ولكن هذه الصفات نفسها كانت تحببه إلى الجمهور المؤلف من العمال والصناع، فكان يلتف حوله، ويزيد سخطه على النظام الإمبراطوري، يعزو إليه كل نقيصة في الحالة الاجتماعية أو الاقتصادية.
وفي سنة 1869 انتخب جامبتا عضوا في المجلس الاشتراعي، وأخذ أيضا في متابعة حملاته على الإمبراطورية، حتى صار له حزب في المجلس يناوئ الحكومة، ويفتش عن عيوبها ويشهر بها. وكانت قاعة المجلس مبنية بهيئة دور التمثيل؛ فهي من جانب نصف دائرة يجلس فيها النواب، ويجلس فوقهم الجمهور والصحفيون، فإذا وقف الخطيب لم يوجه كلامه إلى رئيس المجلس كما هو الشأن في إنجلترا أو أمريكا، وإنما يواجه النواب والجمهور. ومثل هذا يستثير الروح الخطابية، ويبتعث في الخطيب الفصاحة والذلاقة، بخلاف ما يجري في إنجلترا مثلا؛ حيث الخطيب يواجه الرئيس الذي يطالبه بالموضوعية ويمنعه من الاستطرادات أيا كانت.
وحدث أن جامبتا وهو يخطب، جالت عيناه بين الجمهور، فرأى فتاة هيفاء تكاد تكون نحيفة، قد كست يديها بقفازين أسودين، وكان سائر ملابسها قاتما، فتأكدت من ذلك نصاعة لون بشرتها. وكانت هذه الفتاة تحدق فيه بنظرها، فإذا حملته موجة الحماسة وهو يخطب رأى الفتاة تتحمس لحماسته، يرتفع صدرها ويهبط، وتختلج أعضاؤها، وتحمر وجنتاها، كأنها هي التي تخطب.
واطرد الحال على هذا المنوال جملة أشهر، حتى لم يشك جامبتا في أنها تحبه كما يحبها. وحدث في سنة 1780 أن وقف جامبتا خطيبا في المجلس، وأخذت فصاحته تتدفق عن فضائل النظام الجمهوري. وأخذ يصرح بهذه الفضائل، ويجهر بصوته عاليا، بما لم يسبق أن فعل مثله قبلا. وكان وزراء الإمبراطور يسمعون له وهم خانسون، وقد تقنفذ كل منهم في مكانه، وسائر الأعضاء صامتون، قد ذعر بعضهم بهذه الصراحة حتى وجم، وسحر البعض الآخر بحسن بيانه وبلاغته حتى بقي مبهوتا يحدق النظر في الخطيب وكله آذان مستمعة.
وما انتهى جامبتا من خطبته حتى التقى النظران، فرأى وجه هذه الحبيبة ينطق بالإعجاب والعطف.
وقد قلنا إن جامبتا كان جافي الطبع، لم يعاشر من الناس إلا طبقات العمال والصناع، ولذلك لم يكن يعرف ذلك العرف الذي يجري بين الطبقات العليا، وتلك العادات المألوفة بينهم في احترام الإحساس ومراعاة الذوق، والتلطف في الإشارة والكياسة في السلوك. ولذلك عندما انتهى جامبتا من خطبته أخرج ورقة من محفظته، وكتب سطرا أو سطرين، ثم هتف بأحد الخدم، وأعطاه هذه الورقة، وطلب إيه أن ينفذها إلى السيدة، وكان هذا حدث علنا أمام الأعضاء والجمهور.
ولكن الفتاة كانت أرق حاشية وأوفر أدبا من جامبتا؛ فإنها أخذت الورقة والعيون ترقبها، فلم تفتحها، بل مزقتها وألقتها على الأرض، وهي صامتة هادئة، كأن لم يحدث لها شيء. وتنبه بعد ذلك جامبتا، وعرف أنه يعامل امرأة لها كرامة النساء الشريفات.
ثم حدثت حرب السبعين بين ألمانيا وفرنسا، وحوصرت باريس، وكان جامبتا بها يهيئ وسائل الدفاع. وبقي على ذلك مدة، ثم رأى أن يجهز جيشا لاستخلاص باريس ورد الألمان عن فرنسا، فركب بالونا طار به من باريس في جنح الظلام، وهبط في جنوب فرنسا؛ حيث أخذ يؤلف الجيوش لمحاربة الألمان. وكانت الهزائم من نصيبه في أكثر ما وقع بينه وبين جيش العدو، ولكنه كان مع ذلك دءوبا على حشد الجيوش ومناوأة الألمان، وكان يقول في ذلك: «يجب ألا نرضى بالصلح، ما دام في فرنسا مائتا ألف جندي قد عبئوا للقتال، وما دام عندنا ألف مدفع نسددها نحو خطوطه.»
ولكن فرنسا كانت قد ملت القتال، وفترت عن مجاهدة عدوها ورضيت بالصلح الذي عقد في فرساي!
واجتمعت «الجمعية العمومية» في فرساي، وصار جامبتا عضوا فيها. وبينما هو في إحدى خطبه، لاحت منه نظرة إلى مكان الزائرين، فرأى الفتاة، فتحول إلى إحدى غرف المجلس، وكتب لها هذه الرقعة: «ثم ها أنا ذا أراك مرة أخرى، فهل حقيقة أنك أنت هي؟»
Bilinmeyen sayfa