Müzikle Birlikte: Anılar ve İncelemeler
مع الموسيقى: ذكريات ودراسات
Türler
DeKoven »، كان يسميه برنامج موسيقى «البارو كوكو» وهو اسم مركب من الباروك والروكوكو، وكان هذا الناقد يؤمن إيمانا عميقا بأن تلك الفترة هي التي شهدت العصر الذهبي للموسيقى، كما كان يقدم نماذج نادرة من موسيقى ذلك العصر، يشرحها بطريقته المتحمسة ويطري مزاياها، ولا ينسى أن يبدي أسفه - في كل مناسبة - على أن موسيقى القرن التاسع عشر قد طغت على القرنين الثامن عشر والسابع عشر الهادئين الرزينين اللذين لم يعرفا عصبية الإنسان الرومانتيكي أو تشنجاته. وكان في تحمسه البالغ للأعمال التي يشرحها، بل في صوته ذاته ما يذكرني إلى حد بعيد بأستاذنا الدكتور حسين فوزي في تعليقاته البديعة على الأعمال الموسيقية بإذاعة البرنامج الثاني. غير أن شيئا ما كان يشوه برامج «ديكوفين»، هو أنه كان في نهاية كل برنامج يستجدي المحسنين من المستمعين استجداء حقيقيا أن يبعثوا بما تجود به أريحيتهم من تبرعات إلى عنوانه بمحطة إذاعة مدينة نيويورك (N. Y. C)
لكي يستطيع استكمال رسالته في تقديم هذه البرامج. ولقد كان الرجل بالفعل يبذل في برامجه مجهودا غير عادي، ويتكلف الكثير من أجل الحصول على التسجيلات النادرة لتلك الفترة التي لا تلقى ما تستحقه من عناية شركات الأسطوانات. ولكن نغمة الاستجداء التي كان يختم بها برامجه كانت تبدو نشازا لا يطاق في ختام برامجه الرائعة، لا سيما وهو في بلاد أصحاب الملايين، التي تستطيع نفقات تشغيل طائرة عسكرية واحدة من طائراتها، خلال رحلة واحدة من رحلاتها التدميرية، أن تكفي «ديكوفين» مئونة الاستجداء، وتقدم إليه ذخيرة من الأعمال الموسيقية تكفيه مدى حياته!
أما من حيث الأنواع الموسيقية فكانت موسيقى الأوركسترا الكبيرة هي الأقرب إلى ذوقي في البداية، وكان لا بد من مضي وقت غير قصير قبل أن أستطيع استيعاب موسيقى الغرفة
Chamber Music ، وموسيقى آلة البيانو بوجه خاص، وكذلك أصوات الغناء البشرية في الأوبرا والأغنيات المنفردة.
أما صعوبة تذوق البيانو في البداية، فترجع أولا إلى أن تعقد أصوات العزف على هذه الآلة يقتضي من المستمع قدرة على التجريد تتيح له تتبع اللحن (إذا كانت القطعة من النوع اللحني
Mélodie ) وسط التعقيد الهائل من الأصوات المتشابكة والمتداخلة، أو تتيح له الاستمتاع بالتآلف النغمي خالصا إذا لم تكن القطعة لحنية. ومن جهة أخرى فإن الطريقة الغربية في العزف على البيانو تثير صعوبات خاصة أمام المستمع الشرقي؛ إذ إن ضربات الأصابع على البيانو متقطعة، تعتمد على نوع الرنين في الوصل أو الفصل بين أجزاء اللحن، وهو عمل يشكل صعوبة كبيرة للأذن الشرقية، التي اعتادت أن تكون أجزاء الألحان موصولة، سواء أكان ذلك في الآلات ذات النغم المتصل، كالكمان، أم ذات النغم المنفصل، كالعود والقانون، اللذين يحاولان ب «الترعيش» أن يحققا الاتصال بين أصوات اللحن. وبتأثير هذه العادة الشرقية في الاستماع نشأ ذلك المسخ المشوه، الذي يسمى بالعزف الشرقي على البيانو، وهي ظاهرة كانت أكثر شيوعا في جيلنا مما هي عليه في الجيل الحالي؛ ففي «أيام الزيارة أو المقابلة»، كان من الشائع أن تقول الأم لابنتها أمام الجمع المحتشد في حجرة الاستقبال: «قومي يا سميحة سمعينا حاجة»، وتقوم سميحة بعد تمنع، وتسير كالبطة السمينة نحو البيانو الموضوع في أبرز مكان من حجرة الاستقبال (!)، ثم تستدير نحو أمها وتسألها في دلال وخجل: «أسمعكوا إيه؟» فترد الأم: «عاوزين نسمع كادني الهوى»، وهي تعلم أن سميحة لا تعرف غيرها، وأنها تعلمتها بعد عذاب في شهور طويلة كان «مدرس الموسيقى» يعلمها خلالها موضع إصبع تلو الآخر بطريقة ميكانيكية، بحيث لم يكن لسميحة في عزفها فضل يزيد عما لعازف «البيانولا» في إدارته الآلية لذراع صندوق الموسيقي، وترتفع من البيانو «طرقعة» الأنغام من تحت أصابع سميحة «السميكة»، وتسمع البيانو وكأن اليد اليسرى فيه طبلة تمسك «الواحدة»، واليد اليمنى تنتقل بخفة (من فرط التكرار) فوق البيانو وقد انفتح الكف فتحة كاملة حتى يستطيع الإبهام أن يعزف نغمة القرار، والبنصر (الإصبع الصغير) أن يعزف نغمة الجواب، ويتأرجح الكف مفتوحا في حركة سريعة بين الإبهام والبنصر، مع الانتقال هبوطا وصعودا فوق أصابع البيانو تبعا لأنغام اللحن، وسميحة تتمايل يمنة ويسرة وكأنها تعزف لحنا سماويا لأول مرة، بينما الأم السعيدة تنظر بزهو وفخر إلى عيون الجالسات، واثقة من أن واحدة منهن على الأقل ستعجب ب «مؤهلات» ابنتها العزيزة، وستمتدح أمام ابنها (الذي يبحث عن عروس ) جمال ومواهب البنت الحلوة التي «تضرب بيانو ... وتتكلم فرنساوي!» وهي أعظم مؤهلات الزواج في فترة الثلاثينيات والأربعينيات عند أفراد الطبقة المتوسطة من ذوي التطلعات السخيفة.
لعلني قد أسهبت قليلا في وصف هذا المشهد الذي كان مألوفا في وقت نشأتي، ولكن عذري في ذلك هو الرغبة في إيضاح الهوة السحيقة بين العزف الشرقي على البيانو (وهو في نظري من أفظع التجارب الموسيقية وأسخفها)، وبين العزف الغربي الكلاسيكي على هذه الآلة ذات التاريخ المجيد، وتلك الهوة هي في رأيي أهم أسباب الصعوبة التي يجدها كثير من متذوقي الموسيقى العالمية، ولا سيما في المراحل الأولى من تجربتهم الموسيقية، في فهم الأعمال المؤلفة للبيانو فهما عميقا كاملا. •••
وأما صعوبة تذوق الأصوات البشرية في الغناء العربي فترجع بدورها إلى عادات معينة للاستماع تكونت لدى الأذن الشرقية نتيجة لطرق الغناء الشائعة بيننا؛ ففي طريقة الغناء الشرقية نجد لكلمات الأغنية أهمية لا تقل عن أهمية اللحن، وقد تفوقها في كثير من الأحيان. وأول ما يحرص عليه الملحن والمغني هو أن يكون كل حرف وكل مقطع واضحا سليما، حتى ينقل المعنى إلى ذهن المستمع، وفي معظم الأحيان يتم ذلك على حساب الصوت البشري ذاته؛ أعني أن المغني يحرص على نقل كلام الأغنية أكثر مما يحرص على إظهار الإمكانات الكامنة في صوته (إن كان لها وجود). ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تبدو طريقة الغناء الغربية «صراخا» في نظر المستمع الشرقي؛ إذ إن جهد المغني في حالة الغناء الغربي ينصب على تحقيق كل ما في الصوت البشري من إمكانات، لا على توصيل الكلمات إلى المستمعين. وكثير من الغربيين لا يفهمون كلمات الغناء الذي يسمعونه، بل لا يستطيعون تمييزه حتى إن كان بلغتهم الأصلية. كذلك فإن الملحن يستخدم الصوت البشري أداة أشبه ما تكون بالآلة الموسيقية من حيث استخلاص كل ما ينطوي عليه هذا الصوت من قدرات لحنية وتعبيرية. أما الكلمات فليس لها في الغناء شأن كبير، ويكفي أن نقول إن موضوعات معظم الأوبرات من السذاجة والسطحية بحيث لا يمكن أن يقنع أحد بالقيمة الدرامية لكلماتها، وحتى في الحالات التي تكون فيها الكلمات ذات قيمة شعرية رفيعة، كبعض أغنيات شوبرت وهوجو فولف، تجد الناس لا يعجبون بالأغنية لكلماتها، بل من أجل ألحانها، وإذا تعين عليهم الاختيار بين أغنيتين إحداهما تتميز بأشعار رفيعة ولحن متوسط القيمة، والأخرى ذات كلمات تافهة ولحن جميل، فإنهم لا يترددون في تفضيل الثانية، بل إن المحاولة التي بذلها ريشارد فاجنر من أجل ابتداع «فن متكامل» يجمع بين جمال الكلمة وجمال النغم، لم تنجح إلا بفضل روعة موسيقاه، بينما لا يعبأ مستمعوه كثيرا بأشعاره أو بموضوعاته الدرامية.
فالفارق إذن كبير بين وظيفة الصوت البشري في الغناء الشرقي وفي الغناء الغربي، والطابع الطليق المتحرر الذي يتسم به الغناء الغربي، والذي يجعله قادرا في تحقيق كل ما ينطوي عليه صوت الإنسان من إمكانات، هو الذي يجعله يبدو «صراخا» في نظر المستمع الشرقي. ومن هنا كان تذوق الغناء في الموسيقى العالمية من المراحل المتأخرة في التجارب الموسيقية لمعظم المستمعين الشرقيين، بل إني أعرف الكثيرين ممن اكتسبوا خبرة غير قليلة في الاستماع الموسيقي، لا يطيقون الاستماع إلى الغناء الغربي. وتلك على أية حال مسألة تذوق وتعود، ولكني أستطيع أن أقول، من واقع أحاسيسي الخاصة، إن التجربة الموسيقية تكتسب قدرا كبيرا من الثراء إذا أضيف إلى عناصرها صوت بوريس كريستوف وهو يغني ألحان «موسورسكي»، وصوت «يوسي بيورلنج» وهو يغني لفيردي، وصوت «إليزابيث شفارتسكويف» وهي تغني لشوبرت أو سيبيليوس. والمهم في الأمر أن يعتاد المرء سماع صوت المغني دون أن يعبأ كثيرا بعدم فهمه لكلمات الأغنية. وأود في هذا الصدد أن أدلي باعتراف قد يبدو في نظر البعض غريبا: وهو أنني لا أحاول مطلقا عندما أستمع إلى تسجيل لإحدى الأوبرات، أو لمجموعة من الأغاني، أن أتتبع الكلمات مع اللحن، بالرغم من أن هذه الكلمات مكتوبة أمامي وفي متناول يدي مع كل أسطوانة. صحيح أنني أعرف موضوع الأوبرا في مجموعه ، ولكني لا أحاول أبدا أن أتابع تفاصيل هذا الموضوع خلال استماعي للأوبرا؛ اعتقادا مني بأن عملية التتبع هذه تشوه التجربة الموسيقية، ورغبة في الاستمتاع بهذه التجربة خالصة من كل عنصر ذهني غريب عنها. وقد أكون مخطئا في موقفي هذا، ولكن هذا هو المسلك الذي أتبعه حيال الغناء الغربي، ولا أظن أن استمتاعي بهذا الغناء قد نقص لطريقتي هذه في تذوقه.
وإذا كنت قد تحدثت بالتفصيل عن هذه المراحل المختلفة في تذوق الموسيقى العالمية، فإن من بين الأهداف التي أرمي إليها من هذا الحديث المفصل، ضرورة مراعاة هذه المراحل في أي برنامج للتذوق الموسيقي يوضع في بلادنا ذات التقاليد الشرقية؛ فلا معنى على الإطلاق للبدء في هذا البرنامج بسماع «موسيقى الغرفة» أو سوناتات البيانو، أو أغاني الأوبرا، بل إن البدء بالسيمفونيات والكونشرتات المشهورة قد يكون هو ذاته بداية غير صحيحة. والأفضل أن نراعي ذوق المستمع الشرقي، فنقدم إليه في البداية قطعا روسية بسيطة، لكورساكوف وخاتشاتوريان وتشايكوفسكي. وهذا ما يحدث بالفعل عند الكثيرين، غير أنهم يتوقفون للأسف عن هذا الحد، ويرفضون كل ما يتجاوز هذه المرحلة، ولكن من واجب كل من يقوم بتعليم التذوق الموسيقي أن يستغل في مستمعيه حب هذه الألحان ذات الطابع الشرقي، لينبههم بالتدريج إلى عناصرها الأخرى، ولا سيما العناصر البوليفونية فيها، ويتدرج بهم صعودا نحو أنواع أكثر تعقيدا وتجريدا. ومن الحائز أن المستمع الياباني أو الصيني، أو المستمع الأفريقي الأسود، يحتاج إلى طريقة أخرى في التعليم، يتدرج فيها على نحو مخالف تبعا لعاداته الخاصة في الاستماع. ولكم يكون من المفيد أن يجري بحث تجريبي يقارن بين تدرج قدرة المستمعين المنتمين إلى حضارات مختلفة على التذوق، ومدى الصعوبة التي تلقاها كل فئة في استيعاب الأنواع الموسيقية المختلفة. ولكن مثل هذا البحث، على قدر علمي، ما زال ينتظر من يقوم به.
Bilinmeyen sayfa