والجواب الثاني: أن قوله " تتلو " يريد به بأمر من يتلو عليك،
وهو جبريل عليه السلام. إلا أن التلاوة لما كانت بأمره أضافها إلى نفسه، وهذا صحيح، يدل عليه الكتاب والمعنى الصحيح. فأما الكتاب، فالدليل عليه قوله تعالى: " وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله " وقوله تعالى: " نزل به الروج الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين " وصار هذا كقوله في قوم نوح: " إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية " يعني السفينة، فأضاف الحمل في السفينة إلى نفسه، والحامل فيها نوح عليه السلام، إلا أنه لما كان بأمره أضاف الحمل إليه، والدليل على الحامل أنه كان نوحا عليه السلام، قوله تعالى: " قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين " وهذا أيضا كقوله تعالى في قصة مريم عليها السلام: " فنفخنا فيها من روحنا " والنافخ كان جبريل عليه السلام إلا أنه لما كان نفخه بأمره أضاف ذلك إلى نفسه فلذلك أضاف التلاوة إلى نفسه لما فعلت بأمره. وكذلك قوله تعالى: " فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف " وجبريل عليه السلام الذي كان أتى البنيان، لكن لما كان بأمره أضافه إلى نفسه وكذلك قوله تعالى: " ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم " والذي جاءهم بالكتاب هو النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لما كان مجيئه بالكتاب إليهم بأمره تعالى أضاف ذلك إلى نفسه، والقرآن من هذا مملوء إذا تتبع، إنه يضيف الفعل إلى نفسه وإن كان الفاعل له غيره، لما كان بأمره.
وأما الدليل من كلام العرب، فإنه يقال: نادى الأمير في البلد، فيضاف النداء إليه لما كان بأمره، وإن كان المنادي غيره، فصح ما قلناه.
ثم نقول لهم: أليس الله تعالى قال: " نحن نقص عليك أحسن القصص " أتقولون: إن الله تعالى قاص ؟ هذا قول لا يجوزه أحد من المسلمين؛ لكن لما قص عليه جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى أضاف القصص إلى نفسه، لما كان بأمره، وقد بين ذلك بقوله: " بما أوحينا إليك هذا القرآن " فالقرآن كلامه وصفته، وقص جبريل عليه السلام على الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن الذي تضمن قصص الأولين وأخبارهم. فإن احتجوا على أن القراءة هي المقروء بما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " قرأ الله طه ويس قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، فلما سمعت الملائكة قالوا: طوبى لأمة ينزل هذا عليها " قالوا: فأضاف القراءة إلى الله تعالى. فالجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أنه ذكر أن القراءة وجدت قبل السموات والأرض بألفي عام، ودل على أنها لم تكن موجودة ثم وجدت، والمقروء القديم ليس لوجوده أولية، بل هو موجود بوجوده تعالى، فدل على الفرق بين القراءة والمقروء، لأن المقروء موجود بوجوده تعالى.
والجواب الثاني: أنه أمر بعض الملائكة أن يقرأ " طه " و" يس " قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، فلما سمعت الملائكة ذلك قالوا ما قالوا؛ وأضاف القراءة إلى نفسه. لما كانت بأمره، فصار هذا كقوله تعالى: " الله يتوفى الأنفس حين موتها " والمتوفي هو ملك الموت، بدليل قوله تعالى: " قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم " لكن لما كان توفيه لهم بأمره أضاف ذلك إلى نفسه.
فصل
ومما يقوى جميع ذلك من السنة: أن الفعل يضاف إلى الآمر به، وإن كان لم يفعله بنفسه، وإنما أمر بفعله؛ ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا؛ والنبي صلى الله عليه وسلم لم يباشر الرجم بنفسه، لكن لما أمر الصحابة جاز أن يضاف إليه.
Sayfa 43