محمد الفارضي: وأما شاعر مصر الفارضي فهو مع فصاحة شعره وبلاغة نظمه ونثره، حاز قصب السبق بالعربية، وتميز على أهل العصر بنكته الأدبية. كتب لي وأنا قاض فوة مكاتبة لطيفة مختصرة، ستقف عليها أن شاء الله تعالى في محلها مسطرة. سأله يومًا بعض طلبة العلم أن ينظم له ترتيب التوابع فنظمها في بيت جامع وهو:
إذا اجتمعت فالنعت قدم به اعتلق ... بيانٌ وتوكيدٌ وجا بدلٌ نسق
ونظمها الفقير في ذلك الحال، في بيتين فقال:
إذا اجتمعت يومًا لديك توابع ... ورمت لها الترتيب في ذكر اتسق
فنعت بيان ثم توكيد بعده ... إلى بدل ثم اختم الكل بالنسق
سري الدين ابن الصائغ: وأما الرئيس الفاضل، والمحقق الكامل، الشيخ سري الدين ابن الصائغ، والشهاب الذي في سماء الفضل بازغ، فقد انتهت غليه الرئاسة الطبية في الديار المصرية. ومع ذلك فكم له من غنشاء رق وراق، وبراعة تميز بها على البلغاء وفاق. وكان حصل للفقير دمل توعك منه المزاج، واحتاج في بنائه على الفتح إلى نوع علاج. فأرسلت إلى ذلك الفاضل الهمام، وكتبت إليه بعد فواتح السلام: أيها الرئيس البارع، والبدر الذي في أفق البلاغة طالع، ذو الحكمة التي أعيا بها جالينوس، والحذاقة التي حار فيها بقراط وبطليموس، أشكو إليك دملًا أبطأ فجره، وألم ضره، وأضمر عامله لا على شريطة التفسير، حصل منه ألم كثير، فتفضلوا بما يبرز ما استكنّ فيه على عجل، وبما ركب علاجًا لتنازع ما فيه من العمل، بحيث يصير هذا المضمر مبنيًا على الفتح، لتنطق الألسنة بالدعاء، ونعرب عن أفعال المدح، والسلام على الدوام.
فأرسل المشار إليه شيئًا يلائم ذلك، وكتب عن ذلك جوابًا صورته: هل لك أيها الممتزج بالروح امتزاج المكاء بالراح، المهدي إلى النواظر النزه وإلى النفوس الارتياح، الداعي برسالته المعجزة الألفاظ إلى جنة ناضرة، المبرز بدلالته وجوه المعاني الناضرة، إلى عيون البيان الناظرة، لا زالت أزمة الرغباء منقادة منا إليك، ونواصي البلغاء معقودة أعنتها بيديك، والفصاحة لا تمد سرادقاتها ولا تقصر مقصوراتها إلا عليك:
ودمت إلى كل القلوب محببًا ... وفي كل عين شاهدتك حبيبها
في بناء ذلك الدمل العاصي عن الاندمال على الفتح، ونصب ثناء العامل من الادوية على المدح، والدخول على جمع مادته بصورة التكسير، وتصريفها بالتحويل إلى وضعيات التغيير، وإرخاء الشدّ كي لا يكف الدواء ولا يلغى عامله، وتقوية المعمول بالتجلد على التأثير الذي ارتفع فاعله، فبذلك أن شاء الله تعالى تفتر ثغوره، وينبسط على جلد الجلد غروره. والله تعالى يديم معاهد الفضل بك آهلة، والفضلاء من مناهلك ناهلة، والنبلاء في ظلال ظلك قائلة، لتكون ألسنتهم بأحمد المحامد فيك قائلة، آمين.
وأما بقية الأفاضل بمصر فإنهم لرثاثة حالهم ليسوا بمشتهرين، وإذا مشى أحدهم بين الناس لا يكاد يبين، مطروحون في زوايا الخمول، ولا يترفل في المناصب إلاّ الجهول:
أرى الدهر من سوءِ التصرف مائلًا ... إلى كل ذي جهلٍ كأن به جهلا
فتذكرات عند ذلك قول القائل:
عتبتث على الدنيا لتقديم جاهلٍ ... وتأخير ذي فضل فابدت ليَ العذرا
بنوا الجهل ابناءٌ لذاك أحبهم ... وأهل النهى ابناءُ ضَرَّتِيَ الأخرى
ثم ذكرت حال هؤلاء الفضلاء، لمولانا قاضي القضاة اسبغ الله تعالى عليه مواهب الافضال، وبلَّغْتُهُ ما اشتمل المذكورون عليه من الفضل والكمال. فوعد - أدام الله تعالى أيامه وزاد علاه - ان يبلّغ كُلًا منهم مناه.
هذا ثم قصد مولانا قاضي القضاة ثاني يوم دخوله للاقتداء بوالده المرحوم شيخ الاسلام، وتوجَّهَ الى زيارةِ مَنْ القاهرة من الصحابةِ والائمةِ والاولياءِ الكرام، فزرنا تلك الاماكن الشريفة ومن فيها من الصحابون كقير عقبة وشهدنا ما حواه مقامه الشريف من الجلالة والمهاربة، ومقام امام الائمة محمد بن ادريس الشافعي ﵁، وما جاوره من قبر علي بن الحسن بن زين العابدين. وقبور العلماء العالمين: كالقاضي زكريا وملاّ مغوش المترجم بعالم الربع المعمور، وحصلنا على كمال البركة والاجور. وتمثَّلنا عند قبر هذا الفاضل، بما قاله فيه رثاءً ذلك القائل:
ألا يا مالكَ العلماءِ يا مَنْ ... به في الأرضِ أثمر كلُّ مَغْرِسْ
1 / 16