التاريخ بلسان واحد، فمن ثم يكون كل مذهب من مذاهب الجنسية الوطنية فيهم قد زال عن
حئزه، وانتفى من صفته الطبيعية، لأن الجنسية الطبيعية التي تقدر بها فروض الاجتماع ونوافلها
إنما هي في الحقيقة لون القلب لا سَحْنَةَ الوجه.
وقد ورث المسلمون عن أوليتهم هذا المعنى: فلا يعلم في الأرض قوم غيرهم يعتصمون بحبل دينهم وأيديهم في الأغلال، ويجنحون إليه بأعناقهم وهي في ربَق الملوك من الإذلال
ويخصونه بقلوبهم حتى يكون أملك بها وأغلب عليها ولا يحتملون فيه سخطة، ولا يؤثرون عليه
رضى، ولا يعدلون به عدلًا، ويتبرمون بكل ضيق إلا ما كان من أجله، ويرضون المحنة في كل
شيء إلا فيه، ثم هم لا يرون أنفسهم المؤمنة في إحساس الفطرة، ومذهب الطبيعة إلا أنها بقايا
سماوية في الأرض تباين كل ما فيها (أي الأرض) ويشبه بعضها بعضًا بالصفة والخاصة أني وجدت:
وكيف اتفقت وعلى أي حالة كانت، وهذا كله مشاهد فيهم على أتمه وأبلغه، بعد كل ما رهقهم.
بالعجز عن مداولة الأيام، وصدمهم من أهل الاستبداد بكل محنة من الآلام، وتوردهم من الزمان
بكل سفه يعد في السياسة من الأحلام.
على أنهم لا يعرفون أصل ما يحسونه، ولا يتصلون إلى سببه، وكأنما تقطع ما بينهم وبين
أسلافهم، وقد بقي القرآن على ذلك معروفًا مجهولًا، ينفعهم بما عرفوا منه ولا يضرونه بما يجهلون (فَإِنْ تَوَلَّؤا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) .
وإن من أعجب ما يروعنا من أمر الجنسية العربية فىِ القرآن: أنها تأبى إلا أن تحفظ على: أهلها تلك الصفات العربية؛ من الأنفة والعزة والصوت والغَلَب: وما يكون من هذا الباعث الاجتماعي الذي لا يزال يفتح للشعوب عن مقاصير الأرض.
كما أنها تستبقي طاعة المغلوبين الذين أعطوا للفاتحين عن أيديهم، وانطرحوا في غمرهم
وكانوا أهل ذمتهم: لانتحالهم العربية طوعًا أو كرهًا، ثم بقائها في ألسنتهم على نسبة بينة من
الفصيح مهما ركت ومهما رذلت؛ ولولا القرآن وأنه على وجه واحد وهيئة ثابتة، ما بقيت العرب، ولا تبينت النسبة بين فروعها العامية، بل لذهب كل فرع بما أحدث من الألفاظ، وما استجد من
ضروب العبارة وأساليبها، حتى يتسلل كل قوم من هذه الجنسية إن كانوا من أهلها أو من أهل
ذمتها، ثم لا تستحكم لهم بعد ذلك ناحية من الائتلاف ولا يستمر لهم سبب من الارتباط.
ويوشك أن لا يستقبلوا بعد من قادة الأمم وحيتان الأرض إلا مَن يستدبرهم راعيًا أو ملتهمًا. ثم يمكَّن لهم من دينهم، ثم لا يثبتون عليه إلا ريثما يتحولون في استحاقهم بالأمة التي وثبت بهم وما
مضوا في ذلك على العزيمة والتشدد، فإنه لا عزيمة لقلب خذله اللسان، ولا تشدد للسان خذله القلب، ولا استقلال لشعب تخاذلت ألسنتهم وقلوبُهم، وتلك سنة من السنن (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا) .
1 / 64