نحو شخصية عربية جديدة
أم المشكلات في حياتنا الفكرية هي محاولة التوفيق بين تراث الماضي وثقافة الحاضر؛ فمن تراث الماضي تتكون الشخصية الفريدة التي تتميز بها أمة من سائر الأمم، ومن ثقافة الحاضر تستمد عناصر البقاء والدوام في معترك الدول؛ فالأمة العربية عربية بما قد ورثته عن الأسلاف من عوامل أهمها العقيدة واللغة ومواضعات العرف والتقاليد، وكذلك نقول إن الأمة العربية قد استطاعت الصمود في دوامات هذا العصر العنيفة الخارقة، بمقدار ما استطاعت أن تساير حضارة هذا العصر في أفكاره ووسائله، فإذا هي اقتصرت - من جهة - على فكر الماضي وطرائق عيشه ووجهة نظره، جرفها الحاضر في تياره؛ لأن له من الوسائل المادية ما لا قبل لها بدفعه، وإذا هي اقتصرت - من جهة أخرى - من الحاضر على علمه وفنه وصناعته وسائر معالمه، ضاعت ملامح شخصيتها، وانطمست فرديتها، ولم يعد لها وجود إلا كما يكون لقطرة الماء في البحر المتجانس وجود متميز خاص، فهل من سبيل إلى التقاء الطرفين في مركب واحد، يزيل ما بينهما من تباين وتضاد، ويؤلف بينهما في نسيج ثقافي متسق منسجم، يكون هو عندئذ ما نطلق عليه اسم الثقافة العربية المعاصرة؟ ذلك هو السؤال الذي ألقي في حياتنا الفكرية منذ قرن أو يزيد، والذي كانت محاولة الإجابة عنه إجابة مقنعة هي ميدان الصراع الفكري.
إن محاولة التوفيق بين تراث الماضي وثقافة الحاضر - أو قل بين تراث الماضي وثقافة الغرب في حاضرها وماضيها على السواء - أقول إن محاولة التوفيق بين هذين الطرفين مشكلة بالنسبة إلى كل مجتمع متطور؛ فقد شهدناها عند العرب الأقدمين في محاولتهم التوفيق بين العقل والنقل - والعقل عندئذ هو رمز لفلسفة اليونان، والنقل رمز لأحكام الشرع - وشهدناها عند مفكري الغرب إبان العصور الوسطى في قيامهم بالمحاولة نفسها التي حاولها فلاسفة المسلمين، وشهدناها في النهضة الأوروبية حين حاول أعلامها الجمع بين النهضة العلمية في عصرهم والتراث الكلاسي الذي ابتعثوه عن أسلافهم الرومان واليونان، كما شهدناها في روسيا القرن التاسع عشر، بين الثقافة السلافية الخالصة وثقافة غربي أوروبا. لكن محاولة التوفيق هذه إنما تكون أشد إشكالا وتعقيدا بالنسبة إلى الشعوب الآسيوية والإفريقية التي ظفرت بحريتها حديثا من براثن المستعمر - بما في ذلك الأمة العربية - وذلك لأن المشكلة قد أضيف إليها من العناصر ما زادها عسرا، ومن هذه العناصر المضافة إلى ثقافة العصر، التي يراد التوفيق بينها وبين تراث الماضي، هي نفسها ثقافة المستعمر. وإنه لعسير على النفس أن تقبل على ثقافة ارتبطت عندها بمن استغلها واستذلها، واستهان بثقافتها وعقائدها، فإذا كان المستعمر كريها ممقوتا، فكذلك كانت - عند معظم الناس - ثقافته المرتبطة به؛ إذ ليس من اليسير على الكثرة الغالبة من الناس أن تقوم بعملية التجريد العقلية التي تفصل بين المستعمر وثقافته، بحيث ترفض الأول وتقبل الثانية، ولهذا سرعان ما ارتبطت الحركة القومية في جانبها السياسي الذي حاول الفكاك من قيود المستعمر، ليظفر بالحرية والاستقلال، سرعان ما ارتبط هذا الجانب السياسي من الحركة القومية بالجانب الثقافي الذي حاول أصحابه تثبيت الجذور المحلية في تربة الأرض، لتعود إلى الأمة شخصيتها التي أوشكت على الضياع، فرأينا حركة إحياء شامل لما كان قد اندثر - أو أوشك - من مقومات الحياة الماضية إبان قوتها، وفي مقدمة هذه المقومات العقيدة الدينية، لا لأن هذه العقيدة هي في حقيقتها من أهم أركان البناء الثقافي - إن لم تكن أهمها جميعا - فحسب، بل لأنه قد تصادف كذلك أن عقيدة المستعمر في معظم البلاد الآسيوية والإفريقية مخالفة لعقيدة الشعب في هذه الأمة أو تلك، فكان من الطبيعي - إذن - أن تقترن الحركات الوطنية بالدعوة إلى إحياء العقيدة الدينية وتنقيتها، مما قد علق بها من شوائب الخرافة في فترات الضعف السياسي والتدهور الفكري.
لكن هذه المقاومة التي تجعل إحياء الدين - وغيره من مقومات التراث - محورها الوحيد، هي - في رأينا - مقاومة سلبية، قد تصلح كل الصلاحية في المرحلة الأولى من مراحل النهوض. وأما في المراحل التالية، فلا بد أن يضاف إليها مقاومة إيجابية كذلك: قوامها الأخذ عن القوي مصادر قوته. ومصادر القوة عند القوي في عصرنا هي العلم والصناعة قبل سواهما.
هذه واحدة، والأخرى أن المقاومة التي تجعل إحياء الدين - وغيره من مقومات التراث - محورها الوحيد، حتى في مرحلة صلاحيتها من مراحل النهوض، قد تجيء مقاومة صحيحة، أو مقاومة زائفة، بحسب القدرة التي يمتاز بها صاحب المقاومة، والأساس الفكري الذي يصدر عنه، والهدف الذي يرمي إليه، والوسائل التي يصطنعها لبلوغ ذلك الهدف؛ فقد شهدنا في حياتنا الفكرية الحديثة من أصحاب هذه المقاومة من يعلو بها إلى أوج ومن يهبط بها إلى حضيض.
على أنها بأوجها وحضيضها لم تعد الآن هي الروح السائدة في البلاد المتحررة من قبضة المستعمر؛ إذ الروح السائدة الآن في هذه البلاد، يمكن تلخيصها في هذا السؤال: كيف نرد لأنفسنا كرامتها، بإحياء ثقافتنا التقليدية والرفع من شأنها، مع إقامة البرهان العملي - في الوقت نفسه - على كفاءتنا في ميدان التنافس مع من كانت لهم السيادة علينا ظلما وعدوانا؟ وهي سيادة كانت ترتكز - أولا وقبل كل شيء على ركيزة العلم والصناعة، وإذن فلا بد لنا من هذه الركيزة بكل ملحقاتها لنستطيع الصمود في ميدان التنافس، وها هنا يعود سؤالنا الأول من جديد: هل في ثقافتنا التقليدية التي نريد إحياءها وتقويتها ما يتعارض مع هذه الركيزة التي نحن في أشد الحاجة إليها؛ ركيزة العلم والصناعة؟ وإذا لم يكن هناك تعارض بين الجانبين، فما سبيلنا إلى دمجهما في وحدة عضوية واحدة؟
هنا كثر بيننا الخلاف وتشعب الرأي، على مدى القرن الممتد من منتصف القرن الماضي إلى منتصف هذا القرن، لاسيما في العشرات الأخيرة من أعوامه، فكان منا فريق يعلي من شأن الطابع القومي الأصيل حتى لينسى ما نحن في حاجة إليه من سلاح العلم الحديث والصناعة الحديثة، وفريق آخر كان همه الأول هو أن نلحق بركب الحضارة العصرية، بكل ما فيها من علم وصناعة وغيرهما من ضروب الفكر وألوان الحياة؛ لأنه لو كان المستعمر قد وجد فينا ثغرة ينفذ منها، فتلك الثغرة هي ما كان يعوزنا من العلم والصناعة، وهيهات أن نفلح في صده أمدا طويلا بغير هذين العاملين، مهما تجمع في أيدينا من مقومات التراث، ولا شك أن الصواب كل الصواب لا هو مع الفريق الأول، ولا مع الفريق الثاني، بل هو مع فريق ثالث ينشد الجمع بين الطرفين في مركب واحد، بقدر ما يستطيع إلى ذلك من سبيل، وفي تكوين هذا الفريق الثالث يجب أن تنصرف الجهود.
ونسوق ها هنا أمثلة ثلاثة من فكرنا الإسلامي الحديث، نشهد خلالها كيف يجيء فكرا قويا حينا، وفكرا ضعيفا حينا آخر، وفكرا اختلطت فيه القوة والضعف حينا ثالثا. ونبدأ بهذا النوع الثالث الذي يمثله جمال الدين الأفغاني.
فقد نشبت معركة فكرية حول نظرية التطور في علم البيولوجيا والمذهب المادي في الفلسفة (وقد لا يلزم أن تكون بينهما صلة ضرورية؛ إذ قد تأخذ بنظرية التطور في البيولوجيا دون أن تلتزم بالمذهب المادي الذي يرد كل شيء إلى مادة، والعكس صحيح أيضا؛ فقد تذهب إلى أن الكون كله مادة، دون أن تأخذ بنظرية التطور البيولوجي) أقول إن معركة فكرية قد دارت رحاها بين نظرية التطور والمذهب المادي في الفلسفة من جهة، وبين المناصرين لإحياء العقيدة الدينية من جهة أخرى، على ظن من هؤلاء أن ثمة تناقضا بين هذه العقيدة وبين ما جاءت به نظرية التطور وما جاء به المذهب المادي.
وليس يهمنا الآن أن نورد تفصيلات هذا المذهب المادي في الفلسفة، أو تلك النظرية التطورية في علم البيولوجيا - فهما مما يمكن الرجوع إليه في مصادره - لكن الذي يهمنا هو كيف قوبلت هذه الأفكار الغربية الحديثة عند مفكرينا، لنرى مواضع الصدام بين ثقافة العصر من جهة، وثقافة التراث من جهة أخرى، وأن هذا الموقف بطرفيه، ليتمثل في كتاب «الرد على الدهريين» لجمال الدين الأفغاني.
Bilinmeyen sayfa