و«يونج» يعلق هذا النشاط إلى الطاقة الطبيعية؛ أي الغرائز الأولى، وأيضا إلى تراث العقائد والممارسات القديمة وكلمات اللغة والعادات البدائية كالسحر القديم، وهو يرى أن هذا التراث يحيا في الكامنة من وقت لآخر.
لنفرض أن هناك كاتبا ثائرا نحاول أن نحلل ثورته التي ينشد منها الديمقراطية أو مكافحة الاستبداد، فإن من الواضح أن الناس ليسوا سواء في تحمل المظالم أو في الرغبة الحارة في التغيير الاجتماعي، فلماذا اختص هذا الكاتب بهذه الدعوة؟
فعند فرويد أن مرجع ثورته «مركب أوديب»؛ لأنه كان يكره أباه وخاصة إذا كان هذا الأب قد أساء إليه في طفولته واستبد به، وهو حين يكبر يضع الوزير أو الأمير المستبد مكان الأب، ويوجه إليه كراهيته وكفاحه.
وعند أدلر أن هذا الكاتب كان أيام طفولته يجد نقصا في جسمه أو شوهة في وجهه، وكان الخجل يحز فيه ويوجهه نحو التمرد على الرؤساء الذين أخذوا مكان المجتمع الذي كان يعيره أو يقف منه موقف التعيير أيام طفولته.
وعند يونج أن هذا الكاتب ورث روح البطولة وإحساس العدل من الثقافة البشرية العامة منذ نشأت الحضارات الأولى، فهو يمثل في كفاحه دعوة دينية ونهضة شعبية كثيرا ما تكررت في التاريخ البشري. ومن هنا قيمة الأحلام، وهي قيمة كبيرة عند فرويد ولكنها أكبر عند يونج، ولا تكاد تكون لها عبرة كبيرة عند أدلر. وإنما يكبر يونج من قيمة الأحلام؛ لأنها تبرز هذه الثقافات القديمة وقت النوم، فنحن نحلم كما لو كنا نعيش قبل عشرين ألف أو عشرة آلاف سنة؛ أي نعيش في بيئة الوحوش المفترسة، والغابات المظلمة، والكهوف الصخرية، والفزع والفرار مع الاستعانة بما يشبه قواعد السحر القديم والكيمياء المنقرضة.
والحق أن في الأحلام شيئا كثيرا من هذا، وليس لنا الحق في أن نرفض وراثة الأفكار أكثر مما لنا الحق في أن نرفض وراثة الأعضاء، فإننا في أيامنا ننزع إلى الإيمان بوراثة العادة - كما كان يقول لا مارك - التي تعين وظيفة للعضو في الجسم، كما نرى في طول العنق عند الزرافة أو الجمل؛ إذ إن هذا الطول نتيجة لمد العنق كي يصل كل منهما إلى الأعشاب. وكذلك الشأن في الأفكار، فإنها بالعادة والتكرار تورث وتعود كما لو كانت غرائز، وهذا الحلم العام الذي لا يكاد يخلو منه طفل، وهو السقوط، برهان على أن خوف السقوط من الشجر، وهو كارثة كان يجب على كل أسلافنا أن يتقوها بألا يستسلموا للنوم العميق، هذا الحلم التحذيري يدلنا ببقائه عندنا على أننا نرث الأفكار.
لقد كانت دراسة فرويد عندي بمثابة الخميرة التي تفشت في ذهني، وكانت علة العشرات بل المئات من الرجوع الذهنية، فإنه هو الذي كان يحفزني، من حيث أدري أو لا أدري، إلى دراسة المجتمع، وكيف يجب أن نتقي الإجرام أو نعين أصول التربية، أو نتقي الحرب، أو نفكر في الشئون الجنسية، أو نقدر الثقافة، أو نصف الشخصية الحسنة، أو نحدد المعنى من الذكاء أو البلادة.
وقد ألفت كتابي «أسرار النفس» في عام 1927 وأنا متأثر بفرويد؛ ولذلك لا يتجاوز موضوعه «العقل الباطن» - أي الكامنة أو العقل الكامن - ولكني عندما ألفت كتابي الآخر «عقلي وعقلك» في عام 1947 كنت قد تجاوزت فرويد إلى غيره من السيكلوجيين، وإلى شيء من الاستقلال الفكري الذي لم أكن أجرؤ عليه في عام 1927.
والعالم المتمدن أسعد حالا وأهنأ في عيشه بما حظي من التوجيه السيكلوجي الجديد على يد فرويد وتلاميذه، فإن فرويد حرر الأطفال من القسوة والخوف، وأبرز القيمة الكبرى للحياة الطفلية الهانئة في مستقبل العمر أيام الشباب والكهولة؛ لأنه أوضح لنا كيف تعيش المركبات، وكيف تنشأ الصعوبات التي ربما تؤدي إلى خيبة الشاب أو الفتاة أو إلى انتحار أحدهما بسبب الأخطاء التي تعرضا لها أيام طفولتيهما من أحد الأبوين. كما أنه أوضح لنا فداحة النتائج التي تنشأ من الكظم الجنسي، وقد عاد كثيرون ممن ذهب وجدانهم واضمحل تعقلهم لتغلب العقل الكامن عليهم، عادوا من ظلام الجنون إلى نور العقل بفضل التحليل النفسي.
وإنه لمما يؤلم جميع الذين انتفعوا بعبقرية هذا السيكلوجي العظيم أن يعرفوا أنه لم يستمتع بشيء من الرخاء الذي كان يمكن أن يخفف عنه الشيخوخة، فإنه عقب الحرب الكبرى الأولى خسر جميع ما ادخره من المال بسبب التضخم في النقد، وفي الحرب الكبرى الثانية طاردته النازية حتى مات في لندن بعيدا عن بيته ومدينته.
Bilinmeyen sayfa