مقدمة
المؤلفون يغيرون الدنيا
فولتير
جيته
داروين
فيسمان
هنريك إبسن
نيتشه أو فتنة الشباب
إرنست رينان
دستوفسكي
Bilinmeyen sayfa
ثورو ونداء الطبيعة
تولستوي
فرويد وتشريح النفس البشرية
إليوت سميث وأصل الحضارة
هافلوك إليس والزواج الانفصالي
جوركي والأديب المكافح
شو
غاندي
ويلز
شفايتزر
Bilinmeyen sayfa
جون ديوي
سارتر
مقدمة
المؤلفون يغيرون الدنيا
فولتير
جيته
داروين
فيسمان
هنريك إبسن
نيتشه أو فتنة الشباب
Bilinmeyen sayfa
إرنست رينان
دستوفسكي
ثورو ونداء الطبيعة
تولستوي
فرويد وتشريح النفس البشرية
إليوت سميث وأصل الحضارة
هافلوك إليس والزواج الانفصالي
جوركي والأديب المكافح
شو
غاندي
Bilinmeyen sayfa
ويلز
شفايتزر
جون ديوي
سارتر
هؤلاء علموني
هؤلاء علموني
تأليف
سلامة موسى
كن رجلا ولا تتبع خطواتي!
جيته
Bilinmeyen sayfa
مقدمة
المؤلف الذي نحبه ليس فقط صديقا نأتنس بآرائه ونستفيد بأفكاره، إنما هو أكثر من ذلك.
هو بهذه الآراء والأفكار يتسلل إلى قلوبنا وعقولنا فيؤثر في شخصيتنا أو يغيرها. وهو بهذه المثابة، نفسي فسيولوجي له دورة حيوية في وجودنا. ولكن المؤلف العظيم، ليس هو الذي يجعلنا نرى الدنيا بعينيه ونشهد على الناس والأشياء بضميره، وإنما هو الذي يعلمنا الاستقلال رائين ومشاهدين معا، وإن لم يكن في رؤيته وشهادته قد فتح بصيرتنا.
إن كل إنسان كون نفسه؛ ولذلك له الحق في أن يسأل في استقلال، وأن يجيب في استقلال عما يحس وعما يجد، وهؤلاء المؤلفون الذين تخصصوا في الرؤية والشهادة جديرون بأن نقرأهم، ولكن يجب أن نحذرهم، وهيهات أن نحذرهم؛ ذلك لأن لكل كاتب إيحاءاته التي لا طاقة لنا بالتخلص منها، وأحيانا له إيعازاته التي تندس إلى عقولنا من حيث لا ندري، ولكن علينا في كل حال أن ننشد الاستقلال.
وقد تأثرت بهؤلاء الكتاب الذين ذكرتهم في هذا الكتاب وأحببتهم وأعظمتهم، ووجدت فيهم النور والتوجيه، ولكني حاولت الاستقلال، وهذا ما أنصح به القارئ الذي يجب أن ينصت إلى قول أمير الأدب جيته؛ إذ يقول: «كن رجلا ولا تتبع خطواتي!»
س.م
المؤلفون يغيرون الدنيا
الحياة مشروع نضع تخطيطاته منذ نبدأ الوجدان وندري ما نفعل، أو هي خارطة نأخذ في رسمها مدة سبعين أو ثمانين سنة. فنحن المسئولون عن إتمام هذا المشروع أو رسم هذه الخارطة. ومع أننا نعرف من السيكلوجية الحديثة أن سلطة الأبوين، وسط العائلة، وطراز المجتمع الذي نعيش فيه، وتراثنا البيولوجي، نعرف أن لكل هذا أثره في تكويننا وتوجيهنا، فإن النظر إلى الحياة باعتبارها مشروعا يخطط أو خارطة ترسم، هذا النظر يستحق الاعتبار، ويجب أن تكون له مكانة في الطاقة النفسية لكل إنسان. وإذا كانت «الوجودية» تجعل من الفرد المسئول الأول عن أعماله، وتزعم أن هذا فلسفة، فلا أقل من أن نسلم نحن بهذا الزعم ونهدف منه لا إلى الفلسفة، ولكن إلى البناء الأخلاقي.
وحسن في الأخلاق أن نقول إننا مسئولون عما نفعل، وفيما يلي بعض الخطوط التي أنقلها إلى القارئ الشاب عن مشروع حياتي أو خارطتها، فقد يكون فيها عبرة صغيرة إلى جانب الزبد الكثير.
بدأت أرسم خارطة حياتي حوالي عام 1906 حين ساء الوسط العائلي، وكان يتعقبني بالعذاب «رجل نيوروزي» جعلني أبيت وأصبح في كرب لا يطاق، ففررت إلى أوروبا. وهناك انبسطت لي آفاق، وحلمت أحلاما ورأيت رؤى، وشرعت أدرس اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وأختلط بعناصر جديدة في المجتمعات والعائلات، وأقرأ من الكتب ما يشع النور في عقلي ويبعث الشجاعة في قلبي، فقررت من ذلك الوقت، وأنا حوالي العشرين أن أكون متمدنا ومثقفا. وقد مضى علي نحو خمس وأربعين سنة وأنا أعاني الخصومات بسبب هذا القرار السري!
Bilinmeyen sayfa
رأيت شعوبا حرة لكل منها الكلمة العليا التي تتضح في الانتخابات البرلمانية، ورأيت مشاكل الشعب تدرس في البرلمان الذي له وحده حق تعيين الوزارات وإسقاطها، ورأيت جرائد تعالج المذاهب وتناقش الساسة، ورأيت الاجتماعات التي يجتمع فيها الرجال والنساء ويبحثون فيها مشاكل العالم. ورأيت البيت النظيف، والشارع النظيف، والكتب العديدة، والمكتبات المجانية، واختلطت بكل ذلك، وتحدثت إلى الفرنسيين والإنجليز، وشرعت عندئذ آخذ بأساليب المتمدنين، وأهدف إلى أهدافهم، وأدرس وأتعلم وأتجول وأتأمل ...
وعرفت فوق ما عرفت أن المرأة يمكن أن تكون إنسانا حرا لا يختبئ من الدنيا وينظر إليها من صير القفل، ولكن يواجهها في شجاعة، تتعلم وتعمل وتتحمل المسئوليات.
ورأيت جمالا في الحب بين الشبان والفتيات، رأيت التمدن! وعنيت أكبر العناية بتعلم اللغتين الإنجليزية والفرنسية، واتصل عقلي عن سبيلهما، بأكبر العقول القديمة والحديثة، وكثيرا ما كنت أسهر الليل كله حتى الصباح، وأنا في لذة الحماسة بقراءة كتاب لنيتشه أو قصة لدستوفسكي أو كتاب للعقليين أعداء القرون المظلمة.
والتحقت بالجمعية الفابية، ورأيت برنارد شو في لحمه ودمه، وكانت هذه الجمعية تومئ في بداية هذا القرن إلى منتصفه، وكانت دعوتها إلى الخير والبر ترافقها دعوة أخرى إلى الشرف والشجاعة، وسمعت من منبرها رجالا ونساء من الإنجليز يقولون: «يجب أن نخرج من مصر»، فأحببت الإنجليز ... وكرهت الاستعمار. ورأيت بين أعضائها رجالا ونساء يقبلون على الأدب الروسي، ويدرسون المشاكل التي خلفها داروين، ويبحثون «تنازع البقاء» ومعاني «العصرية»، ويتعمقون الطبيعة لاستخراج ما فيها من أخلاق، من تنازع أو تعاون.
ورشحت نظرية التطور إلى وجداني وتشبعت بها فصارت مزاجي وأسلوبي، وكبرت قيمة الإنسان في نفسي؛ لأني عرفت تاريخه الماضي في مئات الملايين من السنين، كما صرت أحس بتاريخه القادم في المئات من السنين أيضا، وتحملت بهذه المعرفة مسئولية وأحسست دينا، ولم ينقص من قيمة هذا الدين أنني وقفت على مئات الخرافات التي وقع فيها الإنسان، لا، بل إن هذه الخرافات قد زادتني احتراما وحبا للإنسان؛ إذ هي كانت محاولاته المتكررة للوصول إلى الحقائق، فقد انتقل من السحر إلى العلم، ومن النجامة إلى الفلكيات، ومن الكهانة إلى الضمير، ومن ذلق الرق إلى شرف الإنتاج.
وكان أكبر جزء في «مشروع» حياتي أني احترفت الثقافة، فكانت حرفة وهواية معا، لا أبالي ما فيها من تعب وعرق. وقد بنيت بها شخصيتي وأنضجت بها وجداني، واستطعت أن أنسلخ من عقائد الطفولة، وأن أصل إلى اليقين الجديد بهداية داروين وأينشتين، وأصبح عقلي عالميا عاما أحس صداقتي لنهرو، وخصومتي لتشرشل، وأعنى بدراسة الصحارى، واحتمال زراعتها في آسيا وأفريقيا، وأفكر في مستقبل الأحياء، وأخشى انقراض بعضها. أجل أحس أن العالم كله قد أصبح وطني، ليس لي حق التفكير في مصالحه فقط، بل علي هذا الواجب. وثقافتي لذلك ليست عربية أو إنجليزية أو فرنسية، وإنما هي عالمية، هي في التاريخ وعلى مستوياته، قديمة ووسطية وعصرية، مهما اختلفت لغاتها أو مؤلفوها.
ومع أن ثقافتي قد فصلت بيني وبين الكثير من الناس لاختلاف مستويينا، فإنها بسطت لي آفاقا شاسعة من الفرح والأمل والتأمل والعبرة، فجعلت حياتي أكثر حيوية، وحبي للطبيعة أحم وأعمق، وفهمي للكون أوفى وأنور.
وقد عرفت هذا الفرق بيني وبين سائر الناس حين وقفت أمام الدينصور قبل أربعة شهور في متحف التاريخ الطبيعي في باريس، فإني وقفت عنده وجعلت أدور حوله وأتأمله وأتخيله أكثر من ساعة.
وكنت أرى بالطبع الهيكل العظمي فقط لهذا الحيوان الذي كان يعيش على أرضنا قبل نحو مائة مليون سنة، وكان أكبر من الفيل يزيد عليه في الجرم نحو أربعة أضعاف. كان لا يختلف كثيرا من السحلية أو الورنة، وكان يبيض مثلهما، وقد انقرض لأنه كان جسما بلا مخ أو بمخ صغير يفضله مخ البطة أو الكلب ألف مرة، فلما تغير مناخ الدنيا ضاقت حياته، فعجز ومات وانقرض.
وقد بقيت شهورا أقرأ وأفكر في موضوع الدينصور، ثم في ماضي النوع البشري ومستقبله بعد إذ دخلنا في العصر الذري، هذا العصر الخطر الذي تكاد تتغير فيه وجهة التطور بإبادة الإنسان، ثم تحيا الأرض بعد ذلك نحو مليون سنة في الظلام، إلى أن يكون الشمبنزي قد تهيأ للسيادة والتسلط عليها!
Bilinmeyen sayfa
ومع أني احترفت الأدب والعلم والثقافة، فإن هذه جميعها هي عندي حياة كفاح أكثر مما هي حرفة؛ ولذلك أنا لا أبالي ما يقال عن أسلوب الكتابة، ولكني أبالي أسلوب الحياة، ولا أعبأ ببلاغة العبارة، ولكني أعنى بأن تكون الحياة بليغة، بحيث نحيا متعمقين متوسعين. ومع أني ألفت نحو خمسة وثلاثين كتابا فإن كتابي الأول الذي عنيت بتأليفه هو حياتي؛ هذا المشروع، هذه الخارطة التي رسمتها والتي أعود إليها من وقت لآخر بالمحو والتنقيح والتصحيح. بل إن الكتب التي ألفتها هي فصول من كتابي الأول من حياتي.
وليست حياتي هذا العمر القصير الذي أحياه بدمي ولحمي، وإنما هي تعود إلى ألف مليون سنة مضت، ألم أكن سمكة في يوم ما؟ ألم أعش على الشجر في وقت ما؟ لقد حمل جسمي آثار هذه الملايين من السنين الماضية ولا يزال بعض هذه الآثار واضحا، أراه بعيني إلى الآن كما أرى بعيني وأسمع بأذني كلمات مصر الفرعونية وآثارها في العقائد العامية بل الشعبية.
وكذلك ليس هذا الماضي هو كل العمر، فإني أحمل من الاهتمامات بمستقبل البشر ما يعد هموما شخصية لي؛ لأني أدين بنظرة، كدت أقول عقيدة، التطور، ولذلك لا أطيق عبث الأطفال الذين يقيدون حرية الفكر، أو يكرهون الكتب، أو يؤخرون الصناعة، أو يستمسكون بالخرافات والتقاليد المؤدية؛ إذ هم أعداء التطور.
ومن أجمل الإحساسات التي أستمتع بها في فترات اليأس، والتي تحيل هذا اليأس إلى رجاء أن مؤلفاتي وأفكاري، ومنهجي وكفاحي، كل هذا لن يموت بعد موتي؛ إذ هو سيبقى ويؤثر ويوجه ويفتح النوافذ للنور، وأنا بذلك أتجاوز حياتي، وأحيا بعد موتي. وقد قرأت أكثر من ألف كتاب، وأخصبت الكتب حياتي، وجعلتني مثمرا مضيئا، ولكن الكتاب الأول الذي له فضل الصياغة والتوجيه لشخصيتي هو كتاب داروين «أصل الأنواع»، فإنه زاد عمري من سبعين سنة إلى ألف مليون سنة، وجعلني أحس الوجدان، ليس على هذه الأرض فقط، بل إزاء الكون كله بنجومه وكواكبه وشظايا ذراته، وأحس أن للطبيعة أخلاقا.
هذا هو مشروع خارطة حياتي، فما هو مشروعك؟ كيف رسمت، كيف ترسم خارطة حياتك أيها القارئ؟
هناك زعم أو وهم يقول بأن الساسة يغيرون الدنيا بالاستعمار والحروب والمعاهدات، وقراءتنا المتوالية للصحف تعمم هذا الزعم أو الوهم؛ إذ إننا نجد الأسماء البارزة للساسة، ونقرأ أخبار الحرب الكبرى الأولى، ثم الحرب الكبرى الثانية فيتأيد هذا الزعم أو الوهم.
وليس شك في أن الحروب والمعاهدات تغير، وقد غيرت الجغرافية السياسية للأقطار، كما أنه ليس شك في أن المباشرين لهذه التغييرات كانوا من السياسيين أو العسكريين، ولكن هذه التغيرات لم تكن تصل إلى صميم النفس البشرية . ومع ذلك عندما نتأمل ونتعمق الأسباب والبواعث لهذه الحروب نجد أنها كانت ثمرة أو نتيجة لابتكارات علمية قام بها مفكرون اخترعوا الآلات، أو ابتكروا الأساليب، أو ألفوا الكتب لإعلان نظريات جديدة.
اعتبر هاتين الحربين الكبريين الأخيرتين، فإننا نسمع فيهما عن رجال السياسة ورجال الحرب، ولكن هؤلاء الرجال قد باشروا هاتين الحربين فقط ولم يكونوا السبب لإثارتها؛ لأن السبب يرجع إلى الآلة البخارية التي أخرجها رجل مفكر هو جيمس واط في عام 1776، ذلك أن هذه الآلة قد عممت الإنتاج الكبير، في المصنوعات فاحتاج هذا الإنتاج الكبير إلى الحرب والاستعمار. وما زلنا نحن في حرب واستعمار بسبب هذه الآلة التي أحدثت ولا تزال تحدث مزاحمة دموية بين جميع الأمم الصناعية. والمعنى والدلالة هنا أن السياسي والعسكري قد سار كلاهما في أثر المفكر المخترع الذي انبعث إلى التفكير بقوات اجتماعية أخرى.
وقد غيرت الحربان الأخيرتان تخوم الأقطار؛ أي غيرت الجغرافية السياسية، ولكنها لم تغير الاتجاه البشري أو الاتزان النفسي، فالأوروبي الآن هو الأوروبي الذي يعيش قبل سنة 1914 من حيث إيمانه أو طموحه أو تفكيره أو عاطفته.
ولكن الدنيا تغيرت بالكتب، وعندنا على ذلك المثل الأكبر، فإن كتب الدين قد غيرت النفس البشرية؛ إذ عينت لنشاطها اتجاها وأكسبتها أهدافا لم تكن لتعرفها من قبل. وهذا الخلاف الخطير القائم الذي قد يؤذن بالحرب الكبرى الثالثة بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية، كتاب ألفه كارل ماركس. وهناك عشرات من الكتب الأخرى لها مثل هذا الأثر أو ما يقاربه.
Bilinmeyen sayfa
ولكن المؤلف المبتدع لا يبني على الهواء أو يفكر في الخواء؛ ذلك لأنه يعيش في مجتمع معين يكسب منه عواطفه ويتجه اتجاهاته، فإذا كان ذكيا تبلورت فيه بعض الاتجاهات البازغة، فصار يمايز بينها ويختار أحسنها، فيدفعها بتفكيره، ويزيدها بيانا وقوة حتى تتغلب على غيرها من الاتجاهات، وهو بهذه المثابة يتفاعل مع مجتمعه، فينشأ على أوضاعه ثم يعود فيحاول نشأة جديدة له؛ أي للمجتمع.
وهناك كتب قد غيرت نفوسنا كما لو كانت ديانات جديدة، بل إن الاختلاف بشأن نظرياتها يشبه إلى حد كبير الاختلاف الديني، فإن المختلفين على كتب نيتشه في مذهب القوة يحتدون ويتعصبون، وكتاب داروين عن أصل الأنواع لا يزال يحدث مصادمات ذهنية بين التقليديين والابتداعيين، فهو كفر مظلم عند أولئك، وهو رؤيا مثيرة عند هؤلاء. وإني واحد من أولئك الذين تغيروا بنظرية داروين ... لأن التطور عندي مذهب سام، قدس نفسي وغيرني ووجهني. وهو ليس عندي تفكيرا فحسب، وإنما هو إحساس وعاطفة وحب وروحية.
فقد كان سبينوزا يقول بالوحدة الوجودية على نحو من المذاهب الصوفية الشرقية، ولكنه في ذلك لم يستطع سوى إيجاد الفكرة والفلسفة؛ إذ لم يكن هناك من الأدلة المادية الحسية ما يثبت قوله. أما نظرية التطور فإنها قد غلفت عقولنا ثم استقرت في عواطفنا، فهي إحساس وشهوة تنبض بهما عروقنا وتخفق بهما قلوبنا، وإني حين أقعد تحت ظل شجرة خضراء وأستسلم للأفكار الخضراء أحس بدافع من هذه النظرية، بتلك الوحدة الوجودية حتى لأقول كما كان يقول ذلك القديس المسيحي: أخي الطير وأخي الشجر وأخي الوحش. بل أحس كأني أريد أن أنكب على الأرض كما كان يفعل «اليوشا» في قصة «الإخوة» لدستوفسكي ... هذه الأرض الطيبة، هذه الأم القديمة.
وهذا كتاب واحد من عشرات الكتب التي غيرتني. ولم يقتصر التغيير على العقل، إذ قد تجاوزه إلى النفس، فتغيرت رؤياي للدنيا وتغيرت نفسي ومزاجي وعاطفتي. وهو تغيير يحسبه الجاهل كفرا وأحسبه أنا إيمانا.
وهناك كما قلت عشرات من الكتب البذرية التي تنمو وتتفرع وتتوالد في كثرة لم يكن يتوقعها حتى مؤلفها.
اعتبر الفكرة البذرية في أحد مؤلفات برنارد شو، وهي أن البشر يجب أن يهدفوا إلى استنتاج السبرمان الذي سوف يتفوق علينا ذهنا وروحا وجسما بمقدار ما نتفوق نحن على القردة. ما أطيبها من فكرة وما أبرها من مذهب! إنها مذهب من أرقى المذاهب البشرية الجديدة.
أو اعتبر الفكرة البذرية في كتاب أينشتين، هذا الكون الدائري، وهذه الطاقة الذرية، وهذه المادة التي تذوب في الطاقة، وهذه الطاقة التي تتكاثف إلى المادة.
بل اعتبر هذه القوة الجديدة في هذا العلم الجديد: «علم الطاقة الذرية»؛ فإن المفكرين الذين أحزنهم وهد ضمائرهم إلى إلقاء القنبلة على هيروشيما يسمعون الآن في طرب محاولة الروس نقل المياه التي تذهب عبثا وخسارة إلى المحيط القطبي الشمالي إلى بحر قزوين المتاخم لإيران حيث تروي خمسة ملايين فدان تستحيل من صحراء قاحلة كالحة إلى أرض نضرة تبتسم بالخيرات.
وكل هذا من أثر الكتب. إنها لكتب مقدسة هذه التي تغير الدنيا وتغير اللفتة البشرية، كتب داروين، ولا مارك، وأينشتين، وتولستوي، وبرناردشو، وغاندي وأمثالهم من الذين يرسمون لنا خطوات الفهم والشرف نحو المستقبل. والذهن الذي تربى على هؤلاء المؤلفين، وأكل وهضم من موائدهم. يبصق بصقة الاحتقار على دعاة الرجعية من الكتاب التافهين.
والذهن الذي تربى على هؤلاء المؤلفين وأمثالهم لا يستطيع أن يتسامح في جريمة القتل أو الفسق أو البطش أو الخيانة. ولكنه يعرف أن هناك جريمة تعلو على جميع هذه الجرائم في الخسة والنذالة والحقارة والخيانة، هي الحجر على الذهن البشري ومنعه من التطور بتعيين الكتب التي لا تقرأ ... هذه هي الخيانة الكبرى للإنسانية.
Bilinmeyen sayfa
والحكومة التي تجترئ على مثل هذه الخيانة، فتمنع كتابا قيما من الدخول إلى بلادنا، أو من الطبع أو التداول، هي حكومة تخون الإنسانية وتنتهك الفكر البشري المقدس. وهي بهذا الانتهاك تقاوم الفهم والذكاء عند أبناء الشعب كأنها تحاول أن تجعلهم بلداء أغبياء. •••
من الأسئلة التي يضعها كاتب سخيف لقراء سخفاء هذا السؤال:
لو أنه حكم عليك بالانفراد سائر عمرك في جزيرة أو سجن، أي كتاب كنت ترغب في اقتنائه حتى تأنس أو تنتفع به؟
وسخف هذا السؤال يرجع إلى أن العقل العصري الراقي قد أصبح عقلا مركبا يحتاج إلى التناقض والتناسق، وإلى المنطق والإيمان، وإلى الخيال والتعقل، وإلى التحليل والتركيب، وإلى الحقائق الموضوعية والأفكار الذاتية. وكل هذا لا يمكن أن يحويه كتاب واحد.
ونحن نختار الكتاب في العادة كي نتزيد في معارفنا، ولكن المعارف الموضوعية هي المادة الخامة للثقافة؛ إذ ليست الثقافة معارف فقط، وإنما هي موقف واتجاه وعواطف وعادات في الحياة والممارسة الفلسفية. وصحيح أن كل هذا ينبني على المعارف الموضوعية، ولكن هذه المعارف هي الدرجات الأولى أو الأسس التي نبني عليها حياتنا الفلسفية.
وهناك من الأذكياء من حظوا بمركبات نفسية تبعثهم على الاستطلاع، فيجدون فيها الإيحاء والتوجيه دون الحاجة إلى من يرشدهم. ولكن معظم القراء يحتاجون إلى المؤلف الذي يثير الاستطلاع ويبعث إليهم بالخسائر ويوجه ويرشد؛ إما لأنهم ليسوا على درجة عالية من الذكاء المتسائل، وإما لأنهم قد خلوا من تلك المركبات النفسية التي صادفت غيرهم لاختبارات أو كوارث وقعت بهم فكانت المنبه والمحرك لنشاطهم الذهني.
والمؤلف العظيم الذي يعلمنا هو ذلك الذي يستنبط من المعارف موقفا فلسفيا جديدا، أو خطة واتجاها جديدين للفكر البشري. والكاتب هو الذي يوجهنا أو يغيرنا. وأحيانا يتغير القارئ لأنه انساق في موجة جديدة قد أحدثها كاتب عظيم قد لا يعرفه هذا القارئ، ولكن الموجة التي مست غيره قد انتهت إليه فأثرت فيه وأحدثت وقعا جديدا في نفسه وعقله.
وليس كل منا كما قلنا قادرا على الاستنباط الفلسفي من المعارف، أو ليس قادرا على الاستنباط الأمثل؛ ولذلك نحن نحتاج إلى المؤلفين المستنبطين الذين يبسطون أمامنا آفاقا جديدة، أو يرشدوننا إلى دلالات أخرى غير ما تعودنا، أو يبرزون لنا الفكرة الإيمائية من بين العشرات من الفكرات المألوفة.
وقد تغيرت الثقافة بهؤلاء الكتاب الإيمائيين من عصر لآخر، وبعض العصور يساعد على هذا التغيير؛ لأنه بمركباته الاجتماعية المتغيرة ينشط الذهن بل أحيانا يلهبه، في حين أن العصر الزراعي مثلا يعمم الركود، فلا ينبه المؤلف؛ ولذلك يكثر مؤلفو التاريخ ودعاة التقاليد في المجتمع الزراعي الراكد، أما المجتمع الصناعي أو التجاري المتغير فإنه يبعث المؤلف على بحث الأخلاق والعقائد والأفكار، وقد يهتدي في هذا البحث إلى ما يلائم من خطة أو فلسفة أو وجهة جديدة، وهذه هي النهضة.
وحيث تكون النهضات، كما في إيطاليا في القرن السادس عشر، أو فرنسا في القرن الثامن عشر، نجد التساؤل والاستطلاع، ثم الاستنباط تحليلا وتركيبا. فالمؤلف يسلط النور والحرارة معا على المجتمع المتغير الذي يعيش فيه، فيؤلف عن وجدان اجتماعي وإحساس روحي واختلاق فني، وقد يحدث من ذلك أحيانا اختلاط وفوضى، ولكنهما ليسا أمارة الانحلال، وإنما هما علامة النشاط في مجتمع يمرح مرح الطفولة التي تزخر بالحياة.
Bilinmeyen sayfa
وهذا بعكس المجتمع الزراعي حيث ركود التاريخ والتقاليد، فإن مثل هذا المجتمع لا يربي المؤلف المجدد، بل هو قد يمنع الكتب التجديدية الأجنبية من الانتشار، ويحظر التفكير في ميادين دينية أو اقتصادية أو اجتماعية؛ إذ هو كالمريض يكره الحركة ولا يتمنى أكثر من الهدوء، ولو كان هدوء الموت؛ ذلك لأنه لا يجد في هذا التجديد ما ينبهه تنبيه الصحة، ولكنه يجد فيه ما يزعجه بل يزلزله.
وعلى القارئ أن يختار الكتب كما يختار المعلمين والأصدقاء الذين ينشد فيهم النور والنار معا. وهذه الكتب هي التي تخرج به عن مألوفه، وكما يخرج الفقير الذي يعيش في زقاق محدود إلى الحقول، فينتعش ويتنفس الهواء الجديد، كذلك يجب على القارئ أن يخرج عقله من المعارف المألوفة؛ أي من الطريق الدهس، إلى تلك الآفاق الرحبة حيث النور والهواء المنعشان. أجل، وحيث الوعورة في الطبيعة البكر التي تبعث على التفكير البكر الوعر.
ولكل عصر مناخه الثقافي، ولكننا نعيش في مصر في مناخ لا يلائم القرن العشرين، وإنما يلائم القرن العاشر! أجل نحن في عقم ثقافي، ومن هنا كان تخلفنا الاجتماعي والاقتصادي، ومن هنا أيضا تفاهة التفكير في المفكر التافه، حين يقول إن الطربوش شعار وطني، أو إن المكان الطبيعي للمرأة هو البيت، أو حين يتحدث عن الكم الطويل والكم القصير، كأن هذا الموضوع يرتفع في اعتباره إلى مقام المشكلة الفلسطينية.
ومرجع هذا أن هؤلاء المساكين لم يرتقوا بكتاب توجيهي ينقلهم من الركود إلى النشاط؛ ولذلك كثيرا ما أقعد إلى أحد هؤلاء فأجد أنه قد بلغ الستين من السن الزمنية، ولكنه لا يزيد على صبي في العاشرة من حيث النضج السيكلوجي.
ولا أستطيع أن أقول إن الكتب العربية ترتفع إلى مقام يتيح لها تخريج الرجل الناضج الذي يتساءل ويستطلع، وإن كان هناك قليل من الكتب المترجمة قد يؤدي هذه الخدمة. وقد كان في مقدورنا أن نترجم نحو مائة كتاب عالمي من تلك الكتب التي غيرت المجتمع ووجهته، ولكن مجتمعنا الزراعي الحاضر يكره هذا التغيير وهذا التوجيه؛ ولذلك أقول مرة أخرى إننا في عقم ثقافي لا نلد ولا نتوالد؛ ولذلك أقول أيضا في صراحة مؤلمة إن القارئ المصري لن يكون متمدينا على ذكاء نشيط وعلى ثقافة عصرية، إلا إذا درس لغة أوروبية واستمد منها حاجته من الكتب العظيمة والمؤلفين العظماء الذين يستنبطون الفكرة الخصبة من المعارف الخامة، فينعطف التاريخ ويتغير وجه الأرض، وهؤلاء هم المؤلفون الإيمائيون.
وقد قرأت في حياتي مئات الكتب التي زادت وجودي في الدنيا والتي نحوت وتربيت بها، وقد اخترت من مؤلفيها بضعة عشر كان لهم الأثر الأكبر في ترتيب ذهني وتنظيم ثقافتي، ولكن اختياري لهم لا يعني أني أشير على القارئ أن يقرأهم ويعرفهم؛ لأني إنما أردت أن أبسط له بعض الأسباب والنتائج في تكوين شخصيتي، وأن أشير إلى الأعلام البارزة في رحلتي الثقافية عبر عمر قد تجاوز السادسة والستين، وبعض هؤلاء المؤلفين قد عرفتهم قبل أربعين سنة، وإني بالطبع لا أذكرهم هنا إلا لأنهم كانوا اختبارا عميقا أثر في نفسي طوال هذه السنين. وللقارئ أن ينتقد، وأن يعرف من إصاباتي كيف أصبت، ومن أخطائي كيف أخطأت، ثم بعد ذلك عليه أن يستخرج العبرة ثم يستطلع ويتساءل ويختار، ثم يشق طريقه بنفسه.
فولتير
محطم الخرافات
يهفو الذهن إلى ذكرى فولتير كلما هبت على الأمة عواصف الظلام التي تقيد الحرية، وتسوغ الاعتقال، وتمنع الكتب، وتراقب الصحف، وتضع الحدود والسدود للعقول، وتنهك النفوس البشرية بأفظع مما ينهك الفاسق الأجسام البشرية.
ذلك لأن فولتير عاش من أجل الحرية، وكانت إيماءة حياته احترام الإنسان وكرامة الناس وحريتهم. ومن الأحسن أن نقرأ تاريخه، ومن الأحسن أن يقرأه أولئك الذين حملوا النيابة العامة في مصر على أن تقوم بأكثر من أربعمائة تحقيق مع الصحف في أقل من سنتين بين سنة 1944 و1946، ثم بعد ذلك منعوا بعض الكتب الأوروبية من الدخول إلى مصر، كما منعوا بعض المؤلفين من طبع مؤلفاتهم ونشرها.
Bilinmeyen sayfa
ولد فولتير في عام 1694 ومات في عام 1778. وتغير تاريخ أوروبا بحياته؛ إذ نقل هذه القارة من التعصب إلى التسامح، ومن التقييد إلى التحرير، وغرس بذلك شجرة الديمقراطية، وحمل على العقائد والخرافات الضارة فحطمها، كما بسط الآفاق لحكم العقول، فظهرت الحكومات المدنية العصرية. وقد كان فولتير يمثل الطبقة الجديدة البازغة، طبقة الصناعيين والتجاريين الذين شرعوا يأخذون مكان النبلاء في المجتمع الأوروبي، ومن هنا كان إحساسه بضرورة الحرية واحترام الكرامة البشرية عميقا؛ لأن النبلاء الإقطاعيين كانوا يستعبدون الفلاحين. وعاش فولتير طول عمره وفي نفسه حزازة، فإن أحد النبلاء استطاع أن يحبسه في سجن الباستيل وأن يراه وهو يجلد انتقاما منه لبضعة أبيات من الشعر ألفها عنه فولتير. وقد خرج من السجن وهو يبغض النبلاء ويدعو إلى إلغاء النظام الإقطاعي. وسافر إلى إنجلترا وبقي بها أربع سنوات، فأعجب بشيئين هما: الدستور الإنجليزي الذي ينص على أن الحكم للشعب، وأيضا العالم الرياضي نيوتن. ولما عاد إلى فرنسا دعا إلى الأخذ بقواعد الدستور الإنجليزي في الحكم. ولو أن الحاكمين تنبهوا في ذلك الوقت إلى قيمة هذه الدعوة لعملوا بها، وعندئذ كانوا يتفادون بلا شك من جموح الثورة الفرنسية الكبرى.
وأسوأ ما تصاب به أمة أن يتحد الدين مع الاستبداد، وأن يتحالف الطغاة مع الكهنة، بحيث يستند الدين إلى قوة البوليس، ويستند الاستبداد إلى أساطير الدين، وهذا ما فشا في فرنسا في القرن الثامن عشر، فقد صدر قانون في عام 1757 بإعدام المؤلفين الذين يهاجمون الدين. وصحيح أن هذا القانون لم ينفذ؛ لأن الذين وضعوه أحسوا بالأخطاء التي يستهدفون لها إذا جرءوا على تنفيذه، ولكن حركة التأليف وقفت أو كادت بسبب هذا القانون، واستمر إحراق الكتب إلى عام 1788؛ أي قبل الثورة بعام واحد.
ولكن فولتير استطاع أن يخرج العشرات من الرسائل الحرة بأسماء مستعارة؛ أي مزورة، كي ينجو من خطر الإعدام، وكان في هذه الرسائل يحطم الأساطير ويحمل على الطغيان الحكومي والكنسي، وقبل كل شيء يدعو إلى التسامح، وأن الناس إخوة ولو كانوا مؤمنين أو ملحدين، مسيحيين أو مسلمين، يهودا أو بوذيين. ولقي فولتير عنتا في دعوته إلى الحرية، وخاصة حرية العقيدة؛ لأن الكنيسة الكاثوليكية كانت تحالف في أيامه الحكومة الفرنسية، وكانت تحمل الحكومة والشعب معا على التعصب وإيذاء غير الكاثوليك ... وقد كتب فولتير بقلمه وأنفق من ماله كي ينقذ العائلات التي وقع بها الاضطهاد الديني، وكي يدعو إلى التسامح وحرية العقيدة.
واحتال كي يعيش وكي يرصد حياته للكفاح في سبيل الحرية، وكان من احتياله أن اشترى أرضا في سويسرا وأرضا أخرى في فرنسا، وكانتا تتجاوران وذلك ترقبا للاضطهاد من إحدى الحكومتين السويسرية أو الفرنسية بحيث يستطيع الفرار إلى فرنسا إذا وجد الحملة عليه من الأولى، أو إلى سويسرا إذا وجد الحملة عليه من الثانية، وعاش على هذه الحال السنين الطويلة كي يؤدي رسالته، وهي صيانة الحرية من الوحوش الآدميين، الذين كانوا يكرهون من لا يؤمن بإيمانهم. وقد كان في باريس شيء يسمى «برلمان» ولكنه لم يكن يمثل الشعب؛ ولذلك كان أعضاؤه يسيرون وينقادون إلى دعاة الاستبداد من الحكومة والكنيسة معا. وقد عني هذا «البرلمان» بأن يحرق قصيدة لفولتير. وألف فولتير المعجم الفلسفي، فمنعت الحكومة الفرنسية، بل معظم الحكومات الأوروبية تداوله، وحكم على مؤلفه بالكفر.
وشاعت لفولتير أخيرا شهرة بأنه زعيم الحرية، فكانت تصل إليه شكاوي المضطهدين من الأحرار من جميع الأقطار يطلبون منه الدفاع والإسعاف، وكان يجمع لهم المال كي ينقذهم من حكوماتهم ومن كنائسهم. وما زلنا إلى الآن نسمع عبارة فولتير: «اسحقوا الخزي»، وهذا الخزي هو اضطهاد الأحرار المخالفين للكنيسة.
ومع كل ما اتهم به فولتير لم يكن كافرا، فإنه كان يؤمن بالله أعظم الإيمان، ولكنه كان يعتقد أن الكنيسة يجب ألا تحتكر الدين، وأننا يجب أن نكون «إلاهيين» قبل أن نكون مسيحيين أو يهودا أو هندوكيين، وهو يقول: «إن كلمة الإلهي هي الوصف الوحيد الذي يجب أن يتصف به الإنسان، والكتاب الوحيد الذي يجب أن يقرأ هو كتاب الطبيعة، والديانة الوحيدة هي أن نعبد الله، وأن يكون لنا شرف وأمانة، وهذه الديانة الصافية الخالدة لن تكون سببا للأذى.»
وكان فولتير يرى الله في كل مخلوق، حتى قال: «إن في البرغوث شيئا من الألوهية.»
وكتب عن نفسه في المعجم الفلسفي يقول:
إني أجهل كيف تكونت وكيف ولدت. وقد قضيت ربع حياتي وأنا أجهل تماما الأسباب لكل ما رأيت وسمعت وأحسست. وكنت ببغاء تلقنني ببغاوات أخرى. ولما حاولت أن أتقدم في الطريق الذي لا نهاية له، لم أستطع أن أجد طريقا معبدا ولا هدفا معينا، فوثبت وثبة أتأمل الأبدية ولكنني سقطت في هوة جهلي.
والواقع أننا حين نتأمل حياة فولتير نجد أن الكنيسة الكاثوليكية قد انتفعت بعداوته لها؛ لأنها كفت عن اضطهاد المخالفين، وكان هذا الاضطهاد أكبر ما توصم به في القرن الثامن عشر كما كان أكبر ما يعمل لفسادها.
Bilinmeyen sayfa
وكذلك انتفعت بفصلها من الدولة؛ لأن اعتلاء الدين للدولة يضر الدين ويحطه؛ إذ يغنيه عن القوة الروحية والأخلاق السامية بما يستمتع به من قوة بوليسية وحماية قانونية. والدين يجب أن يتجرد من أي سلطان مادي؛ أي حكومي أو بوليسي، حتى يستنبط قواه الروحية المستقلة ويصل إلى القلوب عفوا دون مساعدة خارجية.
وهذه هي مهمة فولتير التي علمها لأوروبا، مهمة الحرية الفكرية وفصل الدين من الدولة.
وليس لفولتير عبرة أو دلالة واحدة لعصرنا، وإنما له عبر ودلالات كثيرة، فإننا نفهم منه أن حرية العقل وحرية العقيدة وحرية الضمير هي أثمن ما يملكه البشر، وأن الحكومة أو الهيئة التي تنتهك هذه الحريات ترتكب أفظع الجرائم، وهي جريمة الخيانة للروح البشري. وعبرة أخرى نستخلصها من حياته هي أن الأديب ليس رجل القلم والحبر، وتقليب الكتب واجترار الأقوال القديمة، وإنما هو المكافح المبتكر الذي يشترك في هموم البشر واهتمامات المفكرين دعاة التطور والرقي، وأن أدباء البرج العاجي الذين يقفون بعيدا عن معترك الحياة الاجتماعية والأخلاقية والسياسية لا قيمة لهم ولا منفعة منهم، بل هم بمثابة الجندي الفار من المعركة.
وعبرة ثالثة هي أن بؤرة الأديب شخصيته، من حيث إنه يكتب عن إحساس ووجدان بما يحس ويجد، ثم يصدر عن ذلك مفكرا للتنظيم والتوجيه؛ ولذلك قيل إن أسلوب الكاتب هو شخصيته أو هو أخلاقه، ومن المحال أن يقنعنا كاتب فاسق بضرورة الطهارة، أو كاتب يتعلق بالمستبدين وينتفع منهم بضرورة الديمقراطية.
ولقد عشت حياتي وهنئت أيما هناء، وتعزيت أحيانا أيما عزاء، بمرافقة فولتير وتأمل كلماته وتتبع حياته في أخطائها وأخطارها وتطوراتها، وعرفت منه معرفة الإحساس والوجدان معا أن حرية العقل هي قدس الأقداس في النفس البشرية.
كانت حياة فولتير كفاحا نجح فيه، ورد إلى الإنسان حريته بعد أن كانت قد حرمته إياها الكنيسة والدولة، واستطاع أن يحمل جماهير أوروبا على الإيمان بالطبيعيات بدلا من الغيبيات إلى حد بعيد، كما استطاع أن يرد إلى التاريخ مكانته، وأن يجعل للتنقيب التاريخي فضل الاهتداء إلى الحق والباطل في العقائد. ودعا إلى العقل دون العقيدة، وأكبر لذلك من شأن «بيكون» داعية التجربة و«ديكارت» داعية العقل. وكان على وجدان برسالته التاريخية من حيث إنه رائد العصر الجديد، عصر القلم والعلم. وقد كتب في عام 1760 إلى «هيلفيتبوس» يقول: «إن هذا القرن بدأ يرى انتصار العقل.»
ولقد عشت في هذا الوطن الأسيف - مصر - نحو ثلاثين سنة من عام 1914 إلى عام 1949 في أسر الأحكام العرفية والرقابة القلمية؛ وذلك كي يعيش المستعمرون من الإنجليز، والمستبدون من المصريين، وهم في تحالف لمنع الحريات عن الشعب. وقد ألفت كتابين عن الحرية هما: «حرية الفكر»، وهو تاريخ للأبطال الذين كافحوا التعصب والاستبداد والرجعية والجهل. ثم «حرية العقل في مصر»، وهو دعوة إلى إلغاء إدارة المطبوعات التي تمنع إصدار الجرائد والمجلات إلا بعد تأدية غرامة مالية (في صورة تأمين). وفي كلا الكتابين أنعام تتردد من ذكرى فولتير.
وقد كان فولتير يقول: «إني قلما أتعمق، ولكني واضح الفكرة على الدوام.» وهذه كلمة أستطيع أن أقولها أنا أيضا، وإذا كنت في حياتي الأدبية قد وصلت إلى أن أختص بأسلوب، فإني أعترف هنا بأني لم أقصد قط إلى هذا الهدف، وإنما كانت غايتي أن أصل إلى التعبير الجلي الذي يوضح فكرتي، وأظن أني نجحت في ذلك.
وعند الفرنسيين مثل يقول: «ما ليس واضحا ليس فرنسيا»، ولهم الحق في ذلك، وهذا الوضوح يعزى إلى التزامهم المنطق السليم الذي تعلموه من فولتير وأمثاله.
جيته
Bilinmeyen sayfa
الشخصية العالمية
المشهور عن جيته أنه أديب عظيم، وقد نقل إلى اللغة العربية من مؤلفاته قصة «آلام فرتر» ودرامة «فاوست» وله أشعار رائعة تذكر أبياتا وقصائد؛ لأن كثيرا من سطورها يحوي الحكمة العالية. وقد كان جيته يكتب يومياته؛ أي إنه كان يدون الحوادث التي مرت به في أيامه يوما بعد يوم، كي يحاسب نفسه على ما أنجز من أعمال، ونحن ننقل هنا يومين في حياته كما دونهما. •••
في الصباح انتهيت من المقطوعة الرابعة وأرسلتها للنسخ. قرأت «فروسشموزلر» عن أنواع الحشرات.
تجارب في الكهربية الجلفانية.
في المساء مع شيلر: أثر العقل والطبيعة في سلوك البشر.
ثم في الصباح المبكر صححت قصيدتي ... ثم قمت بتشريحات الضفدع.
استراحة في الصباح في حديقة شيلر الجديدة ... تحدثنا عن تخطيطها ... وقبل ذلك أعدت النظر في المقطوعتين الأولى والثانية. وفي الصباح صنعت جدولا للألوان. •••
والمتأمل لهذه التدوينات في يومين من أيام جيته يحتاج إلى التساؤل: أأديبا كان جيته أم عالما؟ وهذا السؤال هو موضوع بحثنا هنا.
إن عبقرية جيته لم تكن في الأدب أو العلم أو الفن، وإنما كانت في شخصيته، وصحيح أن له مآثر في هذه الثلاثة، ولكن مأثرته الأولى هي شخصيته، فقد عيب عليه ذات مرة أنه لا يعنى كثيرا بموهبته في الشعر والأدب، فكان جوابه: إن من حقي أن أعنى بشخصيتي، وهي أكبر من أدبي.
إن هم الأديب الصغير أن يصقل قصيدة أو يحسن تأليف قصة أو مقال، ولكن هم جيته كان تأليف شخصيته وتربية نفسه.
Bilinmeyen sayfa
وجمهور القراء يعرف أدب جيته، ولكن قليلا منهم من يعرفون أبحاثه العميقة في العلوم، فإن له مكتشفات في الجيولوجية والبيولوجية والبصريات، وقد سمي نوع من الصخر باسمه برهانا على فضله في الجيولوجية. وكان كبير الاهتمام بأصل الأنواع، وهي المشكلة التي أرصد «داروين» بعد ذلك حياته لحلها. وقد استطاع جيته أن يكشف عن أن المخ هو امتداد للنخاع الشوكي. ومما يذكر عنه عقب هزيمة نابليون أنه قدم إليه نبيل ألماني، فسأله عن رأيه في الزعزعة الجديدة التي تعم أوروبا، فأجابه النبيل بأن «الخلفاء» قد أساءوا السياسة في مؤتمراتهم وأن نابليون ...
ولكن لم يكد النبيل يتم جملته حتى صاح به جيته: أنا لا أسأل عن هذا، لست أبالي هذا، إنما أسأل عن هذا الخلاف بين سانت هيلير وكوفيه ولا مارك عن أصل الأنواع وتطورها.
وكان هذا الموضوع يزعزع نفس جيته، وكان يهتم به أكثر مما كان يهتم بالسياسة الأوروبية التي زلزلها نابليون، ومن هنا اهتمامه بترتيب الحشرات وتشريح الضفدع والطاقة الكهربية ... إلخ. •••
ومن الخطأ أن يقال إن جيته كان يهتم بالآداب والعلوم؛ لأن اهتمامه الأول كان بالحياة، فكان يحب ويختبر ويسيح ويملأ المناصب الحكومية. بل إنه لم يجعل الأدب أو العلوم هدفه؛ لأن الهدف الوحيد الذي سدد إليه نشاطه هو شخصيته؛ وتعبيره حين كان يقول: إنه يبني «هرم» شخصيته، يدل القارئ على أن الثقافة كانت عنده وسيلة وليست غاية.
وإذا كان لكل كاتب عظيم رسالة، فإن رسالة جيته لم تكن الشعر أو القصة أو العلوم، وإنما كانت الشخصية باعتبارها التحفة الأولى للإنسان المثقف الذي يحيا حياة الوجدان والعقل. ومن هنا كلمة «برانديس» الأديب الدنمركي: إن حضارة الأمم تقاس بمقدار تقديرها لجيته.
والمعنى أن الأمة التي ارتقت في ثقافتها إلى المرتقى الذي تستطيع أن تفهم فيه أن رسالة الحياة هي الحياة نفسها، هي الأمة الراقية، أما إذا كانت تجعل الحياة وسيلة لأي نشاط أو هدف آخر، مثل الثقافة أو الصناعة أو الثراء أو غير ذلك، فهي غير راقية، بل إننا حين نقول إن الحياة هي الهدف، إنما نستوعب بهذا التعريف جميع الألوان الأخرى للنشاط البشري، ونستوعبها مع ذلك في تناسق يتفق والحياة العالية.
وستبقى قيمة جيته خالدة على هذا الأساس، وهو أننا يجب أن نحيا حياتنا في تعلم واختبار واستمتاع.
ولد جيته في سنة 1749 ومات في سنة 1832، فعاصر روسو وديدرو وفولتير ودالمبير، هؤلاء النجوم الذين أحدثوا النهضة الأوروبية الثانية. ثم رأى مخاض العصر الجديد في الثورة الفرنسية، وفي شهابها الساطع نابليون، ورأى - عقب هزيمة نابليون في عام 1815 - المؤتمرات الأوروبية تومئ إلى الاتحاد الأوروبي بل لقد رأى هذه الفكرة تختمر أيام نابليون.
أجل إنه عاش في عصر عاصف، ولكنه لم يترك العواصف تمر به وهو جامد، بل استجاب لها وتفاعل معها. وقد درس القانون في الجامعة، وعرف دوق فيمار الذي أحبه وعينه وزيرا لهذه الدوقية الصغيرة، ولم يقبل جيته هذا المنصب لما فيه من أبهة؛ وإنما قبله لأنه وجد فيه وسيلة للتدخل في السياسة الأوروبية وفهمها. وزار إيطاليا، فعرف فيها جمال الشمس وجمال الفن، وتزوج واستمتع بمسرات العائلة كما كابد همومها، ومارس الزراعة واقتنى ضيعة. وأشرف على المسرح وأحب فتاة حبا كان يحمله على البكاء وهو في السبعين. وكان مفراحا يحب الاجتماع. ولكن هذا المزاج الفرح كان أحيانا - كما هو الشأن فيه - يحمله على الاعتزال والاعتكاف، ولكن أوقات نشاطه وإلهامه كانت تنحصر في أيام الفرح والاجتماع. •••
من علامات النضج في الإنسان أن يميز بين المعارف والحقائق؛ إذ ليس كل ما نعرف حقيقيا، وأن يجمع معارفه واختباراته في فلسفة أو دين؛ أي يستخرج العبرة البشرية والسلوك الأمثل مما عرف واختبر. وأن يعتاد استخراج الكليات من الجزئيات بحيث لا يشتغل بالشجرة قدر ما يشتغل بالغابة. وأن يحس حركة التاريخ في كل يوم من أيامه. وأن يكون على إحساس واتصال بالدنيا، هذه الدنيا، وهذا الكون. وأن يكون قد وصل بما لديه من حقائق وبما تربى عليه من تفكير في الكليات إلى تفاؤل بمستقبل البشر، فالرجل الناضج هو الرجل المتفائل، وتفاؤله يحمله على كفاح ما لمصلحة البشر. والرجل الناضج متدين، يحترم الحياة، وكي نحترم الحياة يجب أن نعمل لرقيها وتطورها إلى أعلى، ومقياس العلو في التطور هو مقياس بشري على كل حال. وقد كان جيته يجمع كل هذه الصفات التي يتكون منها الرجل الناضج. •••
Bilinmeyen sayfa
ومن علامات النضج في الإنسان أن يرتفع من همومه الشخصية إلى الاهتمامات العالمية.
ومن علامات النضج في الأديب أن يرفع الأدب من آراء وإحساسات تكتب إلى ممارسة في الحياة، ففن الكتابة عنده يستحيل عندئذ إلى بعض الفن في حياته هو. ومن علامات النضج أيضا أن يتعرف الأديب إلى قوات الخير البازغة فيؤديها وينضم إليها ويكون من جنودها أو قوادها.
وقد حقق جيته كل هذه الأنواع الثلاثة من النضج، فإن اهتمامه بالعالم طغى على كل اهتمام شخصي آخر: نظرية التطور، قناة السويس، اتحاد أوروبا، الديانات الشرقية.
وحقق الفن والحب في حياته، فإن كلمة الحب لم تكن من كلمات القصص التي كان يؤلفها وإنما كانت عاطفته الغالبة التي كان يمارسها. وقد عاش في أيام الانتقال من حكم النبلاء والنظم الإقطاعية إلى حكم الصيارفة والصناعيين والتجاريين، هذا الحكم الذي عمم الديمقراطية والحرية فانضم إلى هذه القوة الجديدة ودعا إلى تأييدها، بل إننا نستطيع أن نجد هذا الاتجاه في قصته «فاوست»، بل لعل هذا الاتجاه هو التفسير الحقيقي لهذه القصة.
وهناك بالطبع من يسأل عن مذهب جيته في الحياة والأدب والحضارة، ولكننا نحن الذين أحببنا جيته لا نكسب منه معارف؛ لأن معارفنا أكبر جدا من معارفه، كما هي أكبر من معارف أرسطو طاليس أو أفلاطون، وإنما نحن نكسب منه منهج الحياة الذي اتبعه، وهو منهج التعلم والاختبار والاستمتاع.
نكسب منه الحياة الفنية، أو كما كان يقول حرية الروح: «إن أي إنسان عرف وفهم مؤلفاتي وشخصيتي حق الفهم يضطر إلى الاعتراف بأني قد حققت لنفسي حرية الروح.» •••
كيف كان يعيش جيته؟ وكيف كان ينظر إلى نفسه؟ أي ما مقدار وجدانه بشخصيته؟
كان جيته يخشى الشتاء؛ لأن النهار يقصر والليل يطول، وكان يتعب من القراءة في ضوء الشموع، وكان هو الذي يقص بنفسه فتيلة الشمعة، وكانت آخر كلمة نطق بها قبل الوفاة: «النور»؛ لأن النور كان عنده وسيلة التثقيف والتفكير، والحياة الحيوية، ولذلك كان يحب الصيف ويكره الشتاء.
وكان يعيش نهاره كله، فلا ينام؛ أي لا يقيل، وكان يفطر في الساعة الحادية عشرة بفنجان من اللبن والشكولاتة، ثم يتغذى في الساعة الثانية، ثم يتنزه، ثم يكون العشاء، فالقراءة والدراسة.
ولما بلغ الثمانين كتب في يومياته: هل بلغت الثمانين؟ وهل يجب علي لذلك ألا أتغير، بل أعمل كل يوم مثل اليوم السابق؟ إني أحس كأني أختلف عن سائر الناس، وأبذل مجهودا أكبر منهم كي أفكر كل يوم في شيء جديد، حتى أتجنب السأم، أجل! يجب أن نتغير على الدوام وأن نجدد شبابنا على الدوام، وإلا تعفنا.»
Bilinmeyen sayfa
ومن أقواله في شيخوخته أيضا: «إني أمتاز بالخط الحسن في شيخوختي؛ لأني أجد في ذهني أفكارا، لو أني شئت أن أواليها حتى تنكشف لاحتجت إلى أن أعيش حياتي مرة أخرى.»
وكان يكتب يومياته، وكأنه يحاسب نفسه على درجات رقيه وبناء شخصيته يوما بعد يوم.
وكانت حياته خصبة بالحب، ولم يكن يعرف النسك أو التقشف، ولم تكن فترات اعتكافه عن رغبة في النسك، وإنما هي بعض المزاج العام في الفرحين، وكأنها ادخار للقوة للانتفاع بها أيام السرور.
وكانت اختباراته كثيرة واستمتاعاته الإحساسية شاملة، كما كانت ثقافته موسوعية لم يحصر ذهنه في تخصص. فقد أحس الحب الحناني وهو في التاسعة عشرة فألف قصة «آلام فرتر» ثم جحدها؛ لأنها تحفل بالحنان واليأس والضعف، وكان يقول إنه يخجل منها عندما أينعت شخصيته وأخذ وجدانه وتعقله مكان إحساسه وعاطفته. •••
بدأ جيته حياته الذهنية بتعلم القانون وتأليف قصة اليأس والموت في «آلام فرتر»، وانتهى في سني نضجه وإيناعه باتجاه إيجابي بنائي للحياة البشرية، فدعا إلى وحدة أوروبا. وألف قصيدة في مدح نابليون قال فيها: «إن الذي يقدر على كل شيء، يقدر أيضا على السلام.» ما أبدعه هنا! وكان يفكر في قناة السويس وقناة بناما، ويشتهي أن يعيش خمسين سنة أخرى كي يراهما محفورتين مسلوكتين؛ ذلك أنه اتجه الوجهة العالمية فأصبح يقول، كما كان يقول شيلر: «وطني هو العالم»؛ ولذلك صار يهتم بهندسة هذا العالم وتنظيمه كما لو كان مملكته الخاصة. •••
جيته هو واحد من أولئك الذين تعلمت منهم، ولم أتعلم فنا أو أدبا أو علما، وإنما هو منهج الحياة التي عاشها جيته كان ينبهني من وقت لآخر كي أعيش على مستواه.
ولست أجد في جميع مؤلفات جيته من الشعر أو القصص شيئا عظيما سوى القليل من اللآلئ، وهو من حيث الشعر يدمن ذلك الطراز الذي يذكر له البيت الذي يتوهج بالحكمة، ولا تذكر له القصيدة التي تعالج موضوعا؛ ولذلك نحن لا ندهش ولا نتعلم كثيرا حين نقرأ مؤلفاته، ولكننا نتعلم وننتبه ونحس كأننا كنا نياما ثم استيقظنا حين نقرأ حياته.
هو منهج الحياة الذي يعيد إلينا ذكر «دافنشي» الرسام المثال الجيولوجي المهندس الفيلسوف الأديب الرياضي العاشق، الذي تعددت اهتماماته لا لأنه تعمد هذا التعدد؛ وإنما لأنه نظر إلى الطبيعة النظرة الموضوعية الموسوعية التي تثير الاستطلاع وتهيئ المشكلات الثقافية التي يشتغل بها الذهن.
وكان جيته مثل دافنشي ينظر إلى الطبيعة، بل إلى الفنون، هذا النظر الموضوعي، ومن هنا زاد استطلاعه وتعددت اهتماماته، وأصبحت ثقافته موسوعية. والحق أن الأدب لم يكن عند جيته فنيا، وإنما كان الفن الذي اهتم به هو فن الحياة، ثم كان الأدب جزءا من فن الحياة. •••
نتعلم من جيته أن غاية الحياة هي الحياة، أي ترقية الشخصية بتربيتنا، وبسط الآفاق أمامنا للتعلم والاختبار حتى نزداد فهما لأنفسنا وللطبيعة، فنزداد بذلك استمتاعا.
Bilinmeyen sayfa
ونتعلم منه أننا يجب أن نؤلف شخصيتنا قبل أن نؤلف أي شيء آخر ليس هناك ما هو أهم منها عندنا؛ وذلك بأن نطلب الاختبارات، ولو كان الخطر فيها.
ونتعلم منه أن التخصص ضرر، وأن الآفاق للثقافة لا حد لها، فيجب أن ندرس الأدب كما ندرس الكيمياء والقنبلة الذرية، بل كما ندرس جنون الشيزوفرانيا وقوانين الوراثة، ونتعلم منه أننا يجب أن نشتري الاختبارات إذا لم تصادفنا، فنقرأ ونسيح ونحب ونمارس السياسة ونختلط بالمجتمع ونشتغل بترقيته.
ونتعلم منه أننا - حتى في الشيخوخة - يجب أن نستبقي شباب الذهن والعاطفة، ولن يكون هذا إلا بهيئة سابقة.
وأخيرا نتعلم منه أننا أبناء هذا الوطن الكبير: العالم. •••
قلنا إننا لا نكسب من جيته معارف ، وإنما ننتفع به من حيث أسلوب حياته: حياة فلسفية تتغذى بالثقافة وتهدف إلى تربية الشخصية بالنمو الذي يستحيل إلى نضج.
ولكننا مع ذلك نجد أن لجيته عبرته ودلالته في الموقف الثقافي الأوروبي بين عامي 1800 و 1829.
ذلك أن المذهب الانفصالي كان لا يزال قائما بين النفس والجسم أو العقل والمادة، وداعية هذا المذهب الثنوي هو أفلاطون الذي فصل بين الفكرة والمادة. وقد أيدت العقائد الدينية هذا الانفصال. ولكن جيته رأى غير ذلك، بل ربما كان هو أول أديب دعا إلى الوحدة الوجودية في أوروبا؛ أي إن الجماد والنبات والحيوان والإنسان والمادة والعقل كلهم شيء واحد، وأن الإنسان ليس مخلوقا منفصلا، وإنما هو تعبير خاص للطبيعة العامة التي في الجماد والحيوان والنبات، وأن الحقيقة الأولى في هذا العالم هي التغير والاستحالة، فالطبيعة دائبة في التغير والتشكل بأشكال مختلفة، وأن الفكر البشري قد نبع من الطينة التي نبضت بالحياة الأولى.
وقد قال ذات مرة إن أعظم ما يصبوا إليه أن يهتدي إلى قانون شامل عام تنتظم به التغيرات والاستحالات في الجماد والنبات والحيوان والإنسان.
ولو كان جيته يعيش في عصرنا لعبر عن هذه الشهوة بأنه ينشد التفسير الذري للجماد والحياة والفكر البشري والماء السائل.
وهذا هو ما ننشده جميعا ونوشك أن نهتدي إليه.
Bilinmeyen sayfa
داروين
عار العائلة «أنت لا تعنى إلا بصيد الكلاب، واقتناص الجرذان، وسوف تكون عارا على نفسك وعلى عائلتك.»
هذه هي الكلمات التي تلقاها داروين من أبيه في وقت كان يلوح لأي إنسان يتأمل داروين أنها صحيحة، وأن هذا الشاب قد خاب الخيبة التامة. فقد تسكع في دراسات مختلفة، ولكنه لم يستقر على واحدة منها، فقد التحق بكلية الدين ثم تركها، والتحق بكلية الطب ثم تركها، وفي غضون ذلك كان يلعب، أو على الأقل كان يبدو كأنه يلعب، يخرج إلى الحقول ويجمع النبات ويصيد الحشرات ويقارن بين الأحياء، ويفكر تفكيرا سريا كأنه يتآمر على الكون كله، كي يغيره أو يغير البصيرة البشرية فيه.
والآن بعد أكثر من مائة سنة من هذه الكلمات القاسية التي قالها أبوه عنه لا يعد داروين عارا على عائلته، بل هو فخر أمته يتباهى به التاريخ الإنجليزي. وبعد نحو خمسين سنة من هذا التوبيخ الأبوي تأمل داروين حياته الماضية، ومبلغ ما أتمه من الخدمة في التوجيه الذهني للعالم فقال: «أظن أن أبي قد قسا علي بعض القسوة.»
ومات داروين في عام 1882 بعد كفاح ثقافي طويل، ونحن الآن بعد وفاته بأكثر من نصف قرن، نستطيع أن نقول إنه أكسبنا فهما جديدا للطبيعة والكون والإنسان، وزودنا بمنهج للتفكير لم نكن نعرفه من قبل، فإن كتابه «أصل الأنواع» الذي أخرجه في عام 1859 حمل إلى القراء شيئين؛ أولهما: معارف تكاد تكون حقائق عن أصل الأنواع في الحيوان والنبات، وأنها جميعها ترجع إلى أصل واحد أو أصول قليلة. وثانيهما: منهج للدراسة هو أن الاستقرار لا يعرف في الطبيعة، وأن الإنسان والحيوان والنبات في تغير مستمر.
ونحن الآن لا نبالي الحقائق أو المعارف التي شرحها داروين؛ لأننا نعرف أكثر منها، ولكننا قد اتجهنا الوجهة التي عينها لنا. ونحن هنا بهذه المثابة نفسها نحو أرسطوطاليس، فإننا نعرف أكثر منه من حيث الكم في المعارف، ولكنه أكسبنا المنهج، فنحن نفكر في التطور الدارويني ونفكر متطورين، وقد أصبح التطور حقيقة علمية نقيمها بالمليمتر والمليجرام في الحيوان والنبات، كما أصبح أيضا مذهبا دينيا، أو مبدأ أخلاقيا عند المثقفين، وانفسح به التاريخ البشري آفاقا إلى ملايين السنين، بل مئات الملايين خلف البشر وبعد البشر.
لقد قيل إن جاليل (جاليليو) حط الإنسان من عليائه، حين أعلن أن الأرض ليست مركز الكون، وأنها كوكب صغير يدور حول الشمس، بل الشمس أيضا نجم صغير لا يختلف عن ملايين النجوم التي نراها كل ليلة في المساء. ولكن داروين رفع الإنسان إلى هذه العلياء من جديد، وأثبت أنه لم يكن عاليا فسقط، وإنما هو كان ساقطا يعيش على حضيض الطبيعة، حيوانا كسائر الحيوانات والحشرات، ثم ارتفع. وبهذه الكرامة الجديدة انتقل من أسر القدر، وأحس أنه تاج التطور، وأن له الحق في تدبير هذا العالم ، وفي تعيين السلالات القادمة، بل ماذا نقول؟ في إيجاد البشرية الجديدة ...
ومع ذلك لا أعتقد أن داروين نفسه كان يقدر الطاقة الكامنة في نظريته. ولا ينقص هذا من عظمته، فإن تفكيرنا الشخصي يسير بقوات اجتماعية، لا نكاد نبصر بها أو نتعمق أصولها، ذلك أننا نفكر بحواجز من العواطف التي نكتسبها من المجتمع، بما يفرضه علينا من القيم والأوزان، وما يرسمه لنا من المطامع والآمال، والمجتمع يطالبنا باستجابات مختلفة تستحيل في كياننا النفسي إلى عادات عاطفية لا نستطيع الخروج منها، فنفكر في منهج خاص هو ثمرة هذا التوجيه الاجتماعي الذي لا نحسه؛ لأنه لا يرتفع إلى وجداننا وتعقلنا.
ولذلك نستطيع أن نقول إن نظرية داروين وجدت الحافز الأول على التفكير فيها من المجتمع الذي عاش فيه داروين؛ ذلك أن داروين قضى زهرة حياته إلى نضج الشباب وإيناع الكهولة فيما بين عامي 1820 و1860، وكان عمره وقتئذ بين العشرين والخمسين، وكانت إنجلترا في تلك السنين ترغي وتزبد بالحركة الصناعية الجديدة، فالمصانع تحتشد بالعمال من الرجال والنساء والصبيان، والثروات تنمو، والمزاحمة على أقصاها وإنجيل النجاح يدرس بل يعبد، والسياسة تخدم الاقتصاد، وتضرب الأمم النائية وتؤسس الأسواق والمستعمرات.
وأصبحت إنجلترا سيدة البحار؛ لأنها احتاجت إلى أكبر أسطول يحمي مستعمراتها وأسواقها التي تباع فيها مصنوعاتها الفائضة. وعاش داروين في تنازع البقاء هذا الذي لا يفتر في لنكشير وغير لنكشير من الأقاليم الصناعية في إنجلترا. وفي تلك السنين أيضا قرأ كتابا أحبه وتعلق به؛ لأنه وجد فيه الاستجابة لنظرياته مما تكبد له من عواطف أحدثها الوسط الإنجليزي، هو كتاب القسيس «مالتوس» عن السكان. فإن القسيس كان من المحافظين الإنجليز الذين يكرهون العامة، ولا يرونهم سوى غوغاء، فلما انفرجت الثورة الفرنسية واستولى بها الشعب على السادة من الملوك والعظماء، ثم أعلن رجالها مبادئ الإخاء والمساواة والحرية، فكر مالتوس كثيرا بحافز من عواطفه، فأخرج كتابه عن السجن، وكان المعنى الذي قصده إليه أن هذه الآمال الفرنسية في الإخاء والحرية لن تتحقق؛ لأن الدنيا لا تكفي الناس الذين يتوالدون على تضاعفي 2 و4 و8 و16 إلخ في حين أن المحصولات لا تنتج إلا نظام حسابي 1 و2 و3 و4 و5 إلخ، فإذا عاش الناس بلا مرض أو لم تكفهم المحصولات، وإذن فالمرض والحرب والحرمان رحمة بالناس أو ضرورة لهم. وتأمل داروين هذا الكتاب الذي ألفه مالتوس عن المجتمع البشري فتساءل: لم لا ينطبق هذا الكلام على المجتمع الحيواني في الطبيعة؟ فإن الطعام لا يكفي جميع الأحياء التي تحيا أو تتكاثر بالألوف، فهي يجب أن يزاحم بعضها بعضا فتكون فيما بينها، أي تنازع البقاء، كما في لنكشير ومصانعها تماما.
Bilinmeyen sayfa
وفي عام 1831 أنفذت الحكومة البريطانية سفينة «البيجل» كي تطوف حول العالم وتسبر الأعماق وتدرس الشواطئ، وتقيس الأبعاد. ولكن لماذا عمدت الحكومة البريطانية وحدها دون سائر الحكومات إلى الاهتمام بهذا الموضوع؟ ما هي العاطفة الحافزة إلى هذه العملية التي لم تفكر فيها ألمانيا أو روسيا أو إيطاليا؟
العاطفة الحافزة اجتماعية أيضا، وذلك أن الحكومة البريطانية في تلك السنين كانت تخدم الصناعات البريطانية؛ لأن السياسة على الدوام تسير خلف الاقتصاد. وكانت أسواق العالم وقفا على المصنوعات الإنجليزية؛ لأن الحركة الصناعية الإنجليزية سبقت الحركات الأخرى في جميع الأمم، فمن هنا كان الاهتمام بالبحار والملاحة والأقطار النائية، ومن هنا أيضا كانت الفرصة لداروين في أن يلتحق بالسفينة «بيجل» كي يدرس الحيوان والنبات.
ولم يكن داروين جديدا في هذا البحث عن أصل الأنواع، فإن لا مارك الفرنسي سبقه إليه، وهو صاحب القول بأن عنق الزرافة قد طال؛ لأنها بالمرانة التي ورثت جيلا بعد جيل قد اشرأبت وسعت للوصول إلى الغصون العليا في الأشجار، فكأن ما يكسبه الحيوان بجهده من صفات يورث جيلا بعد جيل. بل إن جد داروين قد بحث هذا الموضوع، فكانت النظرية «في الهواء» تحتاج إلى من يرتب أصولها وفروعها ويعلل مظاهرها. بل كانت أكثر من ذلك، فإن جيته الأديب الألماني كان يشتغل بها ويسأل عنها، وكان يتابع النقاش الحامي بين كوفييه الذي كان يقول بثبات الأحياء، وبين سانت هيلير الذي كان يقول بتحولها.
كان داروين شابا في الثالثة والعشرين حين شرع في رحلته على البيجل، فلما وصل إلى أمريكا الجنوبية، وجد حيوانها ونباتها يختلفان عما هما في القارات القديمة، ثم لما وصل إلى الجزر المنعزلة غرب أمريكا الجنوبية وجد أن انعزال الجزيرة يؤدي إلى انعزال الحيوان، فتكون له أشكاله التي ينفرد بها من الأشكال العامة على القارات.
وإلى هنا يكاد يتوهم القارئ أنه ليس هناك أي فضل لداروين لتعليل النظرية، فقد سبقه إليها جده كما سبقه إليها لا مارك الفرنسي. ثم هناك الظروف الأخرى: مالتوس وقلة الإنتاج الغذائي إزاء تضاعف السكان، ثم تنازع البقاء وبقاء الأصلح وفناء الضعيف في المزاحمة العنيفة في لانكشير حيث الحركة الصناعية في عنفوانها.
ولكن لا؛ لأننا مع التسليم بأن الوسط الاجتماعي أو البيئة الثقافية في أوسع معانيها حين تشمل المعيشة والاتجاه أو العادات والعواطف، هي الحافز للتفكير، فإننا مع ذلك يجب ألا نغفل الشخصية؛ إذ لو لم يكن داروين ذكيا لما فكر في هذا الموضوع الخطير ولما حمله هدفه في الحياة.
لقد قال داروين عن نفسه: «إن الحقائق تضطرني إلى الاعتراف بأن عقلي لم يخلق للتفكير.» ولكن داروين ظلم نفسه في تواضعه بهذه الكلمات، لأن الحقيقة أنه لم يعرف نفسه؛ إذ إن الواقع أنه لا يقول هذه الكلمات إلا رجل مفكر قد أسرف في التفكير وعني العناية الكبرى بغربلة الحقائق من المعارف، وعرف الصعوبة الكبرى في هذا الجهد، ولو أنه لم يكن يجهد لما قال هذه الكلمات؛ إذ إنها ما كانت لتخطر في باله.
الحقيقة الواضحة من حياة داروين أنه احترف التفكير، وأنه كان مريضا أو متمرضا، في نفسه حزازة قديمة هي جرح الكرامة، هذا الجرح الذي أحدثه أبوه وعيره به كما نرى مثلا من وصف أبيه له بأنه سوف يكون عارا لعائلته. فقد كان لا ينام في الليل إلا بعد أرق الساعات، وكان في هذه الساعات يفكر ويؤلف، فإذا جاء إليها كتب كلماته القليلة، ثم يبقى سائر نهاره مريضا. ومرضه هو هذا المرض النفسي الذي يخترعه النيوروزي ويعيش به ويستقر عليه كأنه يقول: طلبتم مني النجاح والتفوق وكيف أستطيع هذا وأنا مريض؟
مرض يصون الكرامة المجروحة (أنت عار لعائلتك) وفي الوقت نفسه يهيئ الفرصة للتفكير في حضانة ليلية يسميها الأصحاء أرقا. ولو أن داروين نجح وصار قسيسا أو طبيبا كما كان يشتهي أبوه لكسب العالم قسيسا أو طبيبا يمارس حرفته ويكسب منها، ولكن العالم كان يخسر عندئذ هذه العبقرية المرضية التي زعزعت الثقافة العالمية من أساسها، بل زلزلتها وعينت أهدافا جديدة للإنسان، وأكسبته بصيرة جديدة لرؤية الماضي ورؤيا المستقبل.
لقد بقي داروين نحو ثلاثين سنة وهو يفكر في التطور، ولكنه لا يخرج كتابا عنه ولا يكتب مقالا، ثم حدث حادث أزعجه فانتفض منه، هو أن «وولاس» كان في بعض الجزر التي تقع في الجنوب الشرقي من آسيا يجمع الأزهار والحشرات ويحنطها ويبعث بها إلى الجمعيات العلمية، وكان مشغولا بالموضوع نفسه؛ أي التطور، وكان يعرف أن داروين مشغول به أيضا، فأرسل إليه رسالة علمية يشرح فيها رأيه في هذا الموضوع، وصعق داروين إذ وجد أن وولاس قد سبقه إلى تعليل التطور بأن الطعام قليل في الطبيعة، وأن التوالد كثير بين أنواع الحيوان والنبات، فلا بد أن يكون هناك تزاحم؛ أي مسابقة من أجل الطعام، وفي هذا التزاحم أو المسابقة لا يبقى غير الأقوى الأصلح للبقاء حين يموت العاجز الضعيف وينقرض.
Bilinmeyen sayfa