والدهريون الذين يرد عليهم الأفغاني برسالته هذه هم أصحاب الفلسفة المادية التي أخذت تتناثر أنباؤها حينئذ، وقد كتب الأفغاني رده باللغة الفارسية، ثم نقلها إلى العربية الإمام محمد عبده، مستعينا في ذلك بأديب أفغاني، وإنما كتبها ليجيب بها عن سؤال جاءه من رجل فارسي يستفسره حقيقة المذهب المادي الذي أخذ يشيع في الناس: «يقرع آذاننا في هذه الأيام صوت «نيشر نيشر» (= طبيعة). ولا تخلو بلدة من جماعة يلقبون بلقب «نيشري». ولقد سألت أكثر من لاقيت من هذه الطائفة ما حقيقة النيشرية؟ وفي أي وقت كان ظهور النيشريين؟ وهل طريقهم تنافي الدين المطلق؟ ولكن لم يفدني أحد منهم عما سألت بجواب شاف كاف؛ ولهذا ألتمس من جنابكم العالي أن تشرحوا حقيقة النيشرية والنيشريين بتفصيل ينفع الغلة ويشفي العلة والسلام.»
ذلك هو موجز الخطاب الذي ورد إلى الأفغاني، فكانت رسالة «الرد على الدهريين» هي الجواب، وقد قسمها قسمين: أولهما «في حقيقة مذهب النيشرية والنيشريين وبيان حالهم»، والثاني «في أن الدين الإسلامي أعظم الأديان»، وهذا التقسيم كاف وحده للدلالة على أن الخطر المخوف من ثقافة الغرب الوافدة، هو ما عساها أن تؤثر به في ديانة المسلمين؛ لأن الحرص على نقاء هذه الديانة، هو - فوق كونه من واجبات المؤمن - ضروري لتثبيت أركان القومية السياسية التي كان الأفغاني من طلائع دعاتها، وإلا لما اقتضاه الرد على مذهب فلسفي معين، أو الرد على نظرية بيولوجية بعينها، دفاعا عن الإسلام وبرهانا على عظمته بالنسبة إلى سائر الأديان.
وليس من الإنصاف في شيء أن ننقد رسالة الأفغاني بنظرة الدارس العالم، سواء كان ذلك في جانبها الذي يمس العلوم الصرف، أو كان في جانبها الذي يمس مذاهب الفلسفة الأوروبية؛ لأننا لا نظن أن الأفغاني كان مزودا بعلم العلماء ولا بفلسفة الفلاسفة في دقائقها وتفصيلاتها، إنما أخذ الموضوع أخذ «المثقف» العام لا أخذ الدارس المتخصص، وحسبنا في هذا أن نقرأ له ختام خطابه الذي أرسله ردا على خطاب السائل الفارسي؛ إذ يقول: «... أرجو أن تكون (أي رسالة الرد على الدهريين) مقبولة عند العقل الغريزي لذلك الصديق الفاضل، وأن تنال من ذوي العقول الصافية نظرة الاعتبار.» فمن هذه العبارة يتبين أن الأفغاني قد وجه الحديث في رسالته إلى فئتين من الناس، إحداهما أصحاب «العقل الغريزي» - ومنهم صاحب الخطاب - والأخرى أصحاب العقول الصافية»، ونحن وإن كنا لا ندري على وجه الدقة ماذا يراد ب «العقل الغريزي» عند الأفغاني (لأن لغة العلم الحديث تجعل العقل والغريزة ضدين) إلا أننا نأخذ العبارة على أنها تعني ما نسميه اليوم ب «الإدراك المشترك»
Common Sense
الذي لا يحتاج صاحبه إلى تعلم متخصص بل يكفيه أن يشارك الناس في جوهم الثقافي العام، وكذلك لا ندري على وجه الدقة مراده ب «العقول الصافية» سوى أن نرجح أنه يعني بها عقولا صفت من «الغريزة» لتصبح «منطقا» صرفا، لكن العقول المنطقية الخالصة في حد ذاتها لا تكفي للدلالة على نوع الموضوع الذي تخصصت في دراسته، ولهذا لم يكن بين من خاطبهم الأفغاني برسالته أحد هو بالضرورة ممن أجادوا دراسة الفلسفة المادية ولا دراسة النظرية الداروينية اللتين تعرض للرد عليهما، والظاهر أنه قد اكتفى في ذلك كله بما عنده هو من «ذلك الإدراك المشترك نفسه».
وأعود فأقول إنه ليس من الإنصاف أن نجد الأفغاني يتناول موضوعه تناول «الأديب» لا تناول «العالم»، ثم نصر مع ذلك على نقده بنظرة العلماء المتخصصين، ولو فعلنا ذلك لما ثبتت رسالة الرد على الدهريين لحظة أمام النقد، حتى وإن قصرنا أنفسنا على علوم عصره، ودع عنك أن نضيف إليها ما قد وصل إليه العلم بعد ذلك، وإلا فماذا يقول الأفغاني وهو يأخذ على أصحاب الفلسفة المادية اعتمادهم على «أحكام الصدفة» إذا قلنا له إن «أحكام الصدفة» هذه - وهي نفسها قوانين الاحتمال - قد أصبحت الآن قاعدة أساسية تنبني عليها العلوم الطبيعية - فضلا عن العلوم الإنسانية - جميعا، وشرح ذلك يطول، وماذا يقول الأفغاني الذي أخذ على أصحاب المذهب المادي بأن مذهبهم يؤدي إلى تسلسل الأطوار إلى غير ابتداء، وهو تسلسل غير متناه، «وغفل أصحاب هذا الزعم عما يلزم من وجود مقادير غير متناهية في مقدار متناه، من المجالات الأولية» - هكذا يقول الأفغاني، فماذا لو أنبأناه بحقيقة يأخذ بها الرياضيون اليوم، وهي إمكان «وجود مقادير غير متناهية في مقدار متناه»، وشرح ذلك أيضا يطول، وهل ترى رجلا أبعد عن دراسة النظرية الداروينية من الأفغاني حين يقول: «وعلى زعم داروين يمكن أن يصير البرغوث فيلا بمرور القرون وكر الدهور، وأن ينقلب الفيل برغوثا كذلك.» أو حين يزعم أن داروين قد حكى عن جماعة أنهم «كانوا يقطعون أذناب كلابهم، فلما واظبوا على عملهم هذا قرونا صارت الكلاب تولد بلا أذناب، كأنه يقول حيث لم تعد للذنب حاجة كفت الطبيعة عن هبته.»
لا، لا ينبغي - بل لا يجوز - أن يؤخذ رد الأفغاني كما تؤخذ ردود العلماء بعضهم على بعض؛ لأنه رد صادر عن موقف وجداني رافض، ليخاطب به جمهورا هو بدوره يقف موقفا وجدانيا رافضا بالنسبة إلى الثقافة الوافدة من الغرب الحديث. فلو نظرنا إلى الموقف كله على أنه موقف وطني قومي ينشد التميز من الغرب المهاجم بعلمه وبقوته، فقد كسب الأفغاني ما أراد، لكننا لو نظرنا إليه على أنه رد علمي على نظرية، لما ترددنا في القول بأنه قد خسر المعركة، وترك النصر لخصومه.
وأما المعركة الفكرية الثانية فقد انقلب فيها الوضع، بحيث كان النصر خالصا للفكر العربي على زميله الأوروبي؛ وذلك لأن ميدانها كان دينيا على الأغلب؛ إذ أخذ المهاجم يوازن بين الديانتين المسيحية والإسلامية، فاضطر المدافع أن يرد على الموازنة بموازنة مثلها، فكانت الحجة القوية في جانب الدفاع، والمهاجم هنا هو هانوتو، والمدافع هو الإمام محمد عبده، الذي أدار دفاعه على البيان بأن ما اتهم به «الإسلام» باطل من وجهين: الأول أن شواهد التاريخ لا تؤيده، والثاني أنه كلما صحت التهمة كانت واقعة على «المسلمين» بما أحاط بهم من ظروف أفقدتهم لب عقيدتهم، لا على «الإسلام» من حيث هو عقيدة استطاع المؤمنون بها أن يعلوا إلى ذروة العلم والعمل معا، هذا فضلا عن أن ما اتهم به المسلمون، يمكن مشاهدته في المسيحيين كذلك، مما يدل على أن المسألة لا تتعلق بالعقيدة الدينية، إنما هي نتيجة لظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية.
كان هانوتو في مقاله قد أدخل في موازنته بين الديانتين موازنة أخرى ظنها وثيقة الصلة بالموضوع، وهي الموازنة بين الآريين والساميين، ليخرج من المفاضلة بتفضيل الأولين على الآخرين، فيتناول الأستاذ الإمام هذه النقطة بالتفنيد القوي الحجة، مستندا إلى أن شعوبا آرية معينة تهدر الكرامة الإنسانية في بعض طوائفها، وإلى أن أوروبا قد وصلتها عوامل المدنية من أمم سامية لا من أصول آرية، على أن النظرة المنصفة تدرك على الفور أن الحضارة الإنسانية قد أخذ آريها من ساميها، وساميها من آريها، ولا فرق بين هؤلاء وأولئك: «فلا زالت الأمم يأخذ بعضها عن بعض في المدنية لا فرق عندهم بين آري وسامي، متى مست الحاجة إلى تناول عمل أو مادة أو ضرب من ضروب العرفان ... وقد أخذ الغرب الآري عن الشرق السامي أكثر مما يأخذه الآن الشرق المضمحل عن الغرب المستقل.»
ثم ينتقل الأستاذ الإمام من نقطة الآرية والسامية إلى لب المشكلة عنده، وهو الدين؛ فقد زعم هانوتو أن ديانة التشبيه والتجسيم أفضل من ديانة التوحيد والتنزيه، قائلا إن الأولى ترفع الإنسان إلى منزلة الآلهة، بينما تهبط الثانية بالإنسان إلى حضيض الضعف والحيوانية، ثم أقحم مسألة القدر في هذه القسمة، فجعل أتباع الديانة الأولى يؤمنون بالإرادة الإنسانية الحرة، على حين أن أتباع الديانة الثانية يؤمنون بسلطان القدر عليهم، فيرد الأستاذ الإمام على هذا الزعم بأن لا دخل لنوع العقيدة - مشبهة كانت أو منزهة - بالكلام في القدر، بل إن الأمر في هذا ليتفرع عن الاعتقاد بإحاطة الله بكل شيء وشمول قدرته لكل ممكن، سواء كان صاحب هذا الاعتقاد من أصحاب التشبيه أم من أصحاب التنزيه.
Bilinmeyen sayfa