا وأعدائها - فيما وصفنا - أن انعدم التأثير الأوروبي انعداما يكاد يكون تاما في الحوادث التي جرت في مصر فيما بين 1801-1805 والتي انتهت - كما رأينا - ببلوغ محمد علي ولاية الأمر.
ولا صحة لما اختلقوه من بحث القنصل الفرنسي عن رجل جدير بعطف الحكومة الفرنسية واهتدائه إلى محمد علي وكتابته لحكومته بهذا «الترشيح» وتأييد فرنسا لذلك لدى الباب العالي، لم يحدث شيء من هذا قطعا، ولم يتجاوز هم القنصل الفرنسي حماية نفسه ومواطنيه في الاضطراب السائد في القاهرة، وقد ضعف النفوذ الفرنسي في القسطنطينية في تلك السنوات لدرجة أن حكومة الباب العالي رفضت الاعتراف بنابليون إمبراطورا على الفرنسيين، وكان ذلك تحت إملاء الروسيا، وانسحب السفير الفرنسي وانقطعت العلاقات بين الدولتين زمنا، ولكن انتصار نابليون في أوسترلتز قرب نهاية سنة 1805، وتمزيقه التأليب الأوروبي بإخراج النمسا من الحرب؛ غير الموقف للدولة العثمانية ولمصر تغييرا كبيرا وواجه محمد علي بعد 1805 نتائج ذلك التغيير.
فقد اتخذ نابليون ابتداء من سنة 1806 من الميدان العثماني الفسيح عنصرا هاما في خططه السياسية والحربية وعمل على ما سماه: «إحياء ما لأراضي السلطان من أهمية حربية وسياسية»، وسعى إلى بث روح التحمس في السلطان وحكومته ضد الروسيا، وأن يقنع السلطان بربط مصيره بالإمبراطورية الفرنسية لإحياء مجد الدولة، وقد قبلت الدولة أن «تتحمس» ولكن بقدر وحساب؛ بالقدر الذي يدفع عنها الضغط الروسي دون أن يربطها بالتنظيم النابليوني الأوروبي ربطا محكما أو نهائيا.
ورأت الحكومة البريطانية - بإزاء ذلك - أن تضغط هي أيضا على الدولة العثمانية لتعاونها على التخلص من النفوذ الفرنسي والبقاء داخل نطاق النفوذ الروسي ، واختارت إنجلترة القيام «بمظاهرة بحرية» أمام العاصمة يتلوها احتلال عسكري لثغر الإسكندرية إن أخفقت المظاهرة في حمل الدولة العثمانية على إبعاد السفير الفرنسي وقطع علاقاتها بفرنسا، وكانت حجة الإنجليز أن رفض قطع العلاقات معناه الخضوع العثماني لفرنسا، وتكون إنجلترة إذن في حل من أن تستولي على ما يهمها من أرض السلطان حذر وقوع الكل في أيدي الفرنسيين.
Bilinmeyen sayfa
وأخفقت المظاهرة، واحتلت قوة إنجليزية ثغر الإسكندرية، سلمها للإنجليز دون قتال حاكمها العثماني المستقل بها عن محمد علي، وعلى الرغم من أن تعليمات الحكومة الإنجليزية لقائدها في الإسكندرية كانت تقضي بألا يحاول التوغل فيما وراءها، وبألا يتدخل فيما كان يجري بين الأحزاب المختلفة في مصر، فإن القنصل الإنجليزي - وكان يود أن يكون احتلال الإسكندرية ممهدا لاستقرار إنجلترة نهائيا في المناطق الساحلية المصرية - أقنع القائد بأن تموين الإسكندرية بما يلزم أهلها من الماء والغذاء يستلزم احتلال رشيد وإنشاء مواصلات محمية بين الثغرين؛ فحاول القائد ذلك مرتين ومني بهزيمتين قبيحتين على يد ألبانيي رشيد وأهلها، ثم على يد القوات التي أرسلها محمد علي من القاهرة.
واستقر القائد في الإسكندرية إلى أن أمرته حكومته بالانسحاب منها بعد أن زالت البواعث التي دعت إلى احتلالها بتغير الموقف في أوروبا تغيرا تاما؛ فخرجت الروسيا من الحرب ضد فرنسا، ولم تكتف بذلك بل قامت بين نابليون والإسكندر معاهدة تحالف؛ هي معاهدة تلست المشهورة، ولم تعد هناك أسباب تحمل الإنجليز على الضغط على الدولة العثمانية إرضاء للروسيا، فسعت إنجلترة لتسوية علاقاتها بالدولة العثمانية؛ وقررت أن تعمل على المحافظة على كيانها.
أما إذا تحقق ما ذاع من أن الإمبراطور والقيصر قد اتفقا على تقسيم الدولة العثمانية؛ فإن إنجلترة في تلك الحالة تؤيد الحكومة الشرعية العثمانية في أي مكان تقوم فيه إذا اضطرت لمغادرة العاصمة، وتنشئ من جهة أخرى علاقات تأييد ومعاونة مع الولاة العثمانيين في ألبانيا وفي مصر مثلا لدفع الفرنسيين أو الروسيين عن ولاياتهم، وقد سارت الحكومة الإنجليزية إلى حد ما على هذه الخطة في السنوات التالية لعقد معاهدة تلست فزاد اتصالها المباشر بمحمد علي وخصوصا في أمر العلاقات التجارية، وفي أمر تطبيق قوانين الحرب البحرية وما إلى ذلك، ولكنها حذرت أن تزيد على ذلك وذلك؛ لأن الشرط الأساسي لاتخاذ سياسة الاعتراف بكيان خاص للوحدات العثمانية لم يتحقق؛ فإن معاهدة تلست لم يتبعها تقسيم الدولة العثمانية بل - على العكس - تبعها شيء من التوازن مكن الدولة العثمانية من التماسك واجتياز فترة الاضطراب النابليوني بسلام.
وذلك أن التحالف الروسي الفرنسي لم يكن في نظر الإسكندر ونابليون مقدمة لمشروعات سياسية مبهمة كتقسيم العالم بين العاهلين وما إلى ذلك، بل كان على العكس وسيلة تحقيق أهداف عظيمة حقا، ولكنها محددة تماما، فمن جهة نابليون: حرمان إنجلترة من حليفتها الأوروبية الكبرى وإغلاق ما ينفذ منه الإنجليز إلى القارة، وإقامة الروسيا رقيبا على النمسا؛ لكي يفرغ لإتمام إخضاع وتنظيم غربي أوروبا ووسطها. وثمن هذه الخدمات الروسية؟ أحب طبعا أن يكون الثمن زهيدا ما استطاع، وأن يكون «كلاما» أكثر منه حقائق، ولكن كان لا بد من أن يدفع شيئا ما، وأقصى ما فعل أن ترك للروسيين إمارتي البغدان والأفلاخ وأن أشار على الدولة العثمانية - برفق فهمته تماما - أن تسلم للروسيا بملكها.
ومن جهة الإسكندر: وضع حد لمشروعات نابليون في بولونيا وفي العالم العثماني، وثمن هذه الخدمات: الاكتفاء مؤقتا بملك الولايتين الدانوبيتين والتسليم لفرنسا بمنطقة نفوذ وقواعد في الجزائر اليونانية وعلى الساحل الألباني، وراقب الحليفان أحدهما الآخر إلى أن حان وقت إسدال الستار على هذا الفصل الممتع من تاريخ الرجلين، وأغار نابليون على الروسيا في سنة 1812 وكانت بداية النهاية.
أتاح هذا كله نوعا من التوازن - كما قدمنا - وهيأ لمحمد علي أول اختباراته للسياسة الكبرى، وقد عرفها في طور خاص من التاريخ الأوروبي لا يمثل حياتها الطبيعية أو العادية أصدق تمثيل، فكأنه رآها بعين الرجل يرى الآلات في مصنع من المصانع تدور دورانا جنونيا والصناع يلهثون لحفظ سرعة الدوران على حالتها، أو كأنه رآها بعين الميكروسكوب يكبر أجزاءها ويظهر كل ما دق من معالمها، وقد تأثر محمد علي بنظرته الأولى تلك طول حياته وانتفع بها وخسر.
انتفع بها لأنه فهم سر الحركة وأنها تستطيع أن تغير كل شيء؛ هذه خريطة أوروبا، الظاهر أن نابليون يستطيع أن يفعل بها ما يشاء، هذه عروش قديمة تزول كأن لم تغن بالأمس، وهذه الإمبراطورية النابليونية نفسها زالت بعد حين، وانتفع أيضا لأن في مدى تلك السنوات الضيق يتجمع الشيء الكثير من القواعد الأساسية في تشكيل العلاقات السياسية الكبرى: التفوق البحري الإنجليزي، موقع الروسيا ومواردها، تسخير قوى الإنتاج وتنظيمها وتنسيقها لخدمة غايات معنوية، بهرته الحركة تماما، وصادف ذلك هوى في نفس مشرئبة طموحة.
وخسر لأنه لم ير أن السكون هو أيضا لازم لتلك الحياة السياسية الكبرى وأنه أيضا عامل فعال وأن في الحياة السياسية الكبرى ما يدفع نحو منع التغيير ونحو محاسبة من يسببه.
ومهما يكن فإن وسائل محمد علي في السنوات الأولى لم تتح أكثر من فرص التطلع من نافذته المصرية، حقيقة أن النظر ينفذ من النافذة المصرية لآفاق بعيدة جدا، ولكن الوسائل إذ ذاك لا تسمح بأكثر من استطلاعها، وكان مما لا بد منه في أول الأمر أن يجمع تلك الوسائل في يده على الأقل وأن يقيم بناء الحكومة الجديدة على أساس جديد. •••
وكانت فكرته فيما يجب أن تكون عليه حكومة مصر واضحة له تمام الوضوح، أن مصر لا بد أن تتولى أمورها سلطة عامة واحدة؛ فإن تجزئة السلطان وتشتيته السائدين قبل أيامه أديا إلى انعدام فكرة الحكومة انعداما يكاد يكون تاما، فنتج عن ذلك تكوين العصابات الخاصة المسلحة، ونتج عن ذلك إهمال العمال المرافق العامة إهمالا ذريعا، ونتج عن ذلك أن كل من يستطيع وضع يده على أموال عامة يفعل ذلك دون تردد، بل نتج نوع من التفكير يعتبر أن الحكومة ما هي إلا مشاركة ومقاسمة في «الأرزاق» وإن شئت قل: نهبا، وليس توضيح ذلك بعسير. ومرجعنا في وصف هذا التشتيت والتجزئة رسالة حسين أفندي في ترتيب الديار المصرية، ومرجعنا في وصف عقلية المشاركة والمقاسمة الجبرتي.
Bilinmeyen sayfa
المثل الأول: «سئل حسين أفندي : من أين كان إيراد الباشا وعوائده؟ فأجابه المذكور: إن حضرة السلطان سليم رتب للباشا إيرادا وعوائد معلومة على أصناف البهار في كل فرق بين أربعمائة فضة وعوائد على الأمراء والصناجق وقت تلبيسهم وعلى كشاف الولايات وقت توليتهم، وعلى الجمارك مثل ديوان إسكندرية ورشيد ودمياط وبولاق ومصر القديمة، وعوائد على أمين البحرين وأمين الخردة وعلى الضربخانة وعلى أرباب المناصب، وجعل له حلوان بلاد الأموات، وربط عليها أموالا أميرية في كل سنة تدفع إلى ديوان السلطان وقدرها خمسمائة وستة وخمسون كيسا مصريا. وأضاف إلى هذا أن الباشا يؤدي ميريا نظير عوائده في مال البهار في كل فرق بن أربعمائة فضة وفي نظير الحلوان ... إلخ.»
اخترنا هذا المثل؛ لأنه يمثل فكرة الحكومة ونظامها في أمر عادي مألوف لنا تماما، أمر مرتب الوظيفة، عندنا أمره بسيط للموظف مرتب محدد يتسلمه في مواعيد محددة وينتهي الأمر عند ذلك، أما عندهم فالأمر معقد كل التعقيد ... هاك - في مثلنا الحاضر - باشا مصر وكيل السلطان فيها وهو رأس الإدارة كلها، لمرتبه مصادر متعددة: عوائد على البن، وعوائد على الأمراء والصناجق وقت تلبيسهم كسوة مناصبهم، وكذلك على الكشاف عند تعيينهم في الأقاليم وكذلك على الجمارك وعلى بعض أصحاب المناصب وعلى دار الضرب وعندما يموت أحد الملتزمين فيصبح التزامه «بلد أموات» يتقاضى باشا مصر لنفسه رسما خاصا على نقل الالتزام لورثة المتوفى، وهذا هو الحلوان، ثم يأتي بعد ذلك الأمر الأغرب وهو أن الباشا لا يأخذ فحسب ... بل يؤدي من جانبه للخزانة «ميريا» أو - كما يسمونه كشوفية - يؤدي مالا نظير تمتعه بالعوائد السابقة الذكر.
معنى ذلك أن باشا مصر بدلا من أن ينصرف لإدارة شئون مصر يصرف وقته في التحصيل لنفسه والمساومة والمحاسبة والتخادع والتحايل والتناهب مع «المستحقين الآخرين» في البن والخردة والحلوانات وما إليها. ثم الباشا إيراده يزيد وينقص لظروف؛ منها ما هو فوق استطاعته ومنها ما يستطيع أن يوجده. خذ حلوان بلاد الأموات مثلا؛ قد يفشو وباء فيكثر الموت بين الملتزمين وتكثر بلاد الأموات ويكثر الحلوان، وقد لا يحدث شيء منه فتطول أعمارهم وينكمش دخل الباشا السيئ الحظ، وكذلك أمر العوائد على تعيين الكشاف ألا يستتبع هذا أن الباشا لا يكره - على الأقل - إخلاء وظائف الكشاف وملئها في فترات لا تطول كثيرا؟! وهكذا.
وسئل حسين أفندي عن القاضي وخدمته، فأجاب ببيان اختصاصه وأن تحت يده قضاة نوابا عنه، ولهم عوائد على الناس بحسب الوقائع والبيع والشراء وأن القاضي له عوائد على نوابه في كل شهر، وهكذا.
وقس على ذلك سائر الموظفين العموميين كبارا وصغارا.
المثل الثاني:
ونقصد به توضيح ناحية أخرى من التشتيت؛ نعرف أن القاعدة العمومية عندنا اليوم أن الحكومة لا تربط وجها معينا من المصروفات بوجه معين من الإيرادات، أما عندهم فالعكس هو السائد - كما ترى فيما يلي:
سئل حسين أفندي عن مال الكوركجي الذي هو مضاف بالمال ما معناه: «فأجابه: إن مال الكوركجي كان يقبض من البلاد خارجا عن الميري، ويصرف في أجرة المراكب وغيره ولنقل التراب من مصر ويرمى في البحر المالح، وكان قدر مبلغه في كل سنة نحوا من ثمانية وعشرين كيسا مصريا، واستمر ذلك الحال مدة سنين وهم ينقلون التراب من القاهرة وكانت نظيفة، ولم يكن فيها من الوخم شيء، ومن بعد ذلك حصل تراخ وكسل وعدم التفات من الحكام، فصاروا يأكلون ذلك القدر في كل سنة ولم يصرفوه، فبلغ ذلك إلى السلطان وحضر منه أمر إلى وكيله بإضافة ذلك المبلغ على خزينته التي بقيت له في ذلك الوقت من الميري بعد المصاريف التي رتبها.»
وشرح ذلك أن مال الكركشي (من كلمة كورك التركية، وهي آلة الجرف) ضريبة فرضت على الملتزمين وخصصت للإنفاق على إزالة الأتربة وما إليها من القاهرة، وعلى مرور الزمن بطل إنفاق هذا المال فيما خصص له وأضيف إلى خزينة السلطان (والخزينة أو الخزنة - في اصطلاحهم - هي مجموع المال الذي يبقى بعد أداء جميع المصروفات ويرسل للقسطنطينية)، وبقوا يجمعون مال الكركشي من الناس وإن كان قد بطل إنفاقه فيما فرض من أجله، وهذا هو السر في تراكم وتكون الكيمان التي كانت تحيط بالقاهرة واستمرت يؤذي غبارها وما ينبعث من رائحتها أهل المدينة إلى أن أزالتها حكومة محمد علي.
المثل الثالث:
Bilinmeyen sayfa
ونقصد به توضيح ناحية أخرى من التشتيت والخلط، القاعدة عندنا أن مهمة الجنود الجندية، أما عندهم فالجندية ربما كانت أقل ما شغل جنود الأوجاقات (الفرق) العثمانية، ولنخير وصف أوجاقين منها: سئل حسين أفندي عن أوجاق جاوشان وخدمتهم وأنفارهم؛ فأجاب: إنهم من أرباب الديوان العمومي، ومنهم كتخدا جاوشان وأمين الشون ومحتسب واختيارية، وخدمتهم أن يحضروا في كل ديوان لتحصيل الأموال الأميرية، وكتخدا جاوشان عوائده على طرف حكام الولايات وعلى حلوان بلاد الأموات على كل كيس مصري ألف فضة، وله عوائد على جانب الموجبات، وعوائد على طرف الباشا، وعليه ميري يدفعه إلى ديوان السلطان في كل سنة وأمين الشون عوائده على غلال الميري، وعليه ميري يدفعه إلى ديوان السلطان، والمحتسب عوائده على المسببين الذين لم يضبطوا الميزان، وعليه ميري يدفعه إلى ديوان السلطان ... إلخ.
من هذا نفهم أن أهم ما شغل فرقة جاوشان كان تحصيل الأموال الأميرية عينا ونقدا، وأن حسبة القاهرة كانت من اختصاصه أيضا، وعلينا أن نلاحظ أيضا ما لاحظناه من قبل عن موارد إيراد كبار رجال الأوجاق وتنوعها وتعددها، فها هو كتخذا جاوشان شريك آخر للباشا في حلوان بلاد الأموات، وها هو المحتسب رزقة مما يفرضه على المطففين، وهكذا.
وسئل حسين أفندي عن أوجاق الإنكشارية وخدمته، فأجاب: «إن الأوجاق المذكور أوجاق السلطان، منهم الأغا حاكم مصر وسيفه مطلوق، ومنهم كتخدا الوقت وهو المتكلم بمصر، ومنهم سردار الحج والخزنة والكواخي الاختيارية والجوربجية واليولداشات وهم مقيمون بالقلعة وهم تحت طلب السلطان وعوائدهم مال الدواوين بعد الميري ومنهم الأوضباشية وعوائدهم على الخمامير، وعوائد الأوجاق المذكور على طرف الميري من أصل موجبات العساكر وله أيضا عوائد على الباشا وعوائد على الملاحة والسلاخانة ... إلخ»، ومنه نفهم أن بعض كبار أصحاب المناصب الإدارية كالكتخدا (وهو يلي الباشا) ينتمون لهذا الأوجاق كما نفهم أيضا أن الكثير من شئون الأمن في القاهرة ومدن الريف في أيدي رجال الأوجاق، ونلاحظ أيضا تنوع موارد الإيراد فمن رسوم الجمارك «الدواوين» إلى الرسوم على الخمامير والملاحات.
ننتقل من هذه الصورة إلى صورة أخرى تتصل بها وتوضح «العقلية» التي تمت في تلك البيئة.
ولم يكن بد من أن يكون أول ما عمل محمد علي لتجميع عناصر السلطان وجزئياته بعضها إلى بعض وإقامة السلطة العامة التي لا بد لها من أن تكون في يدها كل الموارد حتى تستطيع أن تقوم بواجبات السلطة العامة، كان لا بد من أن يكون أول ما عمل لتحقيق ذلك متسما بمظهر الاعتداء على الحقوق المكتسبة، بمظهر الطمع في أيدي الناس، بمظهر «المخرب» للبيوت العامرة، القاطع لأرزاق العباد، كان لا بد من أن يتسم العمل في أوله بهذه المظاهر، ولكنه كان في حقيقته غير ذلك، كان وسيلة الخروج من الفوضى والفقر والضعف إلى النظام واليسر والقوة.
وإذا شئنا أن نجمل وصف مراحل إنشاء السلطة العامة مستخدمين لغة ذلك العصر قلنا: إن المراحل الأولى كانت مراحل الضبط والكشف والتحقيق والتصفية وبخاصة في أمور الالتزامات وإلغاء ما لا يستند منها إلى سند شرعي أو تحول إلى منفعة أشخاص أو هيئات. وفي تلك المراحل الأولى أعيد منح بعض الالتزامات بشروط أصلح لولي الأمر، أما المراحل الثانية فكان فيها الانتقال من الالتزام إلى الحجز، ثم يأتي بعد ذلك الدور الباهر دور تحويل الحجر إلى وسيلة قوية للإنتاج الجديد، للثورة الاقتصادية المصرية، ونقتصر في موضعنا الحالي على وصف المراحل الأولى مرجئين دور الإنتاج والخلق لموضع آخر أولى به.
وكان دور الضبط والكشف والتحقيق عنيفا شاقا مؤلما، هو إجراء قاس، ولكن لا بد منه، كان قاسيا؛ لأنه أصاب «ذوي البيوت والمساتير من الناس»، ولكن كان لا بد منه؛ لأن الفساد القديم أدى إلى فقر الجميع حكاما ومحكومين، وإلى وجود نوع من الحكومة لا تملك مالا يمكنها من أن تنشئ قوة حربية مطيعة نافعة أو تطهر ترعة أو تصون جسرا.
خذ مثلا «الرزق»، وأصلها أراض مرصدة على البر والصدقة ولأهل المساجد والأسبلة والمكاتب والخيرات ، وتؤدي ضرائب قليلة جدا، ما الذي وجد محمد علي عند الفحص؟ وجد أن تلك الرزق الإحباسية قد زادت مساحتها لدرجة أضعفت إيرادات الخزانة إضعافا، بينا كما وجد أن إنفاق غلتها فيما رصدت له كاد ينعدم تماما، بل وضع الناس أيديهم عليها واستغلوها لمنفعتهم تماما، ولننقل في هذا عن الجبرتي؛ فهو المتألم جد التألم من خطة قطع أرزاق الناس، قال: «إن الواضعين أيديهم لا يدفعون لجهاتها ولا لمستحقيها إلا ما هو مرتب ومقرر من الزمن الأول السابق، وهو شيء قليل، وليتهم لو دفعوه ... بل يضن ويبخل بدفع القدر اليسير لجهة وقفه ويكسر السنة على السنة ...
والذي يكون تحت يده شيء من أطيان هذا الأوقاف وورثها من بعده ذريته فزرعوها وتقاسموها معتقدين ملكيتها تلقوها بالإرث من مورثهم ولا يرون لأحد سواهم فيها حقا ولا يهون عليهم دفع شيء لأربابه ولو قل إلا قهرا، وبالجملة ما أصاب الناس إلا ما كسبت أيديهم ولا جنوا إلا ثمرات أعمالهم، وكان معظم إدارات دوائر عظماء النواحي وتوسعاتهم ومضايفهم من هذه الأرزاق التي كانت تحت أيديهم بغير استحقاق، إلى أن سلط الله عليهم من استحوذ على جميع ذلك وسلب منهم ما كانوا فيه من النعمة، وتشتتوا في النواحي وتغربوا عن أوطانهم وخربت ديارهم وذهبت سيادتهم»،
وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا .
Bilinmeyen sayfa
وأضاف إلى ذلك واقعة لها دلالتها، قال: «وفي بعض الأرزاق من مات أربابه وخربت جهاته ونسي أمره وبقي تحت يد من هو تحت يده من غير شيء أصلا، وقد أخبرني بنحو ذلك شمس الدين بن حمودة، من مشايخ برما بالمنوفية، عندما أحضر إلى مصر في وقت هذا النظام أنه كان في حوزهم ألف فدان لا علم للملتزم ولا غيره بها، وذلك خلاف ما بأيديهم من الرزق التي يزرعونها بالمال اليسير وخلاف المرصد على مساجد بلادهم التي لم يبق لها أثر، وكذلك الأسبلة وغيرها وأطيانهم تحت أيديهم من غير شيء، وخلاف فلاحتهم الظاهرة بالمال القليل لمصارف الحج؛ لأنها كانت من جملة البلاد الموقوفة على مهمات أمير الحج وقد انتسخ ذلك كله.»
لنترك هذا ولننتقل لمفاسد ملتزمي الأرض ومشايخ القرى والجباة والأقباط، وننقل في هذا أيضا عن الجبرتي المتألم من طريقة محمد علي كل التألم: «كان الفلاحون مع الملتزمين أذل من العبد المشترى فربما أن العبد يهرب من سيده إذا كلفه فوق طاقته أو أهانه بالضرب، وأما الفلاح فلا يمكنه ... وكان من طرائفهم أنه إذا آن وقت الحصاد والتخضير طلب الملتزم أو قائمقامه الفلاحين، فمن تخلف لعذر أحضره الغفير أو المشد وسحبه من شنبه وأشبعه سبا وشتما وضربا، وهو المسمى عندهم بالعونة والسخرة ... وهذا خلاف ما يلقونه من الإذلال والتحكم من مشايخهم والشاهد والنصراني الصراف وهو العمدة والعهدة، خصوصا عند قبض المال فيغالطهم ويناكرهم وهم له أطوع من أستاذهم وأمره نافذ فيهم فيأمر القائمقام بحبس من شاء أو ضربه؛ محتجا عليهم ببواق لا يدفعها، وإذا غلق أحدهم ما عليه من المال الذي وجب عليه في قائمة المصروف وطلب من المعلم ورده وهي ورقة الغلاق وعده ولوقت آخر حتى يحرر حسابه، فلا يقدر الفلاح على مراددته خوفا منه، فإذا سأله من بعد ذلك قال: له بقي عليك حبتان من فدان أو خروبتان أو نحو ذلك ولا يعطيه الغلاق حتى يستوفي منه قدر المال أو يصانعه بالهدية والرشوة.
وغير ذلك أمور وأحكام خارجة عن إدراك البهيمية فضلا عن البشرية، كالشكاوى ونحوها؛ وذلك كما إذا تشاجر أحدهم مع آخر على أمر جزئي بادر أحدهم بالحضور إلى الملتزم وتمثل بين يديه قائلا: أشكو إليك فلانا بمائة ريال، فبمجرد قوله ذلك يأمر بكتابة ورقة إلى قائمقام أو المشايخ بإحضار ذلك الرجل المشتكى واستخلاص القدر الذي ذكره الشاكي قليلا أو كثيرا أو حبسه وضربه حتى يدفع ذلك القدر ...»
وأضاف الجبرتي إلى ذلك ملاحظة لا ندهش لها: أن ذلك الفساد أنزل الفلاحين من تفكير الآدميين إلى تفكير آخر فأصبحوا - كما قال - «إذا التزم بهم ذو رحمة ازدروه في أعينهم واستهانوا به وبخدمه، وماطلوه في الخراج، وسموه بأسماء النساء ، وتمنوا زوال التزامه بهم وولاية غيره من الجبارين الذين لا يخافون ربهم ولا يرحمونهم؛ لينالوا بذلك أغراضهم بوصول الأذى لبعضهم. وكذلك أشياخهم إذا لم يكن الملتزم ظالما لا يتمكنون هم أيضا من ظلم فلاحيهم؛ لأنهم لم يحصل لهم رواج إلا بطلب الملتزم الزيادة والمغارم، فيأخذون لأنفسهم في ضمنها ما أحبوا، وربما وزعوا خراج أطيانهم وزراعاتهم على الفلاحين» ثم ختم كلامه: «وقد انخرم هذا الترتيب بما حدث في هذه الدولة من قياس الأراضي والفدن.»
ولننتقل إلى ناحية أخرى من نواحي خطة الكشف والضبط والتحقيق، وفي هذا ننقل أيضا عن الجبرتي الناقم على طريقة محمد علي، قال: «إن ديوان المكس ببولاق الذي يعبرون عنه بالكمرك لم يزل يتزايد فيه المتزايدون حتى أوصلوه إلى ألف وخمسمائة كيس في السنة وكان في زمن المصريين، أي في زمن الأمراء، يؤدي من يلتزمه ثلاثين كيسا مع محاباة الكثير من الناس والعفو عن كثير من البضائع لمن ينسب إلى الأمراء وأصحاب الوجاهة من أهل العلم وغيرهم، فلا يتعرضون له ولو تحامى في بعض أتباعهم ولو بالكذب ويعاملون غيرهم بالرفق مع التجاوز الكثير ولا ينبشون المتاع ولا رباط الشيء المحزوم بل على الصندوق أو المحزوم قدر يسير معلوم، فلما ارتفع أمره إلى هذه المقادير صاروا لا يعنون من شيء مطلقا ولا يسامحون أحدا ولو كان عظيما من العلماء أو من غيرهم، وكان من عادة التجارة إذا بعثوا إلى شركائهم محزونا من الأقمشة الرخيصة مثل العاتكي والنابلسي جعلوا بداخل طيها أشياء من الأقمشة الغالية في الثمن مثل المقصبات الحلبي والكشميري والهندي، ونحو ذلك، فتندرج معها في قلة الكمرك وفي هذا الأوان يحلون رباط المحزوم ويفتحون الصناديق وينبشون المتاع ويهتكون ستره ... إلخ.» •••
وقد آن وضع حد لهذا العبث كله واشتد محمد علي في خطة الضبط والكشف والتحقيق بقدر حاجته الشديدة للموارد المالية؛ لمواجهة طلبات الجند الألباني المستمرة المتزايدة ولشراء تأييد رجال الدولة له وإبقائه في منصبه ولتنفيذ خطته لحل مشكلة الأمراء، وكانت تقوم على جملم على الاستقرار في القاهرة والجيزة في عيش هنيء، وكان من وسائله لزيادة الموارد بعض الاحتكارات الصناعية والقيام بعمليات تجارية في نطاق واسع.
أما الاحتكارات الصناعية فأمرها في أول الأمر مالي صرف، وهي في هذا لا تخرج عن الاحتكارات التي عرفتها مصر في كل أدوار تاريخها تقريبا، ولكنها ستنقلب على يد محمد علي لأمر آخر لم تعرفه مصر قبله - ستنقلب أساسا لنهضة صناعية وسياسية اقتصادية جديدة تماما - وأما العمليات التجارية فترجع إلى أن السنوات 1809 و1810 و1811 كانت سنوات قحط في بلاد البحر المتوسط، ولما كان للإنجليز جيوش في شبه جزيرة أيبريا ومالطة وصقلية والجزائر اليونانية؛ فقد اتجهوا نحو مصر لتموين الجيوش وأهل تلك البلاد، ووجدوا أن محمد علي يملك مقادير كبيرة من الحبوب؛ وذلك أن ضرائب الصعيد كانت تجبى غلالا، وأنه وحده يستطيع أن يجمع بالشراء مقادير كبيرة من المنتجين وأنه على استعداد لأن يبيعها بالثمن الملائم، فتمت الصفقات.
ووجه الأهمية في هذا الموضوع ما ظهر لمحمد علي من فوائد توسيع نطاق التجارة الخارجية بعد أن تضاءل شأنها في الاقتصاد المصري كل التضاؤل، فقرر أن يتخذ من هذا قاعدة أخرى لسياسته الاقتصادية.
والوجه الثاني لأهمية هذا الأمر هو تولي ولي الأمر بنفسه شئون التجارة الخارجية، وهو في نظرنا ثانوي بالنسبة للوجه الأول اقتضته ظروف خاصة؛ أهمها أن مصر إذ ذاك - بما في ذلك البيوت التجارية الأوروبية في مصر - لم تملك شيئا من أدوات تمويل وتنظيم تجارة خارجية واسعة النطاق، ولا يرجع ذلك بالمرة لميل غريزي أو مكتسب في نفس محمد علي للتجارة وما إليها، بل يرجع لضرورات الموقف التي دامت تقريبا طول مدته.
وقد مكنته هذه الموارد من مواجهة موقفه الصعب إلا أنها زادت في وحدته وانعزاله، ينظر حوله في تلك الأيام فلا يجد من يستطيع إشراكه معه في أمانيه ومشروعاته، فضلاء العلماء من زمن قديم يميلون للابتعاد عن مسائل الحياة العامة، وهم بعد آسفون على انهيار عالم نشئوا فيه، المنصف منهم يعرف عيوب ذلك العالم القديم كل المعرفة ولكنه لا يعرف بعد ما هو سائر إليه، فإن قلت له: لم لا تتقدم وتساهم في البناء الجديد، أجاب: وهل هذا من شأني، إني رجل علم ودين وللدنيا رجالها.
Bilinmeyen sayfa
يمثل ذلك الجبرتي أصدق تمثيل؛ الرجل أمين ودقيق الفهم ومنصف، يعترف حتى للفرنسيين بمحاسنهم ولكنه حزين وناقم؛ حزين على زوال ما ألف، وناقم على ارتفاع أناس وانخفاض آخرين، يؤلمه خمول الفضلاء وتقدم من لا خلاق لهم، ولكن - نسأل - ماذا فعل؟ وماذا حاول، وهو أول من سجل حتى على إخوانه العلماء نواحي الضعف فيهم وفي عصرهم؟ ألا يستطيع أن يرى - وهو الطلعة المهتم بما يجري حوله - أن محمد علي حقيقة جمع في يديه كل شيء ولكنه أيضا أخذ يضطلع بكل شيء، بضبط الأمن والأعمال العامة والصناعة والتجارة والتعليم؟ نعم، رآه تماما فكتب عندما أتم محمد على إصلاح السد الأعظم الممتد من الإسكندرية، وقد كان اتسع أمره وتخرب من مدة سنين وزحف منه البحر المالح وأتلف أراضي كثيرة وخربت منه قرى ومزارع وتعطلت بسببه الطرق والمسالك وعجزت الدولة في أمره ولم يزل يتزايد في التهور وزحف المياه المالحة على الأراضي حتى وصلت إلى خليج الأشرفية التي يمتلئ منها صهاريج الإسكندرية، عندما أتم محمد علي إصلاح ما عجزت عنه الدول السابقة حتى تممه؛ كتب الجبرتي: «وكان له - أي لمحمد علي - مندوحة لم تكن لغيره من ملوك هذه الأزمان، فلو وفقه الله لشيء من العدالة على ما فيه من العزم والرياسة والشهامة والتدبير والمطاولة لكان أعجوبة زمانه وفريد أوانه.»
شيء من العدالة! هي في نظره عدم مس الحقوق المكتسبة على ما قامت عليه من غصب وتبديد وإسفاف وعبث رأينا شيئا منه في كلام الجبرتي نفسه، ولكن شاء الجبرتي أن يزداد انعزالا وأن يقف موقف الآسف الحزين نافثا مرارة فؤاده في قلمه، وابتلي في آخر أيامه بفقد ابنه قتيلا، فبكاه حتى فقد بصره ومات تاركا صغارا كفلهم صديقه حسن العطار ونالوا شيئا من نعمة محمد علي.
وحديث هذا الرجل الفاضل غير حديث الكثير من أقرانه وزملائه من أهل العلم، إن خلافهم مع محمد علي غير خلافه، وإن ابتعاد محمد علي عنهم غير ابتعاده عن أمثال الجبرتي، إنهم لم يكرهوا عمل التحقيق والفحص والضبط الذي قام به لذاته، إنما كرهوا أن يكون ذلك معهم أو - على الأقل - توهموا أن العمل ما هو إلا تكرار لاغتصابات الماضي لا بأس به إن شاركوا فيه، فلما اكتشفوا أنه ليس مقدمة مقاسمة جديدة بل هو بناء السلطة العامة تتولى الجمع لتتولى الإنفاق على المصالح العامة؛ نفروا واحتجوا، فلم يأبه محمد علي لنفورهم واحتجاجهم علما منه بما وراء ذلك النفور وذلك الاحتجاج، وسهل عليه فض الإجماع بشيء من الإخافة هنا وهناك وبشيء من فضلات الأرزاق هنا وهناك.
قال الجبرتي يصف تلك الحالة: «إن محمد علي عندما فرض فرضه المختلفة جعل ذلك عاما على جميع الالتزامات والحصص التي بأيدي جميع الناس حتى أكابر العسكر وأصاغرهم ما عدا البلاد والحصص التي للمشايخ خارجة عن ذلك ولا يؤخذ منها نصف ألفاظ ولا ثلثه ولا ربعه، وكذلك من ينتسب إليهم أو يحتمي فيهم»، وماذا كانت النتيجة؟ كانت النتيجة أنهم «أخذوا يأخذون الجعلات والهدايا من أصحابها ومن فلاحيهم تحت حمايتها ونظير صيانتها واغتروا بذلك واعتقدوا دوامه وأكثروا من شراء الحصص من أصحابها المحتاجين بدون القيمة»، أرأيت النتيجة؟
وبعد ... أيلام محمد علي على إلغاء ذلك الإعفاء الذي أسيء استعماله؟ أنلومه أن لم ير فيهم إلا «رجال أعمال» لا رجال علم؟ وهذا الجبرتي يقول: «إنهم هجروا مذاكرة المسائل ومدارسة العلم إلا بمقدار حفظ الناموس مع ترك العمل بالكلية، وصار بيت أحدهم مثل بيت أحد الأمراء الأقدمين، واتخذوا الخدم والمقدمين والأعوان، وأجروا الحبس والتعزير والضرب بالفلقة والكرابيج، واستخدموا كتبة الأقباط وقطاع الجرائم في الإرساليات للبلاد، وقدروا حق طرق لأتباعهم، وصارت لهم استعجالات وتحذيرات وإنذارات عن تأخر المطلوب مع عدم سماع شكاوى الفلاحين ومخاصمتهم القديمة مع بعضهم بموجبات التحاسد والكراهية المجبولة والمركوزة في طباعهم الخبيثة، وانقلب الوضع فيهم بضده، وصار ديدنهم واجتماعهم ذكر الأمور الدنيوية والحصص والالتزام وحساب الميري والفائض والمضاف والرماية والمراسلات والمرافقات والتشكي والتناجي مع الأقباط ...» إلى آخر ما قال.
أناس هذه حالهم لا يعطفون على الملك الجديد ولا يفهمونه، وكان لا بد من أن يمضي زمن قبل أن يكون محمد علي جيلا آخر، وأن يظهر أمثال رفاعة يفهمون النظام الجديد ويعملون في ظله ويسبكون قواعده وطرائقه وأهدافه في القالب النظري الفلسفي. •••
تغلب محمد علي على أصحاب الحقوق المكتسبة، ولكن التغلب التام على العشائر الألبانية وزعمائها لم يكن ميسورا بلا قوة حربية نظامية تحت أمره، ولا يستطاع خلق مثل هذه القوة في يوم وليلة، فاستخدم لكبح جماح العشائر الألبانية وزعمائها كل ما أوتي من سحر الشخصية ومن مقدرة على دفع بعض الأغاوات بالبعض الآخر وكل ما بيده من موارد المال، ولم ينجح في ذلك إلا نجاحا محدودا، فاستمر الألبانيون في نهبهم وتمردهم وتقاتلهم وفتنهم.
وأسوأ من ذلك أن زعماءهم هم الذين دبروا الغدر بالأمراء المصريين فلطخوا يديه - وهو الرجل الذي يمقت المذابح ويستنكر الوحشية والقوة في كل مظاهرها - بدمائهم في مذبحة القلعة في سنة 1811، ولما كان محمد علي أكبر من أن يحمل غيره مسئولية عمل تم بموافقته فقد التزم السكوت ولم يشر إلى أصل الغدر وحقيقته، إن ذلك الغدر كان الشرط الأساسي لقبول الزعماء الألبانيين السفر لمحاربة الوهابيين في بلاد العرب، فقد كانوا على وجلهم القديم من الأمراء، وكانوا لا يستطيعون الابتعاد عن القاهرة وقد أسسوا فيها البيوت واقتنوا ما اقتنوه تاركين منهوباتهم وحريمهم تحت رحمة الأمراء، ولما كانوا أعجز عن محاربة الأمراء في الميدان فقد ارتئوا الغدر والمكيدة - وهما عنصران أساسيان في نوع حربهم - وألزموا محمد علي بالموافقة، ونقول: إنه لو كان نصيب محمد علي في هذه الواقعة نصيب الآمر المنظم لما تم التنفيذ بالدقة التي تم بها.
إن عدم إفشاء سر المكيدة وحده - مع اشتراك عدد كبير في التدبير - يدل على أن المنظمين كانوا ينفذون تدبيرهم هم، وأن نصيب محمد علي لم يكن إلا الإذعان لما يأباه طبعه ويخالف ما جرى عليه حتى 1811 في حل مشكلة الأمراء.
انتهت بهذا الفصل الدموي السنوات الأولى من حكومة محمد علي، وهي سنوات كفاح وعنف وهدم وتبديل وتعديل، وهي سنوات لم يحبها هو وفي بعض وقائعها لا نحبها له.
Bilinmeyen sayfa
وعندما زاره - فيما بعد - الأمير بكلر مسكاو ولاحظ أن وقائع تاريخه الأولى ليست معروفة تماما قال له محمد علي: «أنا لا أحب تلك الفترة من حياتي، إن تاريخي الحقيقي يبدأ عندما فككت قيودي وأخذت أوقظ هذه الأمة من سبات الدهور.»
الفصل الخامس
اختلفت المشكلات التي واجهت أعلام الإسلام، سواء أكانوا من رجال الفكر أو من رجال العمل، باختلاف عصورهم وبيئاتهم، باختلاف أزمنتهم وأمكنتهم، كما اختلفت المشكلات أيضا باختلافها في الخطورة أو في التعقيد، في كونها إسلامية عمومية أو إسلامية خصوصية، وكانت المشكلة التي واجهها محمد علي من أعظم ما واجه أي علم من هؤلاء الأعلام؛ تطلبت منه البت في أمور خطيرة: على أي القواعد يقيم مجتمعه، أعلى القواعد القديمة التقليدية أم على القواعد التي يشير تقدم المجتمع الغربي وقوته باتخاذها؟ وبأي مقياس يقيس عند الاختيار بين الأمرين؟ أبمجرد المنفعة البحتة؟ أو بملاحظة القرب أو البعد عن التفكير الإسلامي الجديد أو القديم؟ إنا نعلم أن الحلال بين والحرام بين، قاعدة عملية جيدة، ولكنها لا تحل كل مشكلة التمييز بين أنواع الحلال، كما أن المشكلة تطلبت منه أن يبت في تحديد خطته نحو مكان أهل الذمة في مجتمعه هذا وفي تحديد علاقته بالمعاهدين.
وأخيرا: كان لا بد من أن يصل إلى البت في أمر آخر: أي مكان يشغل في العالم العثماني؟
ولنبدأ بحثنا من آخر ما وصلنا إليه، ولنثبت ما نراه فيه بلا لبس: إن محمد علي بدأ وعاش وانتهى عثمانيا مسلما وإن مهمته - كما حددها من أول الأمر إلى آخره - كانت إحياء القوة العثمانية في ثوب جديد، وهو في موقفه هذا شبيه كل الشبه بصلاح الدين وأمثاله من الأعلام الذين حاولوا أن يحيوا قسما أو عالما من الأقسام أو العوالم التي تتكون منها دار الإسلام، ولكنه يختلف عنه وعنهم في أمر مهم؛ هم قاموا بالإحياء أو حاولوه لغرض غير غرضه، كان غرضهم مواصلة الجهاد ضد دار الحرب، أما هو فقد تلاشت عنده فكرة دار الحرب هذه، ورمى إلى أن يجد مكانا لعالمه العثماني الحي في الدنيا الجديدة التي خلقها الانقلاب الاقتصادي، فوصل بين أجزائها وصيرها وحدة حقيقية على الرغم من المنافسات القومية.
لقد مرت علاقات محمد علي بالحكومة المركزية في العالم العثماني في أدوار متباينة ولا يهمنا الآن بيان تلك الأدوار، ولكن يهمنا الآن أن نقول: إن تباين أدوارها لا يضعف شيئا مما ذهبنا إليه من سعيه المتواصل لأن يحيي بيديه القوة العثمانية، ولم يهتم في دور ما من أدوار حياته بما يجب أن يكون عليه مركزه الرسمي، أيكون سلطان الدولة أو وصيا أو قيما أو وكيلا؟ لا؟ لم يهتم إلا بشيء واحد؛ أيستطيع أن يقوم بعمله أو لا يستطيع؟ ولم يطالب إلا بشيء واحد: أن يتمكن من تحقيق غرضه دون اهتمام بالألقاب والمظاهر.
وللمصري أن يسأل: وما قدر مصر في تفكيره وغاياته؟ والجواب على ذلك: أن قدرها في عينه عظيم عظم المشروع كله، هي القلب من الجسم الحي الذي يروم أن يرى، وأبناؤها أعوانه في البناء الكبير، نالت من حبه ونالوا من حبه القدر الأكبر وواصل العمل آناء الليل وأطراف النهار في تفهم حاجاتها وتلبية نداء تاريخها ومقتضيات موقعها، ولكنه رفض أن يتخذ منها عالما صغيرا ضيقا محدود الآفاق ضعيف الآمال، كما رفض أن يكون معول الهدم في العالم العثماني حتى ولو كان الهدم اسمه الاستقلال والباعث المحرك له اسمه العصبية القومية. وكان خير من يعلم أن انفصام الوحدة العثمانية معناه تشتت قوتها وأجزائها ووقوع الأجزاء جزءا جزءا في حكم الدول الغربية، وكان التعصب بكل أشكاله أكره الأشياء إليه.
وقد حدد محمد علي ميدان عمله بالعالم العثماني ولم يلق نظرة إلى ما وراء ذلك العالم من دار الإسلام إلا في حدود العاطفة وما يقتضيه وقوع الحرمين في نطاق حكمه من تيسير أداء فريضة الحج وإدرار الخير على فقراء المسلمين، وأمره في هذا أمر أعلام الإسلام كلهم منذ القرن الأول تقريبا، قبلوا الواقع وعملوا في حدوده، ومن يدري ما كان يحدث لو امتد الزمن لمحمد علي لتحقيق إحياء العالم العثماني على الوجه الذي تصوره؟ إننا نستطيع أن نوقن على الأقل بأن ذلك العقل المتوقد والنفس التي تأبى إلا الكرامة كان لا بد لها عندئذ من تدبير الوسائل لخدمة الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لا على أساس وحدة الملك - فقد أصبح مستحيلا - ولكن على الأساس الذي أجاد الأستاذ الشيخ عبده في إجماله: «أن يكون سلطانهم جميعا القرآن ووجهة وحدتهم الدين، وكل ذي ملك على ملكه، يسعى بجهده لحفظ الآخر ما استطاع؛ فإن حياته بحياته وبقاءه ببقائه»، هذا قول الحق فيما ذاع عن مشروعات إحياء الخلافة وما يتصل بها، نجمله الآن لنعود إليه تفصيلا في موضع التفصيل.
أما الحديث في وسائل إحياء العالم العثماني فهو في حيز آخر؛ حيز المتجسم البارز الواضح المعالم، أجملنا تصوير هذه الوسائل عندما قلنا: إنها اصطناع قوة الحديد والعلم والمال، يتخذ منها ما ينشئ به قاعدة الارتكاز - كما نسمع في هذه الأيام - في مصر وما يتصل بها من المناطق المكملة أو اللازمة لحياتها أو المناطق المجاورة، ومن هذه القاعدة يكون التأثير فيما ليس تحت يده من أراضي العالم العثماني، كما يكون التأثير في خطط الحكومة السلطانية المركزية نحو الإصلاح والتقدم، نحو العزة والاستقلال، نحو المساهمة والمشاركة في حوادث العالم وحركاته بالأخذ والعطاء والتبادل، ويتيح بذلك لأمم العالم العثماني أساسا لاتحادهم فيه، ويجعل من ذلك العالم مجتمعا يستطيع أن يحيا فيه العربي والتركي واليوناني والصقلبي حياة العمل والكرامة وأن يجد فيه المسلم وغير المسلم النطاق الذي لا يمنع اختلاف الدين من العمل فيه والتعاون فيه لمنفعة الجميع.
وبعد، فما الذي دفع الرجل نحو تلك الغايات التي أضنى في كسبها بدنه وعقله؟ وثكل في سبيلها ابنين في مقتبل الشباب والكثير ممن كانوا في حكم أبنائه؟ قال رفاعة «مفلسف» النهضة المحمدية العلوية:
Bilinmeyen sayfa
كان محمد علي سليم القلب، صادق اللهجة، أمينا في تصرفه، حكيما في أعماله، كريما إلى الغاية ، حريصا على عمار البلاد، وفيا في معاشرته، حريصا على ود عشيرته وجنوده ورعيته، متحببا إليهم، وإن كان في بعض المواطن سريع الغضب، فقد كان قريب الرضا، حليف الحلم، صفوحا عن الجاني، مقداما على اقتحام الأهوال، صبورا على الشدائد، شديد الحرص على شرف ناموسه، قوي الفطنة، سريع الإدراك، يجول فكره في الأمور البعيدة، بصيرا في الحساب الهوائي العقلي، عجيب البديهة، غريب الروية، تعلم القراءة والكتابة في أقرب وقت وعمره خمس وأربعون سنة إذ ذاك؛ جبرا لما فاته في زمن الصغر وتداركا لما يزيد في مجده في زمن الكبر، فرغب في مطالعة التواريخ ولا سيما تواريخ الفاتحين كتاريخ إسكندر وبطرس ونابليون، مع المواظبة على الاطلاع على الكازيتات (الصحف) الإفرنجية.
وكان صاحب فراسة؛ إذا تكلم أحد أمامه بلغة أجنبية فهم من النظر إلى حركته وإشارته مقصده، يستشير العقلاء والعلماء في جل أموره، وكان نشيطا يحب الحركة ويكره الكسل والبطالة، قليل النوم، سريع اليقظة، يستيقظ غالبا عند الفجر يسمع بنفسه العرضحالات التي تعرض له يوميا عند الصباح ويعطي عنها جوابا ثم يذهب لمناظرة العمارات الأميرية التي كان مغرما بها.
وكان متدينا إلى حد الاعتدال بدون حمية عصبية ولا تشديد، فكان يغتفر لأهل الملل والدول في بلاده التمسك بعقائدهم وعوائدهم مما أباحته الشريعة المطهرة، وهو أول من أعطى للعيسويين الداخلين في الخدمات الأميرية لمنافعهم الاقتضائية مزايا المراتب المدنية، وكان يؤثر الفعل على القول، بمعنى أنه إذا أراد ترتيب لائحة فيها منفعة للأمة شرع فيها بقصد التجريب وأجراها شيئا فشيئا على طريق الإصلاح والتهذيب، فإذا سلكت في الرعية وصارت قابلة لعوامل المفعلولية كساها ثوب الترتيب والانتظام وأخرجها من القوة إلى الفعل في ضمن قانون الأصول والأحكام؛ لما أنه كان يقال: أحسن المقال ما صدق بحسن الفعال.
وكان مولعا ببناء العمائر وإنشاء الأغراس وتمهيد الطرق وإصلاح المزارع وإتقان الصنائع والأعمال، يرغب في توسيع دائرة التجارة ويستميل عقول الأهالي ليجذبهم إلى ما فيه كسب البراعة والمهارة ... كالملتقط لليتيم المفارق أبويه لينقذه من التهلكة ... وما حصل له في الاستيلاء على مصر من التسخير والتيسير يدل على حسن النية وصفاء الطوية، فكأنما أرشده إلى بلوغ هذه المنزلة مصداق حديث: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»؛ فكان دأبه في العناية بشئون تقديم مصر الإخلاص وحسن النية، فأعماله صارت على ذلك مبنية، وقد خلصت نيته فهبت صوبه نسمات القبول وأصاب بشرف النفس وعلو الهمة وإخلاص العمل وإدراك المأمول.
ولنستخرج من كلام رفاعة هذه الأصول، ربما كان أساس صفاته جميعا ما عبر عنه رفاعة بقوله: «شدة الحرص على شرف ناموسه»، فهي الصفة التي أبت له إلا المجد والترفع عن الدنايا والانصراف إلى عظائم الأمور، وجعلته وفيا صفوحا صادق اللهجة أمينا، كما جعلته مقداما صبورا محبا للحركة كارها للكسل والبطالة، أما أظهر صفاته العقلية فما عبر عنه في قوله: «قوة الفطنة وسرعة الإدراك.»
كره محمد علي الإسراف والتبديد والإهمال كرها بلغ منه أن اعتبرها بمثابة الكفر بنعمة الله.
قال في منشور له من تلك المنشورات الممتعة التي يعبر بها عن كل ما يجول في نفسه: «إن نيلنا لوطن عديم النظير كهذا هو من النعم الجسيمة، وعدم القيام بالسعي والاجتهاد في عمارتها يكون عين الكفران بالنعمة، وهذا ما لا تقبله شيم جبلتي وتأبى نفسي أن أكون شريكا لكم في ذلك»، ولعلك قد لحظت إطلاق الوصف «الخيري أو الخيرية» على الكثير من منشآته، فقد رام بها الخير بمعنى أوسع جرى به الاستعمال، ويكاد يرتفع في نظره بناء القنطرة أو صيانة الجسر من «الأعمال العامة» أو «الأشغال» إلى مرتبة العبادة والاعتراف بأنعم الخالق - عز وجل - وندرك بهذا سر ما لاحظه رفاعة من «أن منافع مصر العمومية قد تمكنت كل التمكن في الذات المحمدية العلوية وتسلطنت على قلبه وأخذت بمجامع لبه»، وأنه عمل تماما بما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم : «من لم يحمل هم المسلمين فليس منهم.»
وقد اهتم - في ذلك العصر - سلاطين الدولة العثمانية بدولتهم: سليم ومحمود وعبد المجيد، ولكن على أي أساس؟ أعلى الأساس المحمدي العلوي اصطناع قوة الحديد والمال والعلم؟ لم يحاولوا إلا اصطناع قوة الحديد : إنشاء القوة العسكرية المدربة على النمط الأوروبي وإقامة الحكم المطلق بسحق عوامل الانفصال، أما تنمية الموارد فسبيلها خطة منح الماليين الأجانب هذا الامتياز وذلك، باستغلال منجم أو إدارة مرفأ أو سكة حديدية أو بريد، وهذه أغلال يغل بها السلاطين أيديهم وأيدي رعاياهم.
وبالجملة لم يجد السلاطين حلا لمشكلة دولتهم الأساسية، وهي - كما قدمنا - تحويلها إلى مجتمع تتضافر فيه الأمم على تحقيق غايات مشتركة وتتعاون - حرة مختارة راغبة - على البأساء والنعماء، وهذا يفسر موقف السلاطين من خطة محمد علي: استغلال الرجل ما أمكن والكيد له ما أمكن ثم المحاولة الصريحة لسحقه، ولم يتم لهم سحقه، ولكن تم لهم إفساد مشروعه، وسارت الدولة نحو ما قدره لها محمد علي: الانحلال التام، وتفرقت كلمة هذا العالم العثماني إلى ما نراه اليوم.
Bilinmeyen sayfa
وفي جزيرة العرب - في ذلك العصر - وفي أنحاء أخرى منعزلة من دار الإسلام كانت حركات أخرى إسلامية لها شأنها وخطرها، كالوهابية وما انبعث عنها من الجداول التي انسابت في أقطار قديمة وأقطار جديدة من دار الإسلام. وكانت غايتها الكبرى إحياء الحياة السلفية، والغاية لها قدرها، وكل مجتمع جدير بهذا الاسم لا يستغني عما يدفعه نحو السلف كما أنه لا يستطيع أن يبقى إذا اعتبر نفسه في حرب دائمة ضد حاضره وضد مستقبله، وقد احترم محمد علي، بل واستخدم، الجماعات الدينية التي أخذت تتكون وتنشط في وقت بعث الوهابية في نشر الإسلام وتهذيب حياة الشعب وترقيتها في الأقطار السودانية. ولكن الوهابية وخططها في عصره كانت مما لا يحتمل، وما جرى من نهب مزارات الشيعة بالعراق والروضة النبوية بالمدينة والاعتداء على الآمنين في الجزيرة وفي العراق والشام وفي البحار العربية؛ مما لا يمكن التجاوز عنه، فلا مناص من الحرب.
وإن شئت مثالا يوضح لك ذلك «الضيق» الذي لا يطاق - وبخاصة إذا كان يحمل سيفا - تجده فيما صرح به الشيخ محمد رشيد رضا في المنار من استنكار الاحتفال بذكرى محمد علي المئوية في المساجد مبينا «سيئات محمد علي وأكبرها قتاله للوهابية وقضاؤه على ذلك الإصلاح !»
وأوروبا أيضا اهتمت بالإسلام والمسلمين عموما وبالعالم العثماني خصوصا، اهتمت به وبهم بداعي اشتباك المصالح الحسية والمعنوية التي أملت أحيانا سياسة الاستحواذ وأحيانا سياسة الابتعاد، وليست مظاهر الاهتمام الأوروبي مما يمكن إجماله في الصيغة الواحدة، وإنما هي مما يزداد وضوحا عند دراستها مقترنة بالوقائع في موضع التفصيل، ولكن يصح أن نقف في موضعنا الحاضر عند مسألة مهمة من مسائلها، وهي الآتية: هل اتسع الفكر الأوروبي في ذلك العصر للبحث عن أسس يصح أن يقوم عليها تعاون حقيقي جدير بهذا الاسم بين دار الإسلام وأوروبا؟ إن من المسلمين إذ ذاك من خطا هذه الخطوة ورآه أمرا ممكنا لازما، فهل خطاها أحد في أوروبا إذ ذاك؟
إنا لا ندخل في عناصر المسألة سعي بعض العلماء وغير العلماء من الأوروبيين لفهم الإسلام والمسلمين؛ من أجل تيسير مهمة الحاكم الأوروبي في القطر الإسلامي، أو إمداد وزارات الخارجية بالحقائق النزيهة وما إلى ذلك، ولا ندخل فيها سعي أصحاب الدعوات إلى مذاهب اجتماعية تستند إلى التطور الاجتماعي الأوروبي وتروم أن تجد في دار الإسلام ميدانا لانتشارها. بل ولا ندخل فيها ما تلوح عليه مسحة عدم الاتصال بمنفعة أوروبية أو فكرة أوروبية بحتة؛ كاشتغال بعض الأوروبيين بمسائل الخلافة، أو إنشاء وحدات داخل نطاق دار الإسلام تقوم على قواعد من وحدة اللغة أو الجوار أو الثقافة، أو ما شابه، أو إحياء فنون أو عادات إسلامية تقليدية.
إننا نخرج هذه الحركات من تحديدنا المسألة، لا لأننا لا نرى ما فيها من حسن النية، ولا لأننا لا نعتد بأهميتها، ولا لأننا لا نعتقد أن في بعضها ما يوجد وجها للتعاون بين المسلمين وغير المسلمين؛ إنما نخرجها لسبب واحد: لأنها جميعا تندرج تحت باب المنفعة الأوروبية بمعناها الشامل، وقد أرجأنا بحث المنافع الأوروبية بأنواعها ونتائجها إلى موضع التفصيل، ومسألتنا تقوم على الاعتراف بالإسلام لذاته وكما هو وقبوله كما هو في تنظيم عالمي، وجوابنا على ذلك: أن أوروبا في عصر محمد علي لم تكن مستعدة لذلك. وإن نظرتها وخططها نحو الإسلام والمسلمين كلها مما يقوم على قاعدة المصالح الأوروبية المختلفة، ويرجع ذلك لسببين: يرجع أولا؛ لاعتقاد الأوروبيين إذ ذاك أن رسالة الإسلام قد قضيت، وألا رجاء للمسلمين إلا بأن يأخذوا عن المجتمع الأوروبي فكرة «الحركة» والتخلي عن فكرة المحافظة والسكون، كما يرجع ثانيا: لأن فكرة التنظيم العالمي كانت إذ ذاك لم تنتقل إلى حيز المباحث السياسية العملية.
الفصل السادس
وقد قبل محمد على الأخذ بفكرة «الحركة» لا على أن رسالة الإسلام قد قضيت، بل تحقيقا لقانون قديم من قوانين تطور الأمة الإسلامية، وهو وجوب بعث حافز من دعوة أو عصبية يخرج الأمة من طور سكون إلى طور حركة، وقد يكون مصدر الحافز داخليا وقد يكون خارجيا، ولكن أثره دائما أشبه ما يكون بأثر الخميرة في العجينة تكسبها سرا من أسرار الحركة.
وقد عبر هو نفسه عن الأخذ بفكرة الحركة، وعن كونها تتم على يد صفوة القوم يقودون ولا يقادون يعرفون وجهتهم ويتجهون نحو الوجهة؛ أحسن تعبير، قال في خطبة له في آخر أيامه: «إن الذي أذكره من أحوال العالم لا بد من أن يكون معلوما لديكم إجمالا، وذلك أن أهل الملل الموصوفين بالقدرة والقوة لم يكونوا في الأصل من أصحاب الاقتدار واليسار الذي هم عليه الآن، بل كان كل منهم جاريا على طراز قديم، ثم ظهر فيهم بعد ذلك ذوات من أصحاب الانتباه فأخذوا يجهدونهم بوسائل حتى إنهم بسبب ما أثمر من سعيهم واجتهادهم في حقهم علموا قيمة محبة الوطن فكان ذلك سببا في تقدمه.»
وعلى هذا فما يعمل له من اصطناع قوة الحديد والعلم والمال لتأسيس ما سميناه «قاعدة الارتكاز» في العالم العثماني له شروط: أولها؛ الاستعداد لقبول ما يلائم المصلحة من مناهج الغير، ويتأتى ذلك بالمخالطة على نحو ما والاستعداد - داخل حدود طبعا - لدفع ثمن تلك المخالطة «فالغير» لا يخدم حبا في سواد العيون فقط. وثانيها: العمل على خلق «الصفوة» بمختلف وسائل التربية والتكوين. وثالثها: ابتكار «أدوات التثبيت» أو اتخاذ كل ما يمكن اتخاذه لجعل المستحدثات جزءا لا يتجزأ من كيان المجتمع معاونة لفعل الزمن.
و«المخالطة» شرط أساسي للنقل عن الغير، عدها رفاعة «مفلسف النهضة» من أكبر ما أقدم عليه محمد علي، قال: فلو لم يكن للمرحوم محمد علي من المحاسن إلا تجديد المخالطات المصرية مع الدول الأجنبية بعد أن ضعفت الأمة المصرية بانقطاعها المدد المديدة والسنين العديدة؛ لكفاه ذلك؛ فقد أذهب عنها داء الوحشة والانفراد وآنسها بوصال أبناء الممالك الأخرى والبلاد لنشر المنافع العلمية واكتساب السبق في ميدان «التقدمية»، وأكسبت المخالطة وضعا جديدا للجاليات الأجنبية ورثته مصر فيما ورثت عن عصر محمد علي.
Bilinmeyen sayfa
سكن الأوروبيون مصر قبل عصر محمد علي لأغراض محدودة وفي ظل نظم معينة، وكانت بيوتهم التجارية قبل ذلك العصر مهمتها الأصلية الوكالة عن الشركات والهيئات الأوروبية المختلفة المرخص لها وحدها من جانب الدول الكبرى بالتصدير إلى مصر والاستيراد منها، وقد خضعت إقامة هؤلاء الأوروبيين لمجموعتين من النظم، أما المجموعة الأولى: فتشتمل على اللوائح المختلفة التي أصدرتها الشركات والهيئات المحتكرة للتجارة الشرقية، وتتناول هذه اللوائح تنظيم شئون المعيشة والعمل لمن رخصت لهم من الأوربيين بسكنى مصر وتمثيلها فيها تنظيما مفصلا، وعهد إلى القناصل - وهم لسنوات عديدة من حكم محمد علي تجار تحت إشراف الشركات والهيئات المحتكرة - تنفيذ تلك اللوائح.
أما المجموعة الثانية: فتتكون من منطوق العهود الصادرة من السلطان، المتخذة شكل معاهدات بين حكومة الدولة والدول الأوروبية الخاصة بالامتيازات التي منحها السلطان لرعايا تلك الدول عندما ينزلون أرضه ويتاجرون مع رعاياه. ومما طرأ عليها فعلا في اتجاهي التعطيل الكلي أو الجزئي أو التنفيذ في الأيام السابقة لعهد محمد علي (وكان التعطيل هو الأغلب).
وكلتا المجموعتين أصابهما تعديل جوهري في أيام محمد علي، فالمجموعة الأولى هدمتها الثورة الفرنسية والانقلاب الاقتصادي الكبير؛ فقد ترتب على الانقلابين إلغاء الشركات والهيئات المحتكرة للتجارة الشرقية (وأهمها شركة الليفانت الإنجليزية وغرفة مرسيليا التجارية) وجعل تلك التجارة حرة للأفراد يشتغلون بها ويسكنون مصر وغيرها من أقطار الدولة العثمانية بلا قيود سوى ما تصدره الحكومات من جانبها أو بالاتفاق مع السلطات العثمانية لأغراض الأمن العام في أوروبا وفي مصر.
وترتب على ذلك أن اكتسب قناصل الدول الكبرى على الأخص صفة الممثلين الرسميين لحكوماتهم وحرم عليهم مزاولة التجارة، وفتحت بذلك الأبواب للتشجيع على الهجرة لمصر والاستيطان بها وكسب الرزق واستثمار الأموال بها، وصار للجاليات الأجنبية في حياة مصر وأهلها شأن جديد تماما.
أما المجموعة الأخرى من النظم فأمرها غير أمر الأولى، لم تمتد يد لنصوصها بالحذف أو الإضافة أو التعديل، ولكنها أصبحت تطبق في ظروف تختلف تماما عما وضعت له، فقد وضعت في ظروف لا تعرف فيها هجرة الألوف من الأجانب لمصر، ولا يعرف فيها الاستيطان الدائم وطلب الرزق من كل الوجوه، ولا يعرف فيها قدوم المهندس والطبيب والصحفي والمعلم للعمل الحر أو في خدمة الحكومة المصرية، ولا يعرف فيها «اللاجئ السياسي» أو صاحب الدعوة لمذهب سان سيمون وما إليه، ولا يعرف صاحب الحانوت الصغير أو الكبير أو المصنع الصغير أو الكبير ولا المصارف ولا «الأعمال» الكبرى، ولا يعرف فيها انتشار الأجانب في ريف مصر وحواضرها ولا الأجنبي الذي يفلح الأرض أو يقتني العزب أو العمارات، ولا تعرف فيها المطبعة أو المدرسة أو الملجأ أو المستشفى الأجنبي.
بهذا كله أصبح للجاليات شأن في حياة مصر لم تعرفه قبل محمد علي، وقد أدرك محمد علي ما في هذه المخالطة من نفع لخططه في اصطناع الحديد والمال والعلم، بل أدرك أنها ضرورية كل الضرورة، واعتقد أن سطوته الشخصية تغني عن وضع اتفاقات دولية جديدة، تنطبق على الظروف الجديدة وتقي أمته وخلفاءه الأضرار البالغة التي نجمت عن تطبيق معاهدات القرن السادس عشر في ظروف القرن التاسع عشر.
كما أن نظام الاحتكار الذي سار عليه طول مدة حكمه تقريبا كان قيدا شديدا للنشاط الأجنبي في مصر، إلا أن عصره شهد البوادر الدالة على المستقبل، وقد قاومها بسطوته الشخصية، مثلا عندما اعتدى قنصل سردينيا (مملكة بيدمنت: نواة الوحدة الإيطالية) على أرسلان أغا أمين جمرك بولاق كتب محمد علي: «إن أرسلان أغا صبر وتحمل هذا الأحمق ضرب القنصل وعدم مقابلته بالمثل في محل الواقعة، فأوجب ذلك اضطراب ضميري، وحيث إني قد نبهت أكيدا على القنصل الجنرال بعزل المذكور وإبعاده عن مصر فإذا استعلم من الديوان عن أشغال تتعلق بالميري قبل مخابرة القنصل الجنرال فلا يلتفت إلى ما يرد منه، وإنه لا تعطى إليه أية إجابة من الديوان، وأن ينبه على المعاون الأول بالقبض على الياساقجي خارج منزل القنصلاتو وإحضاره إلى الديوان وضربه خمسمائة نبوت أدبا له على ما وقع منه في ديوان جمرك بولاق، وإفهامه أن الغرض من إعطاء الياسقجية للقناصل هو لصيانتها والمحافظة عليها وليس لمساعدتهم في فعل أعمال مغايرة كهذه، وإن أمكن إيجاد من يليق لأمانة جمرك بولاق بدل أرسلان أغا فيرفع عن وظيفته جزاء على عدم محافظته على شرف وناموس الحكومة لقبوله الضرب وعدم مقابلة القنصل المذكور بالمثل.»
وإنا نحمد لمحمد علي أنه لم يفكر في تقييد حرية أفراد شعبه في الانتفاع أو عدم الانتفاع من تلك المخالطة الأوروبية، وامتنع عنهم بسماحته بذلك اللون الممقوت من ألوان الاستبداد الذي يأبى إلا أن يصب حياة الأمة الروحية في القالب الذي تشاؤه الدولة لها، وبقى المصريون إلى يومنا أحرارا يتجهون نحو ما يرتضون لأنفسهم من شتى المثل العليا، كما بقى الباب مفتوحا يلجه من يريد العمل على خلق ثقافة غنية بتباين أصولها وتنوع عناصرها.
ذلك لأنه أحب لشعبه ما أحب لنفسه، فكما أنه لا يرفض النظر في شيء ما لمجرد أجنبيته، وكما أنه دءوب على التعلم، شغوف بالاستعلام من كل من يعلم شيئا ما، كذلك أحب أن يكون شعبه عموما و«الصفوة» التي عمل على تكوينها خصوصا. «تلك الصفوة» هي «الأرستقراطية المتكلمة بالتركية» من أصحاب المناصب الحربية والإدارية والفنية، وهي من خلق محمد علي، عرفنا تحديده لمهمتها في مشروعه، وعلينا الآن أن نلم بأشياء أخرى عنها، كونها محمد علي من شتى العناصر، فمن رجالها من جمعهم أحداثا من المماليك والأحرار من أبناء العالم العثماني ومن مصر وأقاليمها السودانية أو من سبي المورة أو اللاجئين منها، كفلهم محمد علي منذ نعومة أظفارهم ورباهم وعلمهم في مدارسه في مصر وبعث منهم من بعث إلى أوروبا، كما أن من هذه الأرستقراطية من لحقوا بها كبارا، تعلقوا به وتعلق بهم وأئتمنهم على أعز ما لديه: قيادة أمته سواء السبيل.
وعلى ذلك فلم تكن تلك الصفوة تركية لحما ودما، بل كان لسانها التركية إما طبعا وإما اكتسابا، وانطبع أعضاؤها على تباين الأصول بالطابع العثماني - أو، كما عرفناه، العثمانلي - في آداب السلوك وتنظيم المنزل وما إليه من طرق المعيشة، وذلك أن محمد علي فتح مصر للغة الترك وآدابهم مفنونهم وعاداتهم، وانتشرت التركية في مصر انتشارا جديدا تبعا لأنها لغة ولي الأمر ولغة الحكومة ولغة «الصفوة» من القوم، إلا أن تأثير ذلك في الثقافة المصرية كان ضئيلا؛ فلم تتأثر العربية بالنماذج التركية تأثرا يعتد به، اللهم إلا في «الرسائل».
Bilinmeyen sayfa