إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا وأعلم أن مذهب أهل الحق والسنة والجماعة أن كلام الله القديم ليس بمخلوق، ولا محدث، ولا حادث، ولا خلق، ولا مخلوق، ولا جعل، ولا مجعول، ولا فعل، ولا مفعول. بل هو كلام أزلي أبدي هو متكلم به في الأزل، كما هو متكلم به فيما لا يزال. لا أول لوجوده، ولا آخر له، وأنه لا يقال إن كلامه حكاية ولا عبارة ولا إني أحكي كلام الله، ولا إني أعبر كلام الله، بل نقول: نتلو كلام الله، ونقرأ كلام الله، ونكتب كلام الله، ونحفظ كلام الله، وأنه يجب التفرقة بين القراءة والمقروء، والتلاوة والمتلو، والكتاب والمكتوب، والحفظ والمحفوظ، ولا يجوز أن يطلق على كلامه شيء من أمارات الحدث من حرف ولا صوت، ولا يقال إن القديم يجوز حلوله في المحدث كحلول الشيء في الشيء. وقد قدمنا الأدلة على جميع ذلك وحققناه، ومذهب المشبهة الحلولية المجسمة؛ أن كلام الباري حروف وأصوات وأنه قديم، وأن الحروف والأصوات التي توجد في كلام الخلق كلها قديمة، لا أخصص بعضها على بعض، وهذا قول يفضي إلى قدم العالم عند كل محقق، ومنهم من قال: بل الأصوات والحروف إذا ذكرنا الله تعالى بها أو تلونا بها كلامه قديمة، فإذا ذكرنا بها غير الله وأنشدنا بها شعرا كانت محدثة، وهذا جهل عظيم وتخبط ظاهر، لأن الشيء عندهم على هذا القول تارة يكون محدثا ثم يصير قديما، وتارة قديما ثم يصير محدثا، وليس في الجهل أعظم من هذا وكفى به ردا لقولهم. ومنهم من يقول: أصواتنا وحروفنا بالقرآن قديمة وبغير القرآن محدثة، وهذا مثل القول الأول على الحقيقة وإن اختلفت العبادة، وقد بينا فساده، ومنهم من حدث في هذا الوقت وبان له فساد الأقوال المقدم ذكرها فقال بجهله: أقول إن القرآن بأصوات وحروف تكلم بها الله، وإن كلامه حروف وأصوات، لكن حروف قديمة وأصوات قديمة، لا تشبه هذه الحروف والأصوات المخلوقة التي تجري في كلام الخلق، وهذا أيضا جهل من قائله، ويؤدي أن لا يكون في المصاحف القرآن. لأن الحروف التي تكتب بها المصاحف هي هذه الحروف التي تجري في سائر ما يكتب ويؤدي إلى أن القرآن الذي نقرؤه ليس بقرآن، لأن القرآن بحروف وأصوات قديمة، ولا تشبه هذه الحروف والأصوات، ونحن لا نسمع إلا صوتا مثل هذه الأصوات، ولا نرى حرفا ولا نسمعه إلا مثل هذه الحروف؛ وهذا القول يوجب أن لا يكون عندنا قرآن بالجملة أو يؤدي إلى أن يكون هذا القرآن بهذه الحروف والأصوات المعروفة غير ذلك القرآن الذي هو بحروف وأصوات قديمة، لا تشبه هذه الحروف والأصوات، والجميع فاسد باطل، وسيأتي بطلان مقالتهم في هذا وغيره في جواب ما يزعمون أنه حجة لهم في هذا وغيره، إن شاء الله تعالى.
وزعمت المشبهة أن القراءة هي المقروءة، والتلاوة هي المتلو، وزعموا أن القديم يحل في المحدث ويختلط به، وتمسكوا في جميع ذلك بآيات وآثار زعموا أنها حجة لهم فيما صاروا إليه من هذه البدعة العظيمة التي جميعها يدل على أن كلام الله مخلوق محدث، فاحتجوا في التلاوة هي المتلو، وأن الله يسمى تاليا، ولا فرق عندهم في أن يقال تال أو متكلم، قالوا: والدليل على ذلك من القرآن قوله تعالى: " تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق " وبقوله تعالى. " نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق " . قالوا فسمى نفسه تاليا كما سمى نفسه متكلما وقائلا، والجواب عن هذا وما جرى مجراه من وجهين.
أحدهما: أنا نقول ما أنكرتم أن ما ذكرتم هو حجة عليكم، وأن هاتين الآيتين قد دلتا على الفرق بين التلاوة والمتلو، وأن التلاوة غير المتلو وذلك أنه قال: " نتلوها عليك بالحق " والحق ها هنا هو كلامه القديم الموجود بوجوده القديم بقدمه، والتلاوة لم تكن موجودة ثم أوجدها؛ والدليل على أن الحق هو كلامه القديم الموجود بوجوده قوله تعالى: " أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون " وأيضا قوله تعالى. " حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق " فدل على أن الحق هو المتلو القديم، وأن التلاوة صفة لا فعل ذات. والذي يحقق ذلك قوله تعالى، قال: " وما كنت تتلو " فنفى قبل أن يكون تاليا، ثم أحدث له تلاوة ولم تكن ثم كانت، فالحق الذي هو المتلو موجود ثابت لا يتصف بأنه لم يكن ثم كان.
Sayfa 42