وتراثنا من فرويد هو «التحليل النفسي » وهو لا يمكن أن يموت، وقصارى ما سوف يحدث أن تتغير الأسماء والعبارات؛ لأن صميم التحليل النفسي هو الانتقال من الفكرة الكامنة المتسلطة بالعاطفة إلى الوجدان؛ أي إلى الدراية. وحتى مع اتجاه السيكلوجية في أيامنا إلى التجربة، وهو اتجاه عظيم القيمة جدا، فإن التحليل سيبقى مفتوحا للنفس البشرية نفهم منه خباياها ونتعمق أسسها.
وقد ولد فرويد من أبوين يهوديين في عام 1856، ومات في عام 1940 منفيا مطاردا من وطنه فيينا عاصمة النمسا، فإن النازيين الذين استولوا على النمسا طاردوا اليهود، وكان فرويد على الرغم من إلحاده معدودا بين اليهود.
وحفلت عواصم أوروبا فيما بين عامي 1900 و1940 بالمناقشات الحامية بشأن التحليل النفسي، كما حفلت بالانشقاقات والخصومات، مما دل على أن السيكلوجية الفرويدية كانت ولا تزال في طور المذاهب، ولا ينقص هذا من فضل فرويد.
ولما نزل في هذا الطور لم نستقر، ولكن فرويد كان كما قلت، بمثابة الخميرة التي بعثت سلسلة من الأفكار لما تنته حلقاتها، وهذا هو أكبر فضله في تربيتي.
إليوت سميث وأصل الحضارة
حين أتأمل الشخصيات العظيمة التي أثرت في حياتي تغييرا أو توجيها، وأبحث القوة الجذبية التي جذبتني إليها، أجد أنها ثلاثة طرز:
فأما الطراز الأول فهو أولئك الذين تتسم حياتهم أو مؤلفاتهم بغلواء حين يحيون أو يفكرون على القمة والذروة. فهم نيتشه في جنونه المقدس، يحيل حياته إلى مغامرة فلسفية، ويدعونا إلى أن ننسلخ من رواسب الخرافات الماضية ونتولى بأنفسنا مصير مستقبلنا، وهم دستوفسكي في غلواء الحب الغامر للبشر، والإحساس الديني الذي تتذبذب به أوتار نفسه. وهم غاندي الذي يكافح إمبراطورية سوداء بكلمات عذبة من الطهر والشرف فيخجل منه العالم ويسلم باستقلال الهند.
وأما الطراز الثاني فهو أولئك الذين أعطوني منهجا للحياة، فهم جيته الذي عاش طالبا مدى حياته يزيد وجدانه بالتوسع في الثقافة والزيادة من الاختبارات، ويشتغل بالسياسة والأدب والعلم والفنون، وهم برنارد شو يجعل من أدبه كفاحا للظلم والاستبداد والدناءة والقبح، وهم «ه. ج. ولز» يرفع الصحافة إلى مقام الفلسفة، فيدرس شئون العالم إلى تدين بشري جديد كأنه إحساس يغمر قلبه وعقله.
وأما الطراز الثالث فهم أولئك الذين أعطوني المعارف الخصبة أو الأفكار الحوامل، مثل فكرة التطور التي أحدثت لي مركبات ثقافية، كأنها العقدة النفسية في المريض تدأب في تفرع، ولكن مع التسلل والتستر. ولقد استطاعت هذه الفكرة الداروينية أن تجعل حياتي جميعها استطلاعا دائما. وهم فرويد الذي حملني على دراسة العشرات من الكتب. وهم «إليوت سميث» الذي فتح لي من أبواب التاريخ البشري ما لا أزال أنفذ منه إلى ميادين فسيحة من الفهم والعلم.
هؤلاء علموني ... أكسبوني بالحياة الغالية التي عاشوها على القمم إيحاءات كأنها صلوات بالقلب، أو أعطوني منهجا أعيش به عيش الخدمة والكرامة والشرف مع الرضا بالتضحية، أو غرسوا في ذهني غراسا صالحة تنمو وتتفرع كأنها نبت ينير خلايا المخ ويسطع أنوارا تقشع ظلام الجهل. •••
Bilinmeyen sayfa