يلقاها جوادٌ وبخيل.
أنت إذا أنعمت على تدبر هذا المعنى، وأطلت تقليب الرأي فيه، وكان لا يعتريك الخواطر إلا ما أحكمه العقل - فإنك واجدَ منه سبيلا إلى وجه من أبين وجوه الإعجاز اللغوي
القرآن الكريم، فهو قد سفه أحلام العرب، وخلع آلهتهم، وقمع طغيانهم، واشتد عليهم بالله محضًا بعد اللين ممزوجًا، حتى جعلت وإؤهم كأنما ترقرق في بعض آياته، ثم لم يهدأ عنهم،
ردد ذلك وكرره، وعمهم به، وأرسله في كل وجه، وقرع أنوفهم؛ وهاج منهم حمية الجاهل:
وجاراهم في مضمار المخاطرة، وإلى حد المقارعة على عزة العشيرة وكثرة الحصى؛ وهم الذين
كانت لهم كل هتفة كأن الأرواح هواة في صوتها، فلا يهتف بها حتى تنهض الأجسام لموتها، تسيرُ على الأرض بالرجال، حتى تطير إلى السماء بالآجال؛ ثم لم يمنعهم ذلك وما إلى ذلك أن ينقادوا ثم ينقادوا!
لا جرم أنها كانت الفطرة اللغوية لا غير؛ وإلا فما بال هؤلاء العرب قد خرجوا من تاريخهم
بعد الإسلام كأنما نزعوا جلدتهم نزعًا، على حين كانت لهم الأمور المطمئنة، والصفا المتوارثة؛ من أخلاقٍ شبُّوا عليها، وعادات ينازعون إليها، وطبائع هم بها أخص وهي بهم أملك
ولم يكونوا مقطوعين عن التاريخ، بل كان لهم ماضٍ أحسن ما تكلف به الأمم، وكانوا على
أحرص ما تكون أمة على ماضيها - كما نصفه في غير هذا الموضع - فلا الزمان تولاهم بعمله وهم
في أرضهم بمقدار ما بنى أو قريبًا من ذلك، ولا هم ورثوا طباعًا من طباع وأخلاقًا من أخلاقٍ
وخرجوا من ماضيهم كما تخرج أمة من أمة في سلسلة طويلة الذرع من حلقات الأجيال التي هي
درجات للنشوء في تاريخ كل مجتمع، ولا رأيناهم فيما وراء ذلك كالشعوب التي تمخض الحوادث مخضًا شديدًا، وتتعاورها بالحروب والفتن، فتهدمها أنقاضًا ولا تبدل منها إلا الشكل
الاجتماعي، وإلا هيئة الوضع، والأمة بعد ذلك هي هي كيف هُدِمت وكيف بنيت: لا تزال على
أعراقها وأخلاقها، وربما عصفت الثورة الكبرى بأمة من الأمم، وألحت عليها بالفتن دائبة.
تسكن العاصفة، وتقر الزلزلة، وتطمئن الأرض وأهلها، ولا يكون من جداء ذلك كله إلا اصطلاح
لغوي في تاريخ الأمة لا يغني من الحق شيئًا؛ كان تكون الأمة غريرة جاهلةَ مستبدًا بها على وجه
من الاستبداد، ثم تصير بعد الثورة غريرة جاهلة أيضًا، ولكن في استبداد على وجه آخر!
فالقرآن الكريم بتمكنه من فطرة العرب على وجهه المعجز، قد نزل منهم منزلةَ الزمان في عمله وآثاره، لأن الذي أنزله بعلمه وقدره بحكمته إنما هو خالقُ الزمن نفسه، فهدم في نفوس
العرب، وكان هدمه بناء جديدًا جعل الأمة نفسها قائمة على أطلال نفسها، وبذلك أحكم عمل
الوراثة الذي تعمله في الغرائز والطباع، إذ تبني بالهدم، وتقيم التاريخ من أنقاض التاريخ؛ وهذا
هو الفرق بين العمل الإنساني والعمل الإلهي. وبين شيء يسمى ممكنًا وشيء يسمى معجزًا.
بلى، ولقد يخيل إليَّ أن ألفاظ القرآن كانت تلبس العرب حتى تتركهم كالمعاني السائرة التي
لا تزال تطيف بالرؤوس.
فما بين العقل وبين أن تلجه هوَادة، ولا بين الوهم وبين أن تصدعه
1 / 62