منزلة، وكل ما يجيء من قبل الطبع وعلى حكم الفطرة لا يراه أهله نظرًا يقبلونه أو يردونه،
ولكنهم يرونه ضرورةَ مقضِية ليس لهم على حالٍ بد من قبولها. وإلا فأي قوم كان هؤلاء الجفاة
وهم لم يستصلحوا أنفسهم إلا بما يفسد جماعتهم، ولم يأبوا أن يرأموا لذل غيرهم إلا ليضرب
بعضهم الذلة على بعض؛ ولم يتخذوا السيف نابًا إلا ليأكلهم، ولا الحرب ضرسًا إلا لتمضغهم. .
وكانا أهل جزيرة واحدة وكأنهم في تناكرهم أهل الأرض كلها من قاصية إلى قاصية.
ثم ما عسى أن يكون أمرهم إذا هم قرعوا صفاة الأرض والحال فيهم ما علمت، إلا ما يكون من أمر الحصاة يقرع بها الطود الأشم ثم تنحدر عنه بصوت كالأنين، إن يكن منها فهو
لَعَمرُك استخذاء، وإن كان من الجبل فهو لعمري استهزاء. . .
ولقد كان من إعجاز القرآن أن يجمع هؤلاء الذين قطعوا الدهر بالتقاطع على صفة من الجنسية لا عصبية فيها إلا عصبية الروح، إذ أخذهم بالفطرة حتى ألف بين قلوبهم، وساوى
بين نفوسهم، وأجرأهم على المعدلة في أمورهم، فجعل منهم أمة تسع الأمم بوجهها كيف أقبلت، لأنها لا توجهه إلا لله، فكان بينها وبين الله كل ما تحت السماء.
ومن هذا المعنى نشأت الجنسية العربية، فإن القرآن بدأ كما علمت بالتأليف بين مذاهب الفطرة اللغوية في الألسنة، ثم
ألَف بين القلوب على مذهب واحد، وفرغ من أمر العرب فجعلهم سبيلًا إلى التأليف بين ألسنة
الأمم ومذاهب قلوبها، على تلك الطريقة الحكيمة التي لا يأتي علم التربية في الأمم بأبدع منها.
فأما التوفيق بين مذاهب قلوبهم؛ فبالدين الطبيعي الذي جاء به القرآن ولو نزعت الطبيعة الإنسانية إلى غير معانيه لكانت طبيعة شر وإن ظنت منزعها إلى الخير، وأما التأليف بين ألسنتهم
فيما ذهب إليه من المعنى العربي الذي حفظه القرآن على الدهر، ببقائه على وجهه العربي الفصيح
لفظًا وحفظًا وأداء، لا يجد إليه التبديل سبيلًا، ولا يأتيه الباطل موجهًا أو محيلا، ولا يدخله التحريف كثيرًا أو قليلًا، بحيث كأنه عقدة لغوية لا تحلل منها الألسنة المختلفة أبدًا؛ وهذا من
أرقى معاني السياسة، فإن الأمم إن لم تكن لها جامعة لسانية، لا يجمعها الدين ولا غير الدين إلا جمع تفريق؛ وجمع التفريق هذا هو الذي يشبه الاجتماع في الأسواق على البياعات وعروض التجارة ونحوها، فإن سوق الأمم تتاجر فيها الأديان والأهواء وتكدح فيها المصالح والمفاسد،
وفيها كذلك التغرير والخطار، والكذب والخداع، ولكل من أهلها شرعة ومنهاج.
فبقاء القرآن على وجهه العربي، مما يجعل المسلمين جميعًا على اختلاف ألوانهم، من الأسود، إلى الأحمر، كأنهم في الاعتبار الاجتماعي وفي اعتبار أنفسهم جسمٌ واحد ينطق في لغة
1 / 63