وأضاف إلى ذلك واقعة لها دلالتها، قال: «وفي بعض الأرزاق من مات أربابه وخربت جهاته ونسي أمره وبقي تحت يد من هو تحت يده من غير شيء أصلا، وقد أخبرني بنحو ذلك شمس الدين بن حمودة، من مشايخ برما بالمنوفية، عندما أحضر إلى مصر في وقت هذا النظام أنه كان في حوزهم ألف فدان لا علم للملتزم ولا غيره بها، وذلك خلاف ما بأيديهم من الرزق التي يزرعونها بالمال اليسير وخلاف المرصد على مساجد بلادهم التي لم يبق لها أثر، وكذلك الأسبلة وغيرها وأطيانهم تحت أيديهم من غير شيء، وخلاف فلاحتهم الظاهرة بالمال القليل لمصارف الحج؛ لأنها كانت من جملة البلاد الموقوفة على مهمات أمير الحج وقد انتسخ ذلك كله.»
لنترك هذا ولننتقل لمفاسد ملتزمي الأرض ومشايخ القرى والجباة والأقباط، وننقل في هذا أيضا عن الجبرتي المتألم من طريقة محمد علي كل التألم: «كان الفلاحون مع الملتزمين أذل من العبد المشترى فربما أن العبد يهرب من سيده إذا كلفه فوق طاقته أو أهانه بالضرب، وأما الفلاح فلا يمكنه ... وكان من طرائفهم أنه إذا آن وقت الحصاد والتخضير طلب الملتزم أو قائمقامه الفلاحين، فمن تخلف لعذر أحضره الغفير أو المشد وسحبه من شنبه وأشبعه سبا وشتما وضربا، وهو المسمى عندهم بالعونة والسخرة ... وهذا خلاف ما يلقونه من الإذلال والتحكم من مشايخهم والشاهد والنصراني الصراف وهو العمدة والعهدة، خصوصا عند قبض المال فيغالطهم ويناكرهم وهم له أطوع من أستاذهم وأمره نافذ فيهم فيأمر القائمقام بحبس من شاء أو ضربه؛ محتجا عليهم ببواق لا يدفعها، وإذا غلق أحدهم ما عليه من المال الذي وجب عليه في قائمة المصروف وطلب من المعلم ورده وهي ورقة الغلاق وعده ولوقت آخر حتى يحرر حسابه، فلا يقدر الفلاح على مراددته خوفا منه، فإذا سأله من بعد ذلك قال: له بقي عليك حبتان من فدان أو خروبتان أو نحو ذلك ولا يعطيه الغلاق حتى يستوفي منه قدر المال أو يصانعه بالهدية والرشوة.
وغير ذلك أمور وأحكام خارجة عن إدراك البهيمية فضلا عن البشرية، كالشكاوى ونحوها؛ وذلك كما إذا تشاجر أحدهم مع آخر على أمر جزئي بادر أحدهم بالحضور إلى الملتزم وتمثل بين يديه قائلا: أشكو إليك فلانا بمائة ريال، فبمجرد قوله ذلك يأمر بكتابة ورقة إلى قائمقام أو المشايخ بإحضار ذلك الرجل المشتكى واستخلاص القدر الذي ذكره الشاكي قليلا أو كثيرا أو حبسه وضربه حتى يدفع ذلك القدر ...»
وأضاف الجبرتي إلى ذلك ملاحظة لا ندهش لها: أن ذلك الفساد أنزل الفلاحين من تفكير الآدميين إلى تفكير آخر فأصبحوا - كما قال - «إذا التزم بهم ذو رحمة ازدروه في أعينهم واستهانوا به وبخدمه، وماطلوه في الخراج، وسموه بأسماء النساء ، وتمنوا زوال التزامه بهم وولاية غيره من الجبارين الذين لا يخافون ربهم ولا يرحمونهم؛ لينالوا بذلك أغراضهم بوصول الأذى لبعضهم. وكذلك أشياخهم إذا لم يكن الملتزم ظالما لا يتمكنون هم أيضا من ظلم فلاحيهم؛ لأنهم لم يحصل لهم رواج إلا بطلب الملتزم الزيادة والمغارم، فيأخذون لأنفسهم في ضمنها ما أحبوا، وربما وزعوا خراج أطيانهم وزراعاتهم على الفلاحين» ثم ختم كلامه: «وقد انخرم هذا الترتيب بما حدث في هذه الدولة من قياس الأراضي والفدن.»
ولننتقل إلى ناحية أخرى من نواحي خطة الكشف والضبط والتحقيق، وفي هذا ننقل أيضا عن الجبرتي الناقم على طريقة محمد علي، قال: «إن ديوان المكس ببولاق الذي يعبرون عنه بالكمرك لم يزل يتزايد فيه المتزايدون حتى أوصلوه إلى ألف وخمسمائة كيس في السنة وكان في زمن المصريين، أي في زمن الأمراء، يؤدي من يلتزمه ثلاثين كيسا مع محاباة الكثير من الناس والعفو عن كثير من البضائع لمن ينسب إلى الأمراء وأصحاب الوجاهة من أهل العلم وغيرهم، فلا يتعرضون له ولو تحامى في بعض أتباعهم ولو بالكذب ويعاملون غيرهم بالرفق مع التجاوز الكثير ولا ينبشون المتاع ولا رباط الشيء المحزوم بل على الصندوق أو المحزوم قدر يسير معلوم، فلما ارتفع أمره إلى هذه المقادير صاروا لا يعنون من شيء مطلقا ولا يسامحون أحدا ولو كان عظيما من العلماء أو من غيرهم، وكان من عادة التجارة إذا بعثوا إلى شركائهم محزونا من الأقمشة الرخيصة مثل العاتكي والنابلسي جعلوا بداخل طيها أشياء من الأقمشة الغالية في الثمن مثل المقصبات الحلبي والكشميري والهندي، ونحو ذلك، فتندرج معها في قلة الكمرك وفي هذا الأوان يحلون رباط المحزوم ويفتحون الصناديق وينبشون المتاع ويهتكون ستره ... إلخ.» •••
وقد آن وضع حد لهذا العبث كله واشتد محمد علي في خطة الضبط والكشف والتحقيق بقدر حاجته الشديدة للموارد المالية؛ لمواجهة طلبات الجند الألباني المستمرة المتزايدة ولشراء تأييد رجال الدولة له وإبقائه في منصبه ولتنفيذ خطته لحل مشكلة الأمراء، وكانت تقوم على جملم على الاستقرار في القاهرة والجيزة في عيش هنيء، وكان من وسائله لزيادة الموارد بعض الاحتكارات الصناعية والقيام بعمليات تجارية في نطاق واسع.
أما الاحتكارات الصناعية فأمرها في أول الأمر مالي صرف، وهي في هذا لا تخرج عن الاحتكارات التي عرفتها مصر في كل أدوار تاريخها تقريبا، ولكنها ستنقلب على يد محمد علي لأمر آخر لم تعرفه مصر قبله - ستنقلب أساسا لنهضة صناعية وسياسية اقتصادية جديدة تماما - وأما العمليات التجارية فترجع إلى أن السنوات 1809 و1810 و1811 كانت سنوات قحط في بلاد البحر المتوسط، ولما كان للإنجليز جيوش في شبه جزيرة أيبريا ومالطة وصقلية والجزائر اليونانية؛ فقد اتجهوا نحو مصر لتموين الجيوش وأهل تلك البلاد، ووجدوا أن محمد علي يملك مقادير كبيرة من الحبوب؛ وذلك أن ضرائب الصعيد كانت تجبى غلالا، وأنه وحده يستطيع أن يجمع بالشراء مقادير كبيرة من المنتجين وأنه على استعداد لأن يبيعها بالثمن الملائم، فتمت الصفقات.
ووجه الأهمية في هذا الموضوع ما ظهر لمحمد علي من فوائد توسيع نطاق التجارة الخارجية بعد أن تضاءل شأنها في الاقتصاد المصري كل التضاؤل، فقرر أن يتخذ من هذا قاعدة أخرى لسياسته الاقتصادية.
والوجه الثاني لأهمية هذا الأمر هو تولي ولي الأمر بنفسه شئون التجارة الخارجية، وهو في نظرنا ثانوي بالنسبة للوجه الأول اقتضته ظروف خاصة؛ أهمها أن مصر إذ ذاك - بما في ذلك البيوت التجارية الأوروبية في مصر - لم تملك شيئا من أدوات تمويل وتنظيم تجارة خارجية واسعة النطاق، ولا يرجع ذلك بالمرة لميل غريزي أو مكتسب في نفس محمد علي للتجارة وما إليها، بل يرجع لضرورات الموقف التي دامت تقريبا طول مدته.
وقد مكنته هذه الموارد من مواجهة موقفه الصعب إلا أنها زادت في وحدته وانعزاله، ينظر حوله في تلك الأيام فلا يجد من يستطيع إشراكه معه في أمانيه ومشروعاته، فضلاء العلماء من زمن قديم يميلون للابتعاد عن مسائل الحياة العامة، وهم بعد آسفون على انهيار عالم نشئوا فيه، المنصف منهم يعرف عيوب ذلك العالم القديم كل المعرفة ولكنه لا يعرف بعد ما هو سائر إليه، فإن قلت له: لم لا تتقدم وتساهم في البناء الجديد، أجاب: وهل هذا من شأني، إني رجل علم ودين وللدنيا رجالها.
Bilinmeyen sayfa