Müzikle Birlikte: Anılar ve İncelemeler
مع الموسيقى: ذكريات ودراسات
Türler
ومن أهم الأمور في نظري، في أي برنامج سليم للتذوق، أن يسعى المرء بالتدريج إلى الإقلال من ربط الموسيقى بقصص أو موضوعات واقعية، حتى يتدرب المستمع على ممارسة التجربة الموسيقية خالصة؛ فقد يكون من المفيد في البداية رواية حكايات عن المناسبات التي ألفت فيها القطعة الموسيقية، وربط كل جزء من أجزائها بانفعال أحس به المؤلف، أو بتجربة عاطفية مر بها، أو بحادث معين أثر في نفسه - كل ذلك قد يكون مفيدا في البداية من أجل اجتذاب انتباه المستمع غير المدرب، ولكن الاستمرار في هذا الاتجاه يكون لدى المستمع عادات سيئة، وربما جعل الارتباطات الأدبية أو الانفعالية أو التاريخية تغلب لديه على الاستمتاع بالأنغام ذاتها، فتكون النتيجة أن يخلق للألحان بخياله ارتباطات مصطنعة، ويعجز عن تذوق الأعمال التي لا تقبل بطبيعتها تفسيرا موضوعيا من هذا النوع.
ولأعد بعد هذا الاستطراد «التعليمي» الطويل لأتابع تطور تجربتي مع الموسيقى، فأشير إلى أن الفرصة قد أتيحت لي، ولأول مرة، لمشاهدة عروض كاملة للأوبرا في صيف عام 1949م، حين سافرت في رحلة إلى باريس بعد تخرجي في الجامعة مباشرة، ضمن وفد من مدرسي اللغة الفرنسية المصريين الذين أوفدتهم الحكومة الفرنسية في دراسة صيفية على نفقتها الخاصة، وتمكن البروفسور «جان جرنييه» من أن «يحشرني» وسطهم مع أني لم أكن في ذلك الحين إلا «طالب وظيفة» انقضى على تخرجه شهر واحد! ومن بين الليالي الثلاثين التي قضيتها في تلك الرحلة الممتعة في باريس، أمضيت ست ليال على الأقل في دار الأوبرا؛ حيث أتيحت لي فرصة مشاهدة بعض درامات فاجنر وأوبرات فردي و«لولي». وكانت التجربة بالنسبة إلي رائعة غاية الروعة، لا سيما وأن الأداء كان ممتازا، فضلا عن أن الإخراج المسرحي كان عظيما بحق. ولست أستطيع أن أعبر عما كنت أشعر به من سعادة ونشوة وأنا أهبط سلالم دار الأوبرا المشهورة في باريس بعد عرض أستمتع فيه لأول مرة بروائع الأوبرات العالمية، بعد أن كانت أسعار تذاكر دار الأوبرا الباهظة في مصر تحول على نحو قاطع بيني وبين مشاهدة أي عرض موسيقي عالمي خلال فترة دراستي.
وخلال السنوات السبع التي أعقبت ذلك، وهي فترة كان يشغلني فيها العمل العلمي من أجل التحضير لدرجتي الماجستير والدكتوراه، كانت تجربتي في الموسيقى تكاد تكون مقتصرة على الاستماع إلى الإذاعات، وقراءة بعض الكتب الإنجليزية والفرنسية من آن لآخر. على أن كثيرا من الأفكار كانت تختمر في ذهني عن الموسيقى العالمية وعن نواحي الضعف في موسيقانا المحلية. وقد قمت بصياغة هذه الأفكار في أول عمل تأليفي أنجزته في ميدان الموسيقى، وهو كتاب صغير بعنوان «التعبير الموسيقي» (مكتبة مصر، 1956م)، ولم تكن صفحات هذا الكتاب تتجاوز المائة إلا قليلا، ومع ذلك فقد أحسست بالارتياح حين وجدته قد لقي ترحيبا من القراء والمعلقين، بالرغم من أن الآراء التي عرضتها فيه، ولا سيما ما يتعلق منها بالموسيقى الشرقية، كانت مكتوبة بلهجة نقدية شديدة. ومع ذلك فقد استلفت نظري أن معظم من كتبوا عنه لم يتعرضوا للجوانب النقدية التي حاولت فيها أن أشرح عيوب الموسيقى الشرقية على أسس موضوعية علمية، مع أن هذه الجوانب دون غيرها هي التي كنت أود أن أعرضها لاختبار الباحثين. •••
وكان أهم الأحداث التي أدت إلى تعميق تجربتي الموسيقية هي سفري إلى الولايات المتحدة، وإقامتي بمدينة نيويورك؛ حيث كنت أعمل بمقر الأمم المتحدة خلال خمسة أعوام كاملة من 1957م إلى 1962م؛ فمدينة نيويورك هذه بلا شك عاصمة العروض الفنية، والموسيقية على الأخص، في العالم، لا لأن أهلها أشد حساسية من غيرهم في مجال الفن الموسيقي، بل لأنهم أقدر على جلب أعظم العازفين وقواد الأوركسترا في جميع أنحاء العالم؛ ولأن الفنان المشهور الذي يقدم فيها عرضا، يستطيع أن يضمن جمهورا غنيا يتهافت على حجز مقاعد حفلاته كلها مقدما، مهما يبلغ ارتفاع الأسعار.
ولن أتحدث عن فرق الباليه العالمية التي لم يكن ينقطع مجيئها في كل موسم، أو عن مجموعات الرقص الشعبي التي كانت تفد من كل أنحاء العالم، بل سأقتصر في حديثي على الفن الموسيقي والغنائي وحده، وهو الفن الذي نلت منه خلال إقامتي الطويلة هذه أعظم قسط من المتعة ومن الثقافة والمعرفة. ولقد تمكنت بمجرد حضوري من الحصول على اشتراك موسمي في أشهر قاعات الموسيقى الأمريكية في ذلك الحين، وهي «كارنيجي هول»، وهو ما ينبغي أن يعد «ضربة حظ» رائعة؛ إذ إن قائمة انتظار الحصول على اشتراك للموسم الموسيقي الكامل تضم ألوفا ينتظرون سنوات طويلة قبل أن يحصلوا على ما يريدون. ولعل اسم الهيئة الدولية التي كنت أعمل بها كان له دوره في «ضربة الحظ» هذه. وعلى أية حال فإن حضوري بانتظام لحفلات السبت المسائية في هذه القاعة الموسيقية الكبرى، لمدة خمس سنوات كاملة، أتاح لي فرصة نادرة للتعرف على أرفع أنواع الموسيقى، وأعظم الموسيقيين وقواد الأوركسترا في مختلف بلاد العالم، معرفة مباشرة ... وما زلت، بعد هذا الوقت الطويل، أشعر بحنين جارف إلى تلك الأيام التي يغادر فيها المرء قاعة الموسيقى في «الشارع السابع»، وقد امتلأت روحه بنشوة لا توصف، ليستقبله البرد والثلج في شتاء نيويورك القارس، فيزيد البرد من متعة الروح، ويضفي على التجربة الموسيقية إطارا أثيريا رائعا.
ولقد كانت الفترة التي ترددت فيها على قاعة «كارنيجي» آخر أيام مجد هذه القاعة المشهورة؛ ففي نفس العام الذي غادرت فيه الولايات المتحدة (1962م) كان قد تم بناء قاعة أخرى أحدث وأفخم وأكبر من «مركز لينكولن» (لينكولن سنتر) للفنون، وهو مشروع ضخم كان قد بدأ منذ سنوات، وتكلف عشرات الملايين من الدولارات، لبناء قاعة موسيقية ودار للأوبرا، ومسرح للباليه وكونسرفتوار؛ أعني مدينة فنون كاملة، على أحدث طراز. ونظرا إلى كوني مشتركا قديما في قاعة كارنيجي فقد حجزت لي إدارة المركز الجديد مقعدا لاشتراك موسمي في القاعة الجديدة بدورها، ولكن حلول موعد عودتي إلى الوطن حال بيني وبين حضور الافتتاح العظيم. وكان من أشق اللحظات على نفسي تلك التي كتبت فيها خطاب اعتذار عن قبول المقعد المحجوز، الذي كان المئات دون شك ينتظرونه في لهفة.
ولعل أروع الظواهر التي شهدتها في قاعة كارنيجي، ما كان يتجلى فيها بوضوح من قدرة الفن على تجاوز الحواجز الأيديولوجية والتقريب بين البشر على أساس إنساني يعلو على كل الخلافات السياسية والمنازعات الدولية؛ فمن آن لآخر كانت القاعة تستضيف فنانا مشهورا من الفنانين السوفيت، وكان الاستقبال الذي يلقاه الفنان في البداية، ثم التصفيق والتكريم الذي يودع به في النهاية، ظاهرة مؤثرة بحق، ولا سيما في بلد يتشبع أهله بدعاية الحرب الباردة التي تسري في عقولهم مسرى الدم في جسم الإنسان، وتطفح صحفه وأجهزة إعلامه بمظاهر الكراهية العدوانية للخصم السياسي، ولا يعرف عن هذا الخصم سوى أنه عدو لدود يريد أن «يدفنه». برغم كل هذه المظاهر، وبرغم أن نسبة عالية من رواد قاعة الموسيقى الكبرى هم من أصحاب الموارد المرتفعة، والمصالح «الرأسمالية» الواضحة، فقد كان هذا كله يذوب أمام روعة الفن، وينسى الجميع الوطن الذي ينتمون إليه، أو النظام الاجتماعي الذي يمثله الفنان، ولا يتذكرون سوى أنهم أمام إنسان عظيم، يقدم إليهم أروع وأسمى متعة للروح.
هناك شاهدت «ليونيد كوجان» عازف الفيولينة السوفيتي العظيم، بشعره الأسود الغزير ووجهه الأسمر وملامحه التي تكاد تكون شرقية صميمة، وهو يقف بثبات رائع أمام جمهور غريب ليقدم إليه عزفا فريدا في نوعه لأشهر الكونشرتات العالمية. وهناك شاهدت عميد عازفي الفيولينة السوفيت، «دافيد أويستراخ» الذي ربما عده البعض أعظم عازفي الفينولينة في العالم. منظره لا يوحي على الإطلاق بأن هناك فنانا نادر المثال من وراء هذه القامة القصيرة البدينة، وهذه الملامح السمحة وكأن صاحبها «خباز» طيب القلب. وحين يمسك بالفيولينة تكاد تتعجب كيف ستتمكن هذه الأصابع السمينة القصيرة من أن تعبر عن التفاصيل النغمية الدقيقة على الأوتار، أو تلاحق سرعة العزف اللاهثة، لا سيما وأن عهدنا بعازف الفيولينة - وبالفنان عامة - أن يكون ذا أيد نحيلة وأصابع رشيقة طويلة. ولكن ما إن يبدأ العزف، حتى ينسى المرء كل شيء، بل ينسى أن في الأمر أية صعوبة؛ إذ إن أصعب الأنغام تصدر عنه وكأنه لا يبذل أي مجهود، ودون أن يظهر في عزفه أي أثر للتوتر، ولا يشعر المستمع إلا بالآلة الصغيرة وهي تغني، وكأن أصواتها تحيط به من كل جانب، وتملأ كل فراغ القاعة الفسيحة.
وحين استمعت إلى عازف البيانو السوفيتي المشهور «إميل جيليلز
Emil Gilels » بدا لي أن الرجل قد وصل إلى أقصى ما يستطيع عازف هذه الآلة المجيدة أن يبلغه من حساسية ودقة وإتقان. ولكن لم تمض أيام قليلة حتى أرسل السوفيت «صاروخهم» الفني الجبار: «سفياتوسلاف ريشتر» أعظم عازفي البيانو في عصرنا هذا بلا منازع. وكانت الحفلتان اللتان استمعت فيهما إلى هذا العازف الكبير من أروع التجارب الموسيقية التي مرت بي في حياتي، كان يدخل قاعة الموسيقى في خجل شديد، وتكاد تشفق عليه ظنا منك أنه سيرتبك أمام الجمهور الحاشد، وحين يطأطئ رأسه الذي أوشك على الصلع، بشعيراته الحمراء القليلة الباقية، أمام تصفيق الجمهور، تكاد تشعر بأنه يقاوم رغبته في الانسحاب من القاعة، ولكنه بمجرد أن يجلس أمام البيانو، وحتى قبل أن يبدأ في العزف، تحس من جلسته ومن نظرته إلى البيانو أنه تحول إلى شخص آخر، وأن هذا الإنسان الساذج الخجول قد غدا عملاقا جبارا. أما حين يبدأ العزف، فإن من الصعب عليك فعلا، حتى لو كنت مستمعا ذا خبرة طويلة، أن تصدق أن يدين اثنتين، وعشرة أصابع آدمية فقط، هي التي تعزف. إن الأنغام التي تصدر عن البيانو تغني عن فرقة كاملة، ليس فقط لسرعتها وتعقيدها وإتقانها المذهل، بل لتنوع الألوان الغريب، الذي لا يكاد المرء أن يتوقعه من هذه الآلة بالذات. وبثقة كاملة تمتد يدا ريشتر الجبارتان فوق البيانو طولا وعرضا، وتسري الكهرباء الخفية منه إلى كل مستمع في القاعة، وحين ينتهي العزف، تشهد أعجب «المظاهرات» وأجملها: التصفيق، ثم صياح الإعجاب من الجمهور الذي ينسى نفسه، وينسى وقاره، ثم الوقوف إجلالا لإنسان عظيم، ويستمر التصفيق إلى الحد الذي تشعر فيه - حين تعود إلى بيتك فيما بعد - بأن يديك تؤلمانك حقا، ثم تنهال على المسرح باقات الورد خلال موجة التكريم العارمة، الطويلة المدى، والفنان الخجول يعود مرة أخرى إلى شخصيته البسيطة المنطوية على ذاتها ... ولا يملك المرء، إزاء هذا المشهد الإنساني الرائع، إلا أن يتساءل: أما كان من الممكن أن يصبح العالم الذي نعيش فيه عالما أفضل لو كانت اجتماعات الأقطاب تبدأ بعزف كهذا، أو كانت جلسات الأمم المتحدة تسبقها مظاهرات فنية كهذه ؟
Bilinmeyen sayfa