Müzikle Birlikte: Anılar ve İncelemeler
مع الموسيقى: ذكريات ودراسات
Türler
مقدمة
مع الموسيقى ... في رحلة الحياة
الإيقاع بين الحياة والفن
علم الآثار الموسيقية1
خواطر حول الموسيقى الشعبية
مستقبل الموسيقى في مصر1
الأساس العقلي للموسيقى الحديثة1
محنة الموسيقى الغربية المعاصرة1
موسيقى وآلات وضجيج1
مقدمة
Bilinmeyen sayfa
مع الموسيقى ... في رحلة الحياة
الإيقاع بين الحياة والفن
علم الآثار الموسيقية1
خواطر حول الموسيقى الشعبية
مستقبل الموسيقى في مصر1
الأساس العقلي للموسيقى الحديثة1
محنة الموسيقى الغربية المعاصرة1
موسيقى وآلات وضجيج1
مع الموسيقى
مع الموسيقى
Bilinmeyen sayfa
ذكريات ودراسات
تأليف
فؤاد زكريا
مقدمة
لا أستطيع أن أزعم أن معرفتي بالموسيقى ترقى إلى مستوى معرفة الخبراء بأصول هذا الفن؛ فلم أكن في أي وقت من محترفيها أو ممن يؤدونها علنا، كما أنني لم أتلق فيها درسا نظريا أو عمليا واحدا، ومع ذلك فإن في تجربتي الموسيقية ما يستحق في نظري أن يروى؛ لأنها أولا تجربة معتمدة على ذاتها اعتمادا يكاد يكون تاما، ولأنها ثانيا تجربة نفس يغلب عليها حب العقل والمنطق، وتميل إلى الجانب الفكري في الأمور، ولأنها ثالثا تجربة طال أمدها حتى ليمكن القول إنها عاصرت حياتي الواعية منذ بدايتها. ومن هنا فقد اعتقدت أن القارئ قد يجد طرافة في صفحات تحكي له كيف انتقل إنسان يعيش في بيئة شرقية خالصة إلى حب الموسيقى العالمية وفهمها فهما واعيا بجهوده الذاتية وحدها، وكيف احتل فن كالموسيقى مكانه في نفس تبدو وكأنها لا تعترف إلا بما يوزن بميزان العقل الدقيق، وكيف تطورت هذه التجربة من بداياتها البسيطة، ونمت على مر السنين حتى بلغت مستوى رفيعا من النضج والاكتمال.
ولقد كرست أطول مقالات هذا الكتاب لعرض هذه التجربة عرضا توخيت فيه الأمانة قدر ما استطعت. أما بقية الكتاب فيتألف من مقالات ودراسات كتبت اثنتان منها - إلى جانب المقال الأول - للمرة الأولى، ونشرت الأخريات في فترات تمتد من عام 1952م حتى الوقت الحاضر. ولما كانت ظروف نشر هذه المقالات والدراسات لم تسمح بأن يطلع على أية واحدة منها سوى عدد محدود من القراء، فقد رأيت أن من المفيد أن أعيد نشرها مجتمعة في هذا الكتاب.
وسوف يدرك القارئ أن هذه المقالات لم تنشر بترتيب ظهورها، بل لقد حاولت أن أرتبها بحسب تاريخ الموضوعات التي تتناولها. وهكذا يمكن أن يقال إنها تقدم عرضا لجوانب من تاريخ الموسيقى في مراحله المختلفة من العالم القديم إلى العالم الحديث إلى العالم المعاصر. ولست أدعي أنني أقدم بذلك دراسة تاريخية متعمقة للموسيقى، بل إنني لم أهدف إلا إلى إلقاء أضواء على مشكلات أثيرت في مراحل متباينة من تاريخ هذا الفن؛ فإذا استطاعت هذه الخواطر والمقالات والدراسات أن تثير في ذهن القارئ مزيدا من الأفكار، وتزيد من إحساسه بالأبعاد العميقة لهذا الفن الرفيع، فإني أكون قد حققت بها كل ما استهدفته بكتابتها من الغايات.
فؤاد زكريا
القاهرة 1968م
مع الموسيقى ... في رحلة الحياة
Bilinmeyen sayfa
لم تتميز البيئة التي نشأت فيها بأي عامل يساعد على تنمية المواهب الموسيقية، أو حتى على كشف هذه المواهب إن كانت موجودة بالفعل؛ ففي المدارس الابتدائية كنا نتلقى نوعا من التعليم الموسيقي الاختياري الذي يقوم به معلمون يفتقرون هم أنفسهم إلى الحساسية والذوق المرهف. وفي المدرسة الثانوية كانت هناك دروس منتظمة (ربما لأن المدرسة التي التحقت بها كانت نموذجية في ذلك الحين)، ولكن المعلم كان يفترض مقدما أن تلاميذه لن يفهموا من دروسه شيئا، أو لن يعبئوا بها إن فهموها، فكان جهده كله مركزا على الفرقة العازفة للمدرسة، أما تلاميذ الفصول فكان تعليمه لهم مجرد واجب رسمي فحسب. وعلى أية حال فإن هذا التعليم لم يكن يبدأ أبدا بتجربة موسيقية تعرض مباشرة على التلاميذ، وتنمي تذوقهم الموسيقي، ولو في أبسط صورة بطريقة متدرجة، بل كان يبدأ بالدروس الجافة التي تقتضي مذاكرة وحفظا، خطوط النوتة الموسيقية «مي» و«صول» ... إلخ، ومسافاتها «فا» و«لا»، علامة «الروند» = 4 نوار ... وهكذا لم يكن درس الموسيقى يفترق عن دروس العلوم إلا في أن لغته أشد غرابة، وألفاظه أبعد عن الفهم. ومع ذلك، فما أحسب أننا في تعليمنا المدرسي قد تقدمنا كثيرا في هذا الميدان منذ ذلك الحين، وحسب المرء أن يستمع إلى الموسيقى التي تقدم في برامج الأطفال في الإذاعة والتلفزيون، وإلى أصوات المشتركين فيها، وعدم قدرة المشرفين على هذه البرامج حتى على التفرقة بين الصوت «النشاز» والصوت الصالح، ليدرك مدى تخلف التربية الموسيقية عندنا، والتأثير الهدام لوسائط الإعلام والتعليم الحيوية في كل موهبة تحتاج إلى رعاية وصقل وتدريب.
ولم تكن الألحان التي أسمعها في بيئتي المنزلية تزيد عما كان يسمعه أي طفل مصري من أسرة متوسطة في أواسط الثلاثينيات وأواخرها؛ ففي تلك الفترة كانت أغاني الإذاعة تشكل كل عناصر تجربتي الموسيقية، وكنت أتابع هذه الأغنيات باهتمام بالغ. ولعل أول ما جعلني على وعي بأن لدي نوعا من الحس الموسيقي هو أنني كنت أحفظ ألحان الأغنيات الشائعة بدقة تسمح لي بكشف أي خطأ في أدائها، حتى لو كان هذا أداء يقوم به محترفون.
وكان أول لقاء لي بالموسيقى العالمية لقاء حزينا يحيط به إطار من الرهبة والاكتئاب؛ فقد كانت الجنازات العسكرية تمر كلها أمام البيت الذي قضيت فيه طفولتي قرب ميدان العباسية، وكان العرف المتبع في ذلك الحين هو تشييع هذه الجنازات على أنغام الموسيقى النحاسية الحزينة (ولست أدري لم أبطلنا هذا التقليد الجميل ... أهناك ما هو أروع من تشييع بطل في يومه الأخير على ألحان الحركة الثانية لسيمفونية «البطولة» لبيتهوفن، أو اللحن الجنائزي في باليه روميو وجولييت للموسيقي «بروكوفييف» مثلا؟) وكان المارش الجنائزي لشوبان هو الذي يعزف في معظم هذه الجنازات العسكرية، بعد توزيعه بحيث يلائم الفرقة النحاسية،
1
وعلى الرغم من أنني كنت، وما زلت، أشعر دائما بأن آلات فرقنا النحاسية ليست منضبطة في أصواتها انضباطا كاملا، وأنها أشبه بالعود أو الفيولينة التي لم يحسن العازف ضبط أوتارها تماما فتركها منخفضة قليلا، أو مرتفعة قليلا، عما يجب أن تكون عليه (وربما كان ذلك راجعا، في حالة الآلات النحاسية، إلى تأثير الجو)؛ فقد كان لهذا المارش الجنائزي تأثير هائل في نفسي. وما زلت أذكر أنني حين كنت أصادف أحيانا جنازة عسكرية خلال عودتي من مدرستي، كنت أسير وراءها عن بعد مسافة طويلة، لا لشيء إلا لكي أستمتع بجمال اللحن، وربما كان لفظ «أستمتع » غير معبر بدقة عما كنت أحس به؛ إذ إن جو الرهبة والحزن المحيط بالجنازة العسكرية كان كفيلا بأن يحول دون حدوث أي «استمتاع» بالمعنى الصحيح. والأدق أن أقول إن ملاءمة الموسيقى للإطار الذي كانت تعزف فيه، والقدرة الهائلة للحن الشجي الحزين، وللطبول الضخمة الوقور، على أن تضفي على الموكب الجنائزي جوا من الأسى، من غير ضعف أو تخاذل، بل مع صمود وشموخ؛ كل ذلك كان بالنسبة إلي تجربة فنية فريدة، ربما لم أكن في ذلك الحين واعيا بكل عناصرها، ولكني كنت على أية حال مندمجا في تيارها العام كل الاندماج. ولا أكون مبالغا إن قلت إنني كنت أشعر بنوع من الفرحة المنقبضة - إن جاز هذا التعبير - كلما سمعت من بعيد أصوات الطبول التي تؤذن بمقدم جنازة يعزف فيها المارش المحبب إلى نفسي.
على أن التجربة التي أذكرها إلى اليوم بمزيج من الزهو والأسف على ما ضاع من الفرص والإمكانات، هي تجربة صنعي لآلتي الموسيقية الخاصة؛ ففي طفولتي المتوسطة، حين كنت في حوالي العاشرة، لم تكن لدي آلة موسيقية، ولم تكن أسرتي من الثراء بحيث تملك البيانو في البيت، كما أنها لم تكن مقتنعة بميولي الموسيقية إلى الحد الذي يجعلها «تضحي» بشراء آلة موسيقية بسيطة لي، بل إن نفس فكرة الميول الفنية وضرورة تنميتها كانت - وما تزال - فكرة غريبة عن أذهان الآباء والأمهات في معظم الأسر المصرية المتوسطة. ولم يكن هناك مفر من أن تجد ميولي الموسيقية مخرجا آخر؛ فقد صنعت آلة موسيقية بدائية من صندوق مستطيل من الصفيح، شددت فيه خيوطا من الجلد أو المطاط الرقيق المستخدم في طرود الأدوية وما شاكلها، وراعيت في الشد أن يكون متدرجا بحيث يكون كل خيط مناظرا لنغمة في السلم الموسيقي، وما زلت أذكر أن أجمل هدية كان يمكن أن تقدم إلي في هذه الفترة، هي خيوط المطاط التي تتيح لي أن أستبدل ب «الأوتار» البالية أوتارا أخرى سليمة متينة. ولم يكن في هذه الآلة البدائية أكثر من عشرة أوتار أو اثني عشر وترا ، ولكنها كانت تكفي لكي أعزف عليها - بطريقة أشبه بطريقة عازفي القانون - ألحانا شائعة معروفة للناس. ولكم كانت الدهشة تتملك أفراد أسرتي، وأصدقاءهم، حين كنت ألصق بأذنهم هذا الصندوق الصغير (الذي يستحيل أن يسمع صوته عن بعد)، فيجدون ألحانا حقيقية معروفة تصدر عنه! ولكي أكمل صورة «مغامراتي» الموسيقية في هذه الفترة المبكرة من حياتي، فإني أستميح القارئ عذرا أن أصف له وجها آخر من أوجه هذا الخيال الطفولي الطريف؛ فقد اكتشفت بعد فترة أن ماسورة صرف المياه (المظراب) الموصلة من «سطوح» بيتنا إلى أرض الشارع، لها قدرة على مضاعفة الصوت وتضخيمه ما بين فتحتها العليا وفتحتها السفلى. وسرعان ما استفدت من هذا «الكشف» في ممارستي لنشاطي الموسيقي؛ إذ كنت أضع الصندوق الصفيح في طرفها العلوي، فوق السطوح، بينما يتناوب أصحابي على الاقتراب من طرفها السفلي في الشارع فيسمعون منها ألحانا «شجية» لمحمد عبد الوهاب ومحمد صادق وغيرهم من مطربي ذلك الزمان. ولعل هذه الماسورة أعجب «ميكروفون» عرفه تاريخ الموسيقى، بحيث إنه لو كان لي أي حق في أن أدخل هذا التاريخ يوما ما، فلن يكون ذلك إلا من خلال فتحتي ماسورة بيتنا القديم!
ولكي يكون القارئ فكرة عن مدى بدائية هذه التجربة الموسيقية الأولى، فحسبي أن أذكر أنني، حتى ذلك الحين، لم أكن أعرف شيئا عن «نصف التون» في السلالم الموسيقية؛ إذ لم يكن تعليمنا الموسيقي في المدارس قد وصل إلى هذه المرحلة «المتقدمة»! ولكنني «استنتجت» وجود هذه الأنصاف حين كنت أجد أجزاء معينة من اللحن لا تصدر بدقة كاملة عن صندوق الموسيقى برغم حرصي على انضباط أوتاره. وكان واضحا أن موقع هذه الأجزاء في مكان ما بين الوترين المتتاليين، فلا بد إذن أن يكون هناك نصف صوت، وحين عدت بذاكرتي إلى منظر البيانو الذي رأيته في بيوت بعض أصحابي، تذكرت أن بعض «أصابعه» سوداء، و«استنتجت» أيضا أن هذه الأصابع السوداء لا بد أن تكون أنصاف الأصوات التي أقصدها. وكنت سعيدا غاية السعادة حين تحققت من صحة استنتاجي هذا في بيت أحد أصدقائي ممن يملكون البيانو، ولكنهم يقفون أمامه صما بكما لا يفيدون منه بشيء.
ومضت سنوات قبل أن أستطيع إقناع أسرتي بشراء آلة موسيقية حقيقية لي. وكنت قد شاهدت «الماندولين» في المدرسة، وأعجبني فيه صغر حجمه وصوته الرنان، فألححت في المطالبة حتى أفلحت أخيرا، وأنا في الخامسة عشرة من عمري، في الحصول على «ماندولين» لا أظن أنه كان جديدا. ولم تمض أيام قليلة حتى كنت أعزف عليه ألحانا بسيطة، ثم تعقدت هذه الألحان بالتدريج، وأصبحت في فترة وجيزة أجيد العزف عليه. غير أن هذا العزف، الذي لم يكن يخضع لإرشاد أو توجيه، كانت تشوبه أخطاء أساسية في «التكنيك» ذاته؛ أي في الأسلوب الذي لا بد من تعلمه عن الغير، ومع ذلك فقد وصلت في العزف إلى مرحلة أعدها، وسط هذه الظروف، مرحلة متقدمة إلى حد بعيد.
ولم يكن من الصعب أن أنتقل من هذه المرحلة العملية إلى مرحلة معرفة بعض الأسس النظرية للعلم الموسيقي؛ ففي هذا العام نفسه أصبحت أجيد قراءة المدونة (النوتة) الموسيقية، بعد أن تلقيت إرشادات من زميل لي في المدرسة، ما زلت أذكر فضله علي حتى اليوم. كان هذا الزميل - وهو من إندونيسيا - يمدني ببعض المدونات، ويوضح لي الأسس العامة لقراءتها. وكنت أشعر بإعجاب شديد، مقرون بدهشة بالغة، وأنا أراه يحول هذه البقع السوداء المتناثرة على سطور المدونة الخمسة إلى أنغام جميلة. ولم يمض وقت طويل حتى وجدت نفسي قادرا على ممارسة هذا السحر العجيب، بعد أن عكفت ببيتي أياما ركزت فيها كل جهدي على مدونات معينة، حتى استطعت أن أستخلص ألحانها بدقة وإتقان. وكان شغفي بالنتيجة التي وصلت إليها هائلا؛ إذ كنت كمن يكتشف كنزا جديدا نفيسا من بين سطور كل مدونة تقع بين يدي.
ومنذ ذلك الحين، كان «مصروفي» كله يضيع على شراء هذه المدونات، وكنت أنتظر أول الشهر بصبر نافد، لأسرع إلى محل «بابازيان» وأشتري منه مدونة أو اثنتين، وما زلت أحتفظ بمجموعة المدونات التي اشتريتها في فترة «الأزمة» هذه. ولكني كنت في البداية أشعر بخيبة الأمل لأن التدوين كان في معظم الأحيان صالحا لآلة البيانو، فعلمت نفسي كيف أحول ما هو مكتوب للبيانو بحيث يصلح للعزف على الماندولين (أو للفيولينة أيضا؛ لأن ترتيب الأوتار واحد)، بل كنت أحول المقام أحيانا، حين كنت أجده من النوع الذي تكثر فيه علامات «البيمول»، وهو مصدر مضايقة وصعوبة بالنسبة إلى عازفي الماندولين والفيولينة يعرفها كل خبير فيهما. وحين اختفت من السوق، في وقت ما، كراسات الموسيقى ذات الأسطر الخمسة (أو ربما ارتفع سعرها ارتفاعا باهظا)، قمت بتسطير كراسة كبيرة كاملة، دونت فيها مجموعة من الألحان بعد تحويل مقامها بطريقة تتناسب مع الآلة التي أعزف عليها، وما زلت أحتفظ بهذه الكراسة التي تمثل بدورها جانبا طريفا من تجاربي الموسيقية خلال الفترة الوسطى من سني مراهقتي. •••
Bilinmeyen sayfa
على أن هذه التجارب لم تكن، حتى ذلك الحين، تمثل انتقالا حاسما من النظام النغمي الذي عودتني عليه الأغنيات المصرية الشائعة منذ طفولتي؛ إذ كانت كلها تتم من خلال بعد واحد فقط، هو البعد اللحني، ولم أكن قد تفتحت بعد على عالم البوليفونية، أو تعدد الأصوات في الوقت الواحد. وكانت التجربة التي اهتديت فيها إلى هذا العالم بسيطة غاية البساطة، عميقة غاية العمق؛ ففي أحد الأيام، بعد انتهاء اليوم الدراسي، كان أحد زملائي من أصحاب الهوايات الموسيقية يعزف فالس «الدانوب الأزرق»، وكان عزفه ضعيفا، ولكنه كان يحاول أداء كل ما في المدونة الموسيقية من أنغام هارمونية. وبرغم تعثره وتردده في العزف، فقد كان أداؤه للأعمدة الصوتية (الكوردات) سليما، وكان هذا كافيا لكي أشعر لأول مرة، عن قرب، بإحساسات موسيقية جديدة كل الجدة، أثارها التآلف النغمي الذي لم أكن حتى ذلك الحين قد جربته تجربة مباشرة. وبرغم بساطة هذه التجربة وقصر مدتها، فما زلت أذكر التأثير العجيب الذي تركته في نفسي؛ ففي طريق عودتي الطويل من المدرسة إلى البيت، كنت أشعر طوال الوقت كما لو كنت أمشي فوق السحاب، وكانت تنتابني رجفة ورعدة كلما تذكرت تلك التجمعات الصوتية الرائعة التي يحدثها التآلف النغمي ، وكانت تلك بالنسبة إلي تجربة فريدة من ناحيتين؛ فهي بداية الدخول إلى عالم جديد من الأصوات الموسيقية، مختلف عن ذلك العالم المألوف في البيئة الموسيقية الشرقية ذات الخطوط اللحنية البسيطة الواحدة - أي إنها بداية شعور بالانفصال عن البيئة المحيطة، وبالرغبة في تجاوز ما تقدمه هذه البيئة في ميدان الفن الموسيقي. وهي من جهة أخرى تمثل أول إحساس بتلك الإثارة العجيبة التي تبعثها الموسيقى، لا في الروح وحدها، بل في الجسم بدوره؛ فالرجفة والرعدة رد فعل عضوي أو فسيولوجي تستطيع الموسيقى، بقدرتها الفريدة، أن تثيره في الجسم إذا كان فيه من الحساسية ما يسمح له بالتناغم معها، فليست النشوة الموسيقية شعورا نفسيا أو روحيا فحسب، بل قد تكون لها مظاهر جسمية أيضا، كأن تسري في الجسم - خلال أوقات الحر القائظ - قشعريرة أشبه بتلك التي يبعثها البرد الشديد في الأوصال. ولست أعلم لهذه الظاهرة تعليلا، ولا أظن أن العلم بدوره يمكنه في الوقت الراهن أن يأتي لها بتفسير، ولكنها - بالنسبة إلي على الأقل - ظاهرة مجربة ليست قليلة الحدوث.
كانت تلك إذن هي البداية البسيطة، والعميقة، لدخولي عالم التوافق الصوتي، وسعيي إلى تجارب في عالم الموسيقى لم يكن في وسع البيئة المحيطة بي أن تقدمها إلي. وبالتالي كانت تلك بداية شعور ب «الاغتراب» عن الجو الموسيقي السائد في بلادنا، إن جاز لي أن أستعير هذا التعبير من مجال الفلسفة وعلم الاجتماع. ولم يكن هذا الانفصال مفاجئا، بل حدث بتدرج وبطء في البداية ثم ازداد سرعة فيما بعد، حتى جاء الوقت الذي أصبح فيه تاما. وبعبارة أخرى فقد كانت أذني في البداية تتقبل نوعي الموسيقى، المحلي والعالمي، بنوع من التعايش غير المستقر، ثم أخذ هذا التعايش يتحول بالتدريج إلى طغيان للموسيقى العالمية على الموسيقى المحلية. ولم يمض وقت طويل حتى حلت الأولى محل الثانية حلولا تاما لا رجعة فيه.
وقد يجد الكثيرون أن فكرة استبعاد الموسيقى العالمية للموسيقى المحلية استبعادا كاملا هي فكرة لا تبعث على الارتياح، وقد يفسرها البعض بأنها نوع من التعالي أو التظاهر بالثقافة. ولست أنكر أن الكثيرين ممن يزعمون هذا الزعم هم بالفعل متظاهرون ومدعون، ولكنني الآن بصدد وصف تجربتي الشخصية، ولست أملك إلا أن أقرر بصدق تام أنني حالما تمكنت من استيعاب الموسيقى العالمية وتذوقها، لم يعد في تجربتي مجال لتلك الموسيقى التي نسمعها في إذاعاتنا المحلية، فضلا عن أن عملية الاستبعاد هذه لم تستغرق وقتا طويلا، بل إنني، لكي أكون أمينا بحق، أذهب إلى أن هذه الموسيقى أصبح لها، بعد اعتيادي الموسيقى العالمية، تأثير عضوي من نوع مضاد لذلك الذي تحدثت عنه منذ قليل؛ فكثير من الألحان المحلية، بما فيها من رتابة وسير على وتيرة واحدة، ومن دوران في دائرة ضيقة من الأصوات المتقاربة المتدرجة، تبعث في رأسي دوارا حقيقيا، لا مجرد ملل نفسي. ولعل هذا يفسر كراهيتي الشديدة للراديو الترانزستور، الذي أعده أفظع اختراع ابتليت به البشرية؛ إذ إن في وسع جهاز واحد «قد الكف» بين يدي جار منسجم، أن ينغص علي ساعات كاملة من حياتي، دون أن يكون في استطاعتي أن أشرح متاعبي أو أشكوها لأحد. وأيا كان حكم القارئ على هذا الكلام، فليأخذه على الأقل من باب الاعترافات الشخصية، وليست كل الاعترافات الصادقة - كما نعلم جميعا - مرضية للجميع.
المهم في الأمر أننا إذا سمعنا من يقول إنه كف عن الاستمتاع بموسيقانا المحلية، وأنه أصبح يجد متعته الوحيدة في الموسيقى العالمية، فلا ينبغي أن نسارع بالحكم عليه بالتحذلق، قد يكون متحذلقا بالفعل، ولكن هناك من يقولون ذلك بصدق وإخلاص. وكل ما أستطيع أن أؤكده هو أن انتقالي من تلك البداية التي كنت فيها أحفظ ألحان الأغنيات الشائعة بدقة وأستطيع التقاط أبسط خطأ تفصيلي في أدائها، إلى المرحلة التي أصبحت فيها أتجنب هذه الألحان بأي ثمن، كان انتقالا طبيعيا ليس فيه أدنى أثر للافتعال. أما أولئك الذين لا يتصورون ذلك، ويتهمون كل اعتراف بالتصنع أو الادعاء، ويظنون أن الإعجاب بالموسيقى العالمية لا يعدو أن يكون تظاهرا ب «الفرنجة» يقوم به أناس معقدو النفوس - وهو حكم شائع يصدره أشخاص منهم من يحتلون مناصب رفيعة في ميادين الآداب والفنون - فلا أملك إلا أن أقول عنهم إنهم لم يمروا بالتجربة الموسيقية على حقيقتها، وأن من المستحيل وجود جسور للتفاهم حين يكون الأمر متعلقا بتجارب يمر بها شخص ولا يمر بها شخص آخر. •••
وكان أول مظاهر انفصالي عن موسيقى البيئة المحلية هي أنني كنت أنفرد بالراديو الذي تملكه الأسرة في حجرة خالية، خلال ساعات معينة من الليل، وأبحث في الظلام عن محطات إذاعية أجنبية تذيع برامج موسيقية كلاسيكية. أما سبب الانفراد والإظلام فهو أن الأسرة لم تكن تقر بالطبع هذا الاستعمال «غير المشروع» لجهاز الراديو، وكان لا بد من «تهريب» الجهاز وخفض صوته بحيث لا يسمعه أحد، وبرغم أن ظروف الاستماع هذه كانت سيئة إلى أبعد حد، وكانت بعيدة كل البعد عن «صدق الأداء
High Fidelity » الذي تتسم به أجهزة الاستماع الراهنة؛ فإن العالم الذي كان يتكشف لي خلال سير مؤشر الراديو جيئة وذهابا على صفحة القرص المضيء بأسماء بلاد الدنيا، كان عالما غريبا ساحرا. وما زلت أذكر تلك النشوة التي كان يبعثها في صوت مجموعات الفيولينة الكبيرة في الأوركسترات السيمفونية، حتى حين كان عزفها يقتصر على اللحن الميلودي البسيط. كان الفارق في نظري هائلا بين تأثير هذا الصوت الصافي العميق، وبين تأثير الكمان الهزيل في مجموعات «التخت الشرقي» التي كانت تقتصر عليها تجربتي الموسيقية حتى ذلك الحين. وكنت أشعر كما لو كنت أقوم برحلة مسحورة بين بلاد العالم، التي أسمع عنها في الصحف وفي دروس الجغرافيا دون أن أرى منها شيئا، حين تنقلني الإذاعة من بلد إلى آخر في تلك «السياحة الموسيقية» الفريدة. وكانت أوضح المحطات الإذاعية في تلك الفترة محطتي صوفيا وبوخارست، وقد بلغ من مواظبتي على متابعة برامجها الموسيقية أنني أصبحت أعرف، بالتكرار وحده، مواعيد هذه البرامج، بل استنجت معاني كلمات باللغتين البلغارية والرومانية، متعلقة بإذاعة الموسيقى، أصبحت تساعدني على فهم طبيعة البرنامج الذي أستمع إليه.
على أن أفضل مصادر الاستماع في الفترة التي سبقت دخولي الجامعة، كانت محطة الإذاعة الخاصة بالجيوش المتحالفة المرابطة في مصر في أواخر الحرب العالمية الثانية، وأظن أنها كانت في معسكر «كبريت»؛ فقد كانت هذه المحطة تقدم برامج من الموسيقى الكلاسيكية، وفي أحيان غير قليلة كان يسبق الإذاعة شرح موجز بالإنجليزية لظروف تأليف القطعة المذاعة وتحليل لبنائها الفني. وقد أفادتني هذه الشروح فائدة كبرى في تعميق فهمي لما أسمع، وفي تكوين أساس ثقافي لتجربتي الموسيقية. وما زالت هذه هي الحسنة الوحيدة التي أذكرها لتلك الفترة التي كانت فيها جيوش الحلفاء ترتع في شوارع القاهرة وتنشر فيها قيم الانحلال التي لا ينبغي أن يتوقع المرء شيئا سواها من جنود جاءوا من شتى آفاق الأرض، ينتظر كل منهم الموت في أي ساعة. •••
ومنذ دخولي الجامعة أخذ نصيب الممارسة، في تجربتي الموسيقية، يقل تدريجا، بينما ازداد نصيب الاستماع الواعي، وكان السبب الرئيسي في ذلك بطبيعة الحال انهماكي في الدراسة والقراءة العلمية خلال فترة الدراسة الجامعية وبعدها. ولم تكن هذه الدراسة تحول بيني وبين سماع الموسيقى، بل كان من المألوف أن أستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية الجادة خلال مطالعتي لكتاب، وأعتقد أنني كنت أستطيع أن أجمع، دون تعارض، بين هذين النشاطين في آن واحد، مع إعطاء كل منهما حقه. ومع ذلك فإن مصادر الاستماع كانت في ذلك الحين محدودة؛ إذ كانت الموسيقى الكلاسيكية محرمة في إذاعاتنا المحلية، وكانت إذاعة الجيوش المتحالفة قد أغلقت أبوابها بانتهاء الحرب، ولم تكن قد افتتحت بعد مكتبات الفنون التي تسمع فيها الآن جميع ألوان الموسيقى العالمية (كانت سني دراستي الجامعية بين عامي 1945م و1949م)، وكان من أهم مصادر ثقافتي الموسيقية عندئذ، جمعية الموسيقى الكلاسيكية بكلية الآداب، التي كان يشرف عليها الدكتور لويس عوض، والتي كنت من أصغر أعضائها المواظبين في ذلك الحين. وأذكر أنني حين كنت أسمع من صديق لي عن شخص لديه مجموعة جيدة من الأسطوانات، كنت أسعى إلى التعرف عليه وزيارته لكي أستمع إلى ما عنده، ولكن لم يكن ذلك بالحل الموفق نظرا إلى طبيعتي التي تنفر من تكرار التردد على بيوت الغير.
ولم يكن تذوقي لأعمال الموسيقيين العالميين متساويا في البداية. وأذكر أنني بدأت - كالغالبية العظمى من الشبان المصريين الذين يتذوقون الموسيقى الكلاسيكية - بالإعجاب الشديد بأعمال ريمسكي كورساكوف، مثل شهرزاد، والديك الذهبي، وبغيره من الموسيقيين الروس المشهورين، مثل بورودين، وتشايكوفسكي (الكابريشيو الإيطالية)، وافتتاحات روسيني (حلاق أشبيلية). وحين انتقلت إلى سماع السيمفونيات، كانت سيمفونيات تشايكوفسكي هي الأقرب إلى فهمي في البداية، وربما كان ذلك راجعا إلى الطابع القريب إلى الشرق، الذي تتسم به كل موسيقى روسية، حتى لو كان مؤلفها ممن اعتادوا أن يولوا وجوههم شطر الغرب، مثل تشايكوفسكي، كما أنه قد يكون راجعا إلى أن الطابع العصبي الانفعالي الحسي الذي تتميز به ألحان تشايكوفسكي وإيقاعاته، ملائم إلى حد بعيد لنفسية المراهقين. أما بيتهوفن فكنت أتذوق بعض سيمفونياته (الخامسة والسابعة) منذ البداية، ومنها انتقلت في مرحلة المراهقة المتأخرة إلى بقية السيمفونيات. وكانت السيمفونية التاسعة، وما زالت، عالما كاملا من المتعة الخالصة في نظري، وكان أول استماع لها تجربة فريدة، تميزت عن كل ما عداها بأن سحرها لم يكن يقل بتكرار السماع، بل كانت تتكشف لي في ذلك العمل العظيم أبعاد جديدة كلما ازددت تعمقا فيه. ومع بيتهوفن، جاء موتسارت، ومندلسون، وشوبان، وبرامز، وكل الفترة الرومانتيكية.
وأستطيع أن أقول إن المسار الطبيعي للقدرة على التذوق يبدأ بموسيقى النصف الأول من القرن التاسع عشر، ثم يمتد تدريجا في الاتجاهين: اتجاه الجزء الأخيرة من القرن التاسع عشر، ثم القرن العشرين، من جهة، واتجاه الموسيقى الكلاسيكية في عهد باخ والسابقين عليه في القرن الثامن عشر، وربما السابع عشر، من جهة أخرى. وأشد متذوقي الموسيقى رهافة هم الذين يجمعون على نحو فريد بين تذوق الأعمال المعاصرة، والإعجاب الشديد بموسيقى عصر الباروك والروكوكو في أوروبا. وأذكر أنني كنت أستمع بانتظام، خلال فترة إقامتي بنيويورك (التي سأتحدث عنها بالتفصيل فيما بعد)، إلى برنامج يقدمه ناقد موسيقي متعمق اسمه «ديكوفين
Bilinmeyen sayfa
DeKoven »، كان يسميه برنامج موسيقى «البارو كوكو» وهو اسم مركب من الباروك والروكوكو، وكان هذا الناقد يؤمن إيمانا عميقا بأن تلك الفترة هي التي شهدت العصر الذهبي للموسيقى، كما كان يقدم نماذج نادرة من موسيقى ذلك العصر، يشرحها بطريقته المتحمسة ويطري مزاياها، ولا ينسى أن يبدي أسفه - في كل مناسبة - على أن موسيقى القرن التاسع عشر قد طغت على القرنين الثامن عشر والسابع عشر الهادئين الرزينين اللذين لم يعرفا عصبية الإنسان الرومانتيكي أو تشنجاته. وكان في تحمسه البالغ للأعمال التي يشرحها، بل في صوته ذاته ما يذكرني إلى حد بعيد بأستاذنا الدكتور حسين فوزي في تعليقاته البديعة على الأعمال الموسيقية بإذاعة البرنامج الثاني. غير أن شيئا ما كان يشوه برامج «ديكوفين»، هو أنه كان في نهاية كل برنامج يستجدي المحسنين من المستمعين استجداء حقيقيا أن يبعثوا بما تجود به أريحيتهم من تبرعات إلى عنوانه بمحطة إذاعة مدينة نيويورك (N. Y. C)
لكي يستطيع استكمال رسالته في تقديم هذه البرامج. ولقد كان الرجل بالفعل يبذل في برامجه مجهودا غير عادي، ويتكلف الكثير من أجل الحصول على التسجيلات النادرة لتلك الفترة التي لا تلقى ما تستحقه من عناية شركات الأسطوانات. ولكن نغمة الاستجداء التي كان يختم بها برامجه كانت تبدو نشازا لا يطاق في ختام برامجه الرائعة، لا سيما وهو في بلاد أصحاب الملايين، التي تستطيع نفقات تشغيل طائرة عسكرية واحدة من طائراتها، خلال رحلة واحدة من رحلاتها التدميرية، أن تكفي «ديكوفين» مئونة الاستجداء، وتقدم إليه ذخيرة من الأعمال الموسيقية تكفيه مدى حياته!
أما من حيث الأنواع الموسيقية فكانت موسيقى الأوركسترا الكبيرة هي الأقرب إلى ذوقي في البداية، وكان لا بد من مضي وقت غير قصير قبل أن أستطيع استيعاب موسيقى الغرفة
Chamber Music ، وموسيقى آلة البيانو بوجه خاص، وكذلك أصوات الغناء البشرية في الأوبرا والأغنيات المنفردة.
أما صعوبة تذوق البيانو في البداية، فترجع أولا إلى أن تعقد أصوات العزف على هذه الآلة يقتضي من المستمع قدرة على التجريد تتيح له تتبع اللحن (إذا كانت القطعة من النوع اللحني
Mélodie ) وسط التعقيد الهائل من الأصوات المتشابكة والمتداخلة، أو تتيح له الاستمتاع بالتآلف النغمي خالصا إذا لم تكن القطعة لحنية. ومن جهة أخرى فإن الطريقة الغربية في العزف على البيانو تثير صعوبات خاصة أمام المستمع الشرقي؛ إذ إن ضربات الأصابع على البيانو متقطعة، تعتمد على نوع الرنين في الوصل أو الفصل بين أجزاء اللحن، وهو عمل يشكل صعوبة كبيرة للأذن الشرقية، التي اعتادت أن تكون أجزاء الألحان موصولة، سواء أكان ذلك في الآلات ذات النغم المتصل، كالكمان، أم ذات النغم المنفصل، كالعود والقانون، اللذين يحاولان ب «الترعيش» أن يحققا الاتصال بين أصوات اللحن. وبتأثير هذه العادة الشرقية في الاستماع نشأ ذلك المسخ المشوه، الذي يسمى بالعزف الشرقي على البيانو، وهي ظاهرة كانت أكثر شيوعا في جيلنا مما هي عليه في الجيل الحالي؛ ففي «أيام الزيارة أو المقابلة»، كان من الشائع أن تقول الأم لابنتها أمام الجمع المحتشد في حجرة الاستقبال: «قومي يا سميحة سمعينا حاجة»، وتقوم سميحة بعد تمنع، وتسير كالبطة السمينة نحو البيانو الموضوع في أبرز مكان من حجرة الاستقبال (!)، ثم تستدير نحو أمها وتسألها في دلال وخجل: «أسمعكوا إيه؟» فترد الأم: «عاوزين نسمع كادني الهوى»، وهي تعلم أن سميحة لا تعرف غيرها، وأنها تعلمتها بعد عذاب في شهور طويلة كان «مدرس الموسيقى» يعلمها خلالها موضع إصبع تلو الآخر بطريقة ميكانيكية، بحيث لم يكن لسميحة في عزفها فضل يزيد عما لعازف «البيانولا» في إدارته الآلية لذراع صندوق الموسيقي، وترتفع من البيانو «طرقعة» الأنغام من تحت أصابع سميحة «السميكة»، وتسمع البيانو وكأن اليد اليسرى فيه طبلة تمسك «الواحدة»، واليد اليمنى تنتقل بخفة (من فرط التكرار) فوق البيانو وقد انفتح الكف فتحة كاملة حتى يستطيع الإبهام أن يعزف نغمة القرار، والبنصر (الإصبع الصغير) أن يعزف نغمة الجواب، ويتأرجح الكف مفتوحا في حركة سريعة بين الإبهام والبنصر، مع الانتقال هبوطا وصعودا فوق أصابع البيانو تبعا لأنغام اللحن، وسميحة تتمايل يمنة ويسرة وكأنها تعزف لحنا سماويا لأول مرة، بينما الأم السعيدة تنظر بزهو وفخر إلى عيون الجالسات، واثقة من أن واحدة منهن على الأقل ستعجب ب «مؤهلات» ابنتها العزيزة، وستمتدح أمام ابنها (الذي يبحث عن عروس ) جمال ومواهب البنت الحلوة التي «تضرب بيانو ... وتتكلم فرنساوي!» وهي أعظم مؤهلات الزواج في فترة الثلاثينيات والأربعينيات عند أفراد الطبقة المتوسطة من ذوي التطلعات السخيفة.
لعلني قد أسهبت قليلا في وصف هذا المشهد الذي كان مألوفا في وقت نشأتي، ولكن عذري في ذلك هو الرغبة في إيضاح الهوة السحيقة بين العزف الشرقي على البيانو (وهو في نظري من أفظع التجارب الموسيقية وأسخفها)، وبين العزف الغربي الكلاسيكي على هذه الآلة ذات التاريخ المجيد، وتلك الهوة هي في رأيي أهم أسباب الصعوبة التي يجدها كثير من متذوقي الموسيقى العالمية، ولا سيما في المراحل الأولى من تجربتهم الموسيقية، في فهم الأعمال المؤلفة للبيانو فهما عميقا كاملا. •••
وأما صعوبة تذوق الأصوات البشرية في الغناء العربي فترجع بدورها إلى عادات معينة للاستماع تكونت لدى الأذن الشرقية نتيجة لطرق الغناء الشائعة بيننا؛ ففي طريقة الغناء الشرقية نجد لكلمات الأغنية أهمية لا تقل عن أهمية اللحن، وقد تفوقها في كثير من الأحيان. وأول ما يحرص عليه الملحن والمغني هو أن يكون كل حرف وكل مقطع واضحا سليما، حتى ينقل المعنى إلى ذهن المستمع، وفي معظم الأحيان يتم ذلك على حساب الصوت البشري ذاته؛ أعني أن المغني يحرص على نقل كلام الأغنية أكثر مما يحرص على إظهار الإمكانات الكامنة في صوته (إن كان لها وجود). ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تبدو طريقة الغناء الغربية «صراخا» في نظر المستمع الشرقي؛ إذ إن جهد المغني في حالة الغناء الغربي ينصب على تحقيق كل ما في الصوت البشري من إمكانات، لا على توصيل الكلمات إلى المستمعين. وكثير من الغربيين لا يفهمون كلمات الغناء الذي يسمعونه، بل لا يستطيعون تمييزه حتى إن كان بلغتهم الأصلية. كذلك فإن الملحن يستخدم الصوت البشري أداة أشبه ما تكون بالآلة الموسيقية من حيث استخلاص كل ما ينطوي عليه هذا الصوت من قدرات لحنية وتعبيرية. أما الكلمات فليس لها في الغناء شأن كبير، ويكفي أن نقول إن موضوعات معظم الأوبرات من السذاجة والسطحية بحيث لا يمكن أن يقنع أحد بالقيمة الدرامية لكلماتها، وحتى في الحالات التي تكون فيها الكلمات ذات قيمة شعرية رفيعة، كبعض أغنيات شوبرت وهوجو فولف، تجد الناس لا يعجبون بالأغنية لكلماتها، بل من أجل ألحانها، وإذا تعين عليهم الاختيار بين أغنيتين إحداهما تتميز بأشعار رفيعة ولحن متوسط القيمة، والأخرى ذات كلمات تافهة ولحن جميل، فإنهم لا يترددون في تفضيل الثانية، بل إن المحاولة التي بذلها ريشارد فاجنر من أجل ابتداع «فن متكامل» يجمع بين جمال الكلمة وجمال النغم، لم تنجح إلا بفضل روعة موسيقاه، بينما لا يعبأ مستمعوه كثيرا بأشعاره أو بموضوعاته الدرامية.
فالفارق إذن كبير بين وظيفة الصوت البشري في الغناء الشرقي وفي الغناء الغربي، والطابع الطليق المتحرر الذي يتسم به الغناء الغربي، والذي يجعله قادرا في تحقيق كل ما ينطوي عليه صوت الإنسان من إمكانات، هو الذي يجعله يبدو «صراخا» في نظر المستمع الشرقي. ومن هنا كان تذوق الغناء في الموسيقى العالمية من المراحل المتأخرة في التجارب الموسيقية لمعظم المستمعين الشرقيين، بل إني أعرف الكثيرين ممن اكتسبوا خبرة غير قليلة في الاستماع الموسيقي، لا يطيقون الاستماع إلى الغناء الغربي. وتلك على أية حال مسألة تذوق وتعود، ولكني أستطيع أن أقول، من واقع أحاسيسي الخاصة، إن التجربة الموسيقية تكتسب قدرا كبيرا من الثراء إذا أضيف إلى عناصرها صوت بوريس كريستوف وهو يغني ألحان «موسورسكي»، وصوت «يوسي بيورلنج» وهو يغني لفيردي، وصوت «إليزابيث شفارتسكويف» وهي تغني لشوبرت أو سيبيليوس. والمهم في الأمر أن يعتاد المرء سماع صوت المغني دون أن يعبأ كثيرا بعدم فهمه لكلمات الأغنية. وأود في هذا الصدد أن أدلي باعتراف قد يبدو في نظر البعض غريبا: وهو أنني لا أحاول مطلقا عندما أستمع إلى تسجيل لإحدى الأوبرات، أو لمجموعة من الأغاني، أن أتتبع الكلمات مع اللحن، بالرغم من أن هذه الكلمات مكتوبة أمامي وفي متناول يدي مع كل أسطوانة. صحيح أنني أعرف موضوع الأوبرا في مجموعه ، ولكني لا أحاول أبدا أن أتابع تفاصيل هذا الموضوع خلال استماعي للأوبرا؛ اعتقادا مني بأن عملية التتبع هذه تشوه التجربة الموسيقية، ورغبة في الاستمتاع بهذه التجربة خالصة من كل عنصر ذهني غريب عنها. وقد أكون مخطئا في موقفي هذا، ولكن هذا هو المسلك الذي أتبعه حيال الغناء الغربي، ولا أظن أن استمتاعي بهذا الغناء قد نقص لطريقتي هذه في تذوقه.
وإذا كنت قد تحدثت بالتفصيل عن هذه المراحل المختلفة في تذوق الموسيقى العالمية، فإن من بين الأهداف التي أرمي إليها من هذا الحديث المفصل، ضرورة مراعاة هذه المراحل في أي برنامج للتذوق الموسيقي يوضع في بلادنا ذات التقاليد الشرقية؛ فلا معنى على الإطلاق للبدء في هذا البرنامج بسماع «موسيقى الغرفة» أو سوناتات البيانو، أو أغاني الأوبرا، بل إن البدء بالسيمفونيات والكونشرتات المشهورة قد يكون هو ذاته بداية غير صحيحة. والأفضل أن نراعي ذوق المستمع الشرقي، فنقدم إليه في البداية قطعا روسية بسيطة، لكورساكوف وخاتشاتوريان وتشايكوفسكي. وهذا ما يحدث بالفعل عند الكثيرين، غير أنهم يتوقفون للأسف عن هذا الحد، ويرفضون كل ما يتجاوز هذه المرحلة، ولكن من واجب كل من يقوم بتعليم التذوق الموسيقي أن يستغل في مستمعيه حب هذه الألحان ذات الطابع الشرقي، لينبههم بالتدريج إلى عناصرها الأخرى، ولا سيما العناصر البوليفونية فيها، ويتدرج بهم صعودا نحو أنواع أكثر تعقيدا وتجريدا. ومن الحائز أن المستمع الياباني أو الصيني، أو المستمع الأفريقي الأسود، يحتاج إلى طريقة أخرى في التعليم، يتدرج فيها على نحو مخالف تبعا لعاداته الخاصة في الاستماع. ولكم يكون من المفيد أن يجري بحث تجريبي يقارن بين تدرج قدرة المستمعين المنتمين إلى حضارات مختلفة على التذوق، ومدى الصعوبة التي تلقاها كل فئة في استيعاب الأنواع الموسيقية المختلفة. ولكن مثل هذا البحث، على قدر علمي، ما زال ينتظر من يقوم به.
Bilinmeyen sayfa
ومن أهم الأمور في نظري، في أي برنامج سليم للتذوق، أن يسعى المرء بالتدريج إلى الإقلال من ربط الموسيقى بقصص أو موضوعات واقعية، حتى يتدرب المستمع على ممارسة التجربة الموسيقية خالصة؛ فقد يكون من المفيد في البداية رواية حكايات عن المناسبات التي ألفت فيها القطعة الموسيقية، وربط كل جزء من أجزائها بانفعال أحس به المؤلف، أو بتجربة عاطفية مر بها، أو بحادث معين أثر في نفسه - كل ذلك قد يكون مفيدا في البداية من أجل اجتذاب انتباه المستمع غير المدرب، ولكن الاستمرار في هذا الاتجاه يكون لدى المستمع عادات سيئة، وربما جعل الارتباطات الأدبية أو الانفعالية أو التاريخية تغلب لديه على الاستمتاع بالأنغام ذاتها، فتكون النتيجة أن يخلق للألحان بخياله ارتباطات مصطنعة، ويعجز عن تذوق الأعمال التي لا تقبل بطبيعتها تفسيرا موضوعيا من هذا النوع.
ولأعد بعد هذا الاستطراد «التعليمي» الطويل لأتابع تطور تجربتي مع الموسيقى، فأشير إلى أن الفرصة قد أتيحت لي، ولأول مرة، لمشاهدة عروض كاملة للأوبرا في صيف عام 1949م، حين سافرت في رحلة إلى باريس بعد تخرجي في الجامعة مباشرة، ضمن وفد من مدرسي اللغة الفرنسية المصريين الذين أوفدتهم الحكومة الفرنسية في دراسة صيفية على نفقتها الخاصة، وتمكن البروفسور «جان جرنييه» من أن «يحشرني» وسطهم مع أني لم أكن في ذلك الحين إلا «طالب وظيفة» انقضى على تخرجه شهر واحد! ومن بين الليالي الثلاثين التي قضيتها في تلك الرحلة الممتعة في باريس، أمضيت ست ليال على الأقل في دار الأوبرا؛ حيث أتيحت لي فرصة مشاهدة بعض درامات فاجنر وأوبرات فردي و«لولي». وكانت التجربة بالنسبة إلي رائعة غاية الروعة، لا سيما وأن الأداء كان ممتازا، فضلا عن أن الإخراج المسرحي كان عظيما بحق. ولست أستطيع أن أعبر عما كنت أشعر به من سعادة ونشوة وأنا أهبط سلالم دار الأوبرا المشهورة في باريس بعد عرض أستمتع فيه لأول مرة بروائع الأوبرات العالمية، بعد أن كانت أسعار تذاكر دار الأوبرا الباهظة في مصر تحول على نحو قاطع بيني وبين مشاهدة أي عرض موسيقي عالمي خلال فترة دراستي.
وخلال السنوات السبع التي أعقبت ذلك، وهي فترة كان يشغلني فيها العمل العلمي من أجل التحضير لدرجتي الماجستير والدكتوراه، كانت تجربتي في الموسيقى تكاد تكون مقتصرة على الاستماع إلى الإذاعات، وقراءة بعض الكتب الإنجليزية والفرنسية من آن لآخر. على أن كثيرا من الأفكار كانت تختمر في ذهني عن الموسيقى العالمية وعن نواحي الضعف في موسيقانا المحلية. وقد قمت بصياغة هذه الأفكار في أول عمل تأليفي أنجزته في ميدان الموسيقى، وهو كتاب صغير بعنوان «التعبير الموسيقي» (مكتبة مصر، 1956م)، ولم تكن صفحات هذا الكتاب تتجاوز المائة إلا قليلا، ومع ذلك فقد أحسست بالارتياح حين وجدته قد لقي ترحيبا من القراء والمعلقين، بالرغم من أن الآراء التي عرضتها فيه، ولا سيما ما يتعلق منها بالموسيقى الشرقية، كانت مكتوبة بلهجة نقدية شديدة. ومع ذلك فقد استلفت نظري أن معظم من كتبوا عنه لم يتعرضوا للجوانب النقدية التي حاولت فيها أن أشرح عيوب الموسيقى الشرقية على أسس موضوعية علمية، مع أن هذه الجوانب دون غيرها هي التي كنت أود أن أعرضها لاختبار الباحثين. •••
وكان أهم الأحداث التي أدت إلى تعميق تجربتي الموسيقية هي سفري إلى الولايات المتحدة، وإقامتي بمدينة نيويورك؛ حيث كنت أعمل بمقر الأمم المتحدة خلال خمسة أعوام كاملة من 1957م إلى 1962م؛ فمدينة نيويورك هذه بلا شك عاصمة العروض الفنية، والموسيقية على الأخص، في العالم، لا لأن أهلها أشد حساسية من غيرهم في مجال الفن الموسيقي، بل لأنهم أقدر على جلب أعظم العازفين وقواد الأوركسترا في جميع أنحاء العالم؛ ولأن الفنان المشهور الذي يقدم فيها عرضا، يستطيع أن يضمن جمهورا غنيا يتهافت على حجز مقاعد حفلاته كلها مقدما، مهما يبلغ ارتفاع الأسعار.
ولن أتحدث عن فرق الباليه العالمية التي لم يكن ينقطع مجيئها في كل موسم، أو عن مجموعات الرقص الشعبي التي كانت تفد من كل أنحاء العالم، بل سأقتصر في حديثي على الفن الموسيقي والغنائي وحده، وهو الفن الذي نلت منه خلال إقامتي الطويلة هذه أعظم قسط من المتعة ومن الثقافة والمعرفة. ولقد تمكنت بمجرد حضوري من الحصول على اشتراك موسمي في أشهر قاعات الموسيقى الأمريكية في ذلك الحين، وهي «كارنيجي هول»، وهو ما ينبغي أن يعد «ضربة حظ» رائعة؛ إذ إن قائمة انتظار الحصول على اشتراك للموسم الموسيقي الكامل تضم ألوفا ينتظرون سنوات طويلة قبل أن يحصلوا على ما يريدون. ولعل اسم الهيئة الدولية التي كنت أعمل بها كان له دوره في «ضربة الحظ» هذه. وعلى أية حال فإن حضوري بانتظام لحفلات السبت المسائية في هذه القاعة الموسيقية الكبرى، لمدة خمس سنوات كاملة، أتاح لي فرصة نادرة للتعرف على أرفع أنواع الموسيقى، وأعظم الموسيقيين وقواد الأوركسترا في مختلف بلاد العالم، معرفة مباشرة ... وما زلت، بعد هذا الوقت الطويل، أشعر بحنين جارف إلى تلك الأيام التي يغادر فيها المرء قاعة الموسيقى في «الشارع السابع»، وقد امتلأت روحه بنشوة لا توصف، ليستقبله البرد والثلج في شتاء نيويورك القارس، فيزيد البرد من متعة الروح، ويضفي على التجربة الموسيقية إطارا أثيريا رائعا.
ولقد كانت الفترة التي ترددت فيها على قاعة «كارنيجي» آخر أيام مجد هذه القاعة المشهورة؛ ففي نفس العام الذي غادرت فيه الولايات المتحدة (1962م) كان قد تم بناء قاعة أخرى أحدث وأفخم وأكبر من «مركز لينكولن» (لينكولن سنتر) للفنون، وهو مشروع ضخم كان قد بدأ منذ سنوات، وتكلف عشرات الملايين من الدولارات، لبناء قاعة موسيقية ودار للأوبرا، ومسرح للباليه وكونسرفتوار؛ أعني مدينة فنون كاملة، على أحدث طراز. ونظرا إلى كوني مشتركا قديما في قاعة كارنيجي فقد حجزت لي إدارة المركز الجديد مقعدا لاشتراك موسمي في القاعة الجديدة بدورها، ولكن حلول موعد عودتي إلى الوطن حال بيني وبين حضور الافتتاح العظيم. وكان من أشق اللحظات على نفسي تلك التي كتبت فيها خطاب اعتذار عن قبول المقعد المحجوز، الذي كان المئات دون شك ينتظرونه في لهفة.
ولعل أروع الظواهر التي شهدتها في قاعة كارنيجي، ما كان يتجلى فيها بوضوح من قدرة الفن على تجاوز الحواجز الأيديولوجية والتقريب بين البشر على أساس إنساني يعلو على كل الخلافات السياسية والمنازعات الدولية؛ فمن آن لآخر كانت القاعة تستضيف فنانا مشهورا من الفنانين السوفيت، وكان الاستقبال الذي يلقاه الفنان في البداية، ثم التصفيق والتكريم الذي يودع به في النهاية، ظاهرة مؤثرة بحق، ولا سيما في بلد يتشبع أهله بدعاية الحرب الباردة التي تسري في عقولهم مسرى الدم في جسم الإنسان، وتطفح صحفه وأجهزة إعلامه بمظاهر الكراهية العدوانية للخصم السياسي، ولا يعرف عن هذا الخصم سوى أنه عدو لدود يريد أن «يدفنه». برغم كل هذه المظاهر، وبرغم أن نسبة عالية من رواد قاعة الموسيقى الكبرى هم من أصحاب الموارد المرتفعة، والمصالح «الرأسمالية» الواضحة، فقد كان هذا كله يذوب أمام روعة الفن، وينسى الجميع الوطن الذي ينتمون إليه، أو النظام الاجتماعي الذي يمثله الفنان، ولا يتذكرون سوى أنهم أمام إنسان عظيم، يقدم إليهم أروع وأسمى متعة للروح.
هناك شاهدت «ليونيد كوجان» عازف الفيولينة السوفيتي العظيم، بشعره الأسود الغزير ووجهه الأسمر وملامحه التي تكاد تكون شرقية صميمة، وهو يقف بثبات رائع أمام جمهور غريب ليقدم إليه عزفا فريدا في نوعه لأشهر الكونشرتات العالمية. وهناك شاهدت عميد عازفي الفيولينة السوفيت، «دافيد أويستراخ» الذي ربما عده البعض أعظم عازفي الفينولينة في العالم. منظره لا يوحي على الإطلاق بأن هناك فنانا نادر المثال من وراء هذه القامة القصيرة البدينة، وهذه الملامح السمحة وكأن صاحبها «خباز» طيب القلب. وحين يمسك بالفيولينة تكاد تتعجب كيف ستتمكن هذه الأصابع السمينة القصيرة من أن تعبر عن التفاصيل النغمية الدقيقة على الأوتار، أو تلاحق سرعة العزف اللاهثة، لا سيما وأن عهدنا بعازف الفيولينة - وبالفنان عامة - أن يكون ذا أيد نحيلة وأصابع رشيقة طويلة. ولكن ما إن يبدأ العزف، حتى ينسى المرء كل شيء، بل ينسى أن في الأمر أية صعوبة؛ إذ إن أصعب الأنغام تصدر عنه وكأنه لا يبذل أي مجهود، ودون أن يظهر في عزفه أي أثر للتوتر، ولا يشعر المستمع إلا بالآلة الصغيرة وهي تغني، وكأن أصواتها تحيط به من كل جانب، وتملأ كل فراغ القاعة الفسيحة.
وحين استمعت إلى عازف البيانو السوفيتي المشهور «إميل جيليلز
Emil Gilels » بدا لي أن الرجل قد وصل إلى أقصى ما يستطيع عازف هذه الآلة المجيدة أن يبلغه من حساسية ودقة وإتقان. ولكن لم تمض أيام قليلة حتى أرسل السوفيت «صاروخهم» الفني الجبار: «سفياتوسلاف ريشتر» أعظم عازفي البيانو في عصرنا هذا بلا منازع. وكانت الحفلتان اللتان استمعت فيهما إلى هذا العازف الكبير من أروع التجارب الموسيقية التي مرت بي في حياتي، كان يدخل قاعة الموسيقى في خجل شديد، وتكاد تشفق عليه ظنا منك أنه سيرتبك أمام الجمهور الحاشد، وحين يطأطئ رأسه الذي أوشك على الصلع، بشعيراته الحمراء القليلة الباقية، أمام تصفيق الجمهور، تكاد تشعر بأنه يقاوم رغبته في الانسحاب من القاعة، ولكنه بمجرد أن يجلس أمام البيانو، وحتى قبل أن يبدأ في العزف، تحس من جلسته ومن نظرته إلى البيانو أنه تحول إلى شخص آخر، وأن هذا الإنسان الساذج الخجول قد غدا عملاقا جبارا. أما حين يبدأ العزف، فإن من الصعب عليك فعلا، حتى لو كنت مستمعا ذا خبرة طويلة، أن تصدق أن يدين اثنتين، وعشرة أصابع آدمية فقط، هي التي تعزف. إن الأنغام التي تصدر عن البيانو تغني عن فرقة كاملة، ليس فقط لسرعتها وتعقيدها وإتقانها المذهل، بل لتنوع الألوان الغريب، الذي لا يكاد المرء أن يتوقعه من هذه الآلة بالذات. وبثقة كاملة تمتد يدا ريشتر الجبارتان فوق البيانو طولا وعرضا، وتسري الكهرباء الخفية منه إلى كل مستمع في القاعة، وحين ينتهي العزف، تشهد أعجب «المظاهرات» وأجملها: التصفيق، ثم صياح الإعجاب من الجمهور الذي ينسى نفسه، وينسى وقاره، ثم الوقوف إجلالا لإنسان عظيم، ويستمر التصفيق إلى الحد الذي تشعر فيه - حين تعود إلى بيتك فيما بعد - بأن يديك تؤلمانك حقا، ثم تنهال على المسرح باقات الورد خلال موجة التكريم العارمة، الطويلة المدى، والفنان الخجول يعود مرة أخرى إلى شخصيته البسيطة المنطوية على ذاتها ... ولا يملك المرء، إزاء هذا المشهد الإنساني الرائع، إلا أن يتساءل: أما كان من الممكن أن يصبح العالم الذي نعيش فيه عالما أفضل لو كانت اجتماعات الأقطاب تبدأ بعزف كهذا، أو كانت جلسات الأمم المتحدة تسبقها مظاهرات فنية كهذه ؟
Bilinmeyen sayfa
وعلى ذكر الأمم المتحدة، فقد كانت للمنظمة الدولية الكبرى بدورها حفلاتها الموسيقية التي تنظمها في مناسباتها المختلفة، ولا سيما في عيدها السنوي، وكان كبار الفنانين العالميين المستوطنين في أمريكا يتطوعون للاشتراك في هذه الحفلات دون مقابل؛ مشاركة منهم في أداء هذه الرسالة الإنسانية للمنظمة العالمية. وأذكر من الفنانين الذين شهدتهم في هذه الحفلات، عازف الفيولينة العظيم «ياشا هايفتز»، الذي يحيط به الجلال منذ لحظة دخوله القاعة حتى انصرافه عنها وسط تهليل المستمعين، وكان بمشيته عرج خفيف، لا أدري إن كان دائما أم مؤقتا، ولكن أحد الحاضرين أكد لي أن أصل هذا العرج يرجع إلى أيام زيارة هذا الفنان (وهو يهودي) لإسرائيل؛ إذ انتقد الأوضاع فيها وسخر من حياة أهلها، فضربوه «علقة» أحدثت به هذه العاهة - وهي رواية أشك جدا في صحتها! وعلى أية حال فإن كل ضربة قوس من هذا الفنان الذي أذهل العالم بعزفه منذ أن كان في السابعة عشرة من عمره، كانت تنم عن خبرة وحساسية نادرة، وكان رنين الفيولينة «الستراديفاريوس» التي يعزف عليها رائعا بحق. ولولا مسحة من الروح التجارية تجلت في بعض تسجيلاته المتعجلة خلال السنوات العشر الأخيرة، لظل على الدوام يحتل مع دافيد أويستراخ - أعلى قمم العزف على الفيولينة في العصر الذي نعيش فيه.
ويذكرني «ياشا هايفتز» بعازف آخر من أساطين الفيولينة شاهدته مرة واحدة، هو «يهودي مينوهين»، واسمه يغني، بالطبع، عن معرفة أصله، ولكنه بدوره من اليهود خصوم إسرائيل، وأبوه من الكتاب المشهورين الذين انتقدوا سياسة هذا البلد وأسلوب حياته. وقد كان هذا العازف ملء الأسماع والأبصار في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من هذا القرن، وكان «طفلا معجزا» بكل ما تحمله الكلمة من معان، ولكنه انصرف في الأغلب إلى قيادة الأوركسترا في الآونة الأخيرة برغم أنه لم يزل في أوج نضوجه، ولست أدري لذلك سببا سوى أن عازفين آخرين أشد منه تحمسا لبلد «الشعب المختار» قد رفعوا إلى القمة، مثل إيزاك (إسحاق) ستيرن وناثان ميلستين (والسين في الاسمين الأخيرين تنطق في أصلها الألماني شينا، ولكن التأمرك جردها مما يغطيها من النقط). •••
والحق أن حديث اليهودية والموسيقى في نيويورك وفي أمريكا حديث طويل؛ ففي هذه المدينة، التي يعيش فيها من اليهود عدد أكبر من ذلك الذي يعيش في دولة إسرائيل كلها، والتي تزيد نسبة اليهود فيها عن ثلث مجموع السكان البالغ ثمانية ملايين ونصف المليون، في هذه المدينة يسطر اليهود بالطبع على كل منافذ الشهرة، ويتحكمون في سوق الفن تحكما يكاد يكون تاما، ومن يسيطر على قاعات نيويورك الموسيقية ومسارحها فقد سيطر على الفن في أمريكا كلها. وأوركسترا النيويورك فيلهارمونيك، الذي هو أشهر فرقة موسيقية في الولايات المتحدة، يكاد يكون كله مؤلفا من اليهود، وهذا ليس في ذاته بالأمر المستغرب؛ إذ إن من المعروف أن اليهود عازفون بارعون. أما عدد المؤلفين الموسيقيين منهم فليس كبيرا، وفيما عدا مندلسون، وربما «مالر»، فإن معظمهم - من أمثال مايربير وأوفنباخ وسان صانس - هم من موسيقيي الدرجة الثانية، أو «من أعظم غير العظماء»، كما يقول التعبير المعروف (وربما كان إيثارهم للعزف راجعا إلى أنه يجلب مزيدا من الربح؛ إذ إن العازف البارع يربح أضعاف ما يربحه المؤلف المشهور).
2
ولكن القائد الدائم لهذا الأوركسترا العظيم - وهو منصب يتهافت عليه معظم قواد الأوركسترا في العالم - كان يهوديا صهيونيا متعصبا اسمه ليونارد (أو لينارد كما ينطقونه هناك) برنستين (وهي بدورها نفس السين التي يرفع عنها الأمريكان برقع الحياء، فضلا عن إزالة الفتحة الأصلية من التاء بحيث يصبح المقطع الأخير على وزن «طين»). هذا «البرنستين» لم يكن له تاريخ معروف في قيادة الأوركسترا، وكل ما في الأمر أن قائدا تغيب ذات مرة، فاضطروا في آخر لحظة إلى الاستعاضة عنه بهذا الشاب «المغمور»، «وعندما أصبح عليه الصباح وجد نفسه مشهورا»، وحشر برنستين حشرا مع القائد الأصلي للأوركسترا، وهو اليوناني البارع ديمتري متروبولوس، ليكون له «شريكا مخالفا». ولم تدم الحال طويلا؛ إذ إن القائد اليوناني مات بعد عام واحد من حضوري إلى نيويورك (1958م)، وخلا الجو لبرنستين ليصبح قائدا للأوركسترا العظيم، ويحتل أكبر منصب مرموق بين المشتغلين بالموسيقى في أمريكا.
ولعل القارئ يظن أن للاعتبارات السياسية أو القومية دخلا في حكمي على جدارة قائد الأوركسترا هذا بمنصبه ، ولكن حقيقة الأمر أن الكثيرين من المحايدين سياسيا، بل من الأمريكيين الخلص، لم يكونوا مقتنعين بكفاءة برنستين. وكان من أبرز العوامل التي تقلل من قدره أمام الجمهور، حركاته المضحكة أثناء قيادته للأوركسترا؛ فمن حق كل قائد للأوركسترا أن ينفعل بالموسيقى التي يؤديها، ولكن هذا الانفعال لا ينبغي أن يصل أبدا إلى حد الابتذال، ولقد كان برنستين يتراقص بوسطه حينا، وبكتفيه حينا آخر، بطريقة تحسده عليها «عوالم» شارع محمد علي. وأنا لا أقول ذلك مبالغة أو تشنيعا، وإنما أصف ما شاهدته بالفعل، ولم يكن في أدائه الموسيقي، على أية حال، أي عنصر غير عادي، يبرر شغله للمنصب الذي كان يحتله قبل سنوات غير طويلة «أرتورو توسكانيني» العظيم. ولكنه، في مقابل ذلك، كان «يحج» إلى إسرائيل بانتظام، وفي أول زيارة له إلى «أرض الميعاد» سجد على الأرض، بمجرد هبوطه من سلم الطائرة، وقبل التراب، والتقطت له عندئذ مئات الصور والأفلام، وسرعان ما كانت جميع أجهزة الإعلام الأمريكية تذيع على الملايين ذلك المشهد العجيب.
وقد يسأل سائل: وهل تبلغ سلطة التعصب اليهودي ذلك الحد الذي يجعل غير الأكفاء يرتفعون على حساب الأكفاء في ميدان الفن بدوره؟ وردي على ذلك أن المسألة لا تتعلق قطعا بوضع أشخاص خلوا من الكفاءة في مناصب لا يستحقونها، فكل هؤلاء موسيقيون موهوبون دون شك، ولكن سوق المواهب في بلد كبير كهذا حافلة بطلاب الشهرة والمجد، والتنافس في ميادين الفنون رهيب، فإذا وجدنا أن الفائزين هم في معظم الأحيان من ينتمون إلى الديانة اليهودية، فلا بد أن يكون ذلك شيئا لافتا للنظر. ويزول العجب إذا علمنا أن الفن، في بلد كالولايات المتحدة، يخضع لقواعد السوق الحرة، وأن هناك عددا من المتعهدين الكبار، كلهم من اليهود، وعلى رأسهم قيصر الحفلات الموسيقية الجبار، سول هوروك
Sol Hurok ، هم الذين يملكون القدرة على أن يرفعوا الفنان إلى عنان السماء أو ينزلوا به إلى سابع أرض؛ إذ إنهم هم الذين يملكون قدرة الإنفاق على إيجار القاعات الموسيقية، ودفع أجور الأوركسترا المصاحبة في فترة العزف وما يسبقها من تدريبات، ونفقات حملات الإعلان الباهظة. ومن جهة أخرى فإن المتنافسين على مراكز الشهرة عديدون، وفي كل عام يظهر مئات من الشبان كلهم يصلحون لأن يكونوا في الصف الأول من العازفين، وكثيرا ما يحدث أن يتفوق شاب في مسابقة من المسابقات الشاقة، ويظن الجميع أن أبواب الشهرة قد فتحت أمامه على مصراعيها، ولكن لا يمضي وقت طويل حتى يطويه النسيان.
وتحضرني في هذا الصدد قصة عازف البيانو «فان كلايبرن
Van Cliburn » الذي كان أمريكيا «صعيديا» من تكساس، وكان قد أحرز المركز الأول في عدة مسابقات محلية شديدة الصعوبة في أمريكا، ومع ذلك فإنه عندما سمع عن مسابقة «تشايكوفسكي» العالمية التي تجرى في موسكو، لم يستطع أن يجد أجر السفر ونفقاته، واضطر إلى الاقتراض والاستجداء من بعض المؤسسات الخيرية، وعندما سافر إلى موسكو ودخل المسابقة، كان نجاحه ساحقا، وأصبح معبود الشعب السوفيتي بين يوم وليلة، وانهالت التعليقات التي تشيد به وتبدي الإعجاب بمقدرته الفنية، وسرعان ما وصلت موجة الإعجاب إلى الصحف الأمريكية، حتى أصبح موضوع الساعة في طول البلاد وعرضها، واستقبل عند عودته استقبال الأبطال في موكب لا أول له ولا آخر، بل لقد أصبح نجاحه - خلال فترة ما - عاملا من عوامل تخفيف حدة الحرب الباردة بين البلدين. هذا الشاب ذاته كانت مواهبه معروفة قبل سفره، ولكن أحدا لم يعبأ به، ولم يساعده على تحقيق أمله، بل كان من الممكن أن تندثر مواهبه تماما، لولا أن ساعده «البلد الخصم» على إظهارها، وبمجرد عودته، استغل المنظمون الذين لم يلتفتوا إليه من قبل، نجاحه الساحق في تنظيم حفلات بلغت أسعارها أرقاما قياسية، وانهالت الدعوات عليه من كل المدن الكبرى، وغمرت أسطواناته السوق، كل ذلك في فترة وجيزة. ولكن موجة الحماسة سرعان ما انحسرت، وأخذ اسمه يختفي بالتدريج، وعادت الأسماء التقليدية إلى الظهور. ولست أدري ماذا آل إليه أمر هذا الشاب الموهوب اليوم، ولكنه على أية حال ليس من الأسماء اللامعة في حياة أمريكا الموسيقية، ولا أظن أن السبب في أفول نجمه يرتد إليه هو ذاته، بل الأرجح عندي أن المنظمين الذين اضطروا وقتا ما إلى الاعتراف به واستغلاله، قد «استهلكوه» بالدعاية المفرطة المركزة الخاطفة، ثم تخلوا عنه ليعودوا مرة أخرى إلى أبناء طائفتهم المفضلين! ومجمل القول أن المجال مفتوح دائما للاختيار بين فنانين كلهم أكفاء، وأن الاختيار يمكن في كثير من الأحيان أن يتم على أسس لا شأن لها بالفن ذاته. •••
Bilinmeyen sayfa
على أن هذه الشوائب، التي ربما كانت أمرا لا مفر منه في مدينة لها تكوين مدينة نيويورك، لا تقلل بحال من المتعة التي يستطيع كل متذوق للفن أن يكتسبها عندما يقيم في بلد يجتذب، كالمغناطيس، كل فنان ناجح مرموق من جميع أرجاء العالم، فضلا عن أولئك الذين استوطنوا المدينة، وهجروا بلادهم الأصلية منذ عشرات السنين.
وإني لأذكر، من بين أعظم من شاهدت من الفنانين الضيوف، قائد الأوركسترا المشهور «هربرت فون كارايان»، إمبراطور الموسيقى الأوركسترالية في القارة الأوروبية بلا منازع. وما أعظم الفارق بين هذا النمساوي العريق وبين صاحبنا «برنستين» القائد الدائم لأوركسترا «نيويورك فيلهارمونيك». لقد استطاع «فون كارايان» أن يضفي على القاعة بأسرها، بعازفيها ومتسمعيها معا، جوا من المهابة والجلال لم أشهد مثله في أي حفل موسيقي حضرته. لم يكن يسرف في إشاراته إلى الأوركسترا، ولكن كل حركة من حركاته القليلة كانت لها دلالتها البالغة، حتى لأكاد أقول إن المرء يستطيع التعرف على اللحن من حركات أصابعه وذراعيه، حتى لو لم يكن يسمع منه شيئا، وكان في شخصيته عنصر واضح من الوقار والقدرة على السيطرة وكسب الاحترام، وقد استقبله الجمهور وودعه بعاصفة من التصفيق لا تشهدها القاعات الموسيقية إلا في أحداثها الكبرى.
ومن العازفين المستوطنين الذين يصعب أن ينساهم المرء، عازف الفينولينة الكبير «جوزيف زيجيتي» الذي كان شيخا مسنا عند مشاهدتي له في عام 1959م، ولكنه كان لا يزال ذلك الفنان الشديد الحساسية، القوي الشخصية، الذي يعرفه الجميع من تسجيلاته المشهورة. والحق أن لدى زيجيتي قدرة فريدة على أن يضفي طابعه المستقل الخاص على كل قطعة يعزفها. وأسلوبه في العزف من تلك الأساليب التي تستطيع الأذن الخبيرة أن تميزها دون عناء؛ إذ إنه، برغم قدم عهده بالموسيقى العالمية، ما زال يحتفظ بآثار من طريقة عزف موسيقى الغجر (التسيجان) التي تشتهر بها بلاده الأصلية، المجر. وبرغم أن طريقته في العزف تبدو في نظر البعض خشنة متحشرجة إلى حد ما، فإني لا أستطيع أن أنكر إعجابي الشديد بأصالة هذا الفنان وقدرته الفريدة على أن يضفي في كل مرة شيئا جديدا حتى على أوسع المؤلفات الموسيقية ذيوعا وأكثرها تكرارا في قوائم البرامج.
ويطول بي الحديث لو وصفت الانطباعات التي تركها في نفسي عزف «كلاوديو أراو» (أشهر عازفي أمريكا اللاتينية)، أو رودلف فركوجني (التشكوسلوفاكي)، أو فيليب أنترمون (البلجيكي الرشيق الشاب) على البيانو، أو قيادة آندريه كلوتانز
André Cluytens
أو شارل مونش أو بيير مونتو للأوركسترا ... إنهم جميعا عباقرة، وكلهم من ذلك النوع النادر من البشر، الذي يملك مواهب فذة تضفي سعادة على كل من يستمع إليه - وهل هناك ما هو أندر في هذه الأيام من إنسان تشع السعادة من حوله لكي تضيء حياة كل من يحيط به؟ •••
ولست أود أن أطيل الحديث عن المصادر الأخرى لتجربتي الموسيقية خلال إقامتي في الولايات المتحدة؛ إذ إن الحديث عن الأوبرا ليس في كل الأحوال حديثا شائقا في نظر القارئ الشرقي، حتى لو كان من عشاق الموسيقى العالمية، وحسبي أن أقول إنني استمتعت في دار «المتروبوليتان» للأوبرا بسماع عدد من الفنانين العالميين، منهم ريناتا تيبالدي، السوبرانو ذات الجسم الممتلئ والملامح التي تشع بروح الأمومة، وماريا كالاس اليونانية العصبية المزاج، ذات الصوت الأنثوي الدافئ، وجورج لندن صاحب الصوت «الباص» الفخم، الذي كان ينتظره عندئذ مستقبل زاهر. أما أصوات التينور فكانت هناك أزمة عامة فيها خلال تلك الفترة، وأظن أن هذه الأزمة ما زالت قائمة إلى اليوم؛ إذ لم يظهر بعد «بنيامينو جيلي» (الإيطالي) في الأربعينيات، ثم «يوسي بيورلنج» (النرويجي) في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، صوت من أصوات «التينور» يسد الفراغ الذي تركه كبار الفنانين في العصر الذهبي لهذا الصوت خلال النصف الأول من هذا القرن.
ومن الذكريات الطريفة التي أذكرها من دار أوبرا «المتروبوليتان»، أن مغنية روسية مشهورة - لا أذكر اسمها - حضرت لأداء بعض حفلات الأوبرا، ولم تكن تجيد اللغات الأخرى اللازمة في غناء الأوبرات، ولا سيما الإيطالية، وكانت الأوبرا التي شاهدتها تؤديها هي «مدام بترفلاي»، وقد أدتها بطريقة غريبة حقا؛ إذ كان جميع المغنين الآخرين يغنون بالإيطالية، بينما ترد هي عليهم بالروسية، ولم يكن في هذا الاختلاف اللغوي أي إقلال من متعة النغم، وكان واضحا أن الجمهور معجب كل الإعجاب بصوتها القوي ومقدرتها على التحكم في طبقات هذا الصوت. ومع ذلك ففي إحدى اللحظات الدرامية في الأوبرا كان التينور يغني، وعندما جاء دورها في الرد قالت: «نييت» (ومعناها بالروسية: لا)، فدوت أرجاء القاعة بالضحك. أما سبب الضحك (وهو ظاهرة نادرة بين جمهور الأوبرا، ولا سيما في المواقف الدرامية)، فهو أن كلمة «نييت» هذه هي نفسها التي يستخدمها المندوب السوفييتي في مجلس الأمن كلما استخدم حق الفيتو - وما أكثر ما يستخدمه - وهي كلمة أصبحت مشهورة ومكروهة لدى الأمريكيين؛ لأنها طالما أطاحت بخطط تريد حكومتهم أن تفرضها على المنظمة العالمية! •••
وما دمت في معرض الحديث عن الجمهور الأمريكي، فمن الواجب أن أذكر أن عشاق الموسيقى العالمية فيه أقلية، بل هم أقلية ضئيلة إذا قيسوا بنسبتهم في بعض البلاد الأوروبية. والحق أن أنضج شعوب العالم لا تنطوي إلا على نسبة محدودة من محبي هذا النوع من الموسيقى. ومن الخطأ أن يظن البعض أن هناك شعوبا يتذوق كل أفرادها الموسيقى الكلاسيكية، وكل ما في الأمر أن النسب تتفاوت تبعا لمدى ارتفاع مستوى الثقافة العامة لدى الشعب. ومن المؤكد أن هناك، حتى من بين أولئك الذين يحسبون ضمن عشاق الموسيقى العالمية بين الأمريكيين، عددا غير قليل يواظب على حضور حفلاتها حبا في الظهور وادعاء للثقافة والتعمق فحسب. وأذكر أن جاري في حفلات «كارنيجي هول» كان ينام بعد بدء العزف بقليل في معظم الحفلات، وأنه في المرات التي كان يصيبه فيها «الأرق» كان يخرج من جيبه ورقا وقلما ويقوم خلال العزف بعمليات حسابية لا أول لها ولا آخر - ومن الواضح أن أحواله المالية كانت أهم لديه بكثير من سماع الموسيقى النادرة التي تتجاوب في أرجاء القاعة. وهناك جار آخر علمت منه أنه مشترك منذ أكثر من خمسة عشر عاما، استمع مرة إلى برنامج للموسيقى المعاصرة يتضمن قطعة لمؤلف أمريكي اسمه «وليام شومان» فسألني متعجبا بعد انتهائها: كيف يعزفون قطعة من موسيقى القرن التاسع عشر لشومان في حفل مخصص للموسيقى المعاصرة؟ وكان السؤال غاية في الغباء؛ إذ إن الفرق بين أسلوب روبرت شومان، الفنان الألماني المشهور في العصر الرومانتيكي، وبين الأسلوب المعاصر لشومان الأمريكي، فارق لا يحتاج المرء إلى أية خبرة لكي يدركه على الفور، حتى لو لم يكن قد عرف من قبل بوجود «شومان» آخر في تاريخ الموسيقى الأمريكية. وبطبيعة الحال لا يحق للمرء أن يصدر حكما عاما على أساس حالات فردية كهذه، ولكن الملاحظ بالفعل أن حب التظاهر بالثقافة - وهو تعويضي منتشر بين أوساط الأثرياء - يدفع عددا غير قليل من الناس إلى حضور الحفلات الموسيقية بانتظام، كما لو كانوا يؤدون طقسا من الطقوس أو فرضا من الفروض التي لا يكون المرء بدونها معدودا في زمرة المثقفين. •••
ولست أود أن أختم هذه الذكريات الموسيقية عن فترة إقامتي في الولايات المتحدة، دون أن أتحدث عن مصدر هام من مصادر الثقافة الموسيقية في هذه البلاد، وهو الإذاعة؛ فمن بين المحطات الإذاعية الكثيرة جدا التي تنتشر في كل مدينة كبرى،
Bilinmeyen sayfa
3
توجد دائما محطة أو اثنتان مخصصتان للموسيقى العالمية، تقدم إلى مستمعيها موردا لا ينضب من هذا الفن الرفيع. وصحيح أن هذه المحطات تشوبها في معظم الأحيان شائبة الإعلانات السخيفة، التي تهبط بالمستمع، بعد سماع رباعية وترية لبيتهوفن مثلا، إلى حضيض الإعلان عن أحدث دواء للصداع (الذي يسببه الإعلان ذاته بالطبع!) ولكن الأعمال الموسيقية الكبيرة تذاع كاملة دون مقاطعة وتسبقها عادة مقدمات تحليلية شارحة لمعلقين على مستوى عال من الثقافة. وبفضل طول مدة الإذاعات، تتاح للمستمع فرصة المقارنة بين التسجيلات المختلفة للعمل الموسيقي الواحد، فضلا عن سماع أعمال وتسجيلات نادرة.
4
والأمر اللافت للنظر حقا في هذه الإذاعات، والذي ينبغي أن نتنبه جيدا إليه، هو المستوى الهندسي الرفيع لطريقة الإذاعة نفسها؛ فقد استحدثت طريقة جديدة في الإذاعة، اسمها
FM (اختصار
Frequency modulation ، وهو تعبير في اللاسلكي لا أستطيع ترجمته، وحتى لو استطعت فلن أتمكن من شرحه) تمتاز بأنها تنقل الصوت نقيا إلى أبعد حد، بحيث تصل إلى أجهزة الاستقبال كل دقائق الموسيقى وتفصيلاتها الصوتية، وكلما ارتفع مستوى جهاز الاستقبال، كانت الموسيقى أصفى وأنقى. وعن طريق هذه الإذاعات يستطيع البعض، ممن توافرت لديهم أجهزة استقبال حساسة، أن يسجلوا المقطوعات المفضلة لديهم على شرائط بطريقة لا تقل في دقتها عن التسجيل في استديوهات الأسطوانات ذاتها. وبطبيعة الحال فإن هذا كله يقتضي نوعا من الوفرة لا نستطيع أن نطمع فيها الآن في مجتمعاتنا. ولكن العناية بالموسيقى المقدمة في الإذاعة لن تكلفنا كثيرا، لا سيما وقد أخذت الساعات المخصصة للموسيقى العالمية تزداد إلى حد لا بأس به في برامجنا الإذاعية؛ ذلك لأن في إذاعاتنا المحلية نوعا من التحريف أو التشويه الصوتي
distortion
يفسد المتعة الموسيقية، ولا سيما في حالة الأصوات الشديدة الارتفاع أو الانخفاض، مهما كانت دقة جهاز الاستقبال. ومن الممكن تلافي هذا العيب بتوجيه عناية خاصة إلى إذاعة البرامج الموسيقية، والاستفادة بخبرة الدول الأخرى في هذا الميدان.
وبرغم أن الموسيقى الكلاسيكية تحتاج بطبيعتها إلى أن تسمع بصوت مرتفع؛ حتى تستبين للأذن أصوات كل الآلات، الظاهرة منها والخفية؛ وحتى يتسنى تمييز الأجزاء الهادئة التي ينخفض الصوت فيها انخفاضا شديدا. وبرغم أن الشعب الأمريكي لا يقف في الصف الأول بين الشعوب الناضجة ثقافيا وخلقيا، فإني لا أذكر أنني سمعت مرة واحدة صوت موسيقى يعلو من داخل البيوت إلى الشارع أو إلى آذان الجيران. صحيح أن هناك أماكن تسمع فيها موسيقى صاخبة، ولكنها أماكن مقفلة يدخلها من يرغبون في الصخب، أما في الأماكن العامة، أو في البيوت، فلا أثر لضجيج الإذاعات على الإطلاق. ولعل القراء قد شاهدوا في الأفلام منظر الفتاة المراهقة التي تمسك بالترانزستور وتلصقه بأذنها وتسير متراقصة على أنغامه دون أن يشاركها في سماعه أحد؛ هذا ما يفعله مخترعو الترانزستور. أما عندنا، فإنه يغزو البيوت من نوافذها في أحلى ساعات النوم، ويجلجل في السيارات العامة والقطارات، بل ويتسلل إلى مكاتب الموظفين لكي يضيف عاملا آخر إلى عوامل تعطيل الإنتاج. •••
ولعل أفضل ما اكتسبته من سفرتي التي أطلت عنها الحديث، مجموعة الأسطوانات المختارة التي اقتنيتها، وجهاز الأداء الذي ينقل إلي أنغامها. ولست أدعي أن لدي كل ما أريد من التسجيلات (وهل يستطيع أحد أن يدعي ذلك؟) ولكني حاولت أن أكون لنفسي مجموعة كبيرة متوازنة من التسجيلات تغطي كافة فترات الموسيقى واتجاهاتها وأنواعها.
Bilinmeyen sayfa
مع هذه التسجيلات أقضي اليوم - كلما سمحت المشاغل - أجمل الأوقات التي تتيح للمرء أن ينسى ضغط الحياة وتوترها ومدها وجزرها، لينتقل لحظات قصارا إلى عالم التوافق والصفاء وسكينة النفس وشفافية الروح. ولست أعني بذلك أنني ممن يتخذون الموسيقى وسيلة للهروب من مشكلات الحياة أو التخفيف منها، وإن كانت قادرة على ذلك بالفعل، فكثيرا ما تكون الموسيقى وسيلة لحشد طاقة الإنسان الروحية على نحو يستطيع معه أن يواجه مشكلاته بعزم أصدق وشجاعة أعظم. غير أني لا أميل، على وجه العموم، إلى أن أجعل من الموسيقى وسيلة لغاية أخرى، أيا كان جلال هذه الغاية وشرفها، وحسبي من التجربة الموسيقية أن تكون غاية في ذاتها، فإن كانت هذه التجربة تبعث في النفس طاقات روحية لا عهد للإنسان بها في حياته اليومية المألوفة، فإن أمثال هذه التأثيرات لا تعبر عن لب التجربة الموسيقية، وهي بالنسبة إلى هذه التجربة نتيجة عارضة غير مقصودة، ولن يجد المرء، لكي يعبر عن ماهية هذه التجربة، إلا أن يلجأ إلى تعبيرات شعرية صوفية لا تقدم ولا تؤخر، وإن كانت هي كل ما في متناول أيدينا إذا شئنا أن نتحدث عن عالم التآلف النغمي الفريد. وعلى من شاء أن يعرف كنه هذا العالم أن يمر بالتجربة ويبذل الجهد. وكل ما أستطيع أن أؤكده له أنه لن يندم على ما فعل. •••
وأحسب أن هناك مسألتين لو كنت قد استطعت نقلهما إلى ذهن القارئ لكانت هذه الذكريات الموسيقية، قد حققت قدرا كبيرا مما هدفت بها إليه. أولى هاتين المسألتين أنه لا توجد لدى أي مستمع، شرقيا كان أم غربيا، مناعة ضد الموسيقى العالمية، وأن في استطاعة كل إنسان مرهف الحس، أيا كان المجتمع الذي ينتمي إليه، أن يمر بتجربة تذوق هذا اللون من الموسيقى وينميها في نفسه، وعندئذ سيدرك أن الفن الموسيقي قادر على أن يقدم إليه ما هو أروع وأعمق بكثير من الألحان السطحية التي يكتفي بها المرء لو اقتصر على الاستماع التلقائي الضحل للموسيقى اليومية المألوفة.
أما المسألة الثانية فهي أن الموهبة الموسيقية شيء نادر لا ينبغي أن يضيع سدى، ومن الواجب كلما بدت تباشيرها أن تبادر الأسرة والدولة إلى تعهدها ورعايتها وتنميتها. والحق أن الإحساس الذي يغلب علي، كلما رجعت بذهني إلى ذكرياتي في عالم الموسيقى، هو الإحساس بفرص شاعت وإمكانات لم تتحقق، وتجارب لم تعرف طريقها إلى الاكتمال - وهو إحساس لا أود أن يتكرر في نفوس الأجيال الجديدة من أبنائنا.
وعلى أية حال، فإن هذه الذكريات، وربما هذا الكتاب بأسره، يسودها طابع «الاغتراب»؛ لأنها كلها مبنية على تجربة غير شائعة وغير مألوفة في مجتمعنا. ولكن هذا لا يعني أنها لم تكتب إلا لأصحاب التجارب المماثلة، إنها، على عكس ذلك، موجهة إلى الجميع، مستهدفة أن تشجع البعض منهم على خوض هذه التجربة الشائقة، وأن تقنع البعض الآخر بأن يقف من أصحاب هذه التجربة موقف الفهم والوعي وسعة الأفق، ويدرك - نظريا على الأقل - أن للفن أبعادا لا ينبغي بالضرورة أن تكون هي نفس الأبعاد التي ألفها وارتاح إليها. وأيا كان الحكم الذي ينتهي إليه القارئ بعد قراءته لهذه الصفحات فحسبي أن يعلم أنني نقلت إليه، بصدق وأمانة، صفحة من حياتي، وجانبا أعتز به من جوانب نفسي.
الإيقاع بين الحياة والفن
في البدء كان الإيقاع.
هانز فون بيلوف
حياتنا كلها غارقة في بحر من الإيقاع لا ينقطع هديره؛ فالكون من حولنا تدور ظواهره في إيقاع منتظم، يظهر أوضح ما يكون في دورات الأفلاك، وظهور النجوم والكواكب واختفائها، وفي تلك «التموجات» التي تتميز بها ظواهر الحياة، وذلك النبض الكوني الذي لا يعد نبض قلوبنا - أعني دليل الحياة فينا - إلا صدى داخليا له.
ومنذ أقدم العصور أثارت فكرة الإيقاع خيال الإنسان وحفزته على التأمل، فإذا به يأتي بالنظرية تلو النظرية لإثبات أن مسار الكون كله لا يعدو أن يكون إيقاعا هائلا ربما لم تكن حياة الإنسان بأسرها إلا نبضة واحدة من نبضاته، وإذا بفكرة «العود الأبدي» - أي المسار المتكرر للكون من البداية إلى النهاية وفقا لنظام ثابت يعود فيتردد مرات لا نهاية لها، كل مرة منها تمثل دورة كونية أو «سنة كبرى» وتشابه الدورات الأخرى في كل شيء - تغدو واحدة من أقدم النغمات المتكررة في الفكر البشري، ابتداء من «أنكسمندريس» في العصر اليوناني القديم حتى «نيتشه» في عهدنا القريب.
إن الإيقاع حولنا في كل مكان يشهد عليه تعاقب الليل والنهار، وتكرار أوجه القمر، وتتابع فصول السنة. وهو في داخل أجسامنا حقيقة لا تنكر تنظم بواسطتها شتى وظائفنا العضوية تنظيما دقيقا محكما، وفقا لفترات ودورات ثابتة، تؤكد لنا أن أعمق وظائف الحياة ذات طابع إيقاعي.
Bilinmeyen sayfa
بل إن الإيقاع ليسود علاقات البشر كلما تجمعوا، نراه في تعاقب الأجيال، وفي التغيير الدوري لأذواق الناس وميولهم، بل يراه بعض المؤرخين ذوي النظرة الموسوعية الشاملة متمثلا في دورات كبرى تمر كل حضارة بشرية بمراحلها جميعا على نحو لا مهرب منه؛ فإذا تعامل الناس في مجال الاقتصاد، وجدوا أمامهم دورات اقتصادية يتناوب فيها الازدهار والكساد بنوع من الضرورة يكاد يكون محتوما.
وإذا ما تركنا المجال الكوني الأكبر، والمجال البشري الأوسط، جانبا، وتغلغلنا في أصغر دقائق المادة، وجدنا الإيقاع ماثلا بوضوح في سلوك نواة الذرة وجزيئاتها، وفي الموجات الكهربية بداخلها، وفي علاقة الخلية الحية بالبيئة المحيطة بها.
في كل شيء إذن هناك إيقاع، وفي كل مكان، وعلى جميع المستويات، تسلك الطبيعة مسلكا متموجا، وتعود من حيث بدأت في حلقات أو دورات تتشابه بدرجات متفاوتة، حتى لقد أكد فنان عظيم، ودارس متعمق للطبيعة مثل ليوناردو دافنشي أن كل صور الطبيعة إيقاعية متموجة، وأن الطبيعة الحقة لكل كائن إنما تتمثل في هذا الارتفاع والانخفاض الدوري الذي يقدمه لنا أنموذج الموجة.
ما الإيقاع؟
فما هو الإيقاع إذن؟ وما الدور الذي يقوم به في الموسيقى وغيرها من الفنون؟
تشتق كلمة الإيقاع
rhythm
في اللغات الأوروبية من لفظ
rhuthmos
اليوناني، وهو بدوره مشتق من الفعل
Bilinmeyen sayfa
rheein ، بمعنى ينساب أو يتدفق. وفي اللغة العربية يرجح أن لفظ الإيقاع مشتق من «التوقيع»، وهو نوع من المشية السريعة؛ إذ يقال «وقع الرجل»؛ أي مشى سراعا مع رفع يديه. ومن المعروف أن مشية الإنسان من أهم الأصول الحيوية التي يرجع إليها الإيقاع، ولكن الأهم من ذلك هو فكرة الحركة بوجه عام؛ إذ إنها تظهر في الأصلين اللغويين العربي واليوناني معا؛ فالانسياب حركة، والمشي بدوره حركة، وفي ذلك دليل قاطع على الارتباط الوثيق بين الإيقاع والحركة كما تشهد به اللغة ذاتها.
هذا الإيقاع الذي يتمثل خارج الإنسان وداخله، والذي يعبر عن حاجة روحية وعن ضرورة مادية في الآن نفسه، هو عنصر نشعر به جميعا ونتحدث عنه، وندرك أنه أول مظهر للحياة في الموسيقى، كما هو أول مظهر للحياة في الكائنات الحية عامة. ولكن القول إن الإيقاع هو الذي يضفي على الموسيقى حياة واندفاعا، لا يكفي لكي يقدم إلينا تعريفا وافيا. والحق أن الإيقاع واحد من تلك الظواهر التي يصعب تعريفها لا لشيء إلا لكونها مألوفة، ولأن تأثيرها فينا ملموس بلا انقطاع. وعلى أية حال فلن نحاول الآن تقديم تعريف للإيقاع عامة، بل إننا نود أن نستعرض بعض التعريفات التي اقترحت للإيقاع الموسيقي على وجه التخصيص لكي نستشف منها أهم العناصر التي يتألف منها، والتي تضفي عليه كل هذه الأهمية في كل فن موسيقي عرفته البشرية منذ أقدم العصور.
كانت أقدم التعريفات التي قدمها إلينا فلاسفة اليونان للإيقاع تدور حول فكرة «الحركة» تمشيا مع الأصل الاشتقاقي للفظ، كما أوضحناه من قبل؛ فالإيقاعات قادرة على أن تعبر عن أحوال النفس البشرية لأنها في أصلها حركات، شأنها شأن مختلف الأفعال التي يقوم بها الإنسان. وقد تحدث أفلاطون عن الإيقاع على نحو يوحي بأنه يعتمد أساسا على الحركة، فقال: «إنك تستطيع أن تميز الإيقاع في تحليق الطيور، وفي نبض العروق، وخطوات الرقص، ومقاطع الكلام.» وظل لهذا الرأي في الإيقاع تأثيره طويلا، حتى تحدث القديس أوغسطين في أوائل العصور الوسطى عن الإيقاع فوصفه بأنه «فن الحركات الجيدة». كذلك فإن كثيرا من علماء النفس في العصر الحديث أرجعوا الإيقاع إلى مصدر حركي؛ فعالم النفس الألماني «فونت
Wundt » يرد الإيقاع إلى المشي، وريمان
H. Riemenn
يرده إلى نبض القلب، وبوشر
يرجعه إلى الحركات الجسمية، وكثيرون غيرهم يجمعون على أن الإيقاع هو قانون الحركة الطبيعية.
ولقد كان من الطبيعي أن يربط المفكرون في مختلف العصور بين الإيقاع والحركة؛ ذلك لأن الحياة التي تسري فينا، والتي تستمر خلال الزمان، إنما تتجلى في مجموعة متعاقبة من الحركات المنظمة تنظيما بديعا، كنبضات القلب وتناوب الشهيق والزفير في التنفس، والمشية الثنائية الخطوات في الإنسان، والرباعية الخطوات في الحيوان؛ ففي كل هذه الظواهر الفسيولوجية يرتبط الإيقاع التلقائي الحي بالحركة ارتباطا لا ينفصم، بل إن الحركة هي الظاهرة الأساسية في الكون بأسره، كما أدرك الفلاسفة منذ أقدم العصور؛ فالحركة والتغير في المكان والزمان هي عند الفيلسوف اليوناني هيرقليطس أساس فهم الكون والحياة معا، ولا شيء في نظره يثبت أو يستقر عند حال. ومن ثم فتناوب الإيقاع يسري في كل شيء. وكل من ألم بقدر من العلم عن سائر فلاسفة اليونان يعلم أن أفلاطون جعل الحركة مظهرا أساسيا لعالم المحسوسات (على حين أن السكون هو المميز لعالم المعقولات)، وأن أرسطو قد اتخذ من الحركة نقطة بداية لتفسيره للعالم، ومدخلا أساسيا إلى تعليل كل ظواهره. وحين ظهرت الأفكار الآلية الحديثة في الفلسفة، كان من الطبيعي أن تتخذ الحركة أساسا لتفسير الحوادث الكونية، سواء منها المادية والروحية.
وهكذا فإن قوام الإيقاع الموسيقي هو تلك الظاهرة التي رآها المفكرون، منذ أقدم العصور، كامنة في أساس كل تغير يطرأ على الكون، وكل تجدد وتنوع في الحياة، فبفضل الإيقاع تصبح الموسيقى فنا للحركة. •••
ولكن، هل تكفي فكرة الحركة لتعريف الإيقاع تعريفا جامعا يوضح طبيعته إيضاحا كاملا؟ الحق أن الحركة وحدها، وإن كانت هي القوة الدافعة لكل إيقاع، لا تكفي وحدها للكشف عن معناه؛ إذ إن الإيقاع ليس حركة فحسب، بل هو نوع معين من الحركة، ولا يمكن أن يكون الانسياب المتدفق للحركة، دون ضبط أو تنظيم، هو الذي يمثل الطبيعة الكامنة للإيقاع؛ وعلى ذلك فلا بد من إضافة فكرة التنظيم لكي يزداد معنى الإيقاع وضوحا في الأذهان.
Bilinmeyen sayfa
وبالفعل نجد هذا المعنى واضحا في أذهان المفكرين منذ أقدم العصور؛ فأفلاطون كان هو بدوره الذي عرف الإيقاع بأنه «تنظيم الحركة»؛ أي إنه بعد أن صرح بأن أصل الإيقاع حركة حيوية، أضاف إلى هذا العنصر الحيوي عنصرا آخر ذا طبيعة ذهنية أو عقلية، هو عنصر التنظيم، الذي هو طريقة تشكيل الحركة المتدفقة وصياغتها في قالب أو صورة محددة.
وقد ظل لفكرة التنظيم بدورها دور أساسي في تعريف الإيقاع، بحيث اعترفت بأهميته أحدث التعريفات التي وضعت للإيقاع، فقيل إن «الإيقاع مجموع من اللحظات الزمانية الموزعة وفقا لترتيب معين»، وأن «الإيقاع هو النظام في توزيع مدد الزمان.»
ومع اعترافنا بالأهمية القصوى لعنصر التنظيم هذا، فمن الواجب أن نتساءل: فيم يتمثل هذا التنظيم، ومن أين جاء؟ إن في وسعنا التمييز بين نوعين من التنظيم: نوع نخلقه نحن، بإرادتنا الواعية، وتكون له في هذه الحالة طبيعة ذهنية خالصة، ونوع آخر تقدمه إلينا الطبيعة والحياة ذاتهما، وهو تنظيم نخضع له ونقبله كما هو، وإن كنا أحيانا نسيطر عليه في حدود معينة. ومن أمثلة هذا النوع الأخير، مشية الإنسان؛ فهي بحكم الطبيعة تنظيم معين لحركة الإنسان، لا نستطيع أن نغير شيئا من صورته الجوهرية، ولكنا نستطيع تعديل بعض تفاصيله، بدليل أن كل إنسان يمكنه أن يتحكم في مشيته ويعدلها - في حدود معينة - تبعا للظروف.
وعلى أية حال فإن أفضل وسيلة لتعريف الإيقاع هي تلك التي تجمع بين عنصري الحركة والتنظيم معا، بحيث تكون الحركة تعبيرا عن العنصر المادي أو الحيوي في الإيقاع، والتنظيم تعبيرا عن عنصره الذهني أو الروحي. وبهذا المعنى يكون الإيقاع جامعا بين المادة والروح في مركب واحد، أو بين المجال العضوي والبيولوجي من جهة، والمجال الذهني الهندسي من جهة أخرى، في توافق وانسجام؛ فالإيقاع في أساسه حركة، ولكن هذه الحركة إذا ظلت حرة طليقة بلا تنظيم لا تكون إيقاعا، بل لا بد ممن يسيطر عليها ويوجهها. •••
ولكن أية حركة هي تلك الي ينظمها الإيقاع الموسيقي؟ أهي الحركة التي نألفها في حياتنا المعتادة حين ننتقل من موضع إلى آخر؛ أعني الحركة المكانية؟ لا شك في أن الإيقاع الموسيقي ينظم حركة من نوع آخر، لا شأن لها بالمكان أصلا، بل هي حركة تتم خلال الزمان. وهكذا نجد لزاما علينا أن نشرح فكرة ثالثة تكون عنصرا أساسيا في فهم الإيقاع، بل في فهم الموسيقى ذاتها بوجه عام؛ وأعني بها فكرة الزمان.
في حياتنا اليومية تتمثل لنا، دون وعي، تلك التفرقة التي عبر عنها الفيلسوف الفرنسي برجسون بطريقة عميقة حين ميز بين الزمان
Le temps
والديمومة
La durée ؛ فحين نفكر في إحساسنا بمضي الوقت نجد فارقا واضحا بين ذلك الزمان الرتيب المتجانس الذي نعيشه بانفعالاتنا واهتماماتنا، والذي قد تطول فيه لحظات هي - بحساب الساعة الآلي - لحظات قصار، أو تقصر فيه فترات لا نشعر فيها بمضي الزمان وإن كانت الساعة تنبئنا بأن وقتا طويلا قد انقضى.
والزمان هو لب الإيقاع الموسيقي، بل إن الإيقاع الموسيقي ربما كان أقوى عناصر الفنون كلها تعبيرا عن الزمان. والواقع أننا حين نعرف الإيقاع بأنه تنظيم للحركة خلال الزمان، إنما نعني بذلك أن الإيقاع يقوم بإدخال تنظيم معين على ذلك السيل المتدفق من الحركة الزمانية، بحيث نشعر في الإيقاع بأننا نتحكم على نحو ما في مجرى الزمان وننظمه، بدلا من أن ننساب معه دون وعي.
Bilinmeyen sayfa
ونحن نشعر جميعا بالزمن الحي، أو بما يسميه برجسون بالديمومة، في مختلف جوانب حياتنا؛ ففي حياتنا العضوية نشعر بالزمان في تلك الأحوال الجسمية المتفاوتة التنظيم، والتي يطلق عليها البعض اسم «الساعة العضوية». وفي حياتنا الانفعالية نحس بانقضاء الزمان على نحو متفاوت، تبعا لأحوالنا الوجدانية المتباينة؛ فنفاد الصبر يطيل الزمان، بينما السعادة تقصره، وقد يضيع إحساسنا بالزمان تماما في حالات النشوة والوجد. هذا النوع من الزمان الانفعالي كثيرا ما يتحكم في طريقة استجابتنا للموسيقى وتجاوبنا معها. ولما كانت الانفعالات بطبيعتها ذاتية تتفاوت تفاوتا شديدا تبعا للأفراد، فإن إحساسنا بالزمان في الموسيقى يتفاوت بدوره تبعا لدرجة حساسيتنا الانفعالية الخاصة، وقد يصل في حالة الاندماج التام، الذي يقترب من النشوة الصوفية، إلى فقدان تام للوعي بانقضاء الزمان، سواء بالنسبة إلى المستمع حين يستغرق في الإنصات للحن جميل أو إلى المؤلف أو العازف حين ينسى المشكلات الفنية (التكنيكية) التي تثيرها الموسيقى، ولا يستجيب إلا لوحي ألحانه.
ويظهر تأثير هذه الاختلافات الذاتية، التي ترجع إلى أصول عضوية أو وجدانية في حياة الفرد، أوضح ما يكون في نظرتنا إلى عامل السرعة في الموسيقى (التمبو
Tempo )، هذا العامل، الذي تشير إليه في المدونات الموسيقية عادة كلمات تدل على نوع السرعة المطلوب أداء القطعة بها، لا يمكن أن تعبر عنه أية صيغة كلامية، مهما كانت دقتها، بل إن الأداء البارع هو ذلك الذي يتجاوب مع روح المؤلف ويكشف عن الطابع الباطن لموسيقاه. ومن المعروف أن هناك نطاقا غير قليل من الاختلاف داخل الإشارات الواحدة إلى السرعة؛ فالقطعة الموسيقية الواحدة يقوم بأدائها العازفون المختلفون في أزمان مختلفة، بالرغم من أنهم جميعا يطيعون إشارات السرعة التي وضعها المؤلف. ومن المعروف عن بيتهوفن أنه كان يسمح لعازفي قطعه الموسيقية بقدر كبير من الحرية في الأداء، فقال مثلا لإحدى عازفات البيانو: «لست أعزف هذه السوناتا على طريقتك، ولكن استمري في العزف بهذه الطريقة؛ لأنها لا تقل عن طريقتي جمالا.» بل إن البعض يرون أن إيقاع السرعة يختلف تبعا للأمم؛ فالألماني أبطأ من الفرنسي، والفرنسي أبطأ من الإيطالي، وهكذا ... وعلى أية حال فإن المثل الأعلى في هذا المضمار هو أن يندمج القائم بالأداء في روح العمل إلى الحد الذي تكون فيه ذاتيته وذاتية مبدع العمل شيئا واحدا، وإن كان الاختلاف بينهما يضفي، في أحيان غير قليلة، أبعادا جديدة على العمل الفني.
هذا الاندماج التام في الأداء يكشف عن جانب آخر من جوانب العلاقة بين الإيقاع الموسيقي والزمان؛ فعلى الرغم من أن الإيقاع هو الذي يشعر المرء بالزمان في الموسيقى، فمن الممكن، إذا استغرق فيه المرء استغراقا تاما، أن يكون مؤديا إلى نسيان الزمان لا إلى الإحساس به عن وعي. ولا يقتصر ذلك على القائم بالأداء فحسب، بل إن المستمع ذاته قد يندمج في النشوة الموسيقية إلى الحد الذي لا يعود يشعر معه بانقضاء الزمن. وهكذا يجمع الإيقاع الموسيقي في آن واحد بين القدرة على تذكيرنا بالزمان، والقدرة على محو شعورنا بالزمان.
الإيقاع بين الموسيقى والفنون الأخرى
تتميز الموسيقى بأنها هي الفن الزماني بالمعنى الصحيح؛ فالزمان، كما قلنا من قبل، عنصر أساسي في تحديد طبيعة الإيقاع الموسيقي، وهو القالب الذي يصاغ فيه اللحن الموسيقي بدوره. ومن هنا كان من المستحيل تصور الموسيقى بلا زمان، ودون ذاكرة؛ فلو تخيلنا إنسانا حرم من قوة التذكر إلى حد أنه لا يستطيع أن يربط لحظات ماضيه بحاضره، فإن مثل هذا الإنسان لن يستمتع بالموسيقى مهما بلغت درجة حساسيته؛ ذلك لأن فهم الموسيقى يقتضي أساسا أن يكون لدى المرء حد أدنى من الذاكرة، يتيح له أن يجمع لحظاتها المختلفة في وحدة واحدة، بحيث يتذكر الأجزاء السابقة من القطعة الموسيقية وهو يستمع إلى أجزائها الحاضرة، ولولا ذلك لفقدت وحدتها العضوية، ولما عادت تمثل شيئا ذا معنى بالنسبة إليه. ولا جدال في أن هذه القدرة على الربط بين الماضي والحاضر تتفاوت بحسب الاستعدادات الفردية، كما تتفاوت تبعا لمقدار الخبرة والمران على الاستماع الموسيقي. ولكن هناك - كما أوضحنا - حدا أدنى من القدرة على التذكر بدونه يصبح التذوق الموسيقي مستحيلا.
والفن الزماني بطبيعته أقرب إلى الطابع الذهني من الفن المكاني؛ لأن الذهن وحده هو الذي يستطيع القيام بهذه الوظيفة الأساسية - وظيفة الربط بين الماضي والحاضر في العمل الفني الواحد - على النحو الكفيل بتكوين كل واحد شامل تزول فيه الفواصل الزمنية أو لا يعود لها تأثير في وحدة العمل الفني. من هنا كانت الموسيقى في نظر عدد غير قليل من الفنانين والمفكرين أقرب الفنون كلها إلى الطابع الروحي؛ إذ إن حاسة الاستماع بطبيعتها أقرب إلى الانطواء والذهنية، وأقوى صلة بعالم الإنسان الداخلي الباطن، من بقية الحواس، فضلا عن أن ما يسمع في حالة الموسيقى توافق صوتي خالص، وليس كلاما لغويا محدد المعاني كذلك الذي نستمع إليه في الشعر.
الموسيقى والشعر والأدب
لعل هذه العبارة الأخيرة قد أوضحت للقارئ أن هناك صلة من نوع خاص بين الموسيقى والشعر، ربما كانت أقوى من صلة الموسيقى بأي فن آخر؛ ذلك لأن الشعر بدوره فن زماني، والأداء فيه بدوره صوتي، ووسيلة تذوقه هي الاستماع، والإيقاع (أو الوزن) يقوم فيه بدور أساسي. كل ذلك يدفعنا إلى أن نحاول استطلاع العلاقة بين هذين الفنين بمزيد من التفصيل.
الحق أن العلاقة بين الموسيقى والشعر تبلغ من التشابك حدا أصبح من العسير معه أن يستقر الرأي حول مسألة تحديد أيهما يرد إلى الآخر، وأيهما هو الأسبق؛ فهناك نظريات تؤكد أن اللغة (التي يصاغ فيها الشعر) أسبق من الموسيقى، وأن أصل الموسيقى هو القدرة الصوتية اللغوية، وأن كل إيقاع لدينا يرتد آخر الأمر إلى وقع الأصوات اللغوية. وهناك نظريات أخرى ترى أن الموسيقى هي أصل الإيقاعات جميعا؛ لأنها لغة طبيعية لا تتقيد بقواعد اصطلاحية معينة، يسهل على الجميع فهمها والتأثر بها، ومن ثم فإن إيقاعاتها هي التي صبغت إيقاعات اللغة بصبغتها الخاصة، وبالتالي فإن الوزن الشعري قد استمد قواعده، في البداية، من الموسيقى.
Bilinmeyen sayfa
ومن الصعب إلى حد بعيد أن يستقر المرء على رأي قاطع يحدد به موقفه بين هاتين النظريتين، لا سيما وأن مثل هذا التحديد يقتضي الرجوع إلى ماضي البشرية السحيق، والبحث في الأصول الأولى للغة ، وفي تلك التعبيرات الصوتية الأولى التي ربما كانت تجمع بين طبيعة اللغة البدائية وطبيعة الموسيقى في آن واحد. ومن الجائز أن الاثنين معا قد استمدا من أصوات كانت تستخدم نوعا من النغم وسيلة للتعبير عن إحساس معين، قبل أن تتخذ اللغة صورتها الكلامية المألوفة. وربما كان هذا هو الأصل الذي تفرعت عنه اللغة، حين أصبحت الأصوات رموزا لا تقصد لذاتها، بل تستمد كل قيمتها من اصطلاح الناس عليها واتفاقهم على الربط بينها وبين الموضوعات التي ترمز إليها، كما تفرعت عنه الموسيقى من ناحية أخرى، حين أصبحت بعض الأصوات تعد غاية في ذاتها، وتكتسب قيمتها من الطابع الكامن فيها، لا من علاقتها الرمزية بموضوع خارج عنها.
على أننا لو شئنا أن نلتمس لهذه المشكلات حلا في ضوء المراحل التي يمر بها الإنسان منذ طفولته الأولى، لوجدنا أن الطفل يستطيع عادة أن يتكلم قبل أن يغني - هذا إذا استثنينا تلك الأصوات التي ربما بدت نغما، والتي يصدرها الطفل قبل أن يتعلم الكلام (وهي قطعا نغم شجي في آذان والديه!). على أننا لو هبطنا في سلم الحياة أبعد من ذلك، لوجدنا أن تغريد الطيور يعد تأييدا للنظرية المضادة؛ إذ إنه دليل على أسبقية الموسيقى وإمكان وجودها قبل أن يوجد الكلام. وعلى أية حال فالمشكلة كما قلنا يستحيل حلها في ضوء المعلومات المتوافرة لدينا الآن، وربما كان الأجدر بنا أن نركز اهتمامنا على الوضع الحالي في العلاقة بين الموسيقى والشعر؛ ذلك لأن الارتباط بين الموسيقى والشعر، من حيث الإيقاع، وثيق إلى أبعد الحدود. بل إن الإيقاع الموسيقي ظل خلال قرون طويلة مرتبطا بإيقاع اللغة والشعر بحيث لم تكن هناك تفرقة نظرية بينهما، وكان الوزن الشعري أساسا للإيقاع الموسيقي، وظهر ذلك بوضوح في الموسيقى اليونانية القديمة.
وصحيح أن الموسيقى قد تحررت من وصاية الإيقاع الشعري فيما بعد، وأصبحت لها إيقاعاتها المستقلة، ومع ذلك فما زال تأثير الإيقاع الشعري واضحا في الموسيقى وما زال من الممكن أن نصف الموسيقى بأنها إيقاع شعري، بغير كلام، وإن كانت الموسيقى بدورها تمارس تأثيرا لا يمكن إنكاره في الشعر، بحيث أصبح ينظر إلى «موسيقى الشعر» على أنها أهم العناصر المعبرة عن ماهيته.
ومن المعروف أن إيقاع اللغة الكلامية، والشعرية بوجه خاص، كان له تأثيره الكبير في عدد غير قليل من الموسيقيين، ربما كان أشهرهم الموسيقي الروسي «موسورسكي»، الذي كان يستلهم قدرا غير قليل من ألحانه - ولا سيما في أغنياته والأوبرا المشهورة «بوريس جودونوف» - من إيقاعات اللغة وتنغيم أصواتها ووقعها وجرسها. أما تأثير الموسيقى على الشعر فلا يحتاج منا إلى إشارة خاصة؛ إذ إننا نعرف جميعا أولئك الشعراء ذوي النزعة الموسيقية، الذين يغلب عندهم وقع الصوت على معناه، والذين استعانوا بما تثيره الأصوات من إيحاءات، سواء في رنينها وفي إيقاعاتها، فجعلوا من ذلك عنصرا أساسيا في نقل ما يريدونه من مشاعر وأحاسيس إلى أذهان قرائهم (أو على الأصح إلى آذان مستمعيهم).
ولقد كانت هذه الصلة الوثيقة بين الموسيقى والشعر هي التي أدت إلى امتزاجهما منذ أبعد العصور؛ فالفن الغنائي، الذي هو فن جامع بين الموسيقى والشعر، أقدم من الفن الموسيقي الخالص، والصوت البشري - مصوغا في القلب اللغوي - كان هو أداة التعبير عن المعاني الموسيقية قبل أن يستعان بالآلات في أداء مهمة نقل المشاعر الموسيقية إلى نفوس الآخرين.
والواقع أن الغناء يؤدي وظيفة مزدوجة في الموسيقى، فهو من جهة يضفي على الموسيقى «الخالصة» معنى محددا مستمدا من اللغة المعتادة، ومن جهة أخرى يؤكد عنصر الإيقاع بأن يضيف أوزان الشعر وإيقاع الكلمات إلى دقات النغم ونبض الأصوات. وربما كان هذا السبب الأخير هو أقوى العوامل التي أدت إلى دعم الروابط بين الموسيقى والكلمات، وهو الذي جعل الغناء فنا أقدم وأوغل في الماضي السحيق من الموسيقى الخالصة. على أن هذا الارتباط - كما هو معروف - ليس دليلا على سذاجة الموسيقى أو بدائيتها، بل إنه لا يزال قائما في أرفع التجارب الموسيقية العالمية، وما زال الشعر الملحن يحتل مكانته كفن رفيع في الأوبرا والأغنية الراقية ومختلف أنواع التأليف الموسيقي الذي يستعين بالأصوات البشرية. ومن الجدير بالذكر - في هذا الصدد أن أعظم البلاد تقدما في مجال الفن الموسيقي قد شهدت في الآونة الأخيرة محاولات للعودة إلى الأشكال الأولى للتآلف بين الصوت البشري والموسيقي؛ أعني تلك الأشكال السابقة على الكلمات اللغوية ذات المعنى؛ فقد ظهرت مؤلفات للموسيقى والصوت البشري، أو مجموعات الأصوات البشرية، يستخدم فيها هذا الصوت في صورته النقية الخالصة؛ أي من حيث هو مجرد صيحات لا تعبر عن كلمات معينة. وبرر مؤلفو هذا النوع من الموسيقى فكرتهم هذه بأنها تعيد إلى الصوت وظيفته الطبيعية، وتستخدمه استخداما نقيا لا تشوبه شائبة من المعاني العقلية للغة. وبذلك يصبح الصوت البشري وسيلة من وسائل الموسيقى أو آلة من آلاتها، لها خصائصها التي تنفرد بها عن غيرها من الآلات، وتستغل إمكانات هذا الصوت إلى أقصى مدى ممكن.
على أن أوضح مظاهر الاتصال بين الموسيقى والشعر هو ذلك التأثير المتبادل في الوحي أو الإلهام بين هذين الفنين؛ فما أكثر الموسيقيين الذين استوحوا الشعر ألحانهم، والشعراء الذين حاولوا أن ينقلوا عن طريق الكلمات حلما هو في حقيقته حلم موسيقي. والحق أن كثيرا من الشعراء والكتاب، ممن أحسوا بعدم كفاية اللغة للتعبير عن أعمق ما يحسون به، وشعروا بأن الكلمة، في تأرجحها وعدم استقرارها، عاجزة عن أن تنقل ما في صدورهم من أحاسيس، قد استلهموا الموسيقى كثيرا من أفكارهم، حتى لقد كان أندريه جيد يتساءل: «بالفرنسية؟ كلا، إني أود أن أكتب بالموسيقى.» ومن هنا اشتهر كثير من الشعراء بأنهم «سمعيون»، مثل ووردزورث، وكان الكثيرون منهم يعشقون الموسيقى ولا يكتبون بدونها، وكان صمويل بطلر يكتب ويؤلف الموسيقى طوال حياته، وهو في ذلك شبيه بشخصية فريدة أخرى، هي شخصية هوفمان، الذي كان أديبا وموسيقيا ومصورا في آن واحد، وكان له تأثير كبير في مجموعة الموسيقيين والأدباء الرومانتيكيين الألمان. وفي فرنسا كان بودلير من أكبر أنصار فاجنر ومن أشد المدافعين عنه تحمسا، كما كان ستاندال يعشق الموسيقى الإيطالية، وربطت الأديبة جورج ساند مصيرها، وقتا ما، بشاعر «البيانو» العظيم شوبان. وعندما ظهر الرمزيون في أواخر القرن، كانت الموسيقى عندهم «مقدمة على كل شيء»، وعبر فرلين ورامبو ومالارميه عن حنينهم الدائم إليها، وتأثر مارسل بروست بفاجنر تأثرا عميقا، وحاول أن يتبع في روايته الضخمة «بحثا عن الزمن المفقود» أسلوب «اللحن المميز
Leitmotiv » المشهور عند فاجنر.
أما الموسيقيون الأدباء فلا يقلون عن ذلك عددا. ولست أقصد هنا أولئك الموسيقيين الذين كانت لهم محاولات أدبية فعلية، كمقالات شومان أو كتيبات فاجنر «وليست»، أو مؤلفات سترافنسكي، بل إن المقصود هم أولئك الذين تأثرت موسيقاهم بالأدب، ومن أهم هؤلاء «باخ»، الذي أطلق عليه «ألبرت شفيتسر» اسم «الموسيقي» الشاعر. وقد حاول البعض إدراج بتهوفن ضمن هؤلاء الموسيقيين الأدباء، واستشهدوا بوجه خاص بنهاية السيمفونية التاسعة. ولكن الواقع أن الوحي عند بيتهوفن كان قبل كل شيء وحيا موسيقيا خالصا، ولم يكن للأدب، أو للصور والخيالات الأدبية، دور كبير في إلهامه، فهو لم يكن يفكر في الشعر كثيرا حتى وهو يلحن «أنشودة السرور»، وعلى عكس ذلك كان «ليست» الذي كان للأدب دور كبير في تصوره ل «القصائد السيمفونية» ول «الموسيقى ذات البرنامج»، التي يعد النص فيها ذا أهمية رئيسية في تتبع مجرى الموسيقى، ويحتل ديبوسي مكانة هامة ضمن هؤلاء الموسيقيين ذوي النزعة الأدبية، ويتجلى ذلك في تلك الصور السيمفونية الشاعرية التي رسمتها عبقريته الخلاقة، مثل «البحر
La Mer » و«مقدمة لعصرية أحد الفونات
Bilinmeyen sayfa
»، وهي أعمال تمتزج فيها الموسيقى والأدب ويتكاملان على نحو يستحيل معه تصورهما منفصلين.
على أن من الضروري أن نتذكر أن التوحيد بين الموسيقى والكلمات ليس في معظم الأحيان اندماجا كاملا كهذا، بل يبدو أن الموسيقى، حتى حين ترتبط بالكلمات تسير في اتجاهها المستقل، ولا تتأثر كثيرا بالكلمات أو تنبثق عنها انبثاقا ضروريا. وحتى لو كان ذلك يحدث، فلن تكون النتيجة عملا متكاملا رفيعا، بل إن الاندماج التام بين الموسيقى والشعر لا بد أن يتم على حساب الموسيقى نفسها، التي قد تنطفئ حرارتها نتيجة للاهتمام الزائد بالكلمات. وهكذا يمكن القول إن الشعر يسعى من جانبه إلى الاتحاد بالموسيقى، وأن هذا الاتحاد يضفي عليه قوة، ويزيد قدرته التعبيرية والتأثرية، على حين أن الموسيقى تسعى إلى الاستقلال عن الشعر وتهرب منه، وربما كان تاريخها كله محاولة للتخلص من التأثير المفرط للأدب.
الموسيقى والعمارة
إذا كنا قد قلنا من قبل إن الإيقاع يظهر أوضح ما يكون في الفنون الزمانية، كالموسيقى والشعر، فليس معنى ذلك أن الإيقاع لا وجود له في الفنون المكانية. صحيح أن الموسيقى والشعر، أو الأدب بوجه عام، هما الفنان الوحيدان اللذان يتميزان في جوهرهما بالتعاقب، وهما في ذلك على عكس التصوير والنحت والعمارة؛ لأن العمل الفني في هذه الفنون الأخيرة يؤثر فينا دفعة واحدة، بحيث يكون الجهد المطلوب من المشاهد فيها تحليليا، من الكل إلى الأجزاء. على حين أنه في الموسيقى جهد تركيبي، ينتقل من الأجزاء إلى الكل. كل هذا صحيح، ومع ذلك فإن تلك الفنون التي لا تدرك في زمان متعاقب، لها بدورها إيقاعها الخاص؛ ففي فن كالعمارة مثلا، وهي نموذج الفن المكاني بمعناه الصحيح، نجد أنواعا من التكرار أو التماثل أو توزيع المساحات والكتل بتوافق وانسجام، على نحو يؤلف نوعا خاصا من الإيقاع، حتى لقد وصف البعض الفن المعماري بعبارة أصبحت منذ أن أطلقت عليه مشهورة، هي أنه «موسيقى متجمدة».
ولو شئنا مثلا لموسيقى معمارية، أو متأثرة في تركيبها بقواعد أشبه بقواعد المعمار، لما وجدنا أفضل من موسيقى «يوهان سباستيان باخ». صحيح أن الانتقال بين البناء الموسيقي والبناء المعماري انتقال مجازي قبل كل شيء، ولكن لا مفر للمرء من أن يذكر فن المعمار وهو يستمع إلى تلك الموسيقى ذات البنيان المتماسك المشيد بدقة وإحكام طابقا فوق طابق. ومن الجدير بالملاحظة أن كثيرين ممن كتبوا تاريخ حياة باخ قد لاحظوا أنه لا بد أن يكون قد ألم بمعلومات عميقة عن فن العمارة، وأنه كان يتحدث حديث العارف عن الخصائص الصوتية للكنائس والكاتدرائيات التي تعزف موسيقاه فيها.
والواقع أن وظيفة العمارة، بالنسبة إلى الموسيقى، لا تقتصر على أن تضمن لها رنينا صوتيا جيدا، أو زخرفا يخلق جوا ملائما لسماعها - كما هي الحال في الكاتدرائيات بالنسبة إلى القداس أو الأوراتوريو، والمسرح أو القاعة الموسيقية بالنسبة إلى الأوبرا أو السيمفونية - بل إن قوانين البناء الموسيقي تؤثر، على نحو غير مباشر ، في العمارة، مثلما يؤثر التركيب المعماري في بناء القطعة الموسيقية ذاتها. وقد لاحظ هيجل عن حق أن العمارة، على خلاف التصوير أو النحت، لا تستمد نماذجها مباشرة من الواقع الخارجي، بل تستمد أشكالها من الخيال، وتشكلها وفقا لقوانين الثقل الخاصة بها، وكذلك وفقا لقواعد التماثل والتوافق الإيقاعي التي تشبه ما نجده في الموسيقى. ومن جهة أخرى فعندما تنفصل الموسيقى عن الشعر، تتخذ لنفسها بناء معماريا واضحا. وبعبارة أخرى فإن الموسيقى كلما تحررت من الأدب ازدادت اقترابا من العمارة، وربما كانت طوال تاريخها تتأرجح بين هذين القطبين.
الموسيقى والتصوير
يعد التصوير بدوره فنا مكانيا، ومع ذلك فإن للإيقاع دوره في فن التصوير بدوره، وهو أمر لا يمكن أن تخطئه عين من تعمق فهم هذا الفن؛ ذلك لأن الفنان يجعل من اللوحة قطعة من حياته، وينقل إليها نبض أحاسيسه ومشاعره. وصحيح أن الحركة تتخذ في التصوير طابعا ساكنا متجمدا، ثابتا في الزمان، ولكن هذه الحركة تكون لها صفة الحيوية الكامنة؛ أعني تلك الحيوية التي تنبثق ينابيعها أمام العين الفاحصة التي تندمج في العمل الفني، ولا تكتفي بالتطلع والمشاهدة السلبية فحسب.
بل إن المرء ليستطيع القول بوجود عنصر زماني معين في التصوير؛ إذ إن النسب المكانية تكتسب قيمة زمانية حين تعمل بعض المساحات على اجتذاب العين مدة أطول من بعضها الآخر، وبذلك يكون في اللوحة نوع من الحركة الصامتة التي يتمثل فيها بدورها الإيقاع.
على أن هذا ليس وجه الاتصال الوحيد بين الموسيقى والتصوير؛ فعلى الرغم من أن التصوير يبدو أبعد الفنون عن الموسيقى، فإن العلاقات الأكثر خفاء هي التي تكون في كثير من الأحيان أوثق العلاقات، وفي استطاعة العلم أن يقدم إلينا أدلة هامة على نوع الصلة التي تجمع بين الموسيقى والتصوير.
Bilinmeyen sayfa
إن إدراكاتنا السمعية والبصرية؛ أي الأصوات والألوان، تنتج عن ذبذبات تتفاوت درجة ترددها؛ فالذبذبات الصوتية التي تصدم طبلة الأذن تتراوح بين 32 و72000 ذبذبة في الثانية. وهذه الذبذبات ذاتها تؤثر في شبكة العين، وتنتج ألوانا تتغير ما بين الأحمر والقرمزي حين يصبح ترددها ما بين 483 و708 «تريليونات». ومعنى ذلك أن هذين الفنين يختلفان تبعا لتكويننا الفسيولوجي، لا تبعا للمادة التي تكشف عنهما. وما الفارق بين الذبذبات السمعية والبصرية إلا فارق في الدرجة، بحيث يستطيع الخيال أن يتصور كائنات لها قوة سمعية أكبر من قوتنا، تستطيع أن «تسمع» اللوحات التصويرية، وأخرى يمكنها أن «ترى» سيمفونياتنا!
ومن جهة أخرى، فمن الممكن أن نتصور وجود نسب رياضية معينة، بين درجات تردد الذبذبات التي تسبب الأصوات والألوان الملائمة لنا في آن واحد. وبذلك تكون هناك علاقة خفية بين الصوت واللون، أو بين الموسيقى والتصوير. ومن هنا كانت تلك المحاولات المتعددة التي بذلها البعض لإيجاد صلة بين الفنين، ك «الأرغن اللوني» مثلا.
وإذا كانت هذه المحاولات تنتمي، في معظم الأحيان إلى مجال الخيال الجامع، فإن العلاقات بين الموسيقى والتصوير قد شغلت اهتمام كثير من الموسيقيين الذين كانت تتراءى لهم، في لحظات الوحي الموسيقي، مناظر مرئية تؤدي بهم إلى تأكيد التوازي بين التصوير والموسيقى؛ فكثير من موسيقيي القرنين السابع عشر والثامن عشر، من الفرنسيين، كانوا يؤلفون قطعا موسيقية عن صور لنساء، ويسمونها بأسمائهن. وفي رأي مؤلفي هذه القطع (مثل رامو وكوبران
Rameau et Couperin ) أن هذه القطع تصور قسمات الوجه ورشاقة الحركات عن طريق توزيع خاص للإيقاعات والألحان. وفي العهد الرومانتيكي ظهر الاتجاه إلى رسم «مناظر موسيقية»، تطورت إلى القصيد السيمفوني (مثل رسم صور موسيقية عن الوطن، أو أحد أنهاره، كالدانوب أو الفالتافا، أو إقليم فيه مثل أيبريا ... إلخ)، وأخذ التوزيع الأوركسترالي يستخدم على نحو متزايد في «تلوين» القطع الموسيقية حسب التعبير الشائع في لغة الموسيقيين أنفسهم. وهنا نجد أن الكلمة التي أطلقها نيتشه على فاجنر، والتي وصفه فيها بأنه «من حيث هو موسيقي، ينبغي أن يدرج ضمن المصورين» - هذه الكلمة تصدق في واقع الأمر على عدد كبير من الموسيقيين، مثل ليست، وديبوسي، وريمسكي كورساكوف، وسترافنسكي، وكثير غيرهم.
وفي مقابل الموسيقيين المصورين، نجد عددا أكبر من المصورين الموسيقيين؛ فقد كان بعض المصورين يمارس الموسيقى أو الغناء، مثل دافنشي، وتانتوريه
Tintoret
كما أكد ميكلانجلو أن اللوحة الجيدة ينبغي أن تكون «موسيقى ولحنا».
وقد لاحظ البعض وجود تواز بين الاتجاهات في الموسيقى وبين تيارات التصوير في عصور معينة، فأكدوا أن هناك موازاة بين تصوير فاتو
Watteau
وألحان كوبران، أو بين جماعة التكعيبية
Bilinmeyen sayfa
Cubism
وجماعة الستة
Les six ، أو بين سترافنسكي والسيريالية ... إلخ. بل إن البعض قد أجرى مقارنات بين هاندل وجوتو
Gioto ، وبين باخ وليوناردو دافنشي، وبين بيتهوفن وميكلانجلو (وفي هذه الحالة الأخيرة، أجرى البعض مقارنات تفصيلية بين سيمفونية بيتهوفن التاسعة وبين تصوير ميكلانجلو للكنيسة السستينية)، وكذلك بين موتسارت ورافاييل، ولاحظوا في هذه الحالة الأخيرة أن هذين الفنانين قد توفيا في نفس السن، وبسبب نفس المرض، وكانت لديهما نفس الفكرة عن الجمال في ذاته، المبني على الاستمتاع برشاقة الخط أو النغمة.
تلك، على أية حال، مقارنات قد لا تكون تفاصيلها - مهما بدت مقنعة - مقبولة لدى الجميع، ولكنها تدل على وحدة عميقة في المنبع الذي يستقي منه الفنان في جميع الميادين، ولا سيما الموسيقى والتصوير، وحيه وإلهامه.
الموسيقى والرقص
على أن هناك فنا آخر - يمكن أن يعد من بين الفنون المكانية - يحتل فيه الإيقاع الأهمية الأولى، بل يعده البعض أقوى الفنون كلها ارتباطا بالإيقاع، وأعني به الرقص. وكلنا نعرف تلك التسمية التي تطلق في بلادنا على أنواع معينة من الرقص، وأعني بها تسمية «الرقص التوقيعي»، كما نعرف أن أول وأبسط مبادئ تعلم الرقص هو الإحساس بالإيقاع والتجاوب معه والانفعال به.
لقد كان الرقص مرتبطا بالموسيقى منذ أقدم العصور، ولا يكاد يوجد حد فاصل بينهما في التجارب الفنية لكثير من الجماعات البشرية التي تتسم حياتها بالبساطة؛ فدق الطبول أو التصفيق بالأيدي، في الريف المصري مثلا، يندر أن يكون غاية في ذاته، بل هو في كل الأحيان تقريبا وسيلة إيقاعية لتنظيم حركات الرقص. بل إن الارتباط بين الموسيقى والرقص كان في بعض المجتمعات يتخذ مظهرا مقدسا؛ إذ كان جزءا لا يتجزأ من صميم الشعائر الدينية التي تؤديها الشعوب البدائية تقربا إلى الآلهة أو تمجيدا للطبيعة. وما زلنا حتى اليوم نرى الزنوج في أمريكا يلجئون إلى الرقص المصحوب بالموسيقى أو بالغناء تعبيرا عن مشاعرهم في أكثر المواقف جدية وأبعدها عن السطحية أو الاتجاه إلى الترفيه والتسلية، كما هي الحال في المظاهر التي تطالب بالحقوق المدنية، أو التي تحتج على التفرقة العنصرية أو على الفقر أو حرب فيتنام.
ونتيجة لهذا الارتباط الوثيق بين الرقص والموسيقى كان الأقرب إلى الصواب أن نصفه بأنه فن مختلط مشترك يجمع بين التعاقب الزماني والتشكيل المكاني؛ فهو لا يستطيع أن يوجد بدون الموسيقى، التي تملك قوة محركة لا تقاوم، وتدفع الجسم - بفضل إيقاعها - إلى تتبع مجراها والانقياد له. ولكن حركة الموسيقى بدورها تستمد من الرقص الذي يضفي عليها حيويتها وقوامها. بل إن من الباحثين من يرون أن الرقص كان، بالنسبة إلى الموسيقى الغربية، أحد عاملين كان لهما في تطورها أكبر الأثر. أما العامل الآخر فهو الكنيسة المسيحية. ومن الغريب، والجدير بالذكر، أن تأثير الرقص كان مضادا لتأثير العقيدة المسيحية؛ إذ إن الأول أعطى الموسيقى جسدا، والثانية أعطتها روحا. ومن هنا كانت محاربة الكنيسة للرقص، حتى في داخل الموسيقى نفسها، ومحاولتها أن تجعل للموسيقى روحا مستقلة عن جسمها الإيقاعي.
ومع ذلك لم تنجح جهود الكنيسة في الفصل بين هذين الفنين اللذين يرتبطان في أصل واحد مشترك، ويعبران معا عن الشعور تعبيرا تلقائيا. بل إن الرقص قد ظهر، حتى في الأغاني الدينية الشعبية ذاتها، منذ القرن الوسطى، وأصبح بناء هذه الأغاني يتخذ في كثير من الأحيان طابعا راقصا. وعن طريق تأثير البناء الراقص أمكن إيجاد توازن بين العاملين الحسي والروحي في الموسيقى، وانعقد لواء النصر للاتجاه إلى تأكيد أهمية الرقص في فن الباليه، الذي يمتزج فيه إيقاع الموسيقى بإيقاع الجسم البشري وبنزوعه إلى التسامي بمادة البدن والتغلب على ثقل الجسم وجاذبية الأرض. وظهر عدد من الموسيقيين الذين خصصوا أحسن وأهم ما ألفوه من أعمال لموسيقى الباليه ابتداء من رامو
Bilinmeyen sayfa
Rameau
حتى سترافنسكي
Stravinsky .
وفيما بين تلك التجارب البدائية الساذجة، وذلك الفن الرفيع - فن الباليه - نجد الارتباط بين الرقص والموسيقى يتمثل بأوضح صورة في دقات الأرجل التي تصاحب بها الأنغام ذات الإيقاع المنتظم، وفي تحركات الأيدي وتمايل الجسم، التي يعبر بها المستمع عن انسجامه بالموسيقى وتجاوبه معها. وربما كان الأهم من ذلك حركات قائد الأوركسترا التي هي في شكلها الظاهر نوع من الرقص، ولكنها في باطنها موسيقى متحركة في المكان، وفي صميمها إيقاع ولحن وتوافق نغمي. إنها حركات جسمية ومادية، ولكنها تهفو إلى عالم روحي خالص، ومن هنا كانت حلقة اتصال بين المادة والروح، ومحاولة للتعبير عن الماهية الروحية لفن نقي مجرد، عن طريق الجسم الملموس والمنظور. وهي أيضا حلقة اتصال بين الإيقاع الزمني والمكاني؛ إذ إن إشارات اليد والجسم تتم في المكان، وتشغل حيزا منه، ولكنها في الوقت ذاته تنظم مسرى الأنغام في الزمان وتنفذ إلى أعماق المعنى الباطن للموسيقى الذي لا يتصل بعالم المكان والمادة من قريب ولا من بعيد. •••
وهكذا يتبين لنا من المقارنة السابقة مدى تعدد جوانب الموسيقى وتنوع علاقاتها بالفنون الأخرى، كما يكشف عنه الإيقاع في الموسيقى وفي سائر الفنون. إنها تتفق مع التصوير في إيقاع صامت يميز الأخير، وتخضع لنفس قواعد البناء التي يخضع لها فن المعمار، وتستعير من الرقص رشاقته وانتظام خطواته، وتكتسب من جرس الشعر لحنا، فضلا عن أنها تستلهم مواجد التصوف حينا، وأحاسيس الجنس والجسد حينا آخر. إنها، بالاختصار، تبدو محاولة كبرى لتحقيق الوحدة في الإنسان، وتصل في ذلك إلى أعماق في النفس لا يعرفها ولا يبلغها فن غيرها.
على أن هذه الروابط التي تجمع بين الموسيقى وسائر الفنون قد أصبحت، في الموسيقى العالمية، صفات باطنة تؤلف جزءا لا يتجزأ من طبيعة هذا الفن العظيم، أو هي بعبارة أخرى، روابط داخلية وليست روابط خارجية يستعير عن طريقها هذا الفن خصائص يفتقر إليها من فنون غيره. وبهذا بلغت الموسيقى العالمية حدا من التعقد وتنوع الجوانب جعلها فنا مكتفيا بذاته إلى حد بعيد. من أجل ذلك، ونتيجة لما تقتضيه من جهد وانتباه من السامع، كان من الصعب في نظر الكثيرين أن تتحد هذه الموسيقى المتكاملة المكتفية بذاتها مع أي فن آخر من أجل خلق وحدة حقيقية؛ فهناك كثيرون لا يرضون عن محاولات الإدماج الحالية بين الموسيقى وبين فنون أخرى كالأوبرا والسينما والباليه؛ ذلك لأن الجانب البصري من العرض يشتت الذهن ويصرفه عن الموسيقى التي يستحيل أن تكون مجرد أداة للترفيه (إلا في أنواع ك «الأوبريت» الخفية مثلا؛ حيث يستطيع المشاهد بسهولة أن يوزع انتباهه بين المرئي والمسموع) وربما لم تكن لدينا القوة الروحية التي تساعدنا على استيعاب فن قوامه تعبيرات متعددة وعميقة في آن واحد. بل إن من الجائز ألا يكون التآزر بين حواسنا كاملا إلى الحد الذي يسمح بأن تستمتع الأذن والعين معا، وبقدر متساو من العمق، بالعرض الذي يجمع بين الموسيقى وبين التمثيل والغناء أو الرقص.
ومن هنا كان من حق المرء أن يتساءل (على المستوى النظري على الأقل): وما الداعي إلى هذا التآزر ما دامت الموسيقى تبعث فينا متعة كاملة؟ هل يستطيع أي فن آخر أن يضيف شيئا، أو يزيد شيئا، على التأثير الذي تحدثه سيمفونية كبيرة مثلا؟ ألسنا نجد فيها عالما كاملا يشتمل على كل عناصر المتعة الجمالية، حتى العنصر التشكيلي ذاته؟ وبعبارة أخرى، فإذا كانت الدراما الإغريقية قد نجحت في الجمع بين العناصر الفنية كلها في مركب واحد، فهل يحتاج العصر الحديث إلى إحيائها في الوقت الذي تستطيع فيه الموسيقى وحدها أن توفق بين هذه العناصر؟ تلك مسألة كان للموسيقي الألماني الكبير «ريشارد فاجنر» فيها رأي خاص، ناقشناه في كتاب آخر من هذه السلسلة («ريشارد فاجنر»، المكتبة الثقافية، رقم 134، ص102-117).
الإيقاع في التاريخ وبين الشعوب
إذا رجعنا في الزمان إلى المراحل القديمة للمدنية، وجدنا الإيقاع الموسيقي يرتبط بأصلين لكل منهما طبيعة تناقض طبيعة الآخر؛ فهو من جهة يرتبط بالشعائر والطقوس الدينية، ويكون جزءا لا يتجزأ من مظاهر العبادة أو من الطقوس السحرية التي تحل محلها. وهو من جهة أخرى يرتبط بأداء العمل الجسمي اليومي، وبالحركات الجسمية التي يؤديها الناس أثناء قيامهم بمختلف الأعمال المادية. وهكذا يتضافر الأصل الروحي مع الأصل المادي في تحديد منشأ الإيقاع منذ أقدم العصور.
ولو تأملنا المجموعات الرئيسية التي تنقسم إليها البشرية، لوجدنا أن نظرتها إلى الإيقاع، ومكانة الإيقاع بين فنونها، تختلف إلى حد بعيد؛ إذ يحتل الإيقاع المكانة الأولى بين عناصر الموسيقى جميعا لدى الشعوب الزنجية. وفي الشعوب الشرقية تظل للإيقاع مكانة كبرى، ولكن اللحن
Bilinmeyen sayfa