لم يقتصر لقاء التعارض بين هانوتو ومحمد عبده على فعل ورده، بحيث ينتهي الأمر إلى صفر، كأن لم يحدث تعارض ولا لقاء، بل كان من أثره أن تنبهت أذهاننا - ابتداء من الأستاذ الإمام نفسه - إلى وجوب إعادة النظر في تراثنا الفكري، وفي السائد بيننا من عرف وتقليد، لنسلط عليه أشعة من فكر العصر الحديث - الذي صميمه هو العلم - لنرى على أي وجه نوائم بين أنفسنا وبين روح عصرنا، بحيث تتكون من هذه المواءمة شخصية جديدة لا تفرط في ملامحها الأساسية الأصيلة، ولا تغمض العين عن ضرورات العصر الراهن، وفي هذا تكمن أقوى قوة للأستاذ الإمام في تاريخنا الثقافي الحديث.
لو سار بناة الشخصية العربية الجديدة على هذا المستوى القوي الرفيع الذي سلكه الشيخ محمد عبده، والذي قوامه رد الاعتداء عن المقومات الأساسية في تراثنا، ثم الإفادة من مصادر القوة العلمية في عصرنا، حتى لا نستنيم لسحر الماضي وحده، لاجتنبوا كثيرا من مواضع الزلل، لكن ظهر من بيننا رجال اشرأبت أعناقهم نحو أن يسيروا على الدرب وراء الإمام، دون أن تسعفهم من طبائعهم قوة تعينهم على ذلك السير، فتعثرت خطاهم في مجاهل وأوهام، من هؤلاء مؤلف كتاب «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي»، فهو في طموحه لأن يصبح بدوره «إماما»، أو ما يشبه الإمام، راح يذود عن العقيدة الدينية في عشوائية عجيبة، ضد من؟ ضد نفر من مواطنيه؛ فالمتهم هنا ليس هو داروين كما كان عند الأفغاني، ولا هو هانوتو كما كان عند محمد عبده، بل المتهمون هم مؤلفو كتب «الإسلام وأصول الحكم» و«مستقبل الثقافة في مصر» و«خرافة الميتافيزيقا»، ذكرهم بأسماء كتبهم، ولم يذكر أسماءهم، كأنما يشرفه أن يستخف بأمثال الدكتور طه حسين وعلي عبد الرازق وأن يجعلهم أدوات في أيدي المستعمرين.
ولما كنت صاحب هذا الكتاب الأخير، وهو كتاب خصص للرد عليه مؤلف «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» فصلا كاملا تحت عنوان «الدين خرافة» فقد عنيت بقراءته، لأجد كلاما هو أبعد ما يكون عن الرد العلمي لما أراد أن يرد عليه، ولعله في ذلك معذور؛ لأن مثل هذا الرد كان يتطلب درجة من دقة التحليل لا أظنه قد درب على مثلها، نعم، قرأت ذلك الفصل لأجد فيه ما هو أقرب إلى الخطبة الحماسية التي أراد بها - وسأفرض فيه النية الحسنة لأنه ليس ثمة ما يدعوه إلى غير ذلك - أراد بها أن يثير نفوس قرائه ضد صاحب الكتاب - لا أن يقنع عقولهم - لأن العقول تحتاج إلى منطق صرف، والخطب الحماسية لا تلتزم مثل هذا المنطق ... نعم، أراد بها أن يثير نفوس قرائه، بادئا حملة الإثارة منذ عنوان كتابه؛ إذ يجعل جزءا من هذا العنوان عبارة تقول عن مواطنيه الذين تصدى لمهاجمتهم في دعاواهم الفكرية إنهم ذوو صلة بالاستعمار الغربي، ثم يتابع حملة الإثارة الانفعالية بالنسبة إلى كاتب هذه السطور، فيجعل عنوان الفصل الذي خصصه لمهاجمة كتابه «خرافة الميتافيزيقا»: «الدين خرافة»، وكأنه يستنتج من عنده أن الخائن الذي عاون الاستعمار بكتابه، قد خرج كذلك على دينه، ألم يقل إن الميتافيزيقا خرافة؟ إذن يكون الدين خرافة!
وحتى إذا سلمنا مع صاحب هذا الهجوم أن هذه نتيجة تلزم عن العنوان الأصلي للكتاب الذي يهاجمه، فلماذا لم يذكر هذا العنوان الأصلي مكان بديله الذي اختاره له؟ ألأن كلمة «ميتافيزيقا» لا تثير النفوس بمثل ما تثيرها كلمة «الدين»؟
ولقد كانت هذه البداية المغرضة كافية لصدنا عن متابعة ما أورده من حديث؛ لأنها بداية من لا يعتزم الدخول في جدال فلسفي نزيه، لكننا تابعناه لنرى كيف خدم القضية التي تصدى لخدمتها فوجدناه ينثر الأسماء الإفرنجية يمينا ويسارا، بالأحرف العربية تارة، وبالأحرف الإفرنجية تارة أخرى، وهي أسماء لفلاسفة ومذاهب، ذكرها، لا لأنها تصلح أن تكون ردا على ما أراد الرد عليه، بل لأنها تتعاون مع ما أثبته عن شخصه على غلاف الكتاب، من أنه «دكتور من جامعتي برلين وهامبورج بألمانيا، وأنه دكتور من هناك في الفلسفة وعلم النفس والدراسات الإسلامية»، ولست أدري في الحق كيف اجتمعت هذه الفروع كلها في رسالة للدكتوراه، ولم يكن ذلك ليكون من شأني، لولا أنه دلني على أن الرجل لم يخصص نفسه للدراسة الفلسفية التي تعينه على تتبع تحليلات الفلاسفة، حين تجاوز هذه التحليلات حدود المفاهيم الخطابية، التي تستخدم في إثارة الوجدان، ولا يهمها أن تتجه بالمنطق البارد نحو العقول، وحسبنا من ضعف إلمامه بالحركات الفكرية في ميدان الفلسفة أن يخلط بين «الوضعية المنطقية» وبين «المذهب الوضعي» الذي ينسب إلى «أوجست كونت»، حتى لقد طفق يشرح للناس هذا المذهب (مذهب أوجست كونت) ويكيل له الضربات، وهو يظن أنه يهاجم ما ندعو إليه!
إن في هذا الخلط وحده لفصل الخطاب، إن صاحب هذا الخلط الفكري بين وضعية كونت ووضعية شليك، وفتجنشتين، وكارناب، ونيوراث، الذين لم يخطر بباله أن يقرأ سطرا واحدا لواحد منهم، أقول إن صاحب هذا الخلط الفكري العجيب، هو الذي يأخذ على مؤلف «خرافة الميتافيزيقا» أنه يردد فكر الغربيين باسم التجديد، وأنه يردده «مشوها أو محرفا».
ثم انظر إلى طريقة مؤلف «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» في استدلال النتائج من المقدمات؛ فقد ذكر عبارة وردت في خرافة الميتافيزيقا، تقول: «نشأت الميتافيزيقا من غلطة أساسية ... وهي الظن بأنه ما دامت هناك كلمة في اللغة، فلا بد أن يكون لها مدلول ومعنى، وكثرة تداول اللغة ووجودها في القواميس يزيد الناس إيمانا بأنها يستحيل أن تكون مجرد ترقيم أو مجرد صوت بغير دلالة، لكن التحليل يبين لك أن مئات الألفاظ المتداولة والمسجلة في القواميس هي ألفاظ زائفة ... وما أشبه الأمر هنا بظرف يتداوله الناس في الأسواق مدة طويلة، على أنه يحتوي على ورقة من ذوات الجنيه، حتى يكتسب الظرف قيمة الجنيه في المعاملات، وبعدئذ يجيء متشكك ويفض الظرف ليستوثق من مكنونه ومحتواه، وإذا هو فارغ، وكان ينبغي أن يبطل البيع به والشراء، لو تنبه الناس إلى زيفه من أول الأمر.»
يذكر المؤلف هذا النص من كتاب «خرافة الميتافيزيقا» ليستدل منه - وا عجباه - أن الكلمة المشار إليها والتي يتداولها الناس في كثرة، ماذا تكون إلا اسم الجلالة؟ أي والله وا عجبي من نتيجة كهذه تجيء من نص كذاك! فهل كان الحديث في النص عن كلمة واحدة معينة؟ ألم يرد في النص ما يشير إلى مئات الألفاظ؟ أم إنك تضرب بالنص الذي ذكرته أنت بنفسك، عرض الحائط لتستدل منه ما يتفق مع هواك، ومع ما عساه أن يثير وجدان الكراهية عند قارئك؟! وأعجب العجب أنك تصرح لهذا القارئ أنك إنما تفهم هذه النتيجة من خلال النص المذكور، وإن لم يصرح بها مؤلف خرافة الميتافيزيقا، كأنما تريد أن تقول لقارئك: دع عنك ما ورد في النص المختار من عبارة «مئات الألفاظ المتداولة» وتعال معي نقصر الأمر على لفظة واحدة؛ لأننا نحن - أولاد البلد - يفهم بعضنا بعضا، ونفهمها من وراء السطور وهي طائرة، ومحال أن يضحك على أذقاننا كاتب مادي كمؤلف «خرافة الميتافيزيقا»، إنه يقول شيئا لكننا سنفهمه على وجه آخر؛ لأننا لسنا من الغفلة بحيث يفوتنا ما يعنيه وإن لم يصرح به.
وبالله لا تضحك أيها القارئ، إذا ما أنبأتك أن مؤلف كتاب «الفكر الإسلامي الحديث» الذي يستنتج من نص كهذا نتيجة كهذه، هو نفسه الذي يقول عن صاحب «خرافة الميتافيزيقا» إن كلامه «لا يدل فحسب على قلة إدراك اللغة العلمية، بل يدل أيضا على أن البتر في النقل عن الغير يكاد يكون صفة من صفات التجديد في الفكر الإسلامي الحديث عند هؤلاء المرددين.» ورحمكم الله يا أصحاب العقول السليمة؛ فقد تولى الحديث عنكم أستاذ أجاد «اللغة العلمية» إجادة تامة، وتنزه عن «البتر» الذي يقترفه «المرددون» لما ليس يفقهون.
لا، إن الشخصية العربية الجديدة لا تبنى بمثل هذا الهجوم الحاقد، ينهش به بعضنا بعضا، بل تبنى على دعامتين: صيانة التراث صيانة بصيرة عاقلة، ثم اكتساب القوة من مصادرها في العصر الذي نحياه، ومحاولة استخراج الوحدة العضوية التي تضم الدعامتين معا في بناء واحد، وهو طريق بدأه منذ أول هذا القرن الأستاذ الإمام محمد عبده، وما يزال يهتدي به - من حيث المبدأ - ولكن على صور شتى، رجال الفكر المخلصون.
Bilinmeyen sayfa